الفضيحة
الحقيقية
بقلم
: فهمي هويدي
برغم
بشاعة الصور التي رأيناها لما جري في
سجن أبوغريب, فإن ذلك كله يظل حدثا
أصغر اذا ما قورن بالحدث الأكبر
المتمثل في نجاسة الاحتلال, ذلك أن
تعذيب المعتقلين العراقيين وهتك
أعراضهم يتضاءل كثيرا اذا ما قورن بهدم
العراق بكامله واغتصابه, ثم انه من
البلاهة أو النفاق أن نأسي لعدوان وقع
علي شرف نفر من الناس, في حين ننسي
او نتجاهل أن شرف الأمة كلها قد تمت
استباحته.
(1)
أحذر
من الالتباس وخلط الأوراق, حتي
لايتصور أحد أن المشكلة هي ما حدث في
سجن أبوغريب, بحيث إذا تمت
التحقيقات وعوقب بعض الجنود والضباط,
أو أطيح ببعض الرؤوس في قيادة الجيش
الأمريكي أو تمت التضحية بوزير الدفاع
دونالد رامسفيلد فأقيل أو استقال,
ثم اخضع السجن لإشراف الأمم المتحدة
ومراقبة الصليب الأحمر, إذا حدث ذلك
كله أو بعضه فانه يصبح سببا كافيا
لارتياحنا واشاعة الرضا والحبور في
أوساطنا, الأمر الذي يجعلنا نصرف
إلي أمورنا بضمير مستريح.
ما
أريد أن أقوله بالدقة أن سجن أبوغريب
بكل ماجري فيه من جرائم وفواحش يندي
لها الجبين ليس هو المشكلة, ولكنه
فرع عن مشكلة أصلية هي الاحتلال,
وينبغي أن تظل تلك الحقيقة حاضرة في كل
الأذهان, وألا ننجر وراء الدعاوي
والفرقعات التي تستهدف صرف انتباهنا
عنها حينا بعد حين.
لقد
ظلوا زمنا يلوحون للعراقيين بفزاعة
صدام حسين, ويروجون للادعاء بأن
عمليات المقاومة التي تجري من فعل فلول
النظام البعثي السابق الذين يريدون
استعادة سلطانهم, وكان الهدف من ذلك
هو اقناع العراقيين بأن الاحتماء
بالأمريكيين هو الملاذ أو الحل,
وحين ألقي القبض علي صدام حسين سقطت
الحجة, فخرجوا علينا بحكاية أن
العراق اصبح بؤرة للإرهابيين وساحة
تجمع لعناصر القاعدة علي نحو أريد له
ان يكون موحيا بأن الخطر الذي يهدد
العراق هو أولئك الارهابيون, وان
الذي احتلها هو جماعة بن لادن وليس
الجيش الأمريكي, وفي طور أخر تواترت
التصريحات الأمريكية محذرة من تسرب
الأجانب القادمين من وراء الحدود,
وكأن الأمريكيين اصبحوا هم أصحاب
البلد والمواطنين المقيمين, في حين
أن الخطر بات متمثلا في أولئك الوافدين..
وهكذا.
كما
الحاوي, صاروا يستخرجون كل حين حيلة
جديدة من الجراب, لنتلهي بها بعض
الوقت, حتي يبطل مفعولها أو يملها
الناس فيستبدلونها بأخري تشغل الاذهان
وتثير اللغط, ومن ثم يظل الجميع
مشغولين ومشدودين إلي أمور كثيرة ليس
الاحتلال من بينها.
(2)
هل
تندرج عملية تسريب صور التعذيب واذلال
العراقيين وهتك أعراضهم في هذا
الاطار؟
حتي
الآن لم يثبت أن توقيت التسريب متعمد,
لكن الشواهد تدل علي ان القضية أصبحت
موضوع الساعة وبؤرة الاهتمام,
الأمر الذي صرف الانتباه عن تداعيات
الاحتلال والمقاومة الشرسة له في
الفلوجة والنجف وكربلاء, كما انه
خطف الأضواء من كتاب الصحفي الأمريكي
بوب وودوارد الأخير الذي كشف الكثير من
أسرار غزو العراق, فأحرج الادارة
الأمريكية, وأقام الدنيا ولم
يقعدها في الولايات المتحدة, وليس
معروفا ما اذا كان لذلك التسريب علاقة
بالصراع بين الديمقراطيين
والجمهوريين حول الانتخابات الرئاسية
القادمة, وان كان الثابت أن
الديمقراطيين سعوا إلي استثماره,
وان ماجري هز صورة الرئيس بوش وفريقه,
وكان له تأثيره السلبي علي موقف ادارته
أمام الرأي العام في الداخل فضلا عن
الخارج, غير أن بعض الذين يشمون
رائحة المؤامرة بسرعة فيما وراء
الأخبار والأحداث, يرون في التسريب
محاولة جهنمية لإذلال العرب وتمريغ
أنوفهم في التراب, وقال لي أحدهم
بأن ذلك السيناريو لايستبعد, إذا
استعدنا صور الرئيس السابق صدام حسين,
وهو يستخرج من الحفرة التي كان يختبئ
فيها, ثم وهو يقف ذاهلا ومنكوش
الشعر بين يدي من فتش شعره وفحص أسنانه,
واذا وضعنا إلي جانب تلك المجموعة شريط
صور المعتقلين العراقيين وقد تكوموا
عرايا فوق بعضهم البعض تارة, وقد
جرد أحدهم من ملابسه ووضع طوق حول
رقبته ثم جرته مجندة أمريكية كأي كلب
مستكين تارة أخري, وفي حين يبول
عليهم بعض الجنود البريطانيين في لقطة
ثالثة.. إلي اخر تلك الصور الفاحشة
التي قالت الواشنطون بوست أن لديها
منها ألفا تسجل مختلف مشاهد إذلال
العراقيين والاعتداء علي شرفهم
وكرامتهم.
سأل
صاحبي: إذا ضممنا المجموعتين معا,
فماذا تكون النتيجة؟ ثم سارع بالاجابة
قائلا أن الصور تبعث برسالة زاعقة إلي
العراقيين والعرب جميعا تقول: هذا
اكبر رأس في البلد, ومن زعم بأنه
حارس البوابة الشرقية وهذا هو شعب
النشامي الذي عولتم عليه في الجبهة
الشرقية, وهذا جزاء ومصير كل من
تسول له نفسه عدم الانصياع للإرادة
الأمريكية.
اذا
وسعنا من الدائرة قليلا فسنجد أن معني
الاذلال وكسر الإرادة بصورة موغلة في
المهانة يتكرس, والصورة تغدو اكثر
وضوحا, اذا ما أضفنا إلي المجموعتين
السابقتين صور المؤتمر الصحفي الذي
عقده الرئيس بوش مع رئيس الوزراء
الاسرائيلي آرييل شارون في البيت
الأبيض يوم3/14 أطلق فيه الرئيس
الأمريكي وعده البائس, الذي داس فيه
بحذائه علي أهم الاستحقاقات
الفلسطينية في ازالة آثار العدوان
والعودة, إذ يظل القاسم المشترك
الأعظم بين وعد بوش وماجري لصدام حسين
والمعتقلين العراقيين, هو أن
الحدثين من الأفعال السياسية الفاضحة,
وان ازدراء العرب واحتقارهم حاضر في
ثناياهما بقوة.
(3)
في
أحد كتبه, وعلي طريقته اللاذعة في
النقد, ذكر الشيخ محمد الغزالي أن
العرب تثور ثائرتهم اذا اعتدي علي شرف
امرأة في ديارهم, لكن الاعتداء علي
شرف الأمة لم يعد يحرك فيهم ساكنا,
وكانت دعوته ملحة إلي ضرورة اعادة
النظر في طريقة التفكير عند العرب
والمسلمين, خصوصا فيما يتعلق
بتوظيف القيم والتعاليم السائدة,
فمفهوم الشرف مثلا مهم علي الصعيد
الفردي والأخلاقي لاريب, إلا أن
حصاره في تلك الدائرة يعد ابتسارا
لمعناه, يعبر عن قصور في التفكير
والنظر, لأن هناك شرفا للأوطان
وللامة كما أن هناك شرفا للأفراد
والعائلات والقبائل والعشائر.
وفي
أكثر من كتاب أثار الشيخ رحمه الله ـ
بنفس الطريقة ـ قضية فروض الكفاية,
التي تعرف في المفهوم الأصولي الشائع
بأنها تلك التكاليف التي اذا قام بها
نفر من الناس سقطت عن الباقين,
بخلاف الفروض العينية التي يلزم بها كل
أحد من الناس كالعبادات مثلا,
وانتقد المفهوم الضيق لفروض الكفاية
الذي يحصرها في مسائل محدودة مثل غسل
الميت ودفنه, أو في بعض الوظائف
كالإمامة والقضاء والفتيا, في هذا
الصدد فإنه دعا إلي توسيع الدائرة بحيث
تشمل الفقر والتخلف والأمية, وغير
ذلك من الأمراض المزمنة التي أصابت
مجتمعاتنا بالوهن والعجز, وقال أن
تلك أيضا فروض يتعين القيام بها,
وهي كفائية ان قام بها البعض, لكنها
تغدو واجبا شرعيا عينيا اذا حدث تقصير
في أدائها, حيث يتعين علي الجميع أن
يحتشدوا لأجل النهوض بها.
هذه
الطريقة في التفكير تدعونا أيضا إلي
توسيع دائرة التعامل الشرعي مع فكرة
الغزو, لان اجماعا منعقدا بين فقهاء
المسلمين علي انه اذا تعرضت ديار
الاسلام للاحتلال فان الجهاد يصبح فرض
عين علي كل مسلم ومسلمة, فالابن
يخرج بغير إذن أبيه والزوجة بغير إذن
زوجها والعبد( في ثقافة ذلك الزمان)
يخرج بغير إذن سيده, وهذا المفهوم
اذا انطبق علي احتلال الارض فلماذا
لانطبقه أيضا علي احتلال الارادة,
وهو أحد الاشكال التي استحدثت للغزو
بطريقة اكثر مكرا واشد خطرا, لأن
ذلك الاحتلال الاخير يمارس من وراء
ستار, من جانب قوي غير ظاهرة, في
حين ان الهدف اكثر وضوحا في حالة
احتلاله الأرض, الأمر الذي ييسر
إدراك العدو فيه وتعبئة الناس في
مواجهته, وهذا التطور في مفهوم
الاحتلال ينبغي ان يستصحب معه تطورا
مماثلا في أساليب الجهاد, الذي يوسع
التراث الفقهي من ساحته حتي يشمل القلب
والجنان, والدعوة والبيان,
والسيف والسنان كما ذكر ابن القيم في
زاد المعاد.
(4)
مقولة
الشيخ الغزالي اكثر ما تنطبق علي
زماننا, لأن الغضب العارم ازاء
تعذيب بعض العراقيين والاعتداء علي
شرفهم, الذي عبرت عنه وسائل الاعلام
العربية وترددت أصداؤه فوق منابر
المساجد وفي مختلف المنتديات, هذا
الغضب لايكاد يقارن بالمشاعر التي
أصبحت تحيط الآن بالعراق المحتل, أو
تلك التي أصبحنا نستقبل بها مايحدث من
انتهاكات فاحشة في أنحاء العالم
العربي والاسلامي.
اذ
لست أبالغ اذا قلت بأننا في زمن
الأفعال السياسية الفاضحة حيث يعد كل
فعل منها بمثابة اعتداء علي شرف الأمة
ورجولتها إذا صح التعبير يفترض ان
يستنفر اهل المروءة والآباء,
فالقواعد الامريكية التي اصبحت منتشرة
في أنحاء العالم العربي من أقصاه إلي
أقصاه, وهذا الخضوع المهين
لاملاءات واشنطن حتي فيما يتعلق بأخص
أمورنا, وهذا العجز المذهل حتي عن
انتقاد السياسة الامريكية وذاك
الافتراس البشع المقترن بالازدراء
للشعب الفلسطيني الذي اصبح محل مباركة
وتشجيع من جانب الولايات المتحدة ثم
هذا الذي يجري فرضه علي السودان الآن
تمزيقا وتركيعا, والتلويح به
لسوريا لتأديبها واخضاعها, ذلك كله
يعني شيئا واحدا هو ان الاعتداء علي
شرف الامة يمارس بشكل منتظم وبصورة شبه
يومية, يعني أيضا ان ماحدث في سجن
أبوغريب ليس سوي نقطة في بحر الهوان
الذي أغرقتنا مياهه برائحتها الكريهة
والعفنة, ان شئت فقل انه مجرد نموذج
مصغر لما يراد أن ينتهي اليه العالم
العربي.
ذلك
انك اذا جمعت الأوصاف التي أطلقتها
وسائل الاعلام علي مايجري هناك,
ودققت فيها جيدا فستجد أنها مرشحة لرسم
صورة ومستقبل المشهد العربي,
وستدهشك المفارقة حين تستذكر
التصريحات التي تواترت مشيرة إلي ان
الامريكيين يريدون للعراق الذي احتلوه
لتأديبه وتهذيبه واصلاحه ان يكون
نموذجا يحتذي به في العالم العربي,
الذي زفوا إلينا قبل عام بشري التوجه
نحو اعادة رسم خريطته.
لقد
تحدثت وسائل الاعلام وأبرزت الصور
ماتعرض له العراقيون من تعذيب وتجويع
وازدراء واذلال وكشف للعورات وعبث بها,
وعدوان علي الشرف والرجولة. وغير
ذلك من البشاعات التي يقشعر لها البدن,
ولكني أتساءل أليس ذلك بالضبط ماحدث
للعراق الوطن, الذي جري تدميره
واستخدام الاسلحة الفتاكة والمحظورة
لترويعه وتركيعه, ونهبت آثاره وسرق
تاريخه ووثائقه وتمت تصفية اكبر
علمائه, ثم سلمت مقاليده إلي الذين
جاءوا علي الدبابات والطائرات
الامريكية, وبعضهم لايزال يتقاضي
راتبا شهريا من وزارة الدفاع
الأمريكية.
لقد
سكتت الاغلبية عن ذلك كله, وقبلت به
لكنها استشاطت غضبا واستثيرت حينما
ظهرت صور فضائح سجن أبوغريب, وتلك
الاغلبية التي مررت الفضيحة الحقيقية
في العراق, هي ذاتها التي استنامت
واستسلمت للغفلة التي مررت مختلف
الافعال السياسية الفاضحة التي تحدث
في العالم العربي تحت سمع وبصر الجميع.
أنني
أرجو ألا نركز أبصارنا فقط علي ماجري
ويجري في المعتقلات العراقية, رغم
أن أحدا لم يذكر شيئا عما تعرضت له150
عراقية محتجزات داخل تلك المعتقلات ـ
أسماؤهن مذكورة علي الانترنت ـ وليت
الاعلام العربي يخفف من متابعته لذيول
القضية وأصدائها في الولايات المتحدة,
لأنني لن استبعد ان تنتهي التحقيقات
بإرسال خطابات توبيخ لبعض الضباط
والتوجيه بالحد من الاستعانة بخبراء
التعذيب الاسرائيليين في المعتقلات
العراقية. ومنع الجنود من حمل آلات
التصوير معهم داخل المعتقلات!
ليتنا
ننشغل بما هو أهم وأبقي, فنطرح علي
أنفسنا السؤال الكبير حول كيفية انقاذ
شرف العراق وشرف الأمة؟! أما اذا
عجزنا عن الكلام والفعل, فسوف نضيف
إلي السجل عنوانا فاضحا جديدا يشين
جيلنا وزماننا حتي تقوم الساعة.
الاهرام
ـ 11/5/2004
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|
|