مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم الثلاثاء 18 / 11 / 2003م

ــــ التعريف دراسات  متابعات   قراءات  هوامشرجال الشرق من أرشيف الشرق | صحيفة الشرق العربي |ـ
ـ| مشاركات الزوار |ـجسور |ـجديد الموقع |ـكتب | مجموعة الحوار | تقارير حقوق الإنسان | واحة اللقاء | البحث في الموقع |
ـ

.....

   
 

الحركة الإسلامية الإصلاحيـة ومشـوار التمكيـن:

هل حـان زمن المصالحـة مع الأنظمـة؟

د. خالد الطراولي :مدير تحرير مجلة "مرايا" باريس

مشروع للتجـاوز والبنـاء

توطئــة

لا يختلف اثنان في أن العلاقة التي جمعت الحركات الإسلامية الإصلاحية بأنظمتها كانت متوترة ومتأزمة طيلة عقود، طالت فيها المعاناة والمواجهات كل الأصعدة، وكانت النتائج مأسوية للجميع، فالحركات نالها البأس والبأساء، وتعطل مشروعها أو تهمش أو استبعد، والأنظمة لم يهنأ لها بال، وأضاعت الوقت والمال في تجفيف منابع هذا الخصم العنيد، وقاست الجماهير وترنّح ولاءها بين هذا وذاك، وهي ترى أن تنمية مجتمعاتها قد فشلت، وأن أحلام الرفاه والسؤدد قد اندثرت.

هذه الدورة من المواجهات التي ميزت هذه العلاقة، ساهم فيها الطرفان بنسب متفاوتة، فمن رفض للآخر وعداءه واستئصاله، خوفا على الكرسي واستئثارا به لفرده أو لعائلته، من ناحية، إلى محاولة الاكتساح الكلي و "تقطيب" الصراع، والهزيمة بالضربة القاضية بالنسبة للطرف الآخر. فكانت دورة دماء ومآسي وآلام وغلو وعدم تفهم وإقصاء. ورغم أن الأدوار تختلف، والنسب تتباين، فإن الكلّ ساهم بوعي أو بغير وعي في هذه الحالة المميتة للجميع.

الحركـة الإسلاميـة مـن حركـة حكم إلى حركـة تحكيـم

ليست الحركة الإسلامية الإصلاحية طرفا "عاديا" كبقية الأطراف السياسية داخل مجتمعاتها، وهذا التميّز جعلها مطال كل منافسيها، حكومات ومعارضة. ولقد أكسب هذا التميّز الحركة منازل وجماهيرية تحسد عليها، و أبرزها كمشروع حكم بديل، يتمتع بإضافات وإمكانيات وتصورات وأطروحات، تختلف عن تنظيرات وتنزيلات غيرها، اختلافا يكاد يكون جوهريا في بعض محطاته الاقتصادية والاجتماعية. كانت مرجعية الشعب وهويته وتراثه ومقدسه وتاريخه والومضات المثيرة من حضارته، تلهف باللحاف الإسلامي والمنطلق الإسلامي والبعد الإسلامي، وكان الاستناد على هذا المعطى في تشكيل خطاب سياسي وبرنامج معارضة وحكم، يمثل في حد ذاته توجها ذكيا وبديهيا أعطى لنفسه كل سبل النجاح. فالسياسي المحنّك يسعى بكل حزم إلى تجميع كل الوسائل المتاحة لإنجاح مشروعه ولا عيب. كانت الحركة الإسلامية في الموعد وانطلقت من هذه المرجعية المهمشة، وهذه الهوية المعطوبة، وهذا البعد الغائب، وهذا التاريخ المعتدى عليه، انطلقت من هذه "الإسلامية" المطرودة والمقهورة والمبعدة، وبنت خطابها وسعت إلى تنزيله، وكان النجاح الجماهيري في الموعد. . . ورغم أننا نرى أن هذا المنطلق السياسي كان عاملا إضافيا في نجاح المشروع وأحد منطلقاته، غير أن الإخلاص لخدمة المشروع الرباني، والسعي إلى إسلامية الدولة والمجتمع، انطلاقا من تصور شامل للإسلام لا يلغي البعد السياسي، ولا يقصر الدين على إطاره الخاص، كان كل هذا ولا شك الدافع الأساسي لتكون المشروع ونجاحه.

كان هذا التميز إذا ضربة لازب ومحنّك ساعد الحركة الإسلامية الإصلاحية في نجاحها، غير أنه كان في الوقت نفسه سبب نكبتها، ومجلبة لمحطات من المواجهة والاستعداء من الأنظمة القائمة، وحتى من المعارضة المنافسة. كانت مرحلة من الأوجاع والبأس والجور والدموع والدماء، وقاست الحركة الإسلامية ودفعت ضريبة التواجد غاليا جدا في شبابها ونسائها وشيوخها ومنظريها وطاقاتها. واستعملت ضدها كل الوسائل المتاحة للإتيان عليها، من قوانين جائرة كقانون منع الحجاب، وسياسات ظالمة ومارقة كما اصطلح على تسميته بسياسة تجفيف المنابع، وبرامج تعليمية وتثقيفية مغشوشة. . . . ولم تكن المعارضة "المدنية" غائبة عن هذه "المسرحية" كانت في البعض منها شاهد زور، وفي البعض الآخر المشاهد الشامت أو المتفرج الغائب، وقلّ منها من ساند! كان المبرر لهذا الرفض القاسي هو عدم القبول بدمج السياسة بالدين، أو تكوين الأحزاب على أسس دينية أو طائفية. ودخل المشروع الإسلامي في العديد من البقاع في نفق مظلم يعرف أوله ولا تتلمس أطرافه ولا تعلم نهايته.

لقد فقهت الأنظمة الحاكمة أن التدافع السياسي مع الحركات الإسلامية مضيعة للوقت، لأن كل عوامل النجاح للتمكين وخاصة جماهيرية البرامج والمشاريع المطروحة، قد رفعته هذه الحركات ولا سبيل إلى تركها وحيدة على الساحة، وكان الصدام. . . كان مشروع الحركة الإسلامية ولا يزال مشروع حكم، فهل وصل هذا المشروع إلى طريق مسدودة، نتيجة كل هذه العوامل المانعة والرافضة لقبوله كطرف سياسي "عادي" في ظل لعبة ديمقراطية غير مغشوشة؟
إننا لنزعم أن مرحلة البحث المباشر عن الحكم قد استنفذت أغراضها، وان مرحلة أخرى أقل فتكا وجدبا وانهيارا، وأكثر واقعية وفاعلية، تبدو ممكنة الحصول. فإذا كانت المرحلة الأولى تأسست على المنهجية السلطانية الكاسحة والتي أثبتت فشلها، فإننا نرى أن المرحلة الجديدة تحفها المنهجية المجتمعاتية المتأنية، ومن حركة دولة وسلطة، إلى حركة إنسان ومجتمع، ومن إنسان الدولة، المقصد والنهاية، إلى دولة الإنسان الوسيلة والهدف، ومن الحكم إلى التحكيم.

إن الدور السياسي الذي نطرحه للحركة الإسلامية الإصلاحية هو التخلي عن الحكم المباشر، ونبذ نظرية الاكتساح، وأنها الممثل الوحيد والشرعي للإسلام والمسلمين، والسعي في المقابل إلى أن تكون حركة "لوبي" مؤثر وموجه في المجتمع في إطار حزبي وتواجد سياسي ضيّق، لا استعراض فيه لعضلات، ولا تنابز فيه بألقاب التخوين والتكفير، يكون أساسه التواجد القانوني والمشاركة في البرلمان مع سقوف محددة وملزمة لكل الأطراف، وسنتعرض لهذا بالتفاصيل في مشروع المصالحة الذي نقترحه لاحقا.

إن سياسة السقوف المرتفعة والتعجيزية، أو منهجيات كل شيء أو لا شيء، والتي رافقت العديد من مطالب الحركة الإسلامية ومنهجياتها، قد أثبتت فشلها لعدم وااقعيتها، واستخفافها أو عدم وعيها أو غفلتها، عن كنه ورصد واقع منتصب على رمال متحركة. فليست الحركة الإسلامية روبنسون كريزوي في جزيرته النائية، ولا نجما طارقا في السماء، بل هي قطعة من فسيفساء متشعبة، وجزء من إطار متعدد تموج فيه المصالح والمبادئ بين داخل منافس أو معادي، وخارج متربص وواعي. وليس البحث عن المصلحية ومناشدة الواقعية في التنظير والتنزيل مناقضا للمبدئية و التحصن بالثوابت، وكم كان رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مبدئيا في قراراته وفي أقواله وأفعاله، ولم يتعارض مع سعيه الدؤوب لخدمة الإسلام والمسلمين ورعاية مصالحهم والمحافظة عليها. وليست مراسلته الحكام والملوك وعقده للمعاهدات والاتفاقيات، وتنزيله لدستور المدينة، إلا ومضات ساطعة في هذه المنهجية التي لم تتنكر يوما للمبادئ والأصول، دون الإخلال بالمصلحة العليا للمشروع، وبعيدا عن انتهازية المواقف والمناهج.

لكم أرادت الحركة الإسلامية الإصلاحية أن تكون المهدي المنتظر الذي سوف يملأ الدنيا عدلا بعد أن ملئت جورا، في ساعة من نهار، في مدة 7 سنوات كما تقول بعض الروايات. أرادت الحركة أن تكون فاعلة وغير متواكلة ورفضت انتظار المهدي، وهو من إيجابياتها، لكنها في المقابل تسرعت قطف الثمرة وعظّمت مشروعها ووسعت مسؤلياتها وصلاحياتها، وحجّمت مدة التفاعل والعمل، وكأنها أخذت منهجية المهدي الشاملة والعامة وتمثلت مشواره، بالرغم من أن هذا الرجل الصالح يبقى مدعوما بالغيب توقيتا ومدة ومنهجا ونتائجا، ولعله يبقى خارج السنن المتعارف عليها والملزمة لأي عمل تغييري بشري.

لا سبيل للخروج من هذا النفق المظلم، إلا بمصالحة تتجاوز الحسابات الضيقة واللحظية، والسقوف التعجيزية، والمعالجات الأمنية، والاستعراضات المزيفة والمغشوشة، والقطبية الهالكة، والإقصاءات الحالقة، وأحادية التمثيل، وواحدية الرؤى والتصورات.

وقفـات فـي مسـار التـأصيـل

المصالحة مبدأ قرآني، وسنة نبوية، و ميول إنسانية، ومطلب وطني. . ، والوطن وكر الجميع، حسنه وسيئه، جميله وقبيحه، غنيه وفقيره، عالمه وأمّيه. والمناداة بالمصالحة بين أطرافه مجلبة للصفاء والإخاء والتعاون والبناء، والنفس إذا صفا حالها نزّاعة إلى السلم والحلم والصلح والتجاوز.

ورغم أننا نعتبر المصالحة تنزل منزل المباح الذي لا يتطلب تأصيلا ولا اجتهادا، غير أنه رفعا لكل التباس وغلو وعدم تواضع، فإنا ارتأينا ملامسة مناطق الارتكاز الشرعي لهذا المسعى الإنساني بكل جرأة، دون الإبحار في ذلك، لقلة الزاد وزهد البضاعة. فزيادة على تركيز القرآن على مبدئية السلم والعفو وكظم الغيظ، والرفق والحلم والتوسّع، وقبول العذر والاعتذار، والتجاوز والكرم، فإن السنة النبوية حفلت بعديد المواقف الصلبة في هذا المجال، من أحداث صغيرة ومتموضعة، إلى تظاهرات كبيرة حملت تحولات ضخمة للمشروع وأفراده وإطاره الذي يتنزل فيه. فبدأها الرسول الكريم (ص) في الطائف وقد نال منه صغار القوم وحثالتهم، فكسروا أسنانه الشريفة وأدموا وجهه وقدميه، وما كان قوله تجاههم رغم العنت والنصب والإعياء، إلا "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون! "، ثم أتمها عليه السلام يوم الفتح. . : "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وبين هذا وذاك وقعت مصالحة الحديبية. . .

ويعتبر هذا الصلح إحدى هذه المحطات الهامة في هذا المشوار السلمي المبدئي والحضاري. وبالرغم من أن هذا الموضوع قد قتل بحثا ودراسة وردودا متباينة، فإننا نزعم إلقاء نظرة أخرى، من زاوية نخالها جديدة رغم قلة العلم وتواضع الإضافة. لقد سعى الغيب عبر الرسول الكريم (ص) ومن خلال صلح الحديبية، أخذ الاعتبار لربح كل الأطراف، لم تكن المصالحة نجاة فردية، لتعالج مواقف شخصية تنجو بها الذات على حساب الآخرين، ولم تكن المصالحة خلاصا للمجموعة على حساب الفرد والمشروع والجماعة (الشعب) ، ولم تكن المعاهدة تحريرا للمشروع وإهمالا لأفراده ومجموعته، ولم يكن الصلح مناورة سياسية ومسارا غير مبدئي وصادق، تلقي بالهزيمة والسقوط على الطرف الآخر ولا تعطي أي شأن للجماعة، يقول الرسول الكريم (ص) في شأنها: "لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ". كانت الحديبية كل ذلك، وهذا سر نجاحها، وتلك عبقرية صاحب الرسالة والحضور المكثف للغيب. كانت معادلة جمعت كل هذه الأبعاد، دون الحطّ من أي من أطرافها، كانت المعاهدة نجاة للفرد، وخلاصا للمجموعة، واعتبارا للجماهير، وتحريرا للمشروع نحو مناطق أسلم، وسلامة للطرف المقابل، وراحة واستقرارا حينيا لكل الإطار، يقول الزهري: فلما كانت الهدنة. . أمن الناس،. . .

وتستوقفنا عديد من المواقف المهيبة التي أنارت أمجادنا، والتي أكدت التفاعل الرصين للأمة مع أطرافها، رغم سواد بعض الأزمنة وظلمات المكان. فقد حمل علماء الأمة الأجلاء والربانيون مشعل الوقوف والصمود، والعفو والمصالحة عند المقدرة، وهم طليعة المشروع ورواده، رغم ما تلقوه من عنت الأمراء وجورهم، فهذا مالك إمام دار الهجرة، وقد ألقي به في السجن وناله التعذيب حتى خلعت كتفه، ثم طيف به في المدينة راكبا على حمار ملتفتا إلى جهة ذنبه، نكاية فيه وحطا من مكانته، ثم لما استرد حاله ويدخل مسجد الرسول. . يرفع يديه ويقول: "اللهم أشهدك أني قد عفوت عنهم فاعف عنهم "، حتى إذا قيل له لماذا؟ أجاب: "لا أريد أن يدخل أحد من أسرة النبي بسببي النار! (العباسيون أبناء عمومته صلى الله عليه وسلم) ". وهذا أحمد بن حنبل وقد ناله في محنة خلق القرآن ما ناله، من عذاب وسياط وإذلال من ثلاث خلفاء، تتابعوا على ضره والإساءة إليه وتهديده بالقتل، وأودع السجن ثلاث سنوات، ولما خرج منع من لقاء الناس إلا ارتياد المسجد للصلاة والعودة إلى بيته طيلة عهد الخليفة الواثق. . . ورغم ذلك كما يروي بن كثير جعل هذا العالم الصالح كل من آذاه في محنته في حلّ، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: "وليعفوا وليصفحوا "[النور 22] ، ويقول: ماذا ينفعك أن يعذّب أخوك المسلم بسببك، وقد قال تعالى: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين "[الشورى 40] ، وينادي المنادي يوم القيامة ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا! .

مشـروع المصـالحــة

ويعتمد مشروع المصالحة مع الأنظمة القائمة على إطار حقوقي وآخر سياسي:

الإطار الحقوقي: تلتزم السلطات بالعفو التشريعي العام على كل المساجين السياسيين، والسماح للمغتربين بالعودة وإعادة الحقوق إلى أهلها.

تلتزم الحركة الإسلامية الإصلاحية أفرادا ومجموعة بالعفو عما سلف، وطي صفحة الماضي، وعدم الدخول في مطالب ومحاسبات لأطراف أو أفراد أو نظام.

الإطار السياسي: تلتزم السلطات بتحرير العمل السياسي للمشروع الإسلامي وإعطائه الإذن القانوني بالعمل العلني والتواجد كطرف سياسي.

تلتزم الحركة الإسلامية في المقابـل بجملـة من البنـود:

لا تسييس للمساجد وتركها بيتا كريما بعيدا عن تدافع السياسة والسياسيين.

يدخل ممثلو المشروع الإسلامي الانتخابات التشريعية والبلدية، ويلتزمون بأن لا يتجاوز عدد نوابهم في المجلس، وممثليهم في الهيئات البلدية، الثلث من الأعضاء.

لا يدخل التيار الإسلامي الإصلاحي الانتخابات الرئاسية، لكنه يمكن أن يساعد أو يدعّم أطرافا مترشحة أخرى.

الاحترام الكامل لقانون اللعبة الديمقراطية ومؤسساتها وما تفررزه الانتخابات الشفافة من تغييرات.

الانطلاق من المرجعية الإسلامية لا يعطي التيار الإسلامي أي حق وأي احتكار بالحديث عن الإسلام، الذي يبقى الجامع لكل المواطنين. فالطرح الإسلامي هي رؤية اجتهادية ككل الرؤى، لا عصمة فيها لفرد ولا قدسية لفكر، تميّزها مرجعيتها الإسلامية وقرائتها لتاريخها ولحاضرها.

يمكن للتيار الإسلامي أن يكون متعدد الألوان والأطر، ولا احتكار لهذه الصفة لأحد.

الالتزام بالابتعاد عن منطق التكفير، واعتبار الاختلاف بين الفرق والأحزاب على قاعدة الخطأ والصواب، و لا يملك أحد هذا الحق الإلهي في القضاء في مصير الناس والحكم على معتقداتهم وتصوراتهم ونواياهم.

مـن الرابـح ومـن الخاسـر؟

نكاد نجزم أن الحالة الراهنة المنتصر فيها مهزوم، فلا الأنظمة مرتاحة البال تماما من الوضع الحالي سياسيا واقتصاديا، في ظل عولمة زاحفة شديدة الوطء والتأثير، وعلى وجس تنامي التطرف والغلو والإرهاب. ولا أصحاب المشروع الإسلامي الإصلاحي في هناء ورفاه وراحة ضمير كاملة تجاه إخوتهم في الداخل والخارج، وتجاه حالة انسحاب وخمول للأفراد، وضمور للأطروحة، رغم تعاظم الصحوة، وغياب مضني عن واقع البلاد والعباد.
و إنا لعلى يقين أن الحالة الجديدة التي يبثها هذا المقترح ترمي بثمارها الطيبة على كل الأطراف، فالسلطات تربح بوضع مسمى على المشروع الإسلامي الديمقراطي وعلى ممثليه، والذي لم يعد يكفي رفضه أو تهميشه أو غرس الرأس في التراب حتى يندثر، فالحالة الإسلامية قائمة، ودخول الإسلام الشأن العام أضحى محسوما فكريا وواقعيا، ويجب التعامل معه برفق وتفهم وتدافع سلمي. وهو إقصاء لقوى التطرف والغلو التي بدأت تطأ برأسها مهددة ومتوعدة ومنغصة لحال الأنظمة والعباد والبلاد، وهو كذلك تأكيد للمسار الديمقراطي الذي يصبح حقيقة ملموسة يعيشها الوطن وتكون الأنظمة الحاكمة قائدتها وراعيتها، وعليها التباهي بها مستقبلا، ولن ينسى لها التاريخ هذا الانعطاف الحضاري الكبير. وهو انفراج للسلطات مع أفراد المشروع الإسلامي، وهي شريحة انتخابية هامة، يمكن أن يكون لها مردود إيجابي ومساند في انتخابات رئاسية ديمقراطية وشفافة.

ويربح المشروع الإسلامي بلمّ شمله ووضوح برنامجه واحترام حدوده، وبواقعيته الجديدة التي تنبذ الاكتساح وهواية القفز والعجلة، وتحترم قبول وقابلية الجماهير، وتتعامل في إطار من الشفافية والأمانة داخلا وخارجا. وتربح المعارضة المدنية بكل أصنافها، حيث تضمر القطبية التي كانت مفتعلة بين السلطات والإسلاميين، والتي لم تترك حيزا كبيرا لها للعمل واكتساب المنتمين. وتنتهي الملفات الأمنية التي كانت مبررا في بعض الفترات إلى تقلص الهم الديمقراطي في البلاد، والذي مسّ أطرافا من هذه المعارضة نفسها. وتربح الشعوب وهي أهم هذه الأطراف، في استتاب الأمن والاستقرار وهيمنة المظلة الديمقراطية في البلاد على كل فرد، حتى يعيش المواطن، كل مواطن، وطنيته جلية ومواطنته كاملة.

إطــار المصالحـة

لن تكون لهذا المشروع جدوى ملموسة كبيرة ودائمة إذا لم يطرح على مستوى الأمة، لأنه ينطلق من فرضية تكوين عقلية المصالحة لدى الفرد والمجموعة، حكاما ومحكومين، لذا وجب إحداث مسار أممي سليم لتنزيل المشروع، وإعطائه بعدا مؤسساتيا حتى يصبح مبدأ ثابتا لا رجعة فيه ولا تردد. وفي هذا السياق فإن الطرفين، سلطات ومعارضة إسلامية، مطلوب منهما السعي إلى إنجاح هذا المسار عبر ضمان الإطار الحامل للمشروع وهو كالتالي:

فعلى الحركات الإسلامية في مرحلة أولى، الدعوة إلى اجتماع عالمي لكل مكوناتها الإصلاحية التي تنبذ العنف في عملها السياسي، وفي مؤتمر عام تحت إشراف مجموعة من علماء الأمة، المعروفون بمصداقيتهم وعلمهم واستقلاليتهم، تنتج عنه قرارات ملزمة لكل أعضائه، يتم من خلاله إصدار إعلان تاريخي للمصالحة مع الأنظمة، ورفض نظرية الاكتساح، وتبني منهجية المشاركة المحدودة. أما المرحلة الثانية فتقوم كل حركة بتنزيل هذا القرار الملزم حسب ظروف بلدها والشروط الموضوعية الخاصة بها [].

أما الأنظمة القائمة فعليها السعي إلى توطيد مناخ ديمقراطي سليم، شفاف ومتعدد، عبر سنّ مجموعة من القوانين، التي تضفي على هذا المسعى مزيدا من المصداقية والدوافع الملزمة، مما يعطيها طابعا رسميا ودائما. فمأسسة مشروع المصالحة شرط أساسي لنجاحه ودوامه، حيث يحمل كل طرف تبعاته القانونية، في ظل لعبة ديمقراطية هادفة ومحايدة.

ختـامـا

لقد مرّ على المجتمعات الإسلامية حين من الدهر شاهدت فيه عراكا سياسيا وحشيا بين أطراف منها، كان على حساب تنميتها وازدهارها، خسرت فيه العديد من طاقاتها الشابة والمتعلمة، وأضاعت خلاله أزمنة غالية من إمكانيات التحضر والتمدن، شابت مسارها حيرة وتذبذب وعجز وإحباط، وفي البعض منها موت وفناء. استنفد الحاكم فيه وقته وطاقته في المحافظة على كرسيه في مواجهة دامية ومطولة، وعجزت الحركات الإسلامية عن الوصول إلى مبتغاها، وسقط في الطريق آلاف من أفرادها بين سجين ومنفي وشهيد، ولم يحقق المشروع لا أسلمة الدولة ولا أسلمة المجتمع، في بعده الشامل والكامل رغم بعض النجاحات النسبية من هنا وهناك.
كانت هذه المواجهة قوسين في تاريخ أمة، لا يجب تضخيمها ولكن لا يجب استصغارها، فقد ضيّعت ولا تزال وقتا مهمّا وطاقة منشودة، لاستنهاض أمة من كبوتها الحضارية، التي طال ليلها، في حين أن صبح الآخرين قد أذّن مؤذنه من بعيد. لقد حان الوقت إن لم يكن قد تأخر في العودة إلى رحاب المصالحة والعفو، واستبدال منهجيات المواجهة والصدام. ولن تكون هذه المصالحة مستديمة وفعالة، إذا لم يحملها إطار من الديمقراطية غير المغشوشة والتعددية الشفّافة، حتى تقلع سفينتنا بعد أن تعطلت، وأقلعت سفن الآخرين.

إن التنمية المنشودة والضرورية مسار وفاقي يلتزم به كل الأطراف، ولن يؤت أكله كاملا وناضجا إذا تغيّب طرف أو تهمّشت مساهمته. والحضارة رغم تشعب عمليتها، فإن إحدى ركائز إقلاعها الناجح والسليم، استقرار مجتمعاتها الحالمة بحملها، والوئام بين أفرادها، واجتهاد كل أبنائها.

موقع إيلاف 30/10/2003

السابق

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

for

S&CS

للأعلى

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إليه ، أو غير معزو .ـ

   

ــ التعريف دراسات  متابعات   قراءات  هوامشرجال الشرق من أرشيف الشرق | صحيفة الشرق العربي |ـ
ـ| مشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد الموقع |ـكــتب | مجموعة الحوار | تقارير حقوق الإنسان | واحـة اللقـاء | البحث في الموقع |
ـ