ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 23/03/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


إسرائيل والولايات المتحدة وخيار الهجوم العسكري على إيران

المستقبل - الاثنين 22 آذار 2010

العدد 3602 - رأي و فكر - صفحة 19

شلومو زاخي و يونتان شيختر

"مباط عال"( نشرة تصدر عن مركز أبحاث الأمن

القومي في تل أبيب، العدد 169، 17 آذار 2010)

ترجمة: عباس اسماعيل

في الخطاب الذي ألقاه وزير الدفاع إيهود باراك في معهد واشنطن لأبحاث الشرق الأوسط، بتاريخ 26 شباط 2010، تطرق بتوسع إلى المسألة الإيرانية، إلى النشاط الإيراني لامتلاك قدرة نووية، وتداعيات سياسة الدول العظمى وإسرائيل تجاهها. وعلى الرغم من البعد الضبابي في جزء من كلامه، تضمن خطاب باراك قرارا حاسما لا يقبل التأويل، وعلى قدر كبير من الأهمية. فكلامه يعبر عن تقدير الوضع السائد في إسرائيل حول أهداف النشاط النووي الإيراني، وعن الفجوات الموجودة بين إسرائيل والإدارة الأميركية، ومغزى ذلك وتأثيراته من وجهة نظر دولة إسرائيل. وفيما يلي أهم ما رود في كلامه:

أ- إيران لا تمثل تحديا وتهديدا على إسرائيل فقط، بل على المنظومة الدولية كلها. ومن الصعب التفكير بنظام عالمي مستقر في ظل وجود إيران النووية. إيران تحاول تحدي، خداع وردع العالم كله إزاء تطلعاتها في المجال النووي. إيران تحاول كسب الوقت كي تمتلك القدرة النووية العسكرية.

ب- هدف إيران لا ينحصر فقط في بناء منشأة نووية خام على غرار مشروع منهاتن (Manhattan project-like crude nuclear device). بل إن هدف إيران هو القفز إلى الجيل الثاني أو الجيل الثاني والنصف (second or second and a half generation) من االرؤوس النووية التي يمكن تركيبها على صواريخ أرض-أرض، ذات المدى الذي لا يغطي إسرائيل فقط، بل يطال موسكو وباريس أيضا.

ج- إيران النووي ستقود إلى تصفية إطار القواعد المطلوبة لمنع انتشار السلاح النووي (non-proliferation regime). فالسعودية، وربما دولة أُخرى أو دولتين في المنطقة، ستجد نفسها ملزمة بالحصول على القدرة النووية أيضا. ولاحقا يمكن أن يفضي الأمر إلى قيام حكام مستبدين من " الدرجة الثالثة" إلى العمل بصورة مماثلة.

د- النموذج الذي تضع إيران نصب أعينها هو النموذج الباكستاني وليس نموذج كوريا الشمالية. مغزى التمييز بين هذين النموذجين هو أن المر يتعلق، بصورة شبه مؤكدة، بتطلع إيراني لامتلاك قدرة نووية " صلبة" تستند إلى نطاق واسع من الرؤوس المتفجرة النووية والقدرة على إطلاقها لآماد طويلة، وليس الحصول على منصات إطلاق معدودة للاستعراض فقط.

ه- هذه الظروف تلزمنا اتباع سياسة واضحة تجاه إيران قبل أن تنجح في تحقيق تطلعاتها على المستوى النووي. هذه السياسة، يقول باراك، يجب أن تكون مكثفة، ملموسة وشاملة.

و- ثمة نشاط فعلي في اتجاه فرض عقوبات على إيران: ليس واضحا بعد درجة خطورة وشدة هذه العقوبات. باراك يتحدث عن خصائص العقوبات ( مؤذية وشالة وهادفة). نحن بالطبع نفضل الخيار الأكثر تشددا.

ز- نحن لن نتنكر للمسؤولية الملقاة على عاتقنا ولن ندخل في دائرة الوهم الذاتي. نحن لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بإغماض العين مقابل ما يحصل أمام أعيننا. لذلك، نوصي بعدم إزالة أي خيار عن الطاولة ( يقصد بالطبع الخيار العسكري).

مغزى كلام باراك

من قراءة كلام باراك بالمعنى الحرفي والمضموني لما بين السطور، يمكن أن نفهم أنه ثمة فجوة في النظرة إلى النشاط النووي الإيراني- مغزاه وخطورته. فالولايات المتحدة، كما يُفهم من كلام باراك، " يمكنها أن تتعايش" مع إيران النووية- على الرغم من تصريحاتها حول هذا الموضوع. لكن إسرائيل لا يمكنها التسليم بذلك. في هذه الظروف ينبغي على إسرائيل أن تحرص قبل كل شيء على مصالحها الوجودية. بأية حال، ينبغي الأخذ في الحسبان أن إسرائيل لا تستطيع أن تنسق كل خطوة من خطواتها مع الإدارة الأميركية.

يمكننا الافتراض أن أمورا مماثلة، ومن شبه المؤكد أكثر حسما وحزما، أُعلمت بها محافل رفيعة المستوى في الإدارة الأميركية من قبل باراك وشخصيات كبيرة أُخرى في إسرائيل. النتيجة التي تبدو ظاهرة للعيان هي أن إسرائيل نجحت في إقناع الإدارة بأن تهديدها بالعمل من جانب واحد ضد إيران هو تهديد جدي. وإذا صح هذا التقدير فهذا يعني أن الأمر يتعلق بإنجاز استراتيجي مثير لإسرائيل. ومن شبه المؤكد أن هذا الانجاز ينطوي في مضمونه على خلاصتين بالغتي الأهمية الاستراتيجية. بيت القصيد لهاتين الخلاصتين، هو أن الإدارة الأميركية تقدر بأن لدى إسرائيل الأمرين التاليين: القدرة العسكرية الكافية لخلق تهديد حقيقي على المشروع النووي الإيراني؛ والعزم والتصميم لتنفيذ هذا الخيار. مغزى هذا الأمر هو أن تهديدات إسرائيل بمهاجمة إيران لا تعبر فقط عن تكتيك " امسكوني" الرامي إلى ارغام الإدارة الأميركية على اتخاذ خطوات عنيفة تجاه إيران، وأنه ينبغي التعامل مع التهديدات الإسرائيلية بدرجة عالية من المصداقية.

هذا التقدير هو الذي يفسر الزيارات المتتالية لكبار المسؤولين الأميركيين لإسرائيل خلال الأشهر الأخيرة: رئيس وكالة المخابرات المركزية، لاون فنتا، زار إسرائيل في أيار 2009، وعاد لزيارتها مجددا في كانون الثاني 2010؛ رئيس أركان الجيوش الأميركية، مايكل مالن، وصل إلى إسرائيل ثلاث مرات منذ استلامه منصبه؛ مستشار الرئيس أوباما للأمن القومي جيمس جونس، زار إسرائيل في تموز 2009 وفي كانون الثاني 2010؛ رئيس لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، جون كيري، زار إسرائيل في شباط 2010. وهو تحدث بشكل صريح عن نية الإدارة الأميركية منع هجوم إسرائيلي على إيران؛ وفي خطوة تصب في الاتجاه ذاته، وصل إلى إسرائيل نائب الرئيس الأميركي، جون بايدن، في مطلع ذار 2010.

واللقاءات التي أجرتها هذه الشخصيات في إسرائيل جاءت استكمالا للقاءات عديدة أجرتها شخصيات رفيعة المستوى، من بينها رئيس الأركان غابي أشكنازي، في الولايات المتحدة.

إلى جانب ذلك، هذا الانجاز الاستراتيجي لإسرائيل يخلق التزاما كبيرا في كل ما يتعلق بالعملية العسكرية ضد إيران. إذا تبين- كما يمكن الافتراض- فشل المساعي لوقف النشاط النووي الإيراني، ستجد إسرائيل صعوبة كبيرة في الامتناع عن شن عملية عسكرية.

فالتهديدات التي أطلقتها إسرائيل قربتها كثيرا من نقطة اللاعودة في كل ما يتعلق بالعمل ضد إيران. وفي ظل غياب ظروف استثنائية، فإن امتناع إسرائيل عن تنفيذ تهديداتها ضد إيران من شأنه المس مسا شديدا بمصداقيتها وقدرة الردع لديها.

==========================

المشهد الختامي لمسرحية التوتر الأمريكي الإسرائيلي

طارق حمود

3/22/2010

القدس العربي

أسدل الرئيس الأمريكي 'باراك أوباما' الستار على مسرحية التوتر في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بمقابلة أجرتها معه قناة 'فوكس نيوز' الأمريكية، وقال أوباما: علاقتنا بإسرائيل لن تتأثر بشيء، وأمن إسرائيل شيء مقدس، وأن الأصدقاء يختلفون!، لكن أوباما الذي استخدم تعبير القداسة عن أمن إسرائيل متقدماً بذلك على سلفه بوش في هذا التعبير لم يشر إلى أن الأصدقاء يختلفون وفي النهاية يهين أحدهم الآخر وتعود المياه إلى مجاريها!، هنا المفارقة في كلام أوباما فإشارته للمبدأ وتعميم المبدأ على التفاصيل هو هروب من واقع الإهانات المتكررة له ولإدارته من قبل حكومة نتنياهو، وكلام أوباما يأتي عقب أيام معدودة على صفع نائبه بايدن وما يمثل من إدارة من خلفه حين زار 'إسرائيل' التي أعلنت بوجوده عن بناء 1600 وحدة استيطانية وأخفت بناء أكثر من 400 وحدة استيطانية أخرى. بهذا المشهد الأوبامي المستحق لجائزة نوبل للسلام وفي الوقت الذي تمارس فيه سلطات الاحتلال أوقح ممارساتها المخالفة للرأي العام والنداءات الدولية في مدينة القدس، يثبت أوباما للعالم صدق المشككين بخطابه الموجه للعالم الإسلامي في القاهرة قبل أقل من عام، ويثبت معها للجميع أن الاحتفاء بإوباما في عالمنا العربي والإسلامي هو من قبيل (الهبل السياسي) وعدم الإدراك لطبيعة العلاقة العضوية بين 'إسرائيل' وحاضنة مشروعها الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو إثبات جديد أن كل من شكك في أوباما قبل وحين وبعد تسلمه لمفاتيح البيت الأبيض يفوق الكثير من الزعماء والملوك في إدراكه السياسي و وعيه العميق وهذا من قبيل حسن الظن بالزعماء، أما سوء الظن فهو أن نعتبر هؤلاء ممن يفهم طبيعة هذه العلاقة العضوية بين 'إسرائيل' وأمريكا ومع ذلك يتصرف بخلاف ما يدرك، اليوم يعيش الوضع العربي والإسلامي مرحلة سياسية لا تتسم بالاستقرار، وموقف أقل ما يقال فيه أنه ضعيف، بمقابل موقف إسرائيلي وضع اعتبارات مشروعه الداخلي الاستيطاني المعارَض دولياً كأولوية ممارساً بذلك الاستهزاء العملي بموقف الجامعة العربية التي أعطت غطاء لمفاوضات غير مباشرة بين السلطة و'إسرائيل'، ومن الطبيعي في ظل فقدان خيارات الرد على هذا التعنت والصلف أن يكون موقف أكبر دولة في العالم بعيداً عن موقف الضعفاء، فمشكلتنا أننا لا زلنا نتعامل بمنطق القبيلة وعلاقاتها مع القبائل الأخرى، علاقات قائمة على حسن الظن، وتقديم المواقف المجانية لإحراج كرم وشهامة الآخرين، هذا المنطق لم يعد موجوداً إلا في مسلسلات الدراما الأردنية (البدوية)، ولا يمكن أن تكون هذه المفاهيم أساساً سليماً للعلاقات الدولية في عالم تحكمه مفاهيم القوة التي تتحول لمفاهيم عدالة وحكمة متى شاءت وأين شاءت لأنها القوة والقوة فقط. منذ سنوات طويلة ونحن نسمع ذات الكلام مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، وفي كل مرة تفاضل شعوب العالم الثالث ما بين الديمقراطي والجمهوري على أساس من كان الحاكم السابق؟ فإذا كان جمهورياً فلا شك أن رئيساً ديمقراطياً سيغيّر، والعكس صحيح، وفي كل مرة يفشل الرهان ونخرج بنفس النتيجة المؤلمة، وستبقى هذه النتائج تتكرر طالما أن الفهم السياسي لدينا يقصر فهم صناعة الأحداث بناء على الشخص، وإسقاط الحالة السياسية العربية والإسلامية على كل ما هو سياسي في العالم.

قبل أربع سنوات تقريباً وفي وقت لم يكن أحد في عالمنا العربي الإسلامي وربما في الولايات المتحدة نفسها قد سمع باسم 'أوباما' قرأت تقريراً تحليلياً لم أستطع توثيق مصدره حتى اليوم، يتحدث عن أن الرئيس الأمريكي الذي سيلي بوش الابن يجب أن يكون 'أسود' لأن الولايات المتحدة ستكون قد دخلت عتبة المرحلة التي تركز فيها اهتمامها خصوصاً الاقتصادي في القارة السمراء، لم يكن هذا الكلام ذا أهمية في ذلك الوقت، لكنه اليوم يجب أن يشكل نقطة تحول في فهم كيف يُصنع صانع القرار الأمريكي؟ وعلى أي أساس؟ وعبثاً حاولت استعادة ذلك التقرير ومحاولة البحث عنه أو عن مصدره، وبغض النظر عن التقرير وما جاء فيه في فترة سبقت مجيء أوباما إلى الحكم بسنوات، لكن الشاهد في الموضوع ليس الاستخدام الوظيفي لبشرة 'أوباما' الداكنة، ولكن الشاهد أن تراتبية الدورة القيادية في الولايات المتحدة إن (صح التعبير) لا تأتي وفق مساق طبيعي وبسيط كما نتخيل، فمستقبل الولايات المتحدة لا يصنعه الناخبون، بل تصنعه مراكز أبحاث وتخطيط متخصصة ومحترفة، ترسم كيفية توجيه الناخب الأمريكي قبل رسم خارطة مرشحيه، وكنا نتوهم أن لعبة اللوبي الصهيوني الضاغط في الولايات المتحدة هي لعبة الناخبين اليهود ولمن يصوتون، ولكن اليوم يجب أن ندرك أن لعبة هذا اللوبي هي لعبة مراكز البحث والتخطيط ودوائرها الأمريكية، وأبسط مثال على ذلك أن الكونغرس وهو أعلى هيئة تشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية، من الطبيعي أن يقوم بتحديد سياسيات هذه المراكز، ومعروف لدى الجميع أن الكونغرس يعد لعبة (الإيباك) الذي يمثل أقوى مكونات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، بل أكثر من ذلك حقيقة أن أعداد المسلمين والعرب في الولايات المتحدة تفوق أعداد اليهود ولكن دون جدوى انتخابية، بل أن اليهود من غير الضروري أن يكونوا ناخبين لمرشح واحد في الولايات المتحدة، وكل هذا دون التقليل من أهمية هذا العامل المتمثل بقوة تنظيم الناخبين اليهود.

أمام هذا المشهد سيكون من العبث المراهنة على أزمة دولية بين أمريكا و'إسرائيل'، أو بين أوروبا و'إسرائيل'، فالعلاقة بين هذه الأطراف أقوى من أن يحول مسارها استخدام جوازات سفر، أو بطاقات ائتمانية بشكل غير مشروع، فالحديث سيتم في نهاية المطاف أن الهدف كان شخصية إرهابية لتنظيم إرهابي في لوائح أوروبا وأمريكا، ومع انتهاء الضجيج الإعلامي ستكون القضية قد طوتها الأدراج، لنسجل مشهداً آخر على طبيعة العلاقة الغربية 'بإسرائيل' وطبيعة تفكيرنا.

' كاتب فلسطيني

==========================

هل تؤدي امراض الغرب الى نهاية العالم؟

مطاع صفدي

3/22/2010

القدس العربي

لفظة (الانهيار) تتردد في خطابات الثقافة والسياسة والصحافة، كما يشكو أحد كتاب صحيفة (لوموند) الفرنسية. بالطبع ازدهرت هذه اللفظة مع أخبار النكبات المالية والاجتماعية التي اجتاحت الغرب منذ بداية الأزمة الاقتصادية. لكن إشارة الشؤم هذه لم تعد توصيفاً لمؤسسة معينة متداعية، كالمصارف والشركات؛ لقد صعدت إلى مستوى السجالات حول تحولات الاستراتيجية الحضارية، التي تشغل عقول الكتاب والمفكرين ما بين ضفتي الأطلسي.

'انهيار الغرب' ليس مصطلحاً جديداً في أدبياته، وإن كان يتخذ تأويلات وتطبيقات متباينة عبر المنعطفات الخطيرة التي يجتازها في عصر قوته الراهن بخاصة، إن لم نعد إلى عمق ماضيه الحافل بالنكسات الكبرى، كما بالقفزات الإيجابية في مختلف ميادين المنافسة مع نفسه، قبل أن تكون تلقاء الغير فحسب. يكفي النظر إلى حقبة العقدين السابقين، أي منذ أن انسحب العدو الأعظم للغرب، معسكر الاتحاد السوفييتي، من حلبة الصراع، ما بين خياري العدم أو الوجود بالنسبة لأحد المعسكرين ضداً على الآخر. باختصار لا ينتظر العقل الغربي أحداً سواه، يبشره بأزماته وكوارثه التي يعرفها، ويحددها هو نفسه قبل أن تأتيه بشكل اتهامات أو إدانات من قبل ضحاياه أو خصومه في عالم اليوم. هنالك عشرات المؤلفات وأكثر المنتجة سنوياً في عواصمه الرئيسية، والتي هي بمثابة منابر محاكمات ودفاعات عن إنجازاته وأحواله، مستندة إلى أحدث مناهج البحث والتحليل والتقييم، ومتجاوزة في حريتها مختلف عوائق السياسات الرسمية القائمة.

الغرب هو الأولى بنفسه، وهو الأسبق في نقدها وتعريتها. استمراره هو برهانه في الإبقاء على قوة التصحيح أعلى دائماً من إمكانيات تضليل الذات لذاتها. وقد يكون القرن الماضي العشرون هو الشاهد الأهم على هذه الخاصية التي يضيفها الغرب إلى سلم مزاياه المرآوية في سياق وعيه لكوارثه الكبرى، المعاصرة، ولطرق الخروج منها. لا ينكر الغرب أن تحدياته الأخطر لم تداهمه من خارج جغرافيته، بقدر ما كانت من نتاج تطوراته الخاصة به، والمعبرة عن دينامية شخصيته المفهومية، غير العابئة أصلاً بتناقضاتها وانقساماتها الحدية، إذ كانت تؤدي بها إلى نتاج تركيبية، تُحسب لها في خانة إيجابيات التقدم المستفيد دائماً من عثراته السابقة.

ما يفاجئ وعي الغرب اليوم هو أن مآزقه الداخلية أمست معطوفة على الأزمات العالمية من حوله، وإلى أبعد آفاق اللعبة الجيوستراتيجية التي كان يحتكر مراقبتها وقيادتها لوحده. فهو الذي لم يتحرّر من أشباح النهايات المرافقة لكل تحولاته الحضارية، تسيطر على وعيه اليوم ثقافة الإفرازات المتشائمة في مختلف ميادين المباريات الوجودية المداهمة له من كل حدبٍ وصوب. هناك من يفتح ساحة النقاش الجديدة برفع هذا الشعار: إنها نهايةُ عالم وليست نهاية العالم. والمغزى المركزي لهذه العبارة يهدف إلى تمزيق غشاوة التلفيق المعتادة الحاجبة لخلط الأدوار والمسؤوليات، بين ما يسببه الغرب لذاته من الفواجع والمكاره، وبين مفاعيلها الهدامة لمصالح الآخرين، وكأن هؤلاء الآخرين هم فاعلوها الأصليون، أو في الأقل، هم الشركاء الأَوْلى بدفع أعلى المغارم دون أدنى المغانم.

إذا كان ثمة نهاية للغرب، فعلى العالم أن يسبقه إليها؟ لكن قبل الشروع في هذه الهرولة العدمية بين المتسابقين، ينبغي التمييز بين من يصل أولاً ومن يمكنه أن يتخلف عن الموعد المشؤوم، بإرادته ووعيه أو بدونهما؛ قبل هذه الرحلة الأخيرة لإنسانية العصر الكارثي الراهن، قد يرتفع صوت للفكر منادياً على الحقيقة في كل هذا المايحدث الغربي الكوني إنْ تبقّى للحقيقة ثمة وجه تُعرف به؛ يقول: أنه ينبغي أولاً الانطلاق من تأويل عبارة: إنها نهاية عالمٍ، وليست نهايةَ ال (العالم). فالمقصود أن تشاؤمية الغرب عليها أن تنصبَّ على عالمه أصلاً، لا أن تجرف بقية العالم في طريقها الذي يصير محتوماً في يقين بعض نخب أهل الشمال.

ثم يأتي التمييز الثاني، الذي يتنبه له العقل الغربي في صفحته النقدية المتأصلة، فيجري تشريحاً مسكوتاً عنه منذ القديم في لفظة (الغرب) عينها. هنالك الاسم بالحرف الكبير، والاسم الآخر المغطَّى عليه، بالحرف الصغير. فهذا الغرب الأخير هو المريض بالأول، صاحب الاسم المجلجل في أجواء المحافل السياسية خاصة. إنه الأول، المسموع والمرئي بالصوت والصورة، وربما بالأفعال الناجزة غالباً.. فهو محل الإيديولوجيا، ومهندس إمبراطوريتها الممسكة بتلابيب الشأن الدولي منذ قرنين. وأما الغرب الآخر المقصي من التداول فهو محل الجغرافيا والتاريخ لمجتمعاته المنظورة المحجوبة معاً، ولبشريته الصانعة الفعلية لدينامية حضارته الذاتية المنزاحة وراء تشكلات مدنيته الممسرحة يقول الفكر هنا أنه آن الأوان لإعادة كشف الانفصام المزمن الواقع في ازدواجية الاسم الغربي عينه. كأنه لم يعد مسموحاً ولا مقبولاً اجترار الاسم الإمبراطوري بالاسم الطبيعي: فالأول، شاغل الدنيا والناس، لكنه واقع دائماً في التناقض البنيوي؛ يدَّعي أنه هو الحامل الأوحد لأعباء الكونية، كأساس لمبادئ حقوق الإنسان، وهو في الوقت عينه يخص ذاته بأولوية السبق في الكشف عن ثقافة الكونية، ومن ثم بأفضلية القدرة على تجسيد هذه المبادئ عبر نظامه الاجتماعي القائم، ذي الأبعاد الثلاثة المتكاملة بين الأخلاق والسياسة والقانون، وبالتالي تبقى المحصلة المتحققة لاجتماع هذه الأولويات والأفضليات. إنها (خَوّصَنَة) الكليات لصالح الغرب وحده، المتمكن من تحويل هذه الكليات إلى سلطات مادية ومعنوية مفروضة على الجماعة الإنسانية، سواء داخل كياناته، أو في أوسع محيط جيوسياسي حوله.

هذا ما يجعل الغرب، بالحرف الكبير، يشعر اليوم، وخاصةً في أعقاب الأزمة الاقتصادية، أن نموذجه أصبح مهدداً. فقدت كونيتُه التي يدّعيها الكثيرَ من عوامل مصداقيتها، ليس لدى ضحاياه القدامى أو منافسيه الجدد في أنحاء العالم فحسب، بل لقد اهتزت حقيقتها في نظر النخب الغربية نفسها.

لكن هذا الشعور الكارثي باقتراب النهاية يتقاسمه تياران فكريان، أحدهما المتمسك بالغرب الأيديولوجي، الخائف على مستقبل فئاته السائدة في مجتمعاتها؛ فهو يبالغ في تصوير عزلة الغرب المتفاقمة عن بقية العالم، كما لو أن منافسيه يهدفون إلى تدميره كلياً كمجتمعات، وليس كنظام هيمنة واستغلال فقط، طالما اشتكى منه التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر. وأما التيار الآخر فهو يرى أن الخطر (العالمي) المناوئ للغرب، لا يستهدف إدانةَ شعوبه بجريرة توأمه الثاني، المتكبر المتجبر، راعي أيديولوجيات شتى العنصريات الكلاسيكية والمستحدثة، تحت غطاء الادعاءات بكونية المبادئ الإنسانية، بينما هي كونية التفرد والسيطرة فقط. فالعصر هو للكونية الصحيحة، وليس للعولمة المفرِّقة عملياً بين سادة المال والعنف، وبقية البشرية كأتباع، أو كموضوعات للاستغلال، ولإثراء النخبة الدولية الممسكة بمفاتيح الفكر الدعاوي، والقرار العنفي، عسكرياً استراتيجياً، كما هو أيديولوجياً فكروياً.

التياران متسابقان حالياً داخل المسارح الثقافية والسياسية، كلاهما تبشيريان، أو بالأحرى منذران بالنهايات. فالغرب الأيديولوجي لا يزال مصراً على تقسيم أمم العالم، إلى معسكر للأشرار، وآخر للأخيار. وبالطبع تتزعم أمريكا، وشريكتها الأضعف أوروبا (الغربية) المعسكر الأول، ومعهما حلفاء ظاهرون أو مخفيون، موزعون في أركان المعمورة. أما المعسكر الآخر فهو يتسع لكل (الآخرين). وقد يعزو الأول لشخصيته الاعتبارية، أنها هي الحاملة لأعباء تحرير الإنسانية من كل أعدائها. وبالطبع فإن صنف الأعداء هؤلاء إنما يضم كل حركة تحرير حقيقية يلتزمه شعب أو دولة. فالمرحلة (البوشية) وفريقها من المحافظين الجدد، ليست حقبة سوداء عابرة. وتقسيمها للعالم بين معسكري الأخيار والأشرار لا يزال ساري المفعول، مستبطناً السياسة الدولية للغرب الذي يظل مريضاً بتوأمه، الغرب الأيديولوجي، المُبْطِّن لكيانه السلطوي في أوطانه الأصلية أولاً، قبل أن يكون منعكساً على مختلف ساحات الصراع الدولي خارجياً. تلك الحقبة السوداء غير المنقضية تماماً، كانت جسّدت الثورة المضادة لولادة الكونية المشروعة، الواعدة بانتشار الديمقراطية ما بين الدول، كمدخل جيو-اجتماعي جديد، داعماً الديمقراطيات الناشئة في المجتمعات المتحررة. فإن انهيار سلَّمِ التراتبيات العمودية حسب مستويات القوة والنفوذ، في العلاقات الدولية، هو الشرط التاريخي لتحقق مبادئ الحقوق الإنسانية، وإنزالها من مستوى التجريد والتوهيم الاستبدادي، إلى سوية الحياة الواقعية لشعوب الأرض كافة.

ليست هي يوتوبيا جديدة. فالتغيير حاصل بدايةً من مركزيته، من لَدُن الغرب عينه. فهو الذي يعيش اليوم انعطافاً جذرياً في وعيه. مثقفوه الأحرار يطلقون نوع التحدي الكينوني، الذي اعتاد الغرب أن يمارسه إبان الانعطافات الكبرى في تاريخ أزماته المصيرية الفاصلة. فليس هو الغرب المريض بالغرب الآخر الأيديولوجي، سوى تشخيص التعبير عن حال مأزق وجداني، وقد راحت تتبارى أقلام حرة كثيرة في تأجيج لهباته التطهرية من رجس الصلف الذي يحاول بعض اليمين المتطرف إحياء جثمانه المتهالك. فهو الساعي بكل جهد دعاوي وسلطوي إلى إعادة تأجيج المخاوف الغريزية لدى جماهيره، باختلاق نماذج الأعداء الجدد، كالإسلام ودول الشرق وأمريكا الجنوبية الصاعدة. وحشرهم جميعاً تحت صنف (البرابرة)، المحبب والمفضل من بين مفردات الصلف الغربوي العتيق.

السجال فكري محتدم، يستأنف معارك العقل النقدي، الحارس لديمومة الغرب ضد أعدائه الأهليين أصلاً؛ لكنه في اللحظة الراهنة الحافلة بأنواع الحطام والركام، لا يبدو أن أمراض الغرب بذاته يمكن أن تُعَالَجَ بترقيعات الأدلجة. فالمستهدف هو الخلاص من علل العاهات جذرياً، لمرة أخيرة وإلا فلا.

ليست هي التضحية بالعالم في كليته من أجل إنقاذ عالم معين، هو الغرب التوأم الأيديولوجي الذي تحين نهايته، من أجل بقاء غرب آخر معافى، ينقاد وراء الكونية، ولا تنقاد به..

' مفكر عربي مقيم في باريس

==========================

الحكومات الإسرائيلية الفاسدة

د. غسان إسماعيل عبدالخالق

 الدستور

22-3-2010

لسنوات طويلة نجحت إسرائيل في أن تسوّق نفسها على أنها قلعة الديمقراطية التي تناضل من أجل البقاء وسط محيط عربي غاشم وفاسد. وقد سخرت جانباً رئيساً من إمكانياتها المادية والمعنوية لانتاج صورة نمطية سلبية للمسؤول الحكومي العربي و شنت العديد من الحملات النفسية الهادفة لزعزعة ثقة المواطن العربي بحكوماته ومسؤوليه. ومع أن العديد من الحكومات العربية قد وفرت من خلال سلوكيات بعض مسؤوليها مادة دسمة لكل من المعارضة العربية والبروباغاندا الإسرائيلية ، إلا أن الفساد الحكومي العربي لا ينبغي أن يبرر لنا الإمعان في جلد الذات العربية وبوجه خاص التسليم بأن الإنسان العربي فاسد بطبعه. والأخطر من ذلك أن الفساد الحكومي العربي لا ينبغي أن يبرر لنا الإمعان في كيل المديح للحكومات الاسرائيلية وتصويرها على أنها حكومات مثالية فاضلة لا يطالها الفساد ، لأن الذاكرة الإسرائيلية تبدو مقارنة بالذاكرة العربية أكثر اكتواء بالفساد الحكومي ، وإلى الحد الذي يجعل طلاب جامعة حيفا غير قادرين على تناسي فساد أشخاص غابرين مثل بن غوريون وغولدا مائير.

 

فقد نشرت صحيفة معاريف نتائج استطلاع أجراه أستاذان في جامعة حيفا وشمل 800 طالب لتحديد رئيس الحكومة الإسرائيلية الأكثر فساداً فجاءت المعطيات على النحو التالي: إيهود أولمرت52% ، بنيامين نتنياهو17,6% ، آرئيل شارون17% ، اسحق رابين8,3% ، شمعون بيريز2,9% ، دافيد بن غوريون2,2% ، غولدا مائير1,7% ، موشيه شاريت 0,8%. علماً بأن %52 من أفراد العينة نفسها اعتبروا كلا من حكومة ايهود أولمرت وحكومة بنيامين نتنياهو الأكثر فساداً بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. وما يسترعي النظر في هذا الاستطلاع أن الذاكرة الشبابية الإسرائيلية لم توفر رموزاً سياسية مقدسة مثل بن غوريون وغولدا مائير فشملتها بتهمة الفساد ، وإن بدت نسبة الفساد التي اسندتها إلى هذه الرموز متواضعة مقارنة بجنرالات اسرائيل الأسطوريين مثل اسحق رابين وآرئيل شارون. على أن فساد رموز إسرائيل وجنرالاتها الأسطوريين يبدو محض غيض من فيض رؤساء الحكومات الأحدث ، حيث تصدر إيهود أولمرت (جزّار غزّة) قائمة الفساد دون منازع وتلاه بنيامين نتنياهو (جزّار المفاوضات) دون منازع أيضاً.

 

قد يقول قائل بأن هذا الاستذكار الدقيق لنسب الفساد الحكومي في إسرائيل ، يؤكد صحة المقولة التي جهدت إسرائيل لترويجها ونعني بها ديمقراطية المجتمع الإسرائيلي وشفافيته التامة ، إلا ان ما راح يرشح من تداعيات سياسية وعسكرية واجتماعية في إسرائيل يؤكد أن إسرائيل هي أبعد ما تكون عن (الفردوس الموعود) الذي جهدت لإثبات جدارتها به دون جدوى. والواقع الإسرائيلي الملموس الآن يحيل إلى الاعتقاد الراسخ بأن إسرائيل مجتمع قلق متوتر تحكمه نخبة عسكرية قلقة ومتوترة منقوعة في الواسطة والمحسوبية والتمييز الصارخ بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين وبين البيض والسود وبين الأغنياء والفقراء. وبأن إسرائي مجتمع تنخره المخدرات والدعارة وحوادث الانتحار إلى الحد الذي بات معه أكثر المؤمنين بإسرائيل يشكك في قدرتها على الاستمرار والبقاء في ظل انعدام قدرة مؤسساتها السياسية والعسكرية على إفراز قيادات تاريخية جديدة ، وفي ظل تزايد اعتماد حكوماتها على تحسين شعبيتها المتهاوية عبر المزيد من أعمال القمع والعنف الموجه للفلسطينيين ، وفي ظل خساراتها المتوالية لدعاة السلام العرب الذين نفضوا أو كادوا ينفضون أيديهم منها ، وفي ظل تزايد الأصوات الأميركية الداعية إلى التخلي عن إسرائيل لأنها غدت عبئاً مالياً وأخلاقياً باهظاً يثقل كاهل الإدارة الأميركية التي لم تعد قادرة على كظم غيظها جرّاء الغطرسة الإسرائيلية وتجاهلها التام لمعطيات التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا ، وهي كلها تشير باتجاه واحد: إذا لم تبادر إسرائيل لالتقاط اللحظات السياسية الراهنة فسوف تكون أكبر الخاسرين في المنطقة.

==========================

كل الطريق من (لينكولين)

اوري مسغاف

يديعوت الاسرائيلية

الرأي الاردنية 22-3-2010

هاكم ملاحظة جغرافية من شأنها أن تثير اهتمام بنيامين نتنياهو في مستهل زيارته الى واشنطن.

نائب الرئيس الامريكي جو بايدن وان كان مثُل لمدة طويلة في مجلس الشيوخ دلور، ولكن في الاصل هو من سكرنتون، بنسلفانيا. على مسافة نحو ساعتي سفر جنوبا في ذات الولاية تقع غتسبورغ، المدينة التي القى فيها ابراهام لينكولين خطابه الشهير في التاريخ الامريكي.

 كان هذا في 1863، في ذروة الحرب الاهلية الفظيعة التي مزقت الامة.

لينكولين زار المقبرة، التي دفن فيها نحو 7 الاف من ضحايا معركة مضرجة بالدماء وقعت على مقربة من البلدة.

وأمام جمهور غفير وفي اقل من 300 كلمة، أبنّهم انطلاقا من نظرة الى المستقبل: «يجدر بنا، نحن الاحياء، ان نكرس انفسنا هنا الى المهمة غير المنجزة التي حملوها حتى الان بنبل شديد. يجدر بنا أن نكرس أنفسنا هنا للمهمة العظيمة التي لا تزال توجد أمامنا».

 لينكولين كان ولا يزال الرئيس الاكثر اعجابا لدى الامريكيين.

قبل سنة فقط تأكدت من جديد مكانته هناك، في استطلاع شامل ضم مئات المؤرخين.

 وهو يسمى «Honest Abe» ايف المخلص. وهذه نقطة مثيرة للاهتمام: ابناء بلاده معجبون به على شجاعته وزعامته في عهد الحرب الاهلية، ولكنهم اختاروا له لقبا محببا على أسم ميزة هامة اخرى. لا غرو أن القول الاكثر شهرة له يعنى بالصدق. «يمكنك أن تخدع بعضا من الناس لبعض من الوقت»، قال لينكولين، «ولكن لا يمكنك ان تخدع الجميع كل الوقت».

 هذه الحقيقة المتكررة اكتشفها نتنياهو وحكومته في اثناء زيارة بايدن.

ففي تمام سنة على ولايتهما انتهى اللعب بالعينين. جملة ردود الفعل - الفزعة، المشوشة واحيانا الغاضبة - التي اطلقت من القدس تدل على فجوة هائلة بين الثقافة السياسية الامريكية وتلك المحلية. وجدير التوقف عندها، منعا لمفاجآت اخرى في المستقبل.

 نتنياهو يعرض نفسه منذ بداية حياته السياسية كخبير للواقع الامريكي.

بيد أن هذه هي الولاية الثانية التي يتورط فيها في شرخ مدوٍ حيال الادارة.

غريب الاكتشاف بانه لا يفهم لماذا: أمريكا لا تحتمل عدم قول الحقيقة. لا الاكاذيب البيضاء، لا الحيل المنمقة ولا الغمزات. في هذا الموضوع لا توجد لديهم حلول وسط - من آخر موظفي الهجرة في المطار وحتى الرئيس في الغرفة البيضاوية.

 بيل كلينتون كان على مسافة خطوة من التنحية المهينة ليس لانه وسخ فستان متدربة في البيت الابيض بل لانه كذب للامة. ريتشارد نكسون ذهب الى بيته لانه اخفى الحقيقة في تحقيقات ووترغيت. وعليه فانه عندما يتعهد نتنياهو أمام ادارة اوباما بتجميد البناء في المستوطنات وعندها يتبين أن هذا تعهد مع نجمة - فضلا عن «القدس الموحدة»، باستثناء الحلول المتعلقة ب «النمو الطبيعي»، لا يتضمن «بدايات البناء»، التي سبق أن انطلقت على الدرب - فان الامريكيين يتفجرون.

 ما نقل بانه الاقتراح الاسرائيلي الحالي لحل الازمة - استمرار البناء بصمت، دون اعلانات تحرج الادارة - هو في هذا السياق المزيد من ذات الشيء. مشكوك جدا أن يوافق الامريكيون على مثل هذا الهراء.

 وبالنسبة ل لينكولين: بحوث حديثة عن شخصيته التاريخية تميل الى القول الى أن التيجان التي وضعت على رأسه لكونه مقاتلا متزمتا في سبيل حرية وحقوق السود كانت مبالغة فيها. يبدو أن ما كان امام ناظريه هو اكثر من أي شيء آخر التحدي لمواصلة المشروع الفاخر للاباء المؤسسين في ظروف ديمقراطية. كديما أكثر منه ميرتس، بمفاهمينا. ولكن من اللحظة التي اتخذ فيها قرار حياته الحاسم فقد سارع نحو الهدف دون أن يتذبذب يمينا أو يسارا.

 اسرائيل بحاجة اليوم الى لينكولين خاص بها. فهل لا يزال يوجد احد ما يؤمن بان نتنياهو مصنوع من هذه المادة؟

==========================

عذرا أمريكا فنحن لسنا ساذجين

زهرة عز

الرأي الاردنية

22-3-2010

عجبا لامريكا الا تخجل من لعبة شد الحبل يعتقد الامريكان اننا شعب ساذج لدرجة ان نصدق تلك التصريحات التي تقول ان ادارة الرئيس الامريكي تواصل التنديد بقرار اسرائيل بناء المستوطنات في القدس، او ان نصدق ان امريكا قد تغضب من ربيبتها اسرائيل وطفلها المدلل، منذ متى كان لأمريكا موقف معاد لاسرائيل؟؟ فالحقيقة انه حتى لو بنت اسرائيل 1600 وحدة استيطانية في القدس فلن تحرك أمريكا ساكناً، أما بالنسبة لتصريحات مستشار الرئيس الامريكي ديفيد اكسيلور لل(ان بي سي) بأن هذا القرار فيه اهانة لأمريكا او انه يقوض الجهود الهشه للسلام، فهذا ليس الا خدعة لتبرير وتحسين الموقف الأمريكي أمام العرب حتى تذكرهم بمعاهدات السلام التي تعطي كل الحقوق لليهود ليضربوا الفلسطينين باسم السلام وتحت ستار الشرعية الدولية كما حصل في غزة،ويحصل الان في الاقصى حيث تنتهك حرمة المقدسات الدينية التي كفلتها جميع الشعائر والاتفاقيات، فلو ان فلسطين مثلا لم تأخذ بالتوصيات الأمريكية بشأن السلام او انها اعتدت على احد الشعائر اليهودية لقامت الدنيا ولم تقعد.

 

فالحقيقة ان اسرائيل وامريكا وجهان لعملة واحدة، وهذا يظهر جليا في العديد من التصريحات التي ظهرت مؤخرا مثل تأكيد ديفيد اكسيلور (مستشار الرئيس الامريكي) على متانة العلاقة بين الولايات المتحدة واسرائيل وان تصرفها بشأن المستوطنات غير سليم لكن لا يؤثر على العلاقة الأمريكية الاسرائيلية.

 

وايضا تصريح وزيرة الخارجية الامريكية بأن اسرائيل حليف استراتيجي وستبقى، وكذلك الامر بالنسبة لما نشرته صحيفة معاريف - عقب تصريح الرئيس الامريكي بالتنديد لاسرائيل -، عن حجم المساعدات الامريكية لاسرائيل، كقيادة المسيرة الدبلوماسية ضد ايران و استخدام امريكا لحقها في الفيتو كمظلة سياسية امام مجلس الامن، ايضا فالولايات المتحدة تقود الصراع ضد تقرير غولدستون وضد اللاسامية لمصلحة اسرائيل، كما انها الوسيط المركزي في اي محادثات للسلام، واسرائيل طبعا لا تحتاج لاكثر من وساطة متعاطفة معها، ناهيك عن المساعدات الاقتصادية والتحالفات العسكرية.

 

والان لم يعد أمامنا سوى ان نجلس وننتظر تنديد أمريكا عندما تحلق الطائرات الاسرائيلية لتضرب ايران، وتقوم الصهيونية بهدم الاقصى وبناء الهيكل المزعوم فهنا تهب امريكا وكالعادة لترجمة الانجاز العسكري لاسرائيل الى اتفاق سياسي لان اسرائيل تعرف دائما كيف تدخل الحرب لكنها لاتعرف كيف تنهيها من دون الامريكيين وهذا هو التعلق الاستراتيجي لاسرائيل بامريكا .

==========================

سورية و تركيا .. خريطة الطريق إلى المستقبل«1/2»

إضاءات

الأثنين 22-3-2010م

خلف علي المفتاح

الثورة

من يزور تركيا و يلتقي فعالياتها الرسمية والشعبية يلمس ويستشعر عمق المحبة الصادقة التي يكنها الأتراك للشعب العربي السوري والمكانة الخاصة للسيد الرئيس بشار الأسد في الأوساط الشعبية والرسمية التركية.

ويجمع الأتراك على أن الفضل الأكبر في عودة الروح للعلاقات السورية التركية،يعود للخطوات المهمة التي قام بها كل من سيادة الرئيس بشار الأسد و القيادة التركية ممثلة بالرئيس غل ورئيس الوزراء التركي السيد رجب طيب أردوغان، وأدت إلى كسر الجليد الذي تراكم لعشرات السنين و شكل حواجز نفسية و سياسية بين العرب والأتراك حيث تم استثمار تلك الجفوة من قبل القوى التي تتربص شراً لتزيد الفجوة وحالة الكراهية لتصل إلى درجة العداء السياسي، ولتمعن في تشويه صورة العرب في الوعي الجمعي للشعب التركي ، وتلعب ذات الدور على الصعيد العربي تجاه الأتراك.‏

ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو تطابق وجهة النظر بين الإعلاميين السوريين والأتراك والتي برزت في الحوارات التي تمت بين الجانبين حول الأسباب التي أدت إلى سوء العلاقة بينهما خلال الثمانين سنة الماضية ،ودور الإعلام الغربي والصهيوني في ذلك ولاسيما موقف الحكومات التركية المتعاقبة من قضية الصراع العرب الصهيوني والوقوف إلى جانب العدو إلى درجة التحالف معه وما يمثله ذلك من أذى نفسي على العرب خاصة وأن القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية وبوصلة الحراك السياسي العربي ومحددة سمته واتجاهاته يضاف إلى ذلك حالة الاستقطاب الدولي بعد الحرب العالمية الثانية والاصطفاف العربي والتركي على خطوط الطول والعرض فيه ودوران البعض في فلكه السياسي.‏

وفي كل الأحوال ثمة وجهة نظر يتفق عليها الإعلاميون سوريون وأتراك فحواها أن الغيوم المتلبدة التي كانت تحجب سماء العلاقات السورية التركية قد زالت وأن البوابات السياسية والإعلامية قد فتحت على مصراعيها وأن العرب والأتراك يتصالحون مع تاريخهم وينظرون إليه نظرة نقدية موضوعية بإيجابياته و سلبياته، فلا بد من التفاتة للماضي و نظرة إلى المستقبل الواعد لأن ثمة حقائق جديدة أصبحت تفرض نفسها في المنطقة بعد انقشاع المظلة الأمريكية و زوال نظام الاستقطاب الدولي وفقدان الكيان الصهيوني لوظيفته وأسس الفلسفة التي ارتكز إليها ،حيث ثمة إمكانية لقيام قطب إقليمي يضم دول المنطقة يكون لتركيا وسورية دور أساسي فيه بحكم موقعهما الاستراتيجي ودورهما التاريخي والحضاري حيث شكلت بلاد الشام والأناضول قلب الإمبراطورية العثمانية في عصرها الذهبي قبل أن ينخرها التخلف والعصبية العمياء.‏

ثمة دروس في التاريخ يدركها العرب والأتراك ولا يختلف عليها أحد مؤداها أن التفاعل العربي التركي شكل واحدة من أهم الإمبراطوريات في التاريخ وثمة إمكانية لتعاون يتأسس على حوامل جديدة ليست بالضرورة هي ذاتها التي قامت عليها تلك الإمبراطورية بل حوامل حضارية نواتها المصالح المشتركة للشعبين والإرث الحضاري الذي يجمعهما، خاصة وان عالم اليوم في ظل تداعي نظام القطبية الأحادية وطبيعة التفكير الاستراتيجي والتموضع الدولي الجديد ينبئ بإمكانية قيام أقطاب إقليمية تقوم على تحالفات بينية لقوى ناهضة يمكن لها أن تشكل رقماً مهماً في المعادلة السياسية الدولية الجديدة.‏

إن أفقاً جديداً وفضاءً رحباً بدأت تلجه عجلة العلاقات السورية التركية يحمل أحلاماً وآمالاً كبيرة بحجم طموحات الشعبين والقيادتين في سورية وتركيا.‏

وبالتأكيد لن يكون السير باتجاه تحقيقها نزهة فالمتربصون بهذه المسيرة كثر، والكل يعلم أن ذلك لن يروق للأمريكان والصهاينة وغيرهم ،حيث لن يألوا جهداً في وضع العصي في العجلات وزرع الألغام لإعاقة المسيرة. ولكن القطار قد وضع على بداية السكة وطاقم ربانه يحسن القيادة ويعرف خارطة الطريق بكل منعطفاتها ويملك ذاكرة جيدة تجعله يصل إلى أهدافه في توقيت محكم ودقيق.‏

==========================

فلسطين والقدس في أجندة قمة العرب

بقلم :نواف الزرو

مرة أخرى، ربما بعد المائة.. لا حصر، تعود فلسطين بملفاتها الكبيرة وفي مقدمتها الملف المقدسي، إلى أجندة العرب، وإلى قمة العرب في ليبيا، وهذا هو الأمر الطبيعي دائماً.

 

ففلسطين هي قلب الأمة والقدس سرتها، والشعب الفلسطيني جزء لا يتجزأ منها، ومسؤولية فلسطين هي عربية قبل أن تكون فلسطينية، رغم الفلسطنة الممنهجة عن سبق تخطيط وترصد!

 

فلسطين تتعرض إلى أعظم وأكبر وأخطر حملة تهويدية يعتبرونها هم في إسرائيل هي الأهم في استراتيجيتهم، فهي تستهدف التاريخ والتراث، بكل ما يحمله ذلك من مضامين تمس الهوية والسيادة والمستقبل.

 

وإن كانت حكومة نتنياهو طالت بإجراءاتها مؤخراً الحرم الإبراهيمي الشريف ومسجد بلال وأسوار القدس، وصولاً إلى افتتاح كنيس الخراب الذي يعتبرونه بمثابة «الهيكل الصغير»، فإنها لن تتوقف قبل أن تستكمل مخططاتها ومشروعاتها التهويدية لنحو 30 ألف معلم تراثي، كما أعلن نتنياهو أمام مؤتمر هرتسليا في مطلع فبراير الماضي.

 

ولذلك، ربما تواجه الدول والأنظمة والسياسات الرسمية العربية في القمة الليبية، أسئلة عاجلة مربكة أكثر مما واجهته في القمم السابقة. فبينما كنا نسأل القمم السابقة أسئلة عن النكبة والهزيمة والانتصار.

 

التي لاتزال باقية على الأجندة العربية، فإننا في هذه القمة نذهب أبعد من ذلك بمطالبة القمة بما هو أكبر وأكثر جدية وإلحاحاً من بيانات الشجب والاستنكار.

 

فلسطين تواجه حرباً إسرائيلية استراتيجية شاملة، وصلت إلى مستوى تهويد التراث والمقدسات والمعالم العربية والإسلامية، بعد أن كانت تلك الدولة الصهيونية أجهزت على الجغرافيا ودمرت مقومات الاستقلال الفلسطيني.

 

عميد البيت العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، اعتبر أن «مواصلة إسرائيل لانتهاكاتها في المناطق المقدسة في الأراضي الفلسطينية، استهانة وإهانة للسياسة العربية».

 

وبعد أيام قليلة عاد ليعلن أن «ما بدر من إسرائيل إهانة موجهة لكل العرب»، مضيفاً «أن الإسرائيليين لا يقيمون وزناً لأحد، لا للوسيط الأميركي ولا للفلسطينيين، والرعونة في السياسة الإسرائيلية وصلت لدرجة خطيرة ومرضية جداً لا يمكن السكوت عليها».

 

وعشية افتتاح كنيس الخراب في البلدة القديمة للقدس قال موسى: «إن إسرائيل سرقت الفرصة التي أعطاها العرب لواشنطن».

 

وعندما يعلن الأمين العام للجامعة العربية، أن إسرائيل وجهت الإهانات وأكثر للعرب، إذاً يغدو من الملح أن يكون على قمة أجندة العرب في قمتهم الليبية مهمة رئيسة هي: كيف يمكن أن يردّوا الإهانة لمن أهانهم، وكيف يمكن أن يستعيدوا هيبتهم المفقودة، وأن يعيدوا الهيبة السياسية والدينية للقدس والأقصى؟!

 

فلسطين بشعبها العربي ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، تطالب القمة العربية بأن تعيد الهيبة السياسية والدينية للقدس والأقصى والحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، وأن تقف في وجه جرائم التهويد التي ترتكبها سلطات الاحتلال على مدار الساعة بلا توقف، بل على القمة أن تنتقل إلى مستوى الفعل الجاد والمسؤولية التاريخية تجاه فلسطين وأهلها.

 

المشهد الماثل أمامنا، ليس في فلسطين فقط، بل في كل المنطقة وعلى امتداد مساحة وطننا العربي الكبير من محيطه إلى خليجه، مرعب مذهل، غريب عجيب، ولم يعد بالإمكان استيعابه، فلا وزن ولا ثقل ولا حضور ولا دور ولا هجوم ولا دفاع عن النفس لهذه الأمة، لا على مسرح الأحداث الإقليمي ولا على المسرح الدولي..!

 

ويتبين لنا يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، أن الغائب المغيب الأكبر في المشهد الإقليمي والدولي بشكل عام، وفي مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي بشكل خاص، هو الإرادة السياسية العربية.

 

إسرائيل تصول وتجول وتعربد عنفاً وقتلاً وتدميراً واستيطاناً وتهويداً وتنكيلاً، واختطافاً للقدس والخليل وللتاريخ والتراث، وهي التي تماطل وتسوف وتشترط وتنسف.. وهي التي تلوح وتهدد وتجمح.. في حين نشعر دائماً بغياب الإرادة السياسية العربية في المواجهة!

 

فأين الإرادة السياسية العربية في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي المنفلتة بصورة لم يسبق أن شهد التاريخ مثيلاً لها؟ الدولة التي تعتبر نفسها فوق كل المواثيق والقوانين والمساءلات الدولية؟

 

وأين الإرادة السياسية العربية في الارتقاء إلى مستوى الحدث على المستوى الدولي؟ وأين المرجعيات القومية العربية؟ وأين المسؤولية العربية؟ وأين الحماية العربية للفلسطينيين في ظل غياب الحماية الدولية؟!

 

فإذا كانت العروبة قد تكرست في ثقافتنا وتراثنا ووعينا عبر القرون الماضية، ككيان وهوية وشهادة انتماء ووجود واستمرار، وإذا كانت العروبة قد حفرت عميقاً في وعينا الوطني القومي، وانصقلت كخريطة واحدة متكاملة مترابطة الأوصال والأعضاء، إذا ما اشتكى فيها عضو تداعى له سائر الجسد بالانتفاضات والتضامن والتواصل..

 

وإذا كانت العروبة قد انصهرت وتكونت على هذا النحو في تفاصيل حياتنا، فما الذي حدث؟ وما الذي جرى ويجري لهذه الأمة في هذا الزمن الصهيوني الطاغي؟!

 

الواقع أن العرب يمتلكون كماً كبيراً من الأسلحة والأوراق والخيارات الضاغطة، ولكن المعطلة لسبب أو لآخر، وبوعي أو من دون وعي، والمطلوب هو إعادة تفعيل واستخدام كل هذه الأسلحة والأوراق والخيارات، وهي واسعة وحقيقية وليست وهمية.. والمفقود في ذلك الإرادة السياسية العربية الحازمة والقرار العربي المستقل..

تتطلع الأمة من محيطها إلى خليجها، لقرار عربي حقيقي، يعطي العرب حضوراً وفعلًا وتأثيراً حقيقياً في ما يتعلق بقضاياهم ومستقبلهم.. فهل تكون هذه القمة مدخلاً أو خطوة، على الأقل، في الاتجاه الصحيح؟!

==========================

القنبلة الإيرانية تكون أو لا تكون

بقلم :ليونيد ألكسندروفتش

البيان

22-3-2010

دشنت إيران مشروع تخصيب اليورانيوم لمستوى 20% في 9 فبراير 2010. والسؤال الذي يطرح نفسه هو أيمثل هذا خطوة نحو صنع القنبلة النووية الإيرانية وما مدى تقدم إيران على هذا الطريق؟

 

خبير الأسلحة النووية والاستراتيجية الروسي ياروسلاف فياتكين لا يرى أي مبرر للحديث عن أن الإيرانيين سيحرزون السلاح النووي في المستقبل القريب. ويشرح فياتكين ذلك الأمر قائلاً: تحوز طهران 5,1 طن من اليورانيوم المنخفض التخصيب الآن.

 

والمطلوب، حتى يتسنى استخدامه لصنع القنبلة النووية، تخصيبه لمستوى 80% أو 90% وما يزيد.وفي الحقيقة فإن الإيرانيين بمستوى التقنية التي يملكونها الآن بعيدون عن صنع حتى القنبلة النووية «البدائية» التي ألقاها الأميركان على هيروشيما في عام 1945، ثم تخلوا عنها بسبب عدم فعاليتها.

 

فيما رفض الاتحاد السوفييتي صنع قنبلة كهذه منذ البداية، أما التقنيات الحديثة لصنع القنبلة النووية الحديثة فليس من المتصور بأي حال من الأحوال أن يستطيع الإيرانيون الحصول عليها في المستقبل القريب، ولا يوجد في العالم دولة يمكنها أن تمد الإيرانيين بهذه التقنيات، ومن المؤكد أن روسيا لن تعطيها هذه التقنيات.

 

ويرى الخبير الروسي فياتكين أنه حتى إذا أحرز الإيرانيون الكميات المطلوبة من اليورانيوم والبلوتونيوم وبالمواصفات المطلوبة وحصلوا على كل المواد الأخرى التي تدخل في صناعة القنبلة النووية، فسيتطلب الأمر المزيد من العمل لتجريب واختبار ما صنعوه وتوفير مستلزمات الإنتاج الصناعي الكامل للقنبلة النووية.

 

كما عليهم أن يحددوا من البداية حجم القنبلة التي ينوون صناعتها، وبناء على الحجم المحدد يتم إعداد التقنيات لصناعية اللازمة، وهي عملية معقدة للغاية، وعادة يصعب أن يتوصل «الذريون المبتدئون» إلى صنع قنبلة صغيرة من الممكن تعليقها في الطائرة، والأصعب أكثر هو صنع رأس نووي للصاروخ.

 

وعلى سبيل المثال قضت الهند سنوات طويلة في صنع عبوة نووية من الممكن وضعها في الصاروخ. وكذلك الحال بالنسبة لباكستان التي حصلت على عضوية «النادي النووي» في عام 1998 لكنها لم تحصل على صاروخ يقدر على حمل قنبلة نووية إلا في الأعوام القليلة الماضية.

 

وفضلا عن ذلك كله، كما يرى الخبير الروسي، فإن السلاح النووي يتطلب، إضافة إلى الصواريخ والقنابل والرؤوس المدمرة، وجود المنشآت المناسبة لتخزينه وصيانته والمحافظة عليه.

 

وهذه في حد ذاتها مشكلة غاية في التعقيد بالنسبة لدولة مثل إيران تواجه باستمرار وعلى مدى أعوام تهديدات بهجمة عسكرية أو قصف صاروخي من بعيد لمنشآتها لنووية، ولا يتصور أن أحدا سيعطيها الفرصة لبناء المنشآت اللازمة لتصنيع السلاح النووي ولحيازته وصيانته.

 

لقد أكدت القيادة الروسية مرارا وتكرارا على سلمية البرنامج النووي الإيراني، على الأقل حتى الآن، حيث مازال العلماء والخبراء الروس يشرفون على هذا البرنامج ويتولون بناء منشآته.

 

وأكد رئيس الوزراء الروسي بوتين أكثر من مرة على ضمان روسيا لسلمية البرنامج النووي الإيراني، ولا شك أنه ليس من مصلحة روسيا على الإطلاق أن تمتلك إيران سلاحا نوويا.

 

وحتى الأوروبيون لا يتصورون أن تسعى إيران لامتلاك السلاح النووي، والجميع يعرفون أن التصريحات المستفزة التي تصدر أحيانا من أركان النظام الإيراني لا تزيد في حد ذاتها عن ردود فعل نتيجة ضغوط داخلية وخارجية يواجهها هذا النظام.

 

أما المساومة على كسب روسيا لصف واشنطن وتل أبيب ضد إيران فهو ضرب من الخيال، وعلاقات الدول لا تقاس بهذا الشكل، وروسيا لم تكن ولن تكون أبدا الدولة التي تتخلى عن أصدقائها وحلفائها من أجل مصالح خاصة، ناهيك عن أن واشنطن وتل أبيب في الواقع ليس لديهم شيء يقدمونه لروسيا.

 

وإذا تصوروا ذلك فماذا سيفعلون مع الصين التي تتخذ موقفا ليس أقل تشددا من روسيا، وترفض مبدأ العقوبات على إيران جملة وتفصيلا.

قضية النووي الإيراني لا مجال لحلها سوى بالحوار، والجهد الذي بذل في التهديدات والضغوط والخلافات طيلة الأعوام الماضية لم يفعل شيئا ولن يفعل شيئا في المستقبل.

==========================

تهديد القدس يُنذر بزعزعة الوضع الإقليمي

آخر تحديث:الاثنين ,22/03/2010

محمود الريماوي

الخليج

واقع القدس الذاهب الى التهويد القسري وتهجير ما بقي من أبنائها، ورمزية المدينة كحاضنة للمقدسات الاسلامية والمسيحية، لا تشفع لها كي يتم تحركٌ جدي، يولي هذه القضية اهتماماً خاصاً يتلاءم مع التهديدات المتسارعة .

 

لا تُخفي حكومة الاحتلال نواياها باستمرار الاستيطان في المدينة وإسباغ الطابع اليهودي عليها، وآخر مظاهرها الشروع في بناء “كنيس الخراب” على بعد أمتار من المسجد الأقصى، وبمحاذاة الجامع العمري . في الأسبوع الماضي تم توزيع منشورات تدعو المقادسة الى ترك مدينتهم تنفيذاً لتعاليم الدين، فيما كُشِف أن الشروع في بناء “كنيس الخراب” على الشاكلة الهندسية لقبة الصخرة، يؤذن بالبدء ببناء الهيكل على انقاض المسجد الأقصى .

 

استهداف ثالث الحرمين الشريفين لم يعد مجرد تخوف ولا خطة بعيدة الأمد . في تصريح منسوب للشيخ يوسف القرضاوي أن استهداف الأقصى بات وشيكاً . فإذا تحقق ذلك، فسوف يشكل واحدة من أكبر عمليات ازدراء لمعتقدات المسلمين ولأحد أكثر أماكن عبادتهم قدسية، ولإضفاء طابع ديني صارخ على الصراع السياسي . هذه المخاطر لا تستوقف الرئيس اوباما حتى الآن، بعد نحو سنة من تقديمه خطاباً متقدماً حول الانفتاح والاحترام المتبادل . وعلى الأغلب أنه في خطاب سوف يلقيه في أندونيسيا بعد أيام، لن يتوقف عند عملية تغيير طابع المدينة المقدسة بسطوة الاحتلال وعربدته .

 

وعلاوة على ما ستلحقه هذه التطورات من ايذاء بليغ وغير مسبوق بالفعل، لحقوق المسلمين ومشاعرهم، من دون أن يكون المسيحيون بمنأى عن هذا الإيذاء، فإن ما يجري وما هو على وشك الحدوث، سوف يثير موجة غضب قد تصعب السيطرة عليها، وخاصة في ضوء التقاعس المديد عن الوقوف في وجه هذه المخاطر .

 

وبعيداً عن الجدل الذي جعلته واشنطن عقيماً حول الاستيطان والتفاوض غير المباشر، فإن خصوصية الوضع في القدس مرشحة لأن تطغى بعد شهور على الاهتمامات “السياسية” .

 

وحين يجري الحديث عن تفاقم للوضع يقود نحو انتفاضة ثالثة، فإن ما يتعرض له بيت المقدس، يدفع بحد ذاته نحو انفجار الوضع ناهيك عن الظروف القائمة في بقية الأراضي المحتلة . ونستذكر هنا أن الانتفاضة السابقة اندلعت مع استباحة شارون لباحة المسجد الأقصى . وقد بدأت الأحياء والشوارع المؤدية للأقصى تشهد مواجهات أسبوعية ساخنة، رغم ما تعمد اليه سلطات الاحتلال من قمع وحشي للمحتجين، ومنع من تقل أعمارهم عن الخمسين عاماً من حق أداء واجباتهم الدينية في اماكن عبادتهم .

 

انتفاضة أخرى تنضج ظروفها أكثر وأكثر وعلى نار القمع والتوسع الصهيوني، لن تكون بغير ارتدادات في العالم العربي والاسلامي . سوف يصعب وصم مظاهر احتجاجات شديدة، بأنها من ضروب التطرف . فليس هناك ما هو أشد تطرفاً من ترك المدينة المقدسة تواجه مصيرها، وهي عاصمة روحية لملايين المسلمين عرباً وغير عرب، فضلاً عن مكانتها لدى المسيحيين . وإذا كان هناك في بقية دول العالم من لا يدرك رمزية القدس، فإن العالم العربي يدرك جيداً جداً هذه المكانة . . وبالطبع من دون أن يقود هذا الادراك لإنقاذ المدينة المقدسة، وهو ما سيولد لدى الرأي العام العربي شعوراً مريراً بالمهانة والغضب .

 

مغزى ذلك أن بلوغ تهويد القدس ذروة جديدة، سوف يهدد بزعزعة العالم العربي . ولا حاجة للإشارة هنا الى نفوذ الحركات والجماعات الدينية على “الشارع العربي” وما سوف ترتديه دعواها من صدقية في حال استهداف الأقصى، ذلك أن الجمهور العربي بما في ذلك التيارات غير المتدينة، يؤمن بالعمق الروحي والتاريخي للمدينة المقدسة، وبتلاقي البعدين السياسي والروحي في المدينة المحتلة، بما يجعل من استهدافها تحدياً صارخاً لمشاعر الجميع، وللحقوق الوطنية والتاريخية .

 

فإذا أضيفت الى ذلك وعلى مستوى الإقليم، التوترات التي لا تهدأ بين طهران وتل أبيب، والتحريض “الاسرائيلي” الدائم ضد ايران، فإن الملف النووي الايراني لن يبقى العامل الوحيد في إلهاب الوضع . .ستكون هناك القدس التي تزمع حكومة نتنياهو على وضع “لمسات” أخيرة على مسيرة تهويدها، من قبيل الذهاب بعيداً في الصفاقة بالنيل من الأماكن الإسلامية المقدسة . لا يعني ذلك بالضرورة أن مواجهة ايرانية اسرائيلية وخاصة بالنظر الى عدم التجاور الجغرافي، على أن الجمهورية الاسلامية سوف تجد في مثل هذا التطور، دافعاً للتعبئة والتجييش سيبلغ صداها سريعاً أرجاء مختلفة من العالم العربي، ويقود الى تفاعلات سياسية لن يكون من اليسير ضبطها والتحكم فيها .

 

لنلاحظ أن حكومة نتنياهو باتت في الأشهر الأخيرة، على صلة ضعيفة بالعالم العربي وبالعاصمتين اللتين تقيمان علاقات دبلوماسية مع تل ابيب . ذلك يكشف أن تل ابيب تدير ظهرها في هذه الآونة، لسائر الاعتبارات السياسية والدبلوماسية التقليدية التي تحكم عادةً العلاقات الخارجية للدول، وسائر المؤشرات بما فيها التأزيم الآني مع واشنطن، تنبئ بأن تل أبيب عاقدة العزم على منح أطماعها التوسعية زخماً أيديولوجياً، والزعم خلال ذلك أن تهويد القدس مسألة تتعدى الاعتبارات السياسية، ولا علاقة بالتالي لما يجري فيها بأية اعتبارات من هذا النوع . . “فاليهود يؤدون واجباتهم ويعملون بما تأمرهم به كتبهم المقدسة” وهذا هو فحوى مطبوعات تم توزيعها في المدينة المقدسة خلال الأسبوع الماضي .

 

وسواء اتخذ الصراع وجهة جديدة بإكسابه طابعاً وحتى مضموناً دينياً، أو تم اعتبار ما يجري تسخيراً للدين لبلوغ أطماع سياسية، ففي الحالين فإن ما يجري يؤذن بدفع الصراع نحو ذرى على جانب من التعقيد والخطورة .

==========================

الحرب التي لن تقع

خيرالله خيرالله

الرأي العام

22-3-2010

انها الحرب التي لن تقع. من يراهن على مواجهة أميركية - إسرائيلية إنما يراهن على سراب، أقله في المدى المنظور. لن ترد الإدارة الأميركية على التحدي الإسرائيلي بأفعال محددة. ستكتفي بكلام قاس من نوع الذي صدر عن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أو عن مساعدين للرئيس... في انتظار اليوم الذي ستكون فيه إسرائيل في حاجة إليها لسبب إيراني أو غير إيراني. لم يقدم الإسرائيليون على ما اقدموا عليه لجهة التعاطي بوقاحة ليس بعدها وقاحة مع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارته الأخيرة. سبق ذلك اختبار للإدارة الأميركية الجديدة منذ اليوم الأول لدخول باراك اوباما البيت الأبيض قبل أربعة عشر شهراً تقريباً. وجد الإسرائيليون للأسف الشديد أن الإدارة على استعداد للتراجع في كل مواجهة بينها وبين حكومة بنيامين نتنياهو. لماذا لا تستمر، إذاً الهجمة الإسرائيلية على الإدارة بشكل دؤوب.

قبل انتخابه رئيساً ردّد اوباما أمام الذين التقاهم، بمن فيهم رئيس السلطة الوطنية السيد محمود عبّاس، أنه لن ينتظر الأشهر الأخيرة من ولايته الثانية، كما فعل بوش الابن، كي يباشر الاهتمام بالنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي. شدد في الوقت ذاته على أن استمرار النشاط الاستيطاني غير مقبول وأن المطلوب وقفه كي تتهيأ الأجواء لمفاوضات بين الجانبين تفضي إلى تسوية. جس الإسرائيليون نبض اوباما خلال الزيارة التي قام بها نتنياهو لواشنطن. ولما وجدوا أنه على استعداد لتقديم التنازل الأول، عن طريق استخدام عبارات مائعة في الحديث عن الاستيطان وضرورة وقفه، كرّت السبحة. كانت زيارة بايدن لإسرائيل وما تخللها من مفاجآت، تتسم بمقدار كبير من الاستخفاف بالإدارة، خير دليل على أن حكومة بنيامين نتنياهو مستعدة لتجاوز كل حدود في فرض سياسات معينة على واشنطن غير آبهة بأي ردود فعل من أي نوع كان. تقبل بايدن الإهانة ظاهراً وتناسى على وجه السرعة أن وزارة الداخلية الإسرائيلية اختارت لحظة وصوله إلى إسرائيل لتعلن عن مشروع استيطاني جديد في القدس الشرقية يشمل ألف وستمئة وحدة سكنية، علماً أن القدس الشرقية أرض محتلة في العام 1967 باعتراف الإدارة الأميركية الحالية نفسها والإدارات السابقة، بما في ذلك إدارة بوش الابن الطيبة الذكر!

لم يسبق في تاريخ العلاقات الأميركية - الإسرائيلية أن بلغت درجة التحدي والاستخفاف بالرئيس الأميركي نفسه الحد الذي بلغته في هذه الأيام. الأكيد أن اوباما ليس دوايت ايزنهاور، أو جورج بوش الأب... أو حتى بيل كلينتون. لكن الرسالة الإسرائيلية تبدو واضحة وفحواها أنها كشفت ضعف الرئيس الأميركي وغياب السياسات المتماسكة لدى إدارته. كشفت أنه عاجز عن خوض مواجهة معها وأنها قادرة على الذهاب إلى أبعد الحدود في تحديه.

لم تكن تلك الرسالة الوحيدة التي صدرت عن إسرائيل. هناك رسائل أخرى لعلّ أهمها أن حكومة نتنياهو لا تريد مفاوضات، لا من النوع المباشر ولا من النوع غير المباشر مع الجانب الفلسطيني. كل ما تريده فرض أمر واقع يتلخص في أن على الفلسطينيين أن ينسوا القدس وأن يقيموا دولتهم المستقلة، إذا شاؤوا ذلك، ضمن الحدود التي تسمح بها إسرائيل وهي حدود المستوطنات. ولعل السبب الحقيقي لصدور ذلك التحدي للإدارة الأميركية، خلال وجود بايدن في إسرائيل، تسليم الخارجية الأميركية عبر القنصل في القدس، السلطة الوطنية الفلسطينية موقفاً واضحاً يؤكد أن القدس الشرقية أرض محتلة، كذلك الضفة الغربية أن مرجعية المفاوضات خطوط العام 1967.

ما الذي في استطاعة الفلسطينيين عمله في هذه الحال؟ قبل كل شيء، يتبين أن الموقف العربي الذي أمّن غطاء للمفاوضات غير المباشرة كان موقفاً وطنياً بامتياز. تبين أن العرب والفلسطينيين ليسوا عقبة في طريق السلام. الأهم من ذلك كله أن الموقف العربي كشف لكل من يعنيه الأمر أن لا مجال لأي رهان، أقله في الوقت الراهن، على مواجهة أميركية - إسرائيلية من جهة، وأن لا رغبة إسرائيلية في السلام، ما دام بيبي نتنياهو في السلطة، من جهة أخرى. كل ما في الأمر أن على الفلسطينيين ترتيب البيت الداخلي ومتابعة العمل على بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية. وهذا ما تفعله السلطة الوطنية حالياً ممثلة بمؤسساتها الرئاسية وبحكومة الدكتور سلام فيّاض التي كسبت ثقة المجتمع الدولي ودعمه. عاجلاً أم آجلاً، سيتبين لأي إسرائيلي يمتلك حداً أدنى من المنطق أن خيار الدولتين الذي يشمل قيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة» عاصمتها القدس الشرقية هو الحل الوحيد بالنسبة إلى كل من يريد العيش بسلام في المنطقة. اللهم إلا إذا كان الإسرائيلي يتصور قيام دولة واحدة تضم كل أراضي الضفة الغربية تكون فيها أكثرية عربية بحلول العام 2020 أو حتى قبل ذلك!

المهم أن يمارس الفلسطينيون ضبط النفس وألا ينجروا إلى أي نوع من المزايدات بما في ذلك الكلام عن انتفاضة مسلحة جديدة لن تعود عليهم سوى بالويلات، تماماً كما حصل بين العامين 2001 و2006 في الضفة الغربية وفي أواخر العام 2008 واوائل العام 2009 في قطاع غزة. العجز الأميركي ليس نهاية العالم. ستجد إسرائيل قريباً أنه في حال كانت مهتمة بالفعل في مواجهة ما تسميه «الخطر الإيراني»، فلا غنى لها عن الإدارة الأميركية. صحيح أن الإدارة الحالية التي تعاني من مشاكل ضخمة في الداخل والخارج، ليست في وارد الذهاب إلى أبعد من توجيه كلمات لوم إلى حكومة نتنياهو، لكن الصحيح أيضاً أنها لن تسمح لها بجرها إلى حرب مع إيران. لا تزال لدى الإدارة الأميركية ورقة قوية تتمثل في أن إسرائيل ليست قادرة على خوض معركة، أي معركة سياسية أو عسكرية، مع إيران من دون دعم أميركي. صار ثمن الدعم الأميركي معروفاً. مطلوب من إسرائيل أن تعيد النظر في موقفها من الاستيطان. هل لا تزال هناك بقايا منطق في إسرائيل... أم لم يعد فيها مكان سوى للتطرف والمتطرفين؟

كاتب لبناني مقيم في لندن

==========================

شيءٌ من التبدل والتغيير

الإثنين, 22 مارس 2010

بصيرة الداود *

الحياة

 كلُ واحد منا يعاني من مركبات نقص وقلق نفسي معين، قد يدفع الكثيرين إلى تجاوز طاقاتهم البشرية والذهنية في معظم الأحيان بغية الحصول السريع على الثروات والألقاب والأمجاد الخادعة، والتي ربما تعمل على الاستنزاف من دون أن تؤمن لأي منا الاكتفاء الذي نطمح إليه.

لا أنكر - عزيزي القارئ - أن حب الظهور أو الثراء والتثقف والترف أصبحت جزءاً من الطبيعة البشرية المعاصرة بخاصة بعد أن فتح المجال وأتيحت الفرص أمام الجميع للمساواة في مجال الكسب الأكثر من هذه الحياة التي لم يعد يقوى على إغراء رفاهيتها ومباهجها المتعددة وغزارة إنتاجها أيُ كائن بشري.

وعلى رغم ذلك تبقى وتيرة الحياة اليومية تسير على ما هي عليه، حيث تضج المدن والقرى بالنشاط والحيوية والعمل صباحاً في حين تفتح أماكن الراحة والترفيه أبوابها ليلاً، فيعتقد الإنسان دائماً أنه يعيش مع وتيرة تلك الإيقاعات المتكررة يومياً في أحسن أحواله ما دام يعمل، «على البركة في معظم الأحوال»، والمهم أن يكسب من عمله ليعود إلى منزله فيأكل وينام من دون أي محاولة لإيجاد نوع من التغيير والتبدل على الروتين اليومي المحبط!

يخطر ببالي أحياناً أن أسأل أي مواطن عادي يشغلُ وظيفة بسيطة بالكاد يكسب منها ما يكفي قوت أسرته اليومي: هل هو سعيد؟ مرتاح البال والصحة والضمير؟ وبالتأكيد لن أفاجأ أبداً إذا ما وجدته يصرخ في وجهي بكلمة «لا – أبداً»، مشتكياً همه الذي يوزع أسبابه على ارتفاع تكلفة المعيشة، أو لصوصية مالكي العقارات، أو جشع التجار، أو على الدولة التي لا تبدي أي اهتمام بمتابعة أحوال رعيتها ومعالجة ما يمكن أن ينغص عليهم أسباب معيشتهم، وغير ذلك مما قد يثير الاستغراب والدهشة، ويصبح من عجائب الدنيا السبع - مستقبلاً - لو تغير أو تبدل حاله نحو الأفضل في زماننا الصعب هذا!

لقد أصبح الشعور بالعجز والقلق النفسي المستمر، والإحساس الدائم بالإحباط لدى شريحة كبيرة لا يمكن أن يستهان بأعدادها داخل مجتمعنا، أمراً طبيعياً ولكنه مؤسف في الوقت ذاته، فمثل هذا الشعور المفعم باليأس هو الذي أصبح يجبر المرء على رؤية الكثير من شرائح المجتمع العاملة غير قادرة على العطاء «بجدية وإخلاص مهني»، وأبرز تلك المشاهد المؤلمة هي التي تتعلق بساعات العمل الصباحية القليلة بخاصة في دوائر ومؤسسات الدولة الحكومية والتي يوزعها الموظفون في الغالب ما بين ساعة لتناول الإفطار في دوائر ومكاتب العمل! وأخرى لقراءة الصحف أو متابعة الإنترنت، ثم ساعتين للعمل ومتابعة شؤون البلاد والعباد، وأخيراً المغادرة ظهراً لأداء الصلاة وإحضار الأبناء من المدرسة، والعودة أو عدم العودة مرة أخرى إلى مكاتب العمل بحسب قرار الموظف ذاته! وفي ظل كل تلك الأوضاع المحزنة لنظام عمل الموظف الحكومي في شكل خاص يضيع الولاء والانتماء لمؤسسات العمل في بلادنا والتي هي بمثابة المرآة التي تعكس مدى القدرة على الإنجاز والفاعلية الحقيقية لتطوير مؤسسات العمل في الدولة.

والسؤال المطروح لتجاوز تلك الأخطاء وعدم احترام الأنظمة والقوانين الخاصة بكل دائرة عمل يبحث في واقعه في ماهية البرامج التي وضعتها كل مؤسسة حكومية أو غيرها من أجل تشجيع هذا الموظف على تبديل وتغيير نمط سلوكه المهني نحو الأفضل.

إن أي عمل لو تمت إدارته بطريقة جدية ومخلصة لصالح العمل وحده من دون أي شيء آخر كفيلٌ – عزيزي القارئ - بأن يعتق الإنسان من مجرد إحساسه بالفشل أو العجز عن تحقيق طموحات زائفة ربما يكون قد حلُم بها ذات يوم ولم تكتب له، ولهذا يكون في محاولة تغيير نمطية التفكير والتبدل دائماً نحو الأفضل من خلال الإيمان بشرعية الأهداف المرجوة لكسب اسلوب عيش جديد ونمط متبدل ومتغير باستمرار.

من جانب آخر، لو فكرت – أيضاً – في سؤال أي تلميذ يغادر منزله صباحاً ذاهباً إلى مدرسته، هل هو مسرور بما ينجزه في المدرسة؟ وهل هو مرتاح نفسياً وذهنياً لما يُقدم له من علوم وتربية وتنشئة؟ وهل بيئته التعليمية مناسبة؟ فقد لا أستغرب – أيضاً – إذا ما قرر الصمت وعدم الإجابة على أسئلتي ربما من الخوف، أو من الشك بسوء نيتي من وراء هذه الأسئلة. ولكني بالتأكيد لن أحتاج لأي إجابة منه حيث تكفيني النظرة إلى يديه أو ظهره المثقل بما يحمله من مقررات وأدوات في حقيبته المدرسية والمرغم على أن يقضي معظم يومه في قراءة تلك المقررات التي قد لا يفهم معانيها وأهدافها كما ينبغي، ولكنه مضطر لحفظها كما لقنت له، لا لشيء سوى لتجنب القصاص أو الرسوب في الامتحان منصاعاً بذلك إلى توجيهات المعلمين وكاسباً رضى والديه اللذين يحثانه دائماً على بذل المزيد ليكون له مستقبل لامع.

وقد لا يقوى مثل هذا التلميذ وغيره الكثير على الإفصاح عما يجول في خاطرهم من عدم تقبلهم نظام المدارس في بلادنا حتى وإن أدخلت على بعضها التعديلات في المباني وعلى المناهج وطرق التدريس التربوية ونحوها في شكل يجعلها أقل تحجراً وأكثر ملاءمة لنفسية التلاميذ. والسبب في ذلك – بحسب تصوري – يعود لعدم تقبل التلاميذ أساساً طرقَ التعليم القسرية – التلقينية – المصطنعة التي تفرض دروساً مملة يرغم التلاميذ على ابتلاعها كل يوم بكل ما تتضمنه من تفاصيل علمية وتاريخية، فيتكرر هذا المشهد معهم كل يوم من كل عام ومن دون معرفة ما هو المقصود من حشو الأدمغة بمعلومات فضفاضة؟ هل لتأهيل التلاميذ بهدف التخصص في أي حقل يرغبونه «والسلام»؟! أم المقصود هو بناء شخصية هؤلاء التلاميذ ليصبحوا مواطنين أكفاء؟ وهل المراد من وراء كل ذلك إعدادهم في بلادنا لدخول المراحل الجامعية برؤوس محشوة بمعلومات مبهمة وغير مقنعة أحياناً؟ أم أن الهدف هو إعدادهم لدخول الجامعات بفكر مكتمل الإعداد؟ وإذا كان المقصود بناء شخصية الإنسان منذ طفولته بناءً علمياً وتربوياً سليماً، وتزويد التلاميذ بما يتيح لهم التكيف مع أنماط الحياة المتجددة. والسؤال الذي يطرح نفسه مباشرة: ما هي تلك المقررات الدراسية التي يمكن أن تؤمن للتلاميذ كيفية البحث عن أنماط الحياة المتجددة؟ هل وضع الغرب أسس نظرياتها أم لا نزال ننتظر أن يبتكرها ويطبقها ثم يصدرها إلينا؟ لا أعلم كم سننتظر ليكون العكس؟ وما الذي يمنعنا من تحقيق ذلك؟!

لن تكون التربية والتعليم ذات قيمة ما دمنا نوهم أنفسنا بأن الأسس التي قامت عليها في بلادنا هي أسس صحيحة كونها تكتفي بدغدغة مشاعر الأهل وإرضاء طموحاتهم الزائفة، وإيهامهم بأنهم بفعل ما يحصله الأبناء من علوم وشهادات سيصبحون مؤهلين للانتماء مستقبلاً إلى مجتمعات الأثرياء والبورجوازيين والارستقراطيين والبيروقراطيين وغيرهم! متناسين البحث في وسائل للتربية والتعليم تكون جديدة وتهدف إلى بناء الشخصية الذاتية والعقلية للإنسان منذ طفولته ليكون جديراً بحمل اسمه الذي يشير ويرمز إلى آدميته.

==========================

اهتمام تركيا وإيران بالشؤون العربية: طريق إلى تصادم أم تفاهم؟

الإثنين, 22 مارس 2010

جميل مطر *

الحياة

قرأنا عن طلب توجه به طرف عربي إلى الحكومة التركية للتوسط بين أطراف عربية لتحقيق عدد من المصالحات السياسية. لم يكن الخبر مفاجأة لي وإن كان عدد من المتابعين للشأن العربي أعرب عن شعور بالصدمة. لم يفاجئني الخبر ولم أشعر بالصدمة لأنني أعرف من قراءاتي في التاريخ العربي المعاصر أن القادة العرب، في معظم المواقع ومعظم العهود، لم يرفضوا عند الأزمات أو الاضطرابات الدولية عرضاً أجنبياً للتدخل في الشؤون العربية، إن لم يكونوا قد استدعوا فعلاً بأنفسهم التدخل وربما ضغطوا من أجله. أعرف مثلاً وتعرف غالبيتنا أن بعض القادة العرب حث الحكومة البريطانية، أو استجاب لرغبتها، للضغط على آخرين من العرب، لإقامة شكل من أشكال التنظيم الإقليمي القومي يجمع الدول الحديثة الاستقلال وتلك التي كانت على وشك أن تستقل. وتسرد السجلات وقائع جهود ديبلوماسية وضغوط سياسية أفضت إلى إنشاء جامعة الدول العربية. صحيح أن فضلاً كبيراً يعود إلى القوميين العرب الذين رفعوا شعارات الوحدة العربية وشكلوا تنظيمات متعددة وقدموا اقتراحات كثيرة يعود البعض منها إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن جانباً من هذا الفضل يجب أن يعود إلى الحكومة البريطانية.

تذكرت بهذه المناسبة دراسة حديثة نشرها «مركز القدس للشؤون العامة» في إسرائيل بعنوان «هل إسرائيل دولة استعمارية؟ السيكولوجية السياسية للعقلية الفلسطينية» للباحث ايروين مانسدورف Irwin Mansdorf. يقدم المؤلف رؤية صهيونية جديدة لمرحلة الاستقلال العربي تقوم على فكرة أن الحركة القومية العربية وحصول الدول العربية على استقلالها من الاستعمار البريطاني والفرنسي، «إنما كانتا نتيجة السعي الصهيوني الحثيث لتحقيق استقلال إسرائيل»، وبحسب هذه الرؤية يكون وعد بلفور قد حقق آمال العرب واليهود معاً في قيام دول مستقلة في المنطقة ومن دونه ما قامت دول عربية. بمعنى آخر لا فضل يذكر للعرب في أي نجاح أو تقدم حققته دولة عربية في سعيها للاستقلال. يقال الآن إن إرهاصات القومية التركية في أواخر العصر العثماني ثم وعد بلفور ثم جهود بريطانيا لتثبيت دعائم الدول العربية الحديثة الاستقلال بإنشاء تنظيم إقليمي يحمي سيادة هذه الأقطار الجديدة، كلها كانت خطوات قام بها أجانب، أتراك ويهود وبريطانيون، ولا دور مهماً للعرب فيها.

لم يكن خبر دعوة تركيا للتوسط بين العرب مفاجأة، بل كان بالنسبة الى متابع ومهتم بالاندماج المطرد، بسرعة أحياناً وتدرج في أحيان أخرى، بين النظامين الإقليميين العربي والشرق أوسطي، تحصيل حاصل. أنا شخصياً لا أرى اختلافاً جذرياً بين جهود الاندماج الإيراني المتدرج في مشروع نظام إقليمي جديد ومحاولات الاندماج التركي في هذا النظام. أحدهما يبدو ساعياً للاندماج بطاقة خصومه ونية مواجهة ولا أقول عداء، والآخر بفائض قوة وطموحات نفوذ ونية تعاون ولا أقول تحالف. ولعلنا إن تأملنا ملياً في تفاصيل محاولات الاندماج القومي أو المساهمة في إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، قد نكتشف أدلة شبه عديدة بين الطرفين الساعيين للعب هذا الدور. نكتشف مثلاً أن إيران وتركيا تمران كلتاهما بمرحلة دقيقة في علاقاتهما بالغرب، وأن هذه العلاقات لا تختلف في كل حالة إلا ربما من حيث الدرجة وطبيعة نظام الحكم. فتركيا المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي والعضو العامل في حلف الأطلسي صعب عليها أن تسمح بتدهور سريع وحاد في علاقاتها بالغرب، ولكنها تعرف أن المحافظة على علاقات طيبة، كما كانت في عصر القطبية الثنائية، أمر غير ممكن. كذلك الحال بالنسبة الى إيران الدولة المرشحة لتكون ساحة للحرب الغربية الثالثة في العالم الإسلامي والعضو العامل في الحركة الثورية الإسلامية، صعب عليها أن تجرب تقارباً في علاقاتها بالغرب. وفي الحالتين، حالة العلاقات الغربية مع إيران وحالة العلاقات الغربية مع تركيا، تقف إسرائيل عنصراً محركاً، وربما فاعلاً بقوة، وراء تحجيم علاقات الغرب بالدولتين. ولإسرائيل مصالح مؤكدة، بعضها يتعلق بأمنها القومي، في أن منع حدوث تدخل فعال من جانب الدولتين في تفاعلات النظام العربي خارج عن سيطرتها، خاصة بعد أن اقتربت إسرائيل من تحقيق اختراق يصل في حالات معروفة الى درجه الهيمنة على بعض تفاعلات هذا النظام، بل والتأثير على السياسات والتوازنات الداخلية لعدد من أطرافه وتوجهاتها الإقليمية والدولية.

بين إيران وتركيا أوجه شبه، وبينهما أوجه اختلاف، ولكنها جميعاً، وحتى الآن على الأقل وربما في الأجل المنظور، لا تضع الدولتين أمام احتمال مواجهة صدامية حتمية، بل أتصور أن تنهض ظروف في النظام العربي تدفع الدولتين نحو عقد اتفاق ليس بالضرورة علنياً، يقضي بتخصيص بعض أراضٍ عربية لتصبح مناطق تماس لا يصح لأي من الدولتين الاقتراب منها بالخصومة أو التنافس أو الهيمنة، ويضع قواعد عمل تراعي الأولويات المشتركة لكلتا الدولتين وتستبعد الأولويات المتناقضة لأجل قصير أو طويل. أدرك جيداً، وأخال الإيرانيين والأتراك مدركين أيضاً، أن الضغوط العربية على كل من تركيا وإيران ستتصاعد مع استمرار تدهور الخصومات العربية وزيادة المصاعب الناتجة عن حال عدم الاستقرار في الدول العربية وعلى حدودها لدفع الدولتين أو كل منهما على حدة إلى التدخل في الشؤون العربية بالوساطة أو الدعم أو التحالف أو التصادم. أعلم من مصادر قريبة ومتابعة أن القائمين على توجيه السياسة الخارجية في كلتا الدولتين يدركون أن مصلحتهما المشتركة تفرض عليهما عدم الانجرار وراء أساليب معروفة كثيراً ما استخدمها العرب لاستدعاء الغرب، وبعضها استخدمته ديبلوماسية الامبراطورية العثمانية في شيخوختها وبدايات تدهورها قبل قرنين أو أكثر.

من ناحية ثالثة، ما زلت واثقاً من أن الأزمة الإقليمية العربية، وأقصد أزمة النظام الإقليمي العربي، يعبر عنها تدهوره وخطر انفراطه وانحطاط أساليب إدارته وانحدار سمعته الدولية. هذه الأزمة لعبت، وستلعب، دوراً في تطور الأحوال السياسية الداخلية في تركيا، خاصة أن التقدم الذي حققته الحكومة التركية في العلاقات مع سورية وموقفها «القومي» تجاه تجاوزات إسرائيل الديبلوماسية، كلاهما أضافا أرصدة إلى حزب «العدالة والتنمية» تحسب له في مواجهته مع المؤسستين العسكرية والعلمانية الكمالية. تركيا الآن، على رغم أنها مدنية الحكم والتوجه والسياسة، أنشط من أي وقت مضى في ميدان السياسة الخارجية في العالم الإسلامي، وتحتل مكانة لم تحصل على مثلها في الشرق الأوسط منذ القرن الثامن عشر. ولا يمكن إغفال الأثر غير المباشر على المنطقة العربية نتيجة هذا التقدم المتتالي لنفوذ التيار الإسلامي المعتدل في تركيا والنقلة الاقتصادية المتميزة. فبسبب هذه التطورات الإيجابية في الوضع الداخلي التركي في ظل حكومة إسلامية «مدنية»، تستطيع تركيا أن تساوم الدول التي يحمل نظامها السياسي طابعاً دينياً، وأن تتدخل ديبلوماسياً واقتصادياً وسياسياً، بل ودينيا من موقع قوة ومبررات وباجتهادات لا تتوافر لدولة أخرى في الإقليم أو خارجه. يضاعف من قوة هذا الرصيد في منظومة السياسة الخارجية لتركيا تجاه دول النظام العربي شعور المسؤولين الأتراك بحال الضعف العربي الناشئ عن هيمنة مظاهر اليأس بين الشعوب العربية، وسلوكيات تنم عن ضعف هيكلي شديد في كل دولة عربية على حدة، وغالبيتها تكشف عن نفسها في شكل خلافات بين المسؤولين العرب ويكشف عن نفسه أيضاً بحال التصلب التي أصابت شرايين العمل العربي المشترك في كل الميادين، وبخاصة في ميدان القضايا المشتركة مثل النزاع مع اسرائيل حول القضية الفلسطينية والحركات الإسلامية المتطرفة والنزاعات الطائفية والطبقية والتكامل الاقتصادي.

يكفي أن قيادياً تركياً على قدرٍ عالٍ من الذكاء والنفوذ خرج، بعد اجتماعات عقدها مع عدد غير قليل من فعاليات عربية رائدة في الإعلام والسياسة والديبلوماسية، بانطباعات تؤكد سلامة توجه أنقرة إلى ضرورة التدخل في شؤون العرب لوقف تدهور خلافاتهم قبل أن يهدد استمرارها أمن تركيا أو يجرها، كما سبق أن حاولت إسرائيل، إلى موقع مواجهة مع إيران.

* كاتب مصري

==========================

رفع الضبابية عن محادثات الشرق الأوسط

ديفيد إغناتيوس

الشرق الاوسط

22-3-2010

يعشق الدبلوماسيون الغموض، إذ يساعدهم على جعل النقاط الصعبة خلال التفاوض غير واضحة، ومثال ذلك قضايا «الوضع النهائي» كما يشيرون إليها في أغلب الأحيان. ويساعدهم الغموض على إرجاء النقاط الصعبة إلى وقت لاحق، حين تكون الأطراف المختلفة تحت ضغوط أكبر.

وقد كان الوله ب«الغموض البنّاء» عنصرا بارزا في الجهود الأميركية من أجل تحقيق السلام في القضية الفلسطينية الإسرائيلية على مدار الأربعين عاما الماضية. وبدلا من ذكر تنازلات بغيضة، يرى معظم المحللين أنها ستكون مطلبا لازما في تسوية قابلة للتطبيق - مثل وجوب تمتع الإسرائيليين بسيادة مشتركة على القدس وتخلي الفلسطينيين عن «حق العودة» إلى إسرائيل - تحاول الإدارات الأميركية المتعاقبة إرجاء هذه البنود إلى فترة لاحقة.

ولكن تداعت هذه الضبابية الشهر الجاري، عندما أعلن وزير الداخلية الإسرائيلي خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن أن إسرائيل سوف تبني 1600 وحدة سكنية جديدة في شرق القدس. وشعرت إدارة أوباما بالضيق، وهذه عبارة لطيفة. ووصفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الإعلان حول نية بناء وحدات سكنية بأنها «إشارة سلبية جدا» على العلاقات الأميركية الإسرائيلية و«إهانة».

وخلال اللغط الذي تبع ذلك بشأن «الأزمة» في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، كانت هناك محاولات حثيثة لإظهار الأمر وكأنه يتعلق بسوء فهم، لسحب عباءة الغموض مرة أخرى على عملية السلام. ولكن يعد ذلك خطأ.

لم تكن الخطوة داخل شرق القدس من قبيل المصادفة، ولكنه تصريح علني لافت للنظر نقل رفض اليمين الإسرائيلي تنازلات داخل القدس. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحاول تلبية الطلبات الأميركية بإضفاء الغموض على القضية عن طريق تجنب الإجراءات الاستفزازية داخل القدس. ولكن حزب شاس اليميني الذي يتولى وزارة الداخلية، سعى إلى إثبات صدق ما يروج له.

وقال دور غولد، وهو سفير إسرائيلي سابق لدى الأمم المتحدة زمن الجناح اليمين: «إن وقف عمليات البناء داخل شرق القدس من الأشياء التي لا يمكننا القيام بها». وقال أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي وأحد المستوطنين: «هل تتخيل أن يقولوا لليهود داخل نيويورك إنه لا يمكنهم البناء أو الشراء داخل منطقة كوينز؟!».

وعليه، ما الذي يتعين على الإدارة الأميركية القيام به في الوقت الذي يضع فيه اليمين الإسرائيلي القدس على الطاولة، رغم الجهود التي تبذل من جانب الدبلوماسيين العاشقين للغموض؟

إن أفضل استراتيجية من جانب الإدارة هي القيام بما درسته قبل عام، أي الإعلان بوضوح عن المبادئ الأساسية التي يجب أن تمثل إطارا لهذه المفاوضات. وقد تحدث زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق، عن هذه المبادئ الإرشادية: تقاسم حقيقي للقدس، ولا حق عودة للفلسطينيين، وعودة إلى حدود 1967 مع تعديلات متبادلة للسماح لمجمعات الاستيطان الإسرائيلية الكبرى، ودولة فلسطينية منزوعة السلاح. وكانت كافة المفاوضات على مدى العقود الأربعة الأخيرة تلتقي حول هذه الأفكار.

وتناقشت إدارة أوباما حول إصدار بيان المبادئ هذا قبل عام، عندما بدأت جهودها من أجل تحقيق السلام. ويروق استهلال المفاوضات بهذا «الإعلان» لبعض المسؤولين، ومن بينهم الجنرال جيم جونز، مستشار الأمن القومي. ولكن جورج ميتشل، مبعوث الإدارة للشرق الأوسط، قال إنه، اعتمادا على خبرته في محادثات السلام داخل أيرلندا الشمالية، يفضل ترك الأطراف يتناقشون قبل تدخل الولايات المتحدة بمقترحات تقريبية.

وبدلا من الإعلان عن مبادئ التفاوض الأميركية في البداية، قرر فريق أوباما الضغط على نتنياهو فيما يتعلق بالمستوطنات. واختاروا هذه المعركة خلال الأشهر الأولى لأوباما في منصب الرئيس، واثقين من أن الرئيس الجديد قوي، وأن نتنياهو ضعيف، وأنه عندما تحين لحظة الحسم سوف ينهار نتنياهو. وانتظر رئيس الوزراء الإسرائيلي بهدوء وساوم حول قضايا إجرائية، فيما أصبح أوباما أكثر ضعفا على الصعيد السياسي. ووافق نتنياهو في النهاية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على وقف مؤقت لبناء المستوطنات الجديدة، ولكن مع استثناء القدس. وكان يجب على الإدارة الأميركية استشراف ما يحدث.

وفي معرض استرجاع الأحداث الماضية، نلاحظ أن سياسة الخطوات المتتالية كانت سياسة خاطئة، وبرهن «الغموض البناء» في هذه الحالة على أنه شيء مدمر. وسمح ذلك للجناح اليمين داخل إسرائيل أن يؤكد فكرة إمكانية الحصول على كل شيء، أي الحصول على اتفاقية سلام من دون تقديم تنازلات داخل القدس. وسمح ذلك لنتنياهو بالاستمرار في موقفه الملتبس.

وتمثل القدس القضية الأصعب في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ولهذا السبب يريد صناع السلام المحتملون إرجاءها إلى المرحلة الأخيرة. ولكن تجعل أزمة الشهر الحالي من ذلك مستحيلا. ويقف اليمين الإسرائيلي وراء ضم قضية القدس. وما يحتاجه أوباما في الوقت الحالي هو الإعلان عن أنه عندما تبدأ المفاوضات، سوف تعلن الولايات المتحدة آراءها بشأن القدس وغيرها من القضايا المهمة، وتحديد الأطر العامة للاتفاق الذي يريده معظم الإسرائيليين والفلسطينيين. وإذا رفض نتنياهو التحرك، فحينئذ ستكون لدينا أزمة حقيقية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية.

==========================

فقاعات.. مجرد فقاعات

بثينة شعبان

الشرق الاوسط

22-3-2010

وسط زحمة من التصريحات والتعليقات والتحليلات حول العلاقة الأميركية - الإسرائيلية وما جرى منذ زيارة جو بايدن لإسرائيل وما يسمى بالشروط الأميركية الأربعة لإسرائيل، كتب مارك بيري مقالا في مجلة «السياسة الخارجية» بتاريخ 13 مارس (آذار) 2010 بعنوان: «إيجاز بترايوس: إحراج بايدن ليس كل القصة». وقد شرح بيري أنه في السادس عشر من يناير (كانون الثاني) من العام الحالي قام فريق من ضباط القيادة المركزية ومسؤولين عن مصالح الأمن الأميركي في الشرق الأوسط بتقديم عرض في البنتاغون لهيئة الأركان المشتركة التي يرأسها الأدميرال مايكل مولين حول النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وكان هذا الفريق قد أرسل من قبل رئيس هيئة الأركان الجنرال ديفيد بترايوس ليؤكد على «قلقه من عدم التوصل إلى حل للنزاع».

وكان ملخص العرض أن العرب بدأوا يقتنعون بأن الولايات المتحدة لا تستطيع ردع إسرائيل، ولذلك فإن العرب بدأوا يفقدون ثقتهم بالولايات المتحدة ووعودها، وأن التعنت الإسرائيلي في مسألة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يشل موقع ودور ومكانة الولايات المتحدة في المنطقة. وأضاف العرض أن «الولايات المتحدة لم تصبح فقط ضعيفة في نظر العرب، بل إن موقعها العسكري في المنطقة يتلاشى» على الرغم من وجود مئات الآلاف من الجنود الأميركيين في المنطقة. ويقول بيري إن الإيجاز الذي قُدم إلى مولين بطلب من بترايوس كان له وقع القنبلة على البيت الأبيض، ولذلك فإن إدارة أوباما أرسلت مولين إلى لقاء مع غابي أشكينازي. ويضيف مارك بيري أن بايدن نقل فحوى تقرير مولين - بترايوس إلى نتنياهو بقوله: «لقد أصبح الأمر خطيرا بالنسبة لنا. إن ما تفعله هنا يهدد أمن قواتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان وباكستان، وهذا يعرضنا ويعرض الأمن الإقليمي للخطر». لقد كانت الرسالة في غاية الوضوح، كما يقول بيري، «إن التعنت الإسرائيلي يكلفنا حياة أميركيين». ويختتم بيري مقاله بالقول: «في الوقت الذي يظن فيه البعض أن زيارة بايدن إلى المنطقة قد غيرت العلاقة الإسرائيلية – الأميركية، فإن التغيير الحقيقي حدث في يناير (كانون الثاني) الماضي حين أرسل ديفيد بترايوس تحذيرا واضحا إلى البنتاغون من خلال الفريق الذي قدم العرض: إن علاقة أميركا بإسرائيل مهمة، ولكنها ليست في أهمية حياة الجنود الأميركيين».

هذه الإضاءة الحقيقية على كل ما نشر في الإعلام منذ زيارة بايدن إلى حد اليوم مهمة جدا، لأنها ترى أن هذا العرض الأميركي يدرك ترابط الأمور بين فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي من جهة، وما يجري في العراق وأفغانستان وباكستان من جهة أخرى. كما أنه يعترف، ولو بشكل غير مباشر، أن قضية فلسطين والأراضي العربية المحتلة هي جوهر ما يجري في المنطقة ولا يمكن لهذه المنطقة أن تهدأ إلا بعد إحلال العدالة في فلسطين وتحرير شعب فلسطين من الاضطهاد الصهيوني وإعادة الحقوق العربية كاملة.

إن فحوى هذا القلق مستمد من لقاءات عقدها الفريق المكلف بإعداد هذه الدراسة مع قادة عرب ومسلمين، معروفين بمطاوعتهم للرغبات الغربية، الذين عبروا عن عدم قدرتهم على الاستمرار في إسدال الصمت المطبق، كما هو جار حاليا، على ما يقوم به المتشددون الإسرائيليون من جرائم يومية بحق الفلسطينيين من قتل واغتيال وعنف وتهويد إحدى أقدس مقدسات المسلمين. ولكن الرسالة الحقيقية التي يجب أن يسمعها الغربيون هي رسالة أصحاب الشأن، رسالة القادة العرب المعنيين بحماية المقدسات العربية الإسلامية. وكلما كانت هذه الرسالة قوية وواضحة وجدية، اضطر الآخرون إلى أخذها بجدية والتوقف عندها مليا.

إن أسبوعا من التكهنات عن مسار الأمور في العلاقة الأميركية - الإسرائيلية لم يؤد إلى فك أسير فلسطيني واحد، أو حماية بيت مقدسي من الهدم، أو السماح لفلسطينيين عزل بالصلاة في المسجد الأقصى، ولم تتعد المواقف الأميركية والأوروبية والرباعية النقد اللفظي للاستيطان كالتعبير عن «القلق» المترافق مع التأكيد على التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبالطبع التأكيد للمرة المليار على التزام الولايات المتحدة والغرب ب«أمن إسرائيل» من دون أي اعتبار لأمن الفلسطينيين وحريتهم وحقوقهم. هذا الالتزام الذي يعني تمويل الاستيطان، وتوفير الدعم العسكري، والحماية الدولية له، مما يجعل من كل هذه المواقف الغربية مجرد فقاعات لفظية إعلامية؛ ما إن تظهر هنا وهناك حتى تنفجر في وجه متداوليها. فعلى الرغم من كل العنف الإسرائيلي الذي استخدمته قوات الاحتلال ضد المصلين في القدس، وعلى الرغم من قتل وجرح واعتقال المدنيين المتواصل في الضفة، وعلى الرغم من قصف الطائرات الإسرائيلية لغزة المحاصرة منذ ثلاث سنوات، فإن ممثلة الاتحاد الأوروبي استنكرت العنف «من الطرفين» ولم تستنكر ملاحقة الجنود الإسرائيليين للمقدسيين بالكلاب والسلاح، وقتل الأطفال، واعتقال المدنيين وتهجيرهم، وهدم المنازل الفلسطينية بهدف تهجير أصحابها الأصليين وإحلال المستوطنين اليهود بدلا منهم.

إن جميع تلك التصريحات الغربية تبقى مجرد فقاعات إعلامية إذا لم تترافق بالأدوات التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع العرب والمسلمين، كإصدار قرار ملزم من قبل مجلس الأمن ترافقه العقوبات. ولكن لهذه الفقاعات هدفين في اتجاهين في السياسة الأميركية: الأول في إبعاد النظر عن الجرائم الإسرائيلية اليومية ضد المدنيين الفلسطينيين العزل. وثانيا: في مساعدة من لا يريدون من العرب اتخاذ خطوات واجبة لدعم الشعب الفلسطيني، ولكن لمن يتوقع أن تدعم الولايات المتحدة وأوروبا قضية العدالة والحرية في فلسطين كما دعمتها في كوسوفو مثلا، نقول: هيهات! فمعاداة العرب والمسلمين سياسة رسمية أميركية ثابتة، ومثل هذه الفقاعات تخدم إبقاء الشعب الفلسطيني أعزل من أي دعم حقيقي في صراعه مع قوة تجهز على حقوقه وحياته ومستقبل أبنائه، ولذلك ترى البعض يتوسم الخير في إدانات وتصريحات لا تفصم عرى الدعم الأميركي لكل مشروعات الصهاينة الاستعمارية المستمرة منذ ستين عاما بينما تستمر في إحكام الخناق على ملايين الفلسطينيين، فتحرمهم من الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وتمنع تحويل أي أموال لهم بعد أن صنفتهم جميعا بالإرهابيين وصنفت حتى الأموال اللازمة لإطعامهم وصحتهم بأنها أموال لدعم الإرهاب.

ولا أعلم لماذا لا تجد الرباعية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لغة أقوى لتستخدمها مع إسرائيل من كلمات بائسة مثل «تدعو، وتدين، وتنتقد»، بينما يقفزون فورا إلى فرض العقوبات الصارمة على الدول العربية والإسلامية، وتحريك عواصم العالم لدعم هذه العقوبات وذلك لادعائهم مرة بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، أو أن إيران متورطة في إنتاج قنبلة نووية مرة أخرى، أو أن تلك الدولة تدعم الإرهاب.. وإلخ، من الاختلاقات الوهمية. قد يغدو هذا الإجراء ضربا من الخيال بسبب التحالف الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي، وبسبب العداء المتأصل في الثقافة والسياسة الغربية تجاه العرب المسلمين، ولكن من الممكن أن يصبح واقعا حالما تتخذ الدول العربية والإسلامية قرارا باعتبار كل من يدعم الاستيطان أو لا يتخذ موقفا حازما حيال الجرائم الإسرائيلية في عداد من يشارك في الجريمة. وهناك إجراءات كثيرة يمكن للعالمين العربي والإسلامي اتخاذها لوضع حد للإذلال الذي يتعرض له شعب فلسطين العربي الذي يبذل جهده لحماية الأقصى بصدور أبنائه العارية بينما يلاحقهم جنود يهود مدججون بالسلاح وبالدعم الأميركي «لأمن إسرائيل».

إن أهمية العرض الذي قدمه فريق بترايوس - مولين هي إشارته الضمنية إلى جدوى الوقفة العربية والإسلامية ليس في وجه الاحتلال الإسرائيلي وحسب، وإنما في وجه كل من يؤيده ويدعمه بالمال والسلاح، وكل من يوفر له الغطاء الدولي كي يستمر في تهويد الأرض والمقدسات، وحقوق شعب أصيل يُقتلع من أرضه ودياره، ويحرم من حريته واستقلاله، ويتعرض لكل أساليب الجرائم ضد الإنسانية أمام مرأى العالم «المتحضر» ومسمعه.

=====================

تنصير ... توثين السوق ورسملة الثقافة والدين

د. عادل سمارة

موقع "كنعان" 21/3/2010

لا يُنْكِرُ حالَ الوطن العربي المأزوم ببعض أهله اليوم، وليس بطبيعته، سوى من أصابَه مسٌّ من جنون أو خالطَتْهُ ارتباطات مصلحية وعقيدية توجب عليه إنكار هذا الحال. وبعض أهله هنا أحد ثلاث:

• الطبقة الحاكمة بقشرتها/النخبة السياسية.

• وشريحة مثقفي البلاطات.

• وهيئة المؤسسة الدينية.

ولكن عاقلاً وعارفاً لا ينكر أن المركز الرأسمالي الأبيض هو أيضاً في أزمة، هي هذه المرة اقتصادية شاملة وليست مالية بحتة ومحصورة.

في معالجاتهم للأزماتِ ينطوي الضعفاء على أنفسهم ليتآكلوا داخلياً؛ حيث الانطواء على مستوى الأفراد والقمع على مستوى العلاقات الطبقية (الصراع على كعكة مأكولة أصلاً). أما الأقوياء فيصدِّرون الأزمة سواء بأيديهم مباشرة أو عبر أدواتٍ لهم من لدُنْهِم ومن محيطهم القريب وكذلك بمساعدة ودور أدواتهم من بلاد الضعاف. هكذا كانت غزوات الفرنجة باسم الدين والاستعمار باسم الاستعمار الإيجابي وإيلاج الكيان الصهيوني الإشكنازي في فلسطين باسم الدين كذلك.

هذا تصوير مقتضب المساحة لآليات تَفَجُّر بؤر الصراع الديني/الثقافي البادي اليوم في ظاهرتين:

• الهجمة من بلدان المركز على المحيط سواء ضد:

o المقاومة.

o الإسلام، الذي يعادل وِفق رأي الولايات المتحدة الرسمية "الإرهاب"، وفي أذيالها استيقاظ الدول النائمة السويد، الدنمرك والنرويج، وحتى غير النائمة بريطانيا ... الخ!

• التذابُح الديني في بعض بلدان المحيط، مصر ونيجيريا تحديداً.

لن أتحدث هنا عن المقاومة حجزاً للتوسع وحصراً للقوْل. علماً بأن الهجمة موجهة أساساً للمقاومة، وهي هجمة مستدامة. والمعتدون يعرفون أن معركتهم مع المقاومة، لذا فهم يحاولون ضرب خاصرتها الثقافية. فأي تكتيك رأسمالي خبيث وخسيس!

 

المقدمات الموضوعية للهجمة والاستكانة لها

كانت النهضة الأوروبية أوروبية حقاً، وكانت بالمقابل قفزة على عنق الأمم غير الأوروبية. هكذا تُبين طبيعة التناقض والصراع على الصعيد العالمي مبلوَرَةً في الاستعمار بتنوعاتِ وتبدلاتِ مظهره والاحتفاظ بجوهره. صحيح أن المقاومة من المستعمرات أخرجت الاستعمار العسكري بالدم، لكن الاستعمار بقي اقتصادياً وثقافياً وحتى طبقياً بمعنى أن شرائح معينة سمُنت وتحولت إلى طبقات وقادت عملية "تطوير" آليات إعادة الاستعمار أو استدعاء ما خرج منه أو أُخرج. كي نوجز نقول: هناك دور في الأزمة لتراث الاستعمار في التجريف المادي والثقافي/الديني/ التراثي.

تَرافَقَ مع هذا التجريف تجهيلٌ بالتاريخ، حالة العرب مثالاً، وبالثقافة بما فيها الدين وكل التراث، ليجد المواطن نفسه في فراغ ثقافي، لا في فضاء، فراغ من التاريخي والمحلي ومعروض عليه دفقاً هائلاً من ثقافة تزعم وحدانيتها وإطلاقيتها.

والثقافة الهاجمة المعتدية هذه ليست مجرد تجريدات لغوية ولا حتى صياغات معرفية معمقة ولا حتى الفن الراقي والعالي منه بل الفن المبتَذَل من رعاة البقر حتى تعليم الأطفال "عشق" القتل. هي في الأساس ثقافة الفرد المنفرد والمتفِّرد، ثقافة السوق، ثقافة تزعم "دعه يعمل دعه يمر"، وهي في الحقيقة دعه يرقص مستغَّلاً وذبيحا، دعه بين يديك، وحاذِر أن يتسرَّب من بين أصابعك! وهذا كله ضمن تسويق إيديولوجيا السوق ليبقى عالم المركز مَصْنَعَاً/ ثم ذِهْنَاً مُنتجاً يرمي بفوائض ينتجها إلى صالات مليئة بالأفواه الآكلة: قطيع.

 

هل هذا كلام حارق؟ بالطبع نعم. وإلا فما معنى أن السوق العربي تشتري في ذات اليوم كل ما يُنتج في الغرب الرأسمالي!

السوق وإيديولوجيا السوق مقدمة وهدف تقود إلى تمكين الغرب الرأسمالي من إعادة الإنتاج على نطاق موسًَّع. لكنها تقود إلى تخليع أبواب المحيط، ليعيش كما هو اليوم؛ تخليع أبواب الأمن القومي (مثلاً دخول العديد من الموساد إلى دبي بموجب الانفتاح الاقتصادي/السوقي) فالغذائي فالثقافي، ولماذا ليس الديني والتراثي إذن؟

أما هذه المقدمات وما تلاها ويتلوها فهو بتشارك مصالح الطبقات الحاكمة في المحيط وفي الوطن العربي خاصة!

 

اهداف الهجمة الحالية

لا تنزاح ولا تنفصل أهداف الهجمة عن مقدماتها، بل إن أهدافها الحالية مثابة تواصلٍ مع مقدماتها ومجرياتها السابقة. فإذا كان الاستعمار قد تعامل مع المستعمرات بتقسيم أو قراءة مجتمعاتها على أُسس دينية، لاحظ، لا طبقية ولا قومية، فإن الرأسمالية في حقبة العولمة تعيد استخدام الملفات نفسها: "الحريات الدينية، الإرهاب الإسلامي، التبشير والتنصير، تزكية اليهو-سيحية، زعم تفوق الثقافة الغربية...الخ".

لذا، يمكننا قراءة صورة بطرس الناسك "الراهب الذي امتطى حماراً أبيضاً وطاف أوروبا الإقطاعية للتحريض على تخليص قبر المسيح". يمكن قراءة وجهه في صامويل هنتنجتون اليوم، لا لزوم للحمار بالطبع، فيمكن أن يكون الحمار "الشاشة العنكبوتية" والقبر مسجد بلال بن رباح في بيت لحم "قبر راحيل". لم يختلف الأمر كثيراً.

أما الهدف المستدام، كما سيرى الجيل القادم، ونأمل ألا يمتد حتى الأجيال القادمة فهو: تعميم السوق كأيديولوجينا، وتوسيع السوق لدى غير المنتجين كي يأكلوا بجوعٍ في الرأس وليس في البطن فالرأس لا تشبع، وحين تأكل لا تفكر وحين لا تفكر لا تنتج ... الخ.

والهدف نظام رأسمالي واحد مركزه المركز ونهايته المحيط. هو تماماً مثل جَيْشِ المعتصم، مع انعكاس آية التاريخ:

 

"من المعتصم بالله أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم ... أرسل لك جيشاً أوله عندك وآخره عندي". نعم هذا هو العقل والقرار الإمبراطوري، لكنه اليوم معكوساً، أوله اليوم في بغداد وآخره في (حي كارلوس في سان فرانسيسكو... حيث الجبل الذي يسكنه المثليون، ويشتمون العرب)! وإذا كان هارون الرشيد قد أكد للخيمة أن خراجها سيأتيه، فإن ثروة بغداد وليس خراجها فحسب، ينتهي في وول ستريت.

وليس الأمر مجرد نظام واحد فحسب، بل مراتبية متفق عليها فعلا وليس ضمناً، بمعنى أن المصنع والمصرف والقرار في المركز، وعلى المحيط التلقي. هو تحالف قيادتي النظام الرأسمالي العالمي الحالي الذي يجعل من اقتصاد بلدان المحيط "قطاعا عامَّا رأسمالياً معولماً. قطاع مفتوح لرأس المال كل طبقاً لحجمه، لعُلوِّ كعبه، وكل من هو تحته فهو دونه، هو تماماً كالذي تحت أخمص قدمي المتنبي:

واقف تحت أخمصَيْ قدر نفسي واقف تحت أخمصيِ الأنامُ

والتحالف المكوِّن لهذا القطاع هو:

1) رأسمالية المركز بشرائحها/نخبها الست:

 النخبة الصناعية.

النخبة المالية.

 النخبة السياسية الإدارية.

 النخبة العسكرية.

 النخبة الثقافية الإعلامية.

 النخبة المؤسساتية الدينية وإن كانت ملحقة بالثقافية والسياسية.

2) والطرف الآخر رأسمالية المحيط التابعة والمكوَّنة من:

 القشرة السياسية الحاكمة (ليست نخبة لأن النخبة فاعلة ومنتجة، أما القشرة فطفيلية عابرة).

 الكمبرادور الثقافي.

 المؤسسة الدينية التي تخدم السياسية وتزعم حماية الدين وتنخرط في ما يسمى حوار الأديان الذي يتواكب مع الغزو الإيفنجيلي (كيف لا؟ ألم يصافح المرحوم الشيخ طنطاوي شمعون بيرس مبرراً ذلك انه لم يكن يعرفه؟)

 

أمِِنْ نظام/ ثقافة واحد/ة إلى دين واحد؟

هل هذا ما يعمل من أجله الغرب الرأسمالي بهذا الهجوم المعمم؟

أليس هذا هدف زعم حماية الحريات الدينية في مصر مثلاً وهو ما ساهم في تهيئة مناخات أدَّت إلى مذبحة نجع حمادي في مصر[1]، ومذابح نيجريا الجارية بلا توقف اليوم والضحايا ليسوا رأسماليين قطعاً ولا حتى مثقفي بلاطات أو مؤسسات دينية؟

ألا يعني التبشير توسيع مساحة دين على حساب آخر؟ ألم يكتفوا بتوسيع مساحة السوق؟ أم أن الدين يمكن أن يكون في خدمة السوق؟ من هو أفيون الشعوب يا شيخ كارل هنريخ ماركس؟ أليس السوق إذن؟ فالسوق يُساق إليه الناس قطعاناً إلى أن يبدؤوا بسّوْق أنفسهم إلى السوق، وهذا ما أصاب فوكواما بالعشى عن التاريخ.

ما يبرر الاحتجاج هنا، بل وأكثر من الاحتجاج هو ما يقوله رجال/نساء المؤسسات الدينية بأن "الأديان واحدة أو متقاربة"[2]. وطالما أن الأديان متقاربة هكذا، فما الدافع للتنصير إذن في بلاد المغارب العربي ولا ندري أين كذلك؟ وهل الإيفانجيلية الأميركية/المحافظية الجديدة حريصة على حرية الأديان في مصر، وهي التي تدعم التنصير في المغرب؟

أم أن الأمر هو أساساً الوصول إلى حالة الشمولية المطلقة نظام اقتصادي واحد، ثقافة واحدة، دين واحد وكلها في السوق، السوق الواحد. وهذه خطة/ أو مؤامرة على التاريخ كي يصل إلى نهايته. الوصول إلى شمولية مطلقة على عربة تزعم أنها عربة الحرية المطلقة! هناك إذن لا تناقض ولا تعددية ولا صراع الأضداد، هنا عالم استسلم لمراتبية سادة وعبيد، ولا مناخ لظهور سبارتاكوس ولا حمدان قرمط ولا أبي علي الزنجي ولا عيسى ولا محمَّد. هناك أرسطو وجون لوك فقط .

أما فيما يخص الصين، ولأن الدين فيها ليس سماوياً، فيحاولوا حفر قبرها بالاقتصاد، وتعييرها بأنها "ليست مخلصة لحرية السوق، وبأنها تدعم عملتها في مواجهة العملات الأُخرى...إلخ، هذا وكأن العملات الأُخرى هذه تقسِّم نفسها في حظوظ كثيرة للجياع في الأرض!

 

استيقاظ الدول النائمة

هل تخيل أحدنا أن هناك دولاً نائمة قبل أن يسمع بالخلايا النائمة؟ قبل أيام قررت السويد، الدولة في أقصى برودة الأرض، أن تعتبر مذبحة الأرمن مذبحة حقيقية. وهي حقيقية لا شك. وكل مذبحة حقيقية. ولكن لماذا لا تدين السويد مذابح 1948، ومذبحة غزة التي لم تجف بعد، لماذا قررت السويد إعلان ذلك الأمر اليوم، أي بعد قرابة قرن على المذبحة؟ هل احتاجت السويد إلى دراسة لمدة قرن حتى توصلها دقة "البحث العلمي" إلى هذا الاستنتاج؟ ألا يرتبط هذا بموقف الحكومة الإسلامية في تركيا من الكيان الصهيوني؟ هل هي فاتورة سويدية للكيان أم له ولأميركا التي، نظرا لولادة إسلام مقاوم، تعد العدة لمذبحة أرمجدون-مجدو؟ فالسويد هنا تُستخدم لترقص على أنغام تحالف المحافظية الجديدة في أميركا وفي الكيان حيث يمثلها نتنياهو.

ليست السويد الخلية/الدولة النائمة وحدها، بل الدنمرك كذلك التي احتضنت فريق كوبنهاجن، ونشرت صوراً تسيء للنبي، واليوم تقوم بأعمال خيرية في المناطق المحتلة. فأي استشراق متغابٍ واستغفالي؟!

على أن النرويج قد سبقت الاثنتين لتكون دولة/خلية نائمة وحكومة غير حكومية فوجهت لنا طعنة أوسلو وتمفصلاتها المتكاثرة أميبياً. أقول هنا لكل عربي، حين تُذكر هذه الدول الناعمة/النائمة تنبَّه لضميرك . أما نيوزيلندا، فتقيم نصباً لجنودها الذين شاركوا في الحرب الإمبريالية الأولى، وقد كتب على قبر أحدهم في قرية نائية: "يرقد هنا الضابط ثوماس هنري هلتون الذي ساهم في احتلال يافا ... فليرقد بسلام"[3]. أي سلام؟

أما موقف بريطانيا من الآذان والمآذن فلا يضيف الكثير لتاريخها الدموي الذي جعل للدم صوتاً، إلا أنه يضيف سؤالاً: لماذا نذهب إلى المجلس الثقافي البريطاني والفرنسي والألماني ...وغيرها من مثيلاتها؟ (سأكتب عن هذا في مقال لاحق).

 

لماذا يغيروا دينهم؟

ما يريده المبشرون الموظفون المرتشون يوضح نفسه، دور وارتباط عقيدي رأسمالي وعنصري (أي أسود داكن في كل جوانبه ونواياه).

ولكن، ماذا عن المتنصرين، سواء واحد أو عدة أفراد؟ هل الخلل في فرد؟ وهل يتطلب خلل الفرد كل هذا القلق؟ أم هي مشكلة تصدير التصدير! يصدر لنا الغرب أزمته، فتصدر الحكومات القطرية العربية مثلا ذلك إلى الناس ليقتتلوا ويتذابحوا ويشتكون إليها، حالة مصر.

يكمن الخلل في الحال الذي صِيغت عليه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية في بلداننا. طبقات حاكمة نصَّبتها الطبقات الحاكمة من المركز وتابعت حمايتها كأنظمة "سوداء- كما تسميها". أما هذه الطبقات فحكمت بالقمع، وكرست التبعية ومارست الفساد، وساهمت في تقويض الزراعة التقليدية، ولم تبتكر أو تصوغ مشروعاً تنموياً لا في الزراعة ولا في الصناعة.

أمل في علاقاتها بالغرب الرأسمالي فاعتمدت على مساعداته للطبقات الحاكمة وأطلقت يده للعبث في الأمن الاقتصادي والقومي كي يصل إلى الثقافي/الديني. فماذا يفعل الفقراء السذَّج أمام إغراءات المبشرين؟ ليس هؤلاء البسطاء خواصر ضعيفة، فالأنظمة الحاكمة هي التي جعلتهم كذلك.

ولكن، دعونا ننقل الأمر من انحصاريته الدينية إلى فضاء أوسع بكثير. فهل هذه أول ظاهرة تغيير عن ما هو موروث وسائد في الوطن العربي؟ وهل هي في الدين وحده؟ ماذا عن أنظمة الحكم نفسها؟ أي ما الأخطر، تغيير الدين أم تغيير البلد بأسره؟ ، تسليم الوطن للعدو والاقتصاد - أي حياة الناس - للشركات؟ تفكيك الأمن القومي، والأمن الغذائي والأمن الثقافي؟ تبديل الحريات بالقمع، والإنتاج بالاستهلاك، والأدب بالمدائح، واللوحات الفنية بصور الحكام، والصَبا بروح السَموم؟

ما الأخطر مثلاً، أن يتنصر فتى فلسطيني، أم أن يتصهين مثقف أو سياسي فلسطيني بالاعتراف بالكيان؟

حين لا يكون هناك قمعٌ ولا فقرٌ ولا تبعية ولا جوعٌ للحرية والرغيف، لن يكون هناك اختراقاً. أما حين يرى المواطن، حتى بعض من نال قِسطاً من الوعي، أنماط البيوعات ... ربما يبيع.

 

من هنا، إن كان لنا أن نشتبك، فذلك بالانسحاب إلى الداخل، لتنظيف الذات. والانسحاب إلى الداخل، يُغلق الأبواب بالضرورة أمام الغُزاةْ. تكون قوياً بذاتك ولذاتك!

_____________________

[1] انظر كنعان الإلكترونية الأعداد 2134، 2136، 2138 و 2143، عادل سمارة.

[2] قال الشيخ إبن عربي تعقيبا على الحكم الشرعي بوجوب إخراج الزكاة عن قريب المسلم إن كان يهوديا أو نصراني إن عقيدة المسلم والنصراني سواء..." إياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بسواه، ...فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها

(فصوص الحكم- 10)

[3] رأى هذا شاب فلسطيني في زيارة له لقرية نائية في نيوزيلندا التي اشترك 42 بالمئة من رجالها في تلك الحرب!

===============

الجزار والخراف

تبدأ القصة في زاوية قصية .. وبعيدا عن أعين الإعلام ... حيث كان الجزار يحد سكينه ويجهز كلاليبه ... في تلك اللحظة كانت الخراف في الزريبة تعيش وتاكل وتشرب وكأنها قد جاءت الى تلك الزريبة بضمان الخلود.

دخل الجزار فجأة الى وسط الزريبة فأدركت "الخرفان" بحسها الفطري أن الموت قادم لامحالة. وقع الاختيار على احد الخراف ..وأمسك الجزار بقرنيه يسحبه الى خارج الزريبة .... ولكن ذلك الكبش كان فتيا في السن ذو بنية قوية وجسما ممتلئا وقرنين قويين ....وقد شعر برهبة الحدث.. وجبن الموقف ..وهو يقاد الى الموت ... فنسي الوصية رقم واحد من دستور القطيع ... وهي بالمناسبة الوصية الوحيدة في ذلك الدستور ... وكان قد سمع تلك الوصية قبل ساعات من كبار الخرفان في الزريبة .... وكانت الوصية تقول :- حينما تقع عليك اختيار الجزار فلا تقاوم فهذا لن ينفعك بل سيغضب منك الجزار ويعرض حياتك وحياة افراد القطيع للخطر.

قال هذا الكبش في نفسه : هذه وصية باطلة ودستور غبي لاينطلي حتى على قطيع الخنازير ..فكيف بنا نحن الخراف ونحن أشرف وأطهر..... فاذا كانت مقاومتي لن تنفعني في هذا الموقف... فلا أعتقد انها ستضرني... اما قولهم ان مقاومتي ستغضب الجزار وقد يقتل جميع الخرفان ...فهذا من الغباء... فما جاء بنا هذا الجزار الى هذه الزريبة الا وقد أعد عدته ورسم خطته ليذبحنا واحدا بعد الاخر.... فمقاومتي قد تفيد ولكنها بلا شك لن تضر.

انتفض ذلك الكبش انتفاضة الاسد الهصور.... وفاجأ الجزار..... واستطاع ان يهرب من بين يديه ليدخل في وسط القطيع حيث نجح في الافلات من الموت الذي كان ينتظره. لم يكترث الجزار بما حدث كثيرا... فالزريبة مكتظة بالخراف ولاداعي لتضييع الوقت في ملاحقة ذلك الكبش الهارب....

أمسك الجزار بخروف اخر وجره من قرنيه وخرج به من الزريبة.... كان الخروف الاخير مسالما مستسلما ولم يبد اية مقاومة..... الا صوتا خافتا يودع فيه بقية القطيع. نال ذلك الخروف اعجاب جميع الخرفان في الزريبة... وكانت جميعها تثني عليه بصوت مرتفع وتهتف باسمه... ولم تتوقف عن الهتاف حتى قاطعها صوت الجزار الجهوري وهو يقول: بسم الله والله أكبر.

خيم الصمت على الجميع ....وخاصة بعد ان وصلت رائحة الموت الى الزريبة. ولكنهم سرعان ماعادوا الى اكلهم وشربهم مستسلمين لمصيرهم الذي يرفض أي فكرة لمقاومة الجزار. وهكذا بقيت الخراف في الزريبة تنتظر الموت واحدا بعد الاخر... وفي كل مرة ياتي الجزار ليأخذ احدهم لاتنسى بقية الخراف بان توصيه على الموت على دستور القطيع "لا ثم لا للمقاومه"

وكان الجزار وتوفيرا للوقت والجهد.... اذا وجد خروفا هادئا مطيعا... فانه يأخذ معه خروفا اخر. وكل مازاد عدد الخراف المستسلمة ... زاد طمع الجزار في أخذ عددا اكبر في المرة الواحدة... حتى وصل به الحال أن يمسك خروفا واحدا بيده وينادي خروفين اخرين او ثلاثة او اكثر لتسير خلف هذا الخروف الى المسلخ.... وهو يقول: يالها من خراف مسالمة... لم احترم خرافا من قبل قدر ما احترم هذه الخراف ... انها فعلا خراف تستحق الاحترام.

كان الجزار من قبل يتجنب أن يذبح خروفا امام الخراف الاخرى حتى لايثير غضبها وخوفا من أن تقوم تلك الخراف بالقفز من فوق سياج الزريبة والهرب بعيدا... ولكنه حينما رأى استسلامها المطلق .. أدرك أنه كان يكلف نفسه فوق طاقته... وان خرافه تلك تملك من القناعة بمصيرها المحتوم ما يمنعها من المطالبة بمزيد من الحقوق... فصار يجمع الخراف بجانب بعضها... ويقوم بحد السكين مرة واحدة فقط ... ثم يقوم بسدحها وذبحها... والاحياء منها تشاهد من سبقت اليهم سكين الجزار... ولكن... كانت الوصية من دستور القطيع تقف حائلا امام أي احد يحاول المقاومة او الهروب... "لا تقاوم"...

في مساء ذلك اليوم وبعد أن تعب الجزار وذهب لاخذ قسط من الراحة ليكمل في الصباح ما بدأه ذلك اليوم ... كان الكبش الشاب قد فكر في طريقة للخروج من زريبة الموت واخراج بقية القطيع معه كانت الخراف تنظر الى الخروف الشاب وهو ينطح سياج الزريبة الخشبي مندهشة من جرأته وتهوره. لم يكن ذلك الحاجز الخشبي قويا..... فقد كان الجزار يعلم أن خرافه أجبن من أن تحاول الهرب. وجد الخروف الشاب نفسه خارج الزريبة... لم يكد يصدق عينيه... صاح في رفاقه داخل الزريبة للخروج والهرب معه قبل أن يطلع الصباح ولكن كانت المفاجأة أنه لم يخرج أحد من القطيع..... بل كانوا جميعا يشتمون ذلك الكبش ويلعنونه و يرتعدون خوفا من أن يكتشف الجزار ماحدث...

وقف ذلك الكبش الشجاع ينظر الى القطيع..... في انتظار قرارهم الاخير...

تحدث افراد القطيع مع بعضهم في شأن ما اقترحه عليهم ذلك الكبش من الخروج من الزريبة والنجاة بانفسهم من سكين الجزار... وجاء القرار النهائي بالاجماع مخيبا ومفاجئا للكبش الشجاع...

في صباح اليوم التالي ....جاء الجزار الى الزريبة ليكمل عمله... فكانت المفاجأة مذهلة... سياج الزريبة مكسور... ولكن القطيع موجود داخل الزريبة ولم يهرب منه أحد...... ثم كانت المفاجأة الثانية حينما رأى في وسط الزريبة خروفا ميتا... وكان جسده مثخنا بالجراح وكأنه تعرض للنطح... نظر اليه ليعرف حقيقة ماحدث.... صاح الجزار... ياالله ... انه ذلك الكبش القوي الذي هرب مني يوم بالأمس!!!

نظرت الخراف الى الجزار بعيون الامل ونظرات الاعتزاز والفخر بما فعلته مع ذلك الخروف "الارهابي" الذي حاول أن يفسد علاقة الجزار بالقطيع ويعرض حياتهم للخطر. كانت سعادة الجزار أكبر من أن توصف... حتى أنه صار يحدث القطيع بكلمات الاعجاب والثناء:

أيها القطيع .. كم افتخر بكم وكم يزيد احترامي لكم في كل مرة اتعامل معكم...

ايها الخراف الجميلة ...لدي خبر سعيد سيسركم جميعا... وذلك تقديرا مني لتعاونكم منقطع النظير... أنني وبداية من هذا الصباح... لن أقدم على سحب أي واحد منكم الى المسلخ بالقوة... كما كنت أفعل من قبل... فقد اكتشفت انني كنت قاسيا عليكم وان ذلك يجرح كرامتكم.... وكل ما عليكم أن تفعلونه يا خرافي الاعزاء أن تنظروا الى تلك السكين المعلقة على باب المسلخ... فاذا لم تروها معلقة فهذا يعني أنني أنتظركم داخل المسلخ... فليأت كل واحد بعد الاخر... وتجنبوا التزاحم على ابواب المسلخ....

وفي الختام لا انسى أن اشيد بدستوركم العظيم ...... "لا للمقاومة"...!!!!

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ