ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 16/02/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

J

 

كفاءة الاقتصاد المصري

الثلاثاء, 15 فبراير 2011

علي بن طلال الجهني *

الحياة

في الفترة ما بين 1830 و 1850، قدر المؤرخون الاقتصاديون أن كفاءة وحجم الاقتصاد الياباني والاقتصاد المصري متساوية أو شبه متساوية.

وفي أوائل القرن الماضي، وهي الفترة التي جاءت بعد ثورة عرابي في 1881، كان الاقتصاد المصري مزدهراً منافساً قوياً لدول صناعية، إلى درجة أن بريطانيا كانت تقترض من مصر، وكان ميزان المدفوعات بين الدولتين لصالح مصر، والمقصود بميزان المدفوعات في هذا السياق وبإيجاز شديد ليس هذا مكان تفصيله «الفارق ما بين ما لدولة عند دولة أخرى وما عليها». أي الفارق في هذا المثال بين ما تدين به مصر لبريطانيا وما كانت بريطانيا مدينة به لمصر.

وفي الفترة ما بين أوائل القرن الماضي وحتى عام 1952، كانت مصر منبعاً غزيراً متدفقاً للعلم والفكر والفن لا يوجد له منافس في العالم العربي الذي كانت معظم أقطاره مستعمرات غربية.

وكان مستوى التعليم الجامعي المصري لا يقل عن مستواه في الجزر البريطانية التي خرجت من رحمها الثورة الصناعية وانفجر فوق أراضيها التقدم العلمي المذهل. كان المهندسون والأطباء والمحاسبون والمحامون وغيرهم من الجامعيين الذين تخرجوا في الجامعات المصرية لا يقلّون عن أندادهم ممن تخرجوا في الجامعات الأميركية والأوروبية.

ثم جاءت ثورة 1952 والتي سرعان ما شابها كثير مما شاب ما سبقها وما أتى بعدها من الانقلابات العربية.

ولكن الكارثة الكبرى التي حلّت بمصر ودمرت كفاءة اقتصادها الإنتاجية هي الاشتراكية وابنها «الإصلاح الزراعي». فباسم الاشتراكية تولّى ضباط إدارة أهم المنشآت الاقتصادية بعد تأميمها. فتحولت إدارة هذه المنشآت الإنتاجية التي كان يديرها أصحابها أو من يمثلهم إلى إدارة حكومية بيروقراطية متخشبة. فقلّ الإنتاج وساءت نوعيته. والسبب الأهم لذلك التدني أن الإدارة الحكومية بطبيعتها، وحتى في أفضل الأحوال، تقتل الدوافع الذاتية أو ما سمّاه مؤسس علم الاقتصاد ب «الأيدي الخفية».

أما مشكلة الإصلاح الزراعي فليست في غياب الدوافع الذاتية وإنما في صغر حجم الأراضي التي تم توزيعها على الفلاحين. وصغر حجم الأراضي ألغى الجدوى الاقتصادية لاستخدام الآليات الحديثة وبقية وسائل مكننة الزراعة. وهذه المكننة بدورها والتي سبق تزايد توظيفها في أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، هي سر ارتفاع كفاءة المزارعين في الدول الغربية. وصغر القطع الزراعية التي تم توزيعها على الفلاحين المعدمين جعل من الصعب عليهم إن لم يكن من المتعذر تماماً شراء الآليات الحديثة. والنتيجة أن الإنتاج الزراعي تدنى كماً ونوعاً، وتضاءلت الفرص لبقاء الفلاحين في الريف، فزحفوا إلى المدن «وأريفُوها» بكل معاني الأريفة وما يتبعها من مشكلات اجتماعية واقتصادية وحضارية.

وفي نهاية المطاف وتدريجاً تحولت مصر التي كانت قبل 1952 تصدّر القمح إلى أكبر مستورد للقمح في العالم.

وبقية ظروف مصر الاقتصادية معروفة. ولكن ما فات مات، والمهم المستقبل. فماذا تبقى للاقتصاد المصري من مزايا نسبية كافية يمكن توظيفها لرفع الإنتاج الكلي وما يتبع ذلك من رفع متوسّط مستوى معيشة المواطنين؟ إذا وجد الاستقرار السياسي الذي يثق في استقراره المستثمرون والمهنيون عموماً، وقبل كل شيء آخر استتب الأمن، وسُنّت القوانين والأنظمة التي تضمن المساواة قانونياً بين الجميع، ووجد معها نظام قضائي فاعل لتنفيذ العقود ولعقاب الناكثين والمدلسين والغشاشين، فان مستقبل الاقتصاد المصري يبشّر بالخير. فعوامل نجاح الاقتصاد المصري كثيرة. ولعل أهمها:

* حجم السوق، فمصر بلد يسمح عدد سكانه بما يسمى «تقسيم العمل» أي تخصص العاملين في أجزاء متناغمة لإنتاج المنتج.

* العدد الكافي من العلماء والمهندسين والأطباء وخبراء البرمجة وتقنية المعلومات والمحاسبين والمحامين وغيرهم من مكونات رأس المال البشري.

* توافر المياه والأراضي التي يمكن استصلاحها إذا تم إصلاح ما سمي سابقاً وخطأ ب «الإصلاح الزراعي».

ونستنتج مما سبق أن مصر تملك كل الإمكانات المادية والبشرية لبناء اقتصاد قوي يُمكِّنُ الفرد المصري من منافسة غيره بعد فترة من المخاض التي يرجو كل محب لمصر أن تكون قصيرة وسريعة.

وخلال فترة المخاض لا بد من إصلاح نظام التعليم العام والأهم الجامعي لإعادة الاهتمام إلى النوع قبل الكم. فمنذ 1952 تم توفير التعليم للجميع، غير أن نوعيته ساءت بنسبة زيادة عدد الطلاب نفسها.

وحالة الاقتصاد المصري خلال الخمسة عقود الماضية تشبه حالة الشخص الذي أعاقه المرض لمدة تجاوزت نصف قرن. ولذلك يحتاج الى فترة من النقاهة لا بد من المرور من خلالها، حتى لو توافر له الدواء النافع الشافي، وقد تطول هذه الفترة أو تقصر، بناء على قدرة المعالجين للمرض ومستوى مقاومة المريض للأمراض.

والله من وراء القصد.

============================

تمرد ام إصلاح؟

ميشيل كيلو

2011-02-14

القدس العربي

 سواء كان من يتمردون اليوم من الإسلاميين أم العلمانيين، الضالعين في العلوم السياسية أم الذين لا يفقهون حرفا واحدا منها ولا يهتمون أصلا بالشأن العام، من الشباب أم الشيوخ، النساء أم الرجال، الأطفال أم الكهول، العمال أم البرجوازيين، التجار أم الفلاحين... هناك شيء مؤكد لا مجال للنقاش فيه، هو أن التمرد ما كان ليحدث في تونس ومصر، لو أن سلطات هذين البلدين وافقت ذات يوم من مطالع القرن، قبل عشرة أعوام كاملة، على إجراء إصلاح يلاقي المجتمع في مكان ما، حتى إن كان قبل منتصف الطريق بمسافة لا بأس بها.

ركع الشعب العربي على ركبتيه طيلة سنوات وسنوات يرجو سادته إصلاح شؤونه: بتدبير عمل لأبنائه وبناته، وخاصة منهم من أنهوا دراساتهم الجامعية، وإعطاء المواطنين وخاصة القوى العاملة منهم حصة معقولة من ثروات وطنهم، عبر توزيع عادل نسبيا للدخل الوطني، والحد من الفساد والإفساد، والإقلاع عن التمييز بين بنات وأبناء الشعب الواحد، الذين يجب أن يعاملوا على قدم المساواة، فيخضعوا جميعهم لقانون يكون السيد الوحيد في الدولة، ولا يخضع بعضهم لقوانين متباينة تطبق بصورة كيفية / مزاجية هدفها اختلاق تفاوت عميق بينهم، بينما يخضع القانون لبعضهم الآخر، ولا ينصاعون كالأغنام لإرادة شخص أو قلة عليهم اعتبارها ضربا من قانون إلهي مقدس لا يجوز الخروج عليه أو الامتناع عن الرضوخ الأعمى له، واحترام الإنسان، بالإقلاع عن إذلاله في كل كبيرة وصغيرة، ومعاملته وكأنه غريب يتطفل على موائد الحكام في بلد ليس وطنه، أو فرد في قطيع بهائم يعيش ليأكل ويشرب ويتناسل، فلا حاجات روحية أو إنسانية لديه، ولا معايير تحترم إنسانيته، لطالما عدت مواقف الحكومات منها مصدر شرعيتها وحتى حياتها، وإلا لما سقطت نظم جبارة لسبب وحيد هو أنها أساءت معاملة مواطنيها وتجاهلت حقوقهم، وقوضت مشاركتهم في شؤون وطنهم، وتجاهلت أن المواطن هو الذي ينتج خيرات وطنه ويحافظ عليه في السلم، ويقاتل ويموت دفاعا عنه في الحرب، فلا مفر من أن يتمتع بقدر من الحرية الشخصية والفردية يتيح له أن يكوّن رأيه الخاص، ويعبر عنه فلا يعد جريمة تستحق العقاب، إن هو خالف رأي حكومته، ولا يكون ما فيه من خطأ محتمل مؤامرة مدبرة ومقصودة على الوطن.

بعض الخبز وبعض الحرية: هذا ما جثا المواطنون العرب على ركبهم يستجدونه من حكامهم... دون جدوى. لم يرفض هؤلاء فقط الاستجابة لشعوبهم، بل حولوا مطلب الإصلاح إلى مؤامرة خارجية، وجعلوا شعوبهم المطالبة بتحقيقه عميلة للخارج، وقلبوها من جهة لها حقوق إلى جهة تجهل مصالح وطنها، بلغ انعدام رشدها وفقدان إدراكها حدا يجعل من الضروري تشديد وصاية حكامها وأجهزتهم عليها، وإخضاعها لدورات تدريبية في الولاء لحكوماتها، الذي لا شك في أنه جوهر ولب الوطنية ومعناها الوحيد، بينما تم تصعيد وتنظيم وتكثيف سياسات الإفساد والنهب المفتوح، حتى صارت دون حد أو قيد، في حين انهمرت عصي التأديب الغليظة على رأس كل من تجرأ وفتح فمه ضدها، وفرضت ضروب جديدة ومبتكرة من الحرمان والظلم على مواطنين بسطاء عرفوا بخضوعهم الفطري لحكامهم، ليسوا قطعا في حسابات الخارج حتى يكلفهم بالتآمر على بلدانهم، رغم قلقهم على حاضرهم ومستقبلهم، وحيرتهم أمام تناقص مواردهم وتزايد شقائهم وكدهم، وتراجع قدرتهم على التحكم بحياتهم، وعلى مواجهة أعبائها المتعاظمة. حدث هذا كله، في حين كانت لقمة العيش تفرض عليهم أعباء ثقيلة تفاقم عجزهم باضطراد عن حملها، وكانوا يرون بأعينهم أنماطا من البطر والترف لا تترك أي مجال لأي حديث عن الأخوة في الوطن، وتقوض أي ولاء لها، وتشهد على أنه وطن لقلة غريبة الدور والصفات، لا عناء ولا عنت في حياتها، بل ثمة وفرة وبطر لا يصدقان، مع أن من ينتمون إليها لا يتعبون أكثر من غيرهم ولا يتمتعون بذكاء خاص يفوق ما لدى مواطنيهم، ولا يقدمون خدمات تسوغ ما لديهم من ثروات أسطورية وامتيازات خرافية.

... والغريب أن النخب الحكومية لم ترفض الإصلاح بحجة الدفاع عن الاستقلال الوطني والسلام الأهلي فقط، بل أبدت بعد ذلك قدرا من الاستهتار بالحقيقة والواقع جعلها تؤكد أن أحوال مواطنيها على خير ما يرام، وكيف لا تكون كذلك وهم ممثلون في الحكم ومصالحهم مكفولة على أفضل وجه ؟

ومع أنني لا أود التوقف طويلا عند تصريحات الرئيس المصري حسني مبارك عن 'هويتنا وخصوصيتنا التاريخية، التي لا تسمح بإجراء إصلاح يهز قيمنا ويخالف تقاليدنا'، فإنني أذكرها باعتبارها دليلا على عارض شديد الخطورة على العرب، تجلى في عجز حكامهم عن فهم واقع بلدانهم، وعيشهم في عالم من بنات أوهامهم لا علاقة له بحقيقة أمورهم ومتطلباتهم، من أغرب الغرائب أنهم يعيشون فيه ويدافعون عنه، ويريدون إقناع شعوبهم بأنه واقعها هي أيضا، فلا بد أن تتمسك به هي أيضا، لكونه جعلها أسعد أو من أسعد شعوب الأرض! هل هناك عجز عن فهم الواقع أفظع من محاولة إقناع الجائع بأنه سعيد لأنه لا يأكل، والسجين بأنه محظوظ لأنه سجين، والعاطل عن العمل بأنه يستحق أن يحسد على حاله لأنه مرتاح! وهل هناك من يفوق في عجزه عن فهم واقع وطنه رجل دولة لا يتحدث عن مشكلات بلاده إلا لكي ينفي وجودها، فهي في رأيه جنة لا تعرف الأزمات أو المصاعب؟

بعجزها عن فهم الواقع، وترك الأمور تتردى وتفسد، يئس المواطن من الإصلاح، واقتنع بأنه سيبقى عرضة للاحتقار الشخصي والظلم الفادح. وبإصرارها على رفض أي إصلاح يخاطب المواطن ككائن حر وكإنسان يستحق الاحترام، وضعت النظم حجر الأساس للتمرد الذي انفجر في تونس، ثم انتقل إلى مصر، ويبدو أنه لن يتوقف عند حدودهما، كما تشير إلى ذلك أحوال اليمن والسودان والعراق والأردن والجزائر... الخ. ومن يراقب السير اليومي للأمور في بلدان عربية كثيرة يجد أن أوضاع شعوبها تردت خلال العقد الأخير في سائر المجالات العامة والخاصة. وتقول أرقام محلية ودولية لا شك في صحتها، أن مستوى التعليم والخدمات والعمل والرعاية الصحية والحريات وحكم القانون قد تراجع بدل أن يتقدم، بينما بلغت الشعوب درجة من المعرفة والتعلم تمكنها من وعي واقعها الخاص وواقع وطنها، ودرس عشرات ملايين العرب وتعلموا ضروبا من المعرفة الحديثة والمناهج الفكرية المتطورة كان من شأنها أن تعمق تناقض واقعهم مع طموحاتهم وقدراتهم، وأن تحفر هوة ازدادت عمقا بلا انقطاع بين وضعهم الذاتي ووضعهم العام، وضعهم كمواطنين يتطلعون إلى التقدم والعيش الحر والكريم، ووضع مجتمعهم ودولتهم، الذي يدفع بهم إلى هاوية لا مخرج لهم منها. رأى هؤلاء في أنفسهم مواطنين جديرين بالحرية، من غير المعقول أو المقبول أن يعاملهم حكامهم كقاصرين لم يبلغوا سن الرشد، بينما انضوت قدراتهم الشخصية والفردية في سياقات تضاهي قدرات أي مواطن آخر في العالم، بما في ذلك مواطن الدول المتقدمة، مكنتهم من فهم ما يجري في بلدانهم بدقة ومن وعي الواقع بين الخاص والعام في وجودهم، وفهم آليات حله.

في هذه الأثناء، كانت تنمو في كل مكان من عالمنا العربي طبقة وسطى تحملت عبء معظم العمل التنموي والإداري والإبداعي في المجتمع والدولة، دون أن يقر لها رسميا بأي قدر من الاستقلالية، أو تؤتمن على أي شأن من شؤون وطنها. وكان الغضب يتراكم في صدور المواطنين المهانين / المحرومين، الذين يعرفون كم يدين بلدهم وحكامه لهم في ما يملك ويملكون، وكم تحرمهم القلة الحاكمة والمالكة، التي لا تشبههم، من حقهم في عوائد عملهم وثروات وطنهم، ومما يستحقونه من حرية واحترام.

بعجز النخب الحاكمة والمالكة عن فهم الواقع، وتصرفاتها المناهضة لأي قانون والتزام أخلاقي ووطني، وثرواتها التي ليس لها ما يبررها في نظر أغلبية الشعب، وبتعاظم وعي وقهر المحرومين، نشأ تنافر شمل الدولة والمجتمع والسلطة والمواطن جميعا، تفاقم إلى أن أبعد الحاكم عن المحكوم وبالعكس، وعقّد مشكلات الشعب بمقدار ما امتدت اليد الرسمية لحلها، وتعاظمت الهوة بين الجانبين واكتسبت شكل يأس مطلق من كل قول وفعل حكومي واستهتار مقابل بأي مطلب شعبي أو مجتمعي، مهما كان بسيطا. في هذه الأجواء، غدا التمرد مسألة وقت ويأس، وعبر عن نفسه في ظواهر حكومية غطت الحياة العامة وأمعنت في دفع الناس إلى حافة الهاوية، ولم تترك لهم، أخيرا، من خيار غير التمرد أو الموت. ولعل ما قاله مهندس مصري في اليوم الأول من التظاهرات الكبرى (25 كانون الثاني/يناير) أن يكون خير معبر عن مزاج شباب مصر غير الحزبي و'غير السياسي'، الذين نزلوا إلى الشارع ضد نظام مبارك القوي والراسخ أمنيا. قال الرجل : أنا عمري 40 سنة، تخرجت من كلية الهندسة قبل أربعة عشر عاما، لكنني ما زلت أعيش في بيت والدي، لأنني لم أعمل أو أتوظف ولو يوما واحدا، ولست متزوجا، وليس لدى أي دخل أو أي شيء آخر في هذه الدنيا. حين سئل لماذا يتظاهر، أجاب : لكي أدمر النظام أو أموت، فأتخلص من خجلي من نظرات أبوي الطاعنين في السن، اللذين يعيشان في الحرمان ليوفرا لي لقمة العيش. لقد أتيت إلى هنا كي أموت، أو يموت النظام الذي سلبني حقي في الحياة. بلغ الوطن العربي مفترق طرق، بعد أن رد مجتمعا تونس ومصر على رفض الإصلاح بتمرد كاسح، عصف بركائز رئيسة في نظاميهما وأثار شعورا من الثقة بالذات لدى غيرهما من مواطنات ومواطني المجتمعات العربية، التي تبدو وكأنها اكتشفت لأول مرة منذ نصف قرن ما تختزنه من قدرات هائلة وغضب. والحال، سواء كانت الثورة في تونس ومصر إسلامية، كما يريد خامنئي لها أن تصير، أو شعبية ومجتمعية وبالتالي ثورة حريات وديموقراطية وعدالة ومساواة، كما يريد لها محركوها من الشباب أن تكون، فإنه لم يبق اليوم أمام حكام العرب غير أحد خيارين: المسارعة إلى إجراء إصلاح تأخروا عقدا كاملا في إنجازه، أو إساءة التقدير والمماطلة ومواصلة الركون إلى تفوق الأجهزة الأمنية على الشعب، فيواجهون خطر تمرد يؤدي إلى انهيار نظمهم، التي ليست أكثر قوة وتنظيما، على الصعيدين الأمني والسياسي، من نظامي زين العابدين ومبارك، ولا تحظى بدعم خارجي أقوى من الدعم الذي توفر لهما. بعد تونس ومصر، لم يعد هناك أي بديل عن إصلاح جدي وشامل، لمن يريد إنقاذ نفسه والاحتفاظ بعلاقة ودية مع شعبه من الحكام العرب.

لو سئل المواطنون العرب، لاختار معظمهم الإصلاح، كي لا يجدوا أنفسهم مجبرين على التمرد. والإصلاح فرصة ذهبية للجميع، خاصة وأن من سيبادر إليه سيكون النظم، وإلا فإنها ستتحمل المسؤولية عن النتائج التي ستترتب على الامتناع عنه، بعد أن أوصلت قسما كبيرا من مواطنيها إلى حالة المهندس المصري، الذي دفعه اليأس من الواقع إلى تفضيل الموت على الحياة!

============================

تطور ظاهرة الفقر وأزمة الغذاء عالمياً

بسام الكساسبة

الرأي الاردنية

15-2-2011

في عام 1996 عُقِدَ مؤتمر القمة العالمي للأغذية برعاية منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، تحت شعار» التأكيد من جديد حق كل إنسان في الحصول على أغذية سليمة،بما يتفق مع الحق في الغذاء الكافي والأساسي لكل إنسان في التحرر من الجوع» لا شك أن هذا المؤتمر قد أصبح في عداد الماضي البعيد نوعا ما، لكن ما دفعني للكتابة عنه ما عرف ب :(إعلان روما بشأن الأمن الغذائي العالمي)، الصادر عن المؤتمر، والذي تضمن إستراتيجية طويلة المدى لمعالجة ظاهرة الفقر عالميا، امتد إطارها الزمني من عام 1996 إلى عام 2015، أي أننا لا زلنا ضمن الإطار الزمني لهذه الإستراتيجية، وقد حدد المؤتمر ضمن خطة العمل التي وضعها من اجل مواجهة مشكلة الجوع والفقر على المستوى العالمي هو آلية لمتابعة تنفيذ مقرراته جاء في نصها الحرفي ما يلي: (بذل جهد متصل لا يتوقف حتى يتم استئصال الجوع في جميع البلدان، جاعلة هدفها المباشر خفض عدد المصابين بنقص التغذية إلى نصف مستواه الحالي، أي نصف ما كان عليه في عام 1996 في موعد لا يتجاوز عام 2015 مع إجراء استعراض منتصف المدة للوقوف على إمكانية تحقيق الهدف بحلول عام 2010)

وقت انعقاد المؤتمر عام 1996 بلغ عدد الفقراء في العالم الذين يقل دخل الفقير منهم عن دولارين يوميا 800 مليون شخص، وبذلك كان هدف المؤتمر هو تخفيض عدد الفقراء في العالم إلى 500 مليون شخص بنهاية عام 2010 و إلى 400 مليون شخص بحلول عام 2015، لكن على ارض الواقع وبحسب بيانات المنظمة فقد تحقق نتائج عكسية، إذ ارتفع عدد الفقراء عالميا عام 2010 إلى (925) مليون شخص، بزيادة 425 مليون عما هو مخطط له، وبحلول عام 2015 سيكون عدد الفقراء قد تضاعف، ومن المؤكد أن منظمة الغذاء العالمية ومؤتمرها لا يتحملان مسؤولية تزايد أعداد الفقراء في العالم، إذ وضعت المنظمة ومؤتمرها محددات وشروطا لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، منها حسن استخدام الموارد المالية والمادية والبشرية على مستوى الدول مجتمعة وفرادى، لكن تطبيقا دوليا سيئا لتلك الموارد هو ما أدى لسوء النتائج وفشلها، كالحروب والغزوات التي استنزفت تريليونات الدولارات، وتوظيف مئات مليارات الدولارات لغايات تصنيع وشراء الأسلحة وتكديسها دونما حاجة لها، وسياسات حصار الدول والشعوب اقتصاديا وسياسيا وإثارة الاضطرابات والحروب الأهلية في كثير من الدول.

أما على صعيد أزمة الغذاء العالمية الحالية، فتشير بيانات المنظمة إلى أن أسعار المواد الغذائية في نهاية عام 2010 وبداية عام 2011 حققت ارتفاعا تجاوز ما بلغته إبان أزمة الغذاء الحادة التي اجتاحت دول العالم في عام 2008،فحسب الرقم القياسي العالمي لأسعار المواد الغذائية الذي تصدره المنظمة MONTHLY FOOD PRICE INDICES(1990-2010)، فقد حققت أسعار غالبية المواد الغذائية بنهاية عام 2010 زيادة ملحوظة عما بلغته في عام 2008، فبينما بلغ هذا الرقم عام 2008 (213.5) نقطة فقد انخفض في عام 2009 إلى 151 نقطة، أما بنهاية عام 2010 وبداية عام 2011 فقد ارتفع إلى 214.7 نقطة، أما الرقم القياسي للّحوم فقد ارتفع من 137.4 نقطة في عام 2008 إلى 142.2 نقطة بنهاية عام 2010، أما الحبوب فقد انخفضت من 273.7 نقطة في عام 2008 إلى 237.6 نقطة بنهاية عام 2010 وكذلك الزيوت النباتية التي انخفضت خلال تلك الفترة من 282.7 نقطة إلى 263 نقطة، لكن الرقم القياسي لمادة السكر ارتفع خلال فترة المقارنة من 207.3 نقطة إلى 398.4 نقطة، مما يعني أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل عام في أواخر عام 2010 وبداية عام 2011 هي نتاج لموجة عالمية شاملة تعصف بجميع الدول وبدون استثناء، وليست مقتصرة على دولة أو مجموعة محددة من الدول.

============================

شعب مصر يصنع تاريخا جديدا

فؤاد دبور

الدستور

15-2-2011

لا ، ليس بالخبز وحده ، ان وجد ، يحيا الإنسان ، فهو بالإضافة إلى حاجاته الضرورية للحياة كائن حي ، يحس ، يتألم ، يفكر ، يشعر بالكرامة والحرية ، يستجيب لكل القضايا المادية والنظرية والمعنوية في حياته اليومية ، ومحيطة الاجتماعي والسياسي ، فهو يبصر ويستمع ويشاهد ويتحدث خاصة في هذا الزمان حيث أصبحت وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء تضع بين يديه كل القضايا الوطنية والعالمية لحظة بلحظة ، حيث أثبتت ثورة شعب مصر الحجم السياسي والاجتماعي الكبير لشباب وظفوا تكنولوجيا الإعلام بالذكاء والإصرار اللازم للتجميع والتحرك وتحقيق الاهداف مما جعله يرتبط ارتباطا عضويا بثورة الاتصالات.

مثلما غدت أنماط الاستهلاك بكل أشكاله والياته مفروضة بكل مكوناتها ونتائجها على حياة الإنسان اليومية وعلى تكوينه وتطلعاته ونعني هنا بالاستهلاك مستلزمات الحياة ليس الكمالية حيث تختلط في عصرنا هذه الأنماط مثلما تختلط فيه المفاهيم والقيم في إطار القضايا الكبرى والصغرى للشعب والوطن والحياة والبناء ، وهذا واقع تعيشه العديد من الشعوب في عالمنا الثالث بعامة وشعبنا العربي في الأقطار العربية بخاصة في ظل الاستغلال المادي والمعنوي الذي يتعرض له. وكما أسلفنا فقد تجلى هذا الواقع وبشكل كبير في العديد من أقطار امتنا بسبب تركيبة وضعها وغياب الديمقراطية والوحدة السياسية والاقتصادية واشتداد الهجمة الامبريالية والصهيونية عليها حيث يتم احتلال الأرض واستيطانها وجر أنظمة عربية للوقوف إلى جانبها مما عطل المشروع النهضوي العربي الذي يضع الأمة في الموقع الصحيح وطنيا وقوميا حيث أصبحت بفقدان هذا المشروع وارتباط العديد من الأنظمة الحاكمة في أقطارها تشكو من غياب المعيار الاخلاقي والقيم السليمة التي تحكم السلوك والعلاقات بين الشعب وحكامه وجعلت الكيان الروحي لأفراده وجماعاته تفقد الكيان الشخصي وتهميش القيم والمثل العليا في حياتها ويظهر لديهم الشعور بالدونية وبالتالي تتشكل حالات الإحباط لديهم وتدفعهم إلى التفكير بإمكانية استعادة كرامتهم وحريتهم ورفع الظلم والاستبداد والاستغلال عن كاهلهم سيما وأنهم يرون بأبصارهم وبأحاسيسهم هدر هذه الحرية والكرامة مثلما يرون طبقة حاكمة تابعة سياسيا للأجنبي وسياساته مثلما يرون كيف تقوم هذه الطبقة أو الفئة بنهب ثروات الوطن واستلاب حريته.

نقول هذا لنصل إلى ثورة شعب مصر بملايينه حيث وظف هذا الشعب حاجة الإنسان وشعوره بالظلم وطاقاته توظيفا سليما وناجحا وفعالا في الدفاع عن حقوقه ووجوده وحريته وكرامته وعقيدته وثقافته ما يميز شخصيته ومقوماتها في هذا الوجود.

نعم ، لقد دفع الشعب العربي في جمهورية مصر العربية ثمنا باهظا وتحمل أعباء كبيرة بسبب انفراد سلطة ظالمة في الحكم وقد وصل هذا الثمن إلى حرمان هذا الشعب من ابسط ضروريات الحياة حيث الفقر والبطالة والاستبداد وسلب الحريات وتم تهميش القطاع الأوسع من المواطنين إضافة إلى القمع السياسي والقهر الطبقي والتضليل الفكري والإعلامي ، وصبر شعب مصر وكظم الغيظ ولكن لم يكن من المعقول ان يتحمل المعاناة أكثر من عشرات السنين حيث طفح كيل الظلم وفاض مما دفعه للتحرك من اجل الخروج من حالة الظلم والاستبداد والكبت ورهن البلد إلى سياسات تخدم الأعداء الصهاينة والامبرياليين الشركاء لهؤلاء الصهاينة فرابط بصبر وعناء في الشوارع والساحات من اجل استعادة حريته والحفاظ على كرامته وحقوقه المشروعة وبناء ديمقراطية حقيقية تعطيه حقه بالمشاركة السياسية وتداول السلطة عبر صندوق الانتخابات الحرة والنزيهة وفقا لقوانين ديمقراطية. وكان له النجاح الذي يجب الحفاظ عليه خاصة وان الشعب الذي حقق الانتصار يدرك تماما ان إرادته تصنع النصر الذي كان يظهر بأنه ضرب من المستحيلات قبل انطلاق ثورته ضد الحكم الفاسد والمستبد الذي يعتمد على حفنة من المرتزقة المدججين بالحديد والنار.

طبعا ، عندما نتحدث عن الديمقراطية التي لو كانت موجودة في مصر وتونس وغيرهما لما امكن ان يحصل ما حصل حيث ان الديمقراطية تنظم العلاقة الصحيحة والسليمة بين الحاكم والمحكوم وتوفر لهذا المحكوم حقوقه وتوضح له واجباته تجاه وطنه ، ذلك لان الديمقراطية أفكار وقيم ومؤسسات تقوم على إرادة الشعب والحريات العامة ويسود في مبدأ التعددية السياسية ومبدأ المعارضة المشروعة المسؤولة وكذلك إعطاء المواطنين حقهم في التعبير والتنظيم وتسود الوطن توازن بين السلطات حيث لا تفرض سلطة نفوذها على أخرى وبخاصة على سلطة القضاء الذي يجب ان يبقى قضاء مستقلا.

ان غياب الديمقراطية يجعل المجتمع يعاني من الضرر والتسلط والظلم والاستبداد والفقر وهذا ما عاشه شعب مصر ومن قبله شعب تونس وما تزال أقطار أخرى تعاني منه ، خاصة تلك الأقطار التي يرهن حكامها سياساتهم للغرب والتسليم بسطوة القطب الواحد ، الولايات المتحدة الأمريكية ، وبذلك فهي ترهن وجودها وبقاءها على اسس مغايرة للحقيقة ، فالشعب هو وحده القادر على حماية الحاكم الذي يخدم الشعب اما الغرب فهو يتخلى عن هذا الحاكم عند اول سقطة حيث يشكل الرئيس السابق في مصر ومن قبله في تونس نموذجا حيا قريبا. بمعنى ان شرعية النظام واستمرارية وجوده تنبع من الشعب وليس من الارتهان للقوى الأجنبية مهما بلغت هذه القوى من القوة المادية والعسكرية لأنها تدافع عن مصالحها ومصالحها فقط.

وهذا يجعلنا نؤكد على ان سقوط الأنظمة في تونس ومصر قد تم مع سقوط وهم الاعتماد على الآخرين وان البقاء والاستمرار لا يتم بمعزل عن الشعب بل والأمة بأسرها حيث بات واضحا ان الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعاني منها الأقطار العربية تتطلب التعاون والتنسيق والتكامل العربي. مثلما تجعلنا ثورة شعب مصر نؤكد على انه لا بديل عن الاهتمام بمصالح الشعب وتوفير متطلباته واحترام حقوقه وعلى بناء العقد الاجتماعي السليم ومكافحة الفساد والفاسدين والفئات الطفيلية التي تستغل المراحل غير السليمة للنظم الاقتصادية وتركز نشاطها بما يخدم مصالحها الذاتية على حساب الشعب فتعمل على السمسرة وتحتكر الاستيراد والتصدير والمضاربات في السوق السوداء مثلما تحتكر الاستثمار في المواد الاستهلاكية لمصالحها مما يعمل على تشويه القيم الإنتاجية وتصبح لها اليد الطولي في ترتيب القوانين والتشريعات التي تحقق مصالحها عبر الوصول إلى المؤسسات التي تدير البلاد سواء التشريعية منها أم التنفيذية لتوظيفها في إشباع جشعها ونهبها اوليس هذا ما كان قائما في تونس ومصر وهو ما جعل الشعب يفقد قدرته على المزيد من الصبر أمام المعاناة من هؤلاء الطامعين بثروة الوطن؟ ألم نشهد مؤخرا كيف كانت ا لانتخابات البرلمانية في مصر حيث التزوير المفضوح والوصول إلى المجلس المسمى زورا وبهتانا ب "مجلس الشعب" من اجل مصالح الحزب الحاكم ، المسمى زورا أيضا ب "الوطني الديمقراطي"؟

وأخيرا ، نتساءل هل ستؤثر الثورة التي شهدتها جمهورية مصر العربية بالتحديد في وطننا العربي من حيث هياكل توزيع السلطة؟ بمعنى هل المشهد الذي رآه وعاشه الجميع في مصر وأقطار الأمة العربية وحتى العالم وما تم انجازه يمكن ان يحدث تغييرات عند السلطات الحاكمة بحيث تقوم بتغيير أساليبها ونظمها وتوجهاتها في الحكم. سيما وان هذه الثورة ، هي ثورة ضد استغلال الثروات لمصلحة قوى متسلطة على مقدرات الشعب وحرمانه من ابسط حاجاته الضرورية للحياة ، مثلما تمثل هذه الثورة عملا جريئا يحصل من خلاله الإنسان على حقوقه وكرامته وحريته ، كما كانت موجهة إلى سياسات النظام المرتهنة لأعداء الشعب والأمة الصهاينة والامبرياليين.

على كل حال ، وفي ظل هذه الاحداث وتداعياتها التي يمكن ان تمتد الى أقطار أخرى لا بد وان نؤكد على ضرورة تماسك قوى الشعب ومنظماته من اجل استعادة حقوقها كما انه لا بد وان نؤكد على المناضلين التمسك بالمقاومة لمواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي بحيث يلتقي هؤلاء على أرضية عمل مشتركة ويكون الفرز أيضا على أساس الموقف من مشاريع أعداء الأمة الذين يستهدفون بعدوانهم الأمة في استقلالها ووحدتها وثرواتها.

============================

الفساد .. المعنى والمفهوم

أ. د. أمين المشاقبة

الدستور

15-2-2011

حتى يمكن مقاربة مفهوم "الاصلاح" Reform, فلا بد من تحديد مفهوم "الفساد" Corruption. فالفساد لغة جرى تداوله في العديد من كتب الأدب والتاريخ والسياسة. كما أن حالة الفساد قد وردت في الكتب السماوية على أساس أنها ظاهرة تهدد سلامة المجتمعات والدول.

لغةً فان كلمة "فساد" هي من الجذر "فسد" ويقال فَسَدَ الشيء يَفْسُد فساداً فهو فاسد. وأفسده فَفَسَدْ ، والمَفْسدة هي ضد "المصلحة". والفساد يعني أَخذ المال ظُلماً ، ويعني التلف والعَطَبْ. ولغوياً يعني "الفساد" أيضا الجدب والقحط. وتعني اللفظة الى جانب ذلك التحلل العضوي للمادة بتحلل الجراثيم. وفَسَد فساداً وفُسوداً ضد صَلُح. وفَاسَدَ وأفْسَدَ وفسّد ضد "أصلحه". وفَاسَدَ القوم ، أساء اليهم ففسدوا عليه.

أما في اللغة الانجليزية فان كلمة Corruption تعني Cause to Change from good to bad أي التسبب في التغيّر من الصالح الى السيىء. وهي مرادفة لعدم الأمانة أو الأذى أو السوء. وتعني أيضا تعفّن الجثة بعد الموت The Corruption of the body after death. وتعني العمل القابل للرشوة.

والمتتبع للفظة في القرآن الكريم يجد أنها تنصرف الى أكثر من معنى فهي تعني الخلل والخراب والقتل واغتصاب المال قال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" وتعني المعاصي قال تعالى: "فأكثروا فيها الفساد". وهناك الكثير من الدلالات.

لقد وردت كلمة الفساد في كثير من المواقع والسياقات في كل الكتب السماوية ، وهذا أمر يحتاج الى تفصيل كبير وعليه فسينتقل البحث الى الخاص والمبتغى من معاني الفساد ، حيث بدأت المفردة بالانتشار والانصراف الى معاني سوء الادارة واستغلال المال العام والنفوذ ، وسقوط الحكم في مزالق السوء. ان تطورات الأحداث قد غيّرت كثيراً في مفهوم "الفساد" ليشمل كل حالات "الخروج عن الصواب" ، حيث يُعرّف الفساد على "أنه استغلال السلطة بطريقة غير مشروعة" بينما يرى البعض أن مفردة "الفساد" هي "علاقة تعاقدية غير مشروعة بين فاعلين ، يقع فعلهما تحت طائلة القانون" .أما صموئيل هانتنغتون فيعرف الفساد بأنه "سلوك الموظفين الحكوميين الذين ينحرفون عن القواعد المقبولة لتحقيق أهداف خاصة". في حين تعرّف "الشفافية الدولية. (منظمة دولية غير حكومية تناهض الفساد)International Transparenc"الفساد بأنه "سوء استخدام السلطة العامة لربح أو منفعة خاصة ، وأنه عمل ضد الوظيفة العامة التي هي ثقة عامة" وقسم بعض المفكرين المفردة الى نوعين: فساد صغير كالرشوة والعمولة والمحسوبية والاعتداء على المال العام ، وفساد كبير مثل صفقات السلاح. وقد استندوا في ذلك على المفهوم الخاص الذي تبناه صندوق النقد الدولي (IMF) حول الفساد والذي رأى بأنه "علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من السلوك ، لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة مع الأفراد" أي خروج الحكم عن رشده.

لعل أخطر ما ينتج عن ترسّخ ممارسات "الفساد" هو ذلك الخلل الكبير الذي يلحق بأخلاقيات العمل وقيم المجتمع: الأمر الذي يؤدي الى نشوء حالة ذهنية لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد له الذرائع بل وتشرعنه أحياناً ، حتى أصبح حاضراً في الحياة اليومية. وفي غمار هذا كلّه يفقد القانون هيبته ، لأن مكتسبات الفساد تحقق فرصاً للفاسدين لأن يتحكموا في كثير من المواقع المؤثرة في المجتمعات وبالتالي يصبحون قادرين على تعطيل القانون.

وما أن يشعر المواطن أن هذا القانون لم يعد يستطيع أن يحفظ كيانه ، يفقد المواطن ثقته فيه. وبذلك تضيع الحدود بين "العام" و"الخاص" ، وتنهار كل الضوابط التي تحمي مسيرة المجتمع من الفساد ، وتنهار كل الضوابط وتتآكل كل القيم والمثل ، خاصة وأن آثار الفساد المدمّرة لا تصيب القضايا الأخلاقية فقط بالخلل ، بل يمتد ذلك الى كل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لا تتمثل خطورة الفساد في ذاته ، وانما تكمن في حقيقة أن ممارساته ليست مجرد ممارسات فردية خاصة ، وأنما تتحرك من خلال "أطر شبكية" ومجموعات منظمة هي أساس "المافيات" السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. مما أكسب ممارسات الفساد نوعاً من المؤسسيّة ، الأمر الذي يزيد من احتمالات التوتر وعدم الاستقرار السياسي ، ويعرّض شرعية النظام السياسي للتآكل المستمر. ومما يزيد من هذه الخطورة هو قيام "بيئات حاضنة للفساد" تؤمّن له كل فرص الاستشراء ، بل وقيام آليات تساعد على "اعادة انتاج الفساد" في مرافق الحياة العامة ومناحيها كافة.

وهنا لا بد من التأكيد على أن تقارير معدلات الفساد ومؤشراته في الدولة العربية تعتبر من الأعلى في العالم بحسب تقارير "الشفافية الدولية". كما تعتبر معدلات النمو فيها من أدنى معدلات النمو في الدول النامية. ويضاف الى ذلك وجود قناعة أكيدة لدى المواطن العربي بأن الفساد مستشر في الحكومات والمؤسسات العربية: وذلك في غياب المساءلة والتغييب المستمر للشفافية وحكم القانون.

ولكي يُدركوا مدى خطورة ظاهرة "الفساد" في الوطن العربي ، فان الباحثين في هذا الشأن قد وجدوا أن المواطنين العرب قد اقتنعوا بأن الخطاب الرسمي لم ينفك ينثر الوعود بالقضاء على الفساد ، وملاحقة المتورطين فيه ، ولكن دون جدوى. ومما يزيد الأمر ارباكاً أنه كثيراً ما يُضحى ببعض رموز الحكم كوسيلة لامتصاص الغضب الشعبي ، وهذا ، أصلاً وفي حد ذاته ، اعتراف رسمي بانتشار الفساد ووصوله الى صفوف المسؤولين. ومن هنا يجب التنبه الى أن الفساد كان العنصر الأساسي في احداث التغييرات السياسية والانقلابات العسكرية على مر التاريخ العربي.

ولكن من الملاحظ أنه بالرغم من كل التعهدات بالتصدي للفساد الا أن شيئاً لم يقترب من تحقيق الاصلاح المنشود. وعلى العكس فقد اتُّخذت هذه التعهدات كمطية للتخلص من بعض الخصوم السياسيين. وهنا يجب أن يُدرك أن الأنظمة التي تقوم على "المناطقيّة" المرتكزة على تعددية ضعيفة ربما تتعرض لحالات من الفساد السياسي ، خاصة اذا بدأ المواطنون ينظرون الى الحكومة كمصدر للمكاسب الشخصية: الأمر الذي سيشعل الصراع بين "الامتيازات القانونية" وبين "التفضيلات غير القانونية". قد لا تكمن المشكلة في الفساد بحد ذاته بقدر ما تكمن في علاقات تبادل المنافع بين أطراف السلطة المتحصنة داخل الأنظمة ، ومع ذلك فاننا نجد أن بعض علماء السياسية يجادلون بأن مثل هذه الأنظمة ربما تكون مرغوبة فيها لأنها تبحث على الاستقرار في المجتمعات التي تعاني من انقسامات عميقة ، ومثلوا على ذلك بالأنظمة العشائرية. بينما لم يعر علماء آخرون قضية الاستقرار أهمية كبيرة اذ ركزوا على ضرورة رفع وتيرة المساواة بين كل مكونات المجتمع بغض النظر عن حجومها.

ولذا فقد رأى البعض ضرورة اقامة أنظمة انتخابية ضمن المجتمعات المنقسمة وضمن سياق عام تقوم خلاله هذه المجتمعات بتنظيم حياتها السياسية ، وهكذا يصل الى مراكز صناعة القرار سياسيون اكفاء يلجأون الى اقامة علاقات عريضة عبر الجماعات العرقية والاجتماعية.

وهنا لا بد من الالتفات الى حقيقة أن وجود انقسامات عرقية كبيرة يُصعّب اقامة حكومات فعالة وكفؤة وحتى يمكن تجاوز ذلك فعلى الدول أن تنشأ مؤسسات حكومية قوية خالية من الفساد ولنا في نيجيريا في منتصف القرن العشرين الماضي مثل على ذلك: حيث فشلت الدولة هناك في مكافحة الفساد لأنها أقامت سلطة تركز على تقاسم الغنائم وليس على نشر الرخاء الاقتصادي العام ، ولهذا كثرت الانقلابات وكثرت حالات تبادل السلطات بين العسكريين والمدنيين.

وهكذا فان هناك ثلاثة أبعاد مركزية لتحديد حدوث الفساد السياسي: الأول: توفر امتيازات ضيقة التركيز لتوزيعها من قبل السياسيين. والثاني: مقدرة أصحاب السلطة على الحصول على هذه المكاسب. أما الثالث: فهو ذلك الاستقرار المؤقت للتحالفات السياسية ، وبعده يندفع السياسيون وأصحاب المصالح الى السيطرة على أكبر حجم ممكن من المكاسب. وهذه كلها ان اجتمعت ، قد تظهر الفساد أمام فئات المجتمع على انه خيار وحيد. ان مقاربة الفساد السياسي في كل ظروفها وطبيعتها تستند الى أربع فرضيات: الأولى أن هناك علاقة عكسية بين الفساد السياسي وبين المشاركة السياسية. والثانية أن ظاهرة الفساد السياسي تتسم بالعمومية أي أنها لا تقتصر على شكل معين من أشكال الحكم ولا درجة معينة من درجات النمو. أما الثالثة فانها تقول ان بيئة النظام السياسي يمكن أن تكون ذات علاقة طردية أو عكسية مع الفساد السياسي. أما الأخيرة فانها تفترض أن ارتفاع درجة الفساد السياسي يؤدي الى وجود ازدواجية أو ثنائية في النظام السياسي ، ويقصد بذلك التفرقة بين النظام السياسي القانوني وبين النظام السياسي الواقعي.

واستناداً على ما سبق ، فاننا نلحظ أن مفهوم الفساد السياسي مثله مثل العديد من المفاهيم السياسية والاجتماعية مفهوم مركب ، بمعنى أنه ينطوي على أكثر من بعد. ومن هنا جاء تعدد التعريفات لأن كل واحد منها قد نظر الى المفهوم من زاوية معينة ، خاصة وأن العامل القيمي يؤثر تأثيراً واضحاً على اعتبارات الفساد والرشاد ، فما يعتبر فساداً في مجتمع ما ربما يعتبر مجرد وجهة نظر سياسية مختلفة في مجتمع آخر .

ان دراسة الظاهرة يجب أن تستند في كثير من نواحيها على الدراسة المقارنة. وفي هذا الاتجاه فان كثيراً من الدارسين لموضوع الفساد قد جاؤوا من أربعة مناظير. المنظور الأول: هو المنظور القانوني في تعريف الفساد وهذا ينصرف الى الايمان بأن السلوك السياسي يعتبر فاسداً مجرد أن ينتهك بعض القواعد الرسمية أو الضوابط القانونية ومن هؤلاء هانتنغتون كما سبق ذكره. والمنظور الثاني: جاء مركزاً على بُعد "المصلحة العامة" الذي عرَف الفساد على أنه السلوك السياسي المنطوي على ما يهدد المصلحة العامة ، وتقديم المصالح الضيقة والخاصة عليها. أما المنظور الثالث: فقد قال بان الفساد يقصد به اساءة استخدام الوظيفة العامة من جانب شاغليها. ويختلف هذا المنظور عن المنظور القانوني بأنه يرى أن السلوك المنطوي على الفساد ليس من الضروري أن يكون مخالفا لقانون ما.

أما منظور الرأي العام فيشير الى أن السلوك الفاسد يتحدد برؤية المواطنين الذين هم من يقرر بأن هذا السلوك السياسي فاسد أو غير ذلك ، طبقاً لمنظومة المعايير والقيم السائدة في المجتمع.

وبالتالي فانه يرتكز على ثقافة المواطنين وقيمهم وعلى تقويمهم وآرائهم: لأنهم أولاً واخيراً هم المتضررون من هذه الظاهرة. لم يقتصر السلوك الفاسد على من جاؤوا بالتعيين فهناك أيضاً من شغل منصبه بالانتخاب وما يجمع بينهما هو الانحراف عن الطريق السوي عند القيام بتأدية الواجبات الرسمية.

أما اذا ما التفت الباحثون الى الفساد في العالم العربي ، فانهم سيجدون أن سبل تولي السلطة في كثير من الدول العربية قد اضطلعت به الصلات القبلية والطائفية والاقليمية ، حيث لعبت دوراً رئيسياً في ذلك ، بل وأن بعض الدول قد شهد ذلك كسبيل وحيد للتجنيد السياسي. وهذا يعني ، بالضرورة ، عدم اعتماد التجنيد السياسي على معايير الكفاءة والانجاز من ناحية ، وتسهيل أساليب الاستفادة من المناصب السياسية لتحقيق مغانم شخصية من الناحية الأخرى ولنا في العديد من النظم السياسية العربية أمثلة على ذلك ، دون الاضطرار لتصنيف هذه النظم على مراتب الفساد الكبير.

وعليه فاننا نجد أن الفساد ظاهرة ممكنة الحدوث في ظروف غياب الشفافية والمساءلة والمراقبة ، وكل هذا يتأتى من غياب الديمقراطيات والمشاركة السياسية.

وهنا يجب أن ينتبه أصحاب الفكر الاصلاحي الى أن المعركة قاسية وشرسة ، اذ أنها تقوم أحياناً كثيرة بين فئات متفاوتة القوة ، وأنها صراع قائم بين من يملكون السلطة والامتيازات وبين مجموعات لا تملك الا قوة المطالبة. ولكن التجارب التي مرت بها دول اوروبا وغيرها أثبتت أن الحلول واردة ، وأن التغيرات ممكنة ، ولكن يجب أن يتم ذلك عن طريق التنظيم والتوعية والتثقيف والتنمية السياسية ، بالرغم ما يبدو من صعوبة لأن السلطة هي التي تملك أحياناً مفاتيح القدرة والامكانية والمعلومة والقوة العسكرية أحياناً.

وفيما يخص الدول العربية فانه يُرى أن امكانات الاصلاح واردة ، خاصةً وأن معظم الأنظمة السياسية في هذه الدول تقوم على أساس "العائلة - القبلية" والحزب الحاكم والطائفية أو المذهبية وقد بدأت الدول تدرك أن "صيانة الذات" Self Maintenance هي الوسيلة الوحيدة للاستمرار في السلطة ، وهذه لا تتم الا بالانفتاح والشفافية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية: ومعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين ، واحترام كرامتهم كمواطنين ، وتقليص القبضة الأمنية بمزيد من الحرية ، والحفاظ على الحقوق.

============================

حلم وائل غنيم

سمير عطاالله

النهار

15-2-2011

أدت "ثورة 23 يوليو" الى انقلاب شامل في هيكل مصر الاجتماعي والسياسي، وإلى سلسلة تحولات وتبدلات وخضّات عامة في العالم العربي. تقدمت نحو مراكز السلطة في العواصم فئة جديدة من طبقات المجتمع الحديث، هي فئة الضباط الذين كانوا مجهولين من قبل. ولم يعلن هؤلاء قلب النظام السياسي البرلماني داخل بلدانهم فحسب، بل وعدوا ايضا بتحرير فلسطين من هزيمة 1948، يتقدمهم جمال عبد الناصر، الذي شهد بنفسه تراجع الجيوش الخاسرة.

كرت في اثر مصر "ثورات" في العراق وسوريا واليمن وليبيا، بالاضافة الى ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة. وعمت المنطقة الدعوة الى الاشتراكية، ودخل الجمهوريون الجدد في تحالف او معاهدات مع الاتحاد السوفياتي، وفي مواجهة ايديولوجية مع اميركا وسائر الغرب، وخصوصا بريطانيا وفرنسا ما قبل ديغول.

كانت "ثورة 23 يوليو" بداية خريطة سياسية واجتماعية جديدة، عنوانها نهاية العلاقة مع الغرب في شكلها القائم منذ نهاية الامبراطورية العثمانية، وجعْل الشرق الاوسط ساحة رئيسية من ساحات الحرب الباردة، وتفكيك القواعد العسكرية الاميركية، فيما دخلت موسكو مياه المتوسط الدافئة، كما حلم بها بطرس الاكبر.

بكلام آخر، بدأت من مصر منتصف القرن الماضي اوسع حركة تغيير خلال اربعة قرون. كانت خلف تلك الثورة ثلاث علامات: جمال عبد الناصر، وراية الحرية الداخلية والتحرر الخارجي، والدعوة الى الفكر الاشتراكي الذي كان في ذروته بُعيد الحرب العالمية الثانية.

"ثورة 25 يناير" خالية، حتى الآن، من صورة رجل واحد او مجموعة، مثل "الضباط الاحرار". وقد نجحت في اسقاط "فاروقها" لكنها لم تطرح اي فكر او فكرة اجتماعية بديلة، في زمن انحسرت فيه الاشتراكية في روسيا والصين والهند. والمفارقة الثالثة انها لم تطرح اي شعارات عابرة للحدود، لا وحدة، ولا فلسطين، ولا استعمار. كل ما طرح في "ميدان التحرير" كان عبارة عن شؤون داخلية، لها علاقة بحياة المصري اكثر مما تمس بصورة مصر كدولة اولى.

هل لذلك علاقة بواقع مصر الحديث؟ مصر التي لم يعد طه حسين وزير معارفها، وغابت عنها "كوكب الشرق" دون بديل، ولم يعد محمد حسنين هيكل يكتب للعرب "مقالهم الاسبوعي"، ولا عادت الناس تذهب الى دور السينما كي تبكي على قصص بنات الصعيد وأمهات الترعة، ولا نجح علاء الاسواني في الحلول محل نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس ويوسف ادريس وفتحي غانم، الذين كانوا رواة العرب وحكواتييهم المعاصرين. هل لان مصر لم تعد في البيوت والمدارس والمقاهي؟

بدت مصر بعيدة وهي تغلي في "ميدان التحرير". بالاحرى بدت حدثا هائلا قريبا من اهل فرنسا او بريطانيا بقدر قربه من اهل العرب. تسمّر الناس في انتظار خروج حسني مبارك، لكنهم بدوا كأنهم ليسوا في انتظار احد. حتى غودو لم يكن متوقعا. وجعل باراك اوباما ابن امبابة يشعر كأنه شريكه في ظاهرة عالمية متوقعة وليس في ابداع مصري خاص.

أطل عمرو موسى حييّاً ثم غاب. واطل محمد البرادعي غير مقنع وبلا اي قدر من الكاريزما التي تسحر المصريين ساعات الفورة. فلا شيء فيه من "ناصر ناصر"، ولا شيء من انور السادات و"حافرمهم" وعصا الماريشالية، ولا شيء حتى من مبارك، الذي كان يعد خطبه طويلا، مدركا ان مصر ما هي الا امتداد للأزهر وتزهير اللغة وتفخيم الخطب.

دعت "25 يناير" الناس الى الثورة ثم وقفت حائرة. فهل هي مجرد ظاهرة من ظواهر "الفايسبوك"، ام هي هبة من هبات النيل وحوضه؟ واذ تردد صداها في الجزائر واليمن، بدا الخطاب واحدا والشروط واحدة والغاية واحدة: الحرية والكفاية وإبادة معالم الفقر. لم يحمل الجزائريون شعارات الاسلام ولم يتلفظ اليمنيون بكلمة "الثورة". فهذا مصطلح خطفه السادة الجدد. وقد حكم المشير علي عبدالله صالح اطول مما حكم الائمة والسلاطين، لكنه اطلق على المكوث الازلي اسم "ثورة 26 سبتمبر"! واما ثورة الفاتح منه، اي من سبتمبر ايضا، حفظك الله، فلا تزال في بداياتها. وقد ارسلت تحياتها وتضامنها الى الرئيس مبارك قبل يوم واحد من تنحِّيه، وبعد يوم من ذلك ارسلت تضامنها الى جماهير شعبنا العظيم في مصر.

تعثر العالم العربي بنفسه. فاجأه "ميدان التحرير" بعد نصف قرن من السبات الثوري المهيب. تطلع الجمهور الى بطل فإذا وائل غنيم يطل باكيا خارجا من سجنه ليقول للناس انه تأكد اكثر من معاني اهمية الحرية. لم يحدثهم عن تحرير مصر بل عن المرحلة الاولى من تحرير مصر: ان يكون هو حرا اولا، كي يصير في امكان مصر ان تتحرر. قديما قال الناصري في الجليل، او على جبل ما: "تعرفون الحق والحق يحرركم". كاد يكمل ان الجهل بالحق عبودية وظلمة وسواد داخلي مخيف. يقول الدكتور حسين كنعان ان ثمة خللا نهائيا قاضيا في لبنان، لأننا فرد حر وبلد مستعبد.

بعد سقوط الباستيل كتب مراسل "المورننغ بوست" من باريس، ان "على الانكليز ان يعجبوا بالثورة القائمة عند هذه الجارة". لا يزال جيران القاهرة حائرين، فيما تأمَّلها اوباما من البيت الابيض وذكَّرته بمارتن لوثر كينغ، امير البشرة السمراء، الذي لم يكفّ عن القول "انا صاحب حلم". وكان حلمه يومها صعبا، امامه اشواك ومن حوله اسلاك وبنادق وكلاب حراسة مجوَّعة، كما في فيلم "اللص والكلاب". ولكن ها هو ابن مزواج من كينيا، بلاد العدائين الاسطوريين، يقطع المسافة الى بنسلفانيا افنيو، ليتسلم الجائزة المشتركة من ابراهام لينكولن ومارتن لوثر كينغ.

قبل شهر واحد كان حلم وائل غنيم يبدو مستحيلا. كل شيء وكل فرد في مصر في مكانه: الرئيس في الرئاسة و"الرجّالة" في السياسة: صفوت الشريف واحمد فتحي سرور وخوفو وابو الهول. رجال لم يتبلغوا بعد ان احفادهم يدرسون احتمالات النصف الاخير من القرن الحادي والعشرين. واذا بأحد رفاقهم يقف في "ميدان التحرير" ويتساءل: "من قال اني اريد حسني مبارك أباً؟ انا اريده رئيسا. وعندما تنتهي ولايته يجب ان يذهب".

يريد المصري – مثل كل انسان – نظاما يمكّنه من البقاء في ارضه. عرفنا من برقية تأييد الجماهير الليبية العظيمة لشعب مصر العظيم ان عدد العاملين المصريين في الدولة الجارة هو مليون انسان. عام 2006 فتحت اميركا باب هجرة ضيقاً من طريق القرعة، اي من دون التقيد بالشروط المعهودة "للبطاقة الخضراء"، فكم مصريا تقدم بالطلب؟ لا تُضِع الوقت في التحزر: 8 ملايين مصري، او عُشر عدد سكان البلد.

لم يكن هذا الرقم يستدعي من حسني مبارك ان يعلن استقالته: عشر سكان مصر يطلب الهجرة بموجب قانون الحظ والقرعة، من دون معرفة اي عمل سيعمل وفي اي مدينة سوف يكون. لكن ذلك كان يستدعي، على الاقل، ان يعلن السيد جمال مبارك انه لا يفكر في طلب الرئاسة بعد ثلاثين عاما من حكم والده.

لا استطيع ان اقاوم سرد هذه الحكاية مرة اخرى: امضيت ساعة في لقاء مع المدير العام لصحيفة "آيرش انديبيندنت" في دبلن، تحدثنا خلالها عن الانتخابات في البلاد. ولم اعرف ان الرجل هو نجل رئيس ايرلندا وبطل استقلالها، ايامون دو فاليرا، الا بعدما تركت مكتبه. كان هذا كثيرا على لبناني مثلي يجب ان يبدي الوقار المطلوب اذا كان محدثه ابن رئيس مخفر، او رئيس جمعية مزاريب الحارة.

فقد حسني مبارك مقياس العلاقة مع البشر، ليس لنقص شخصي فيه. هذه عادة عربية قديمة. وباعتباره احد "ابطال العبور" ظن ان العبور شركة مساهمة تملك مصر. لم يجرؤ خوفو ورع على تذكيره، بأن نلسون مانديلا، اعظم افريقي في تاريخ القارة، غادر مكتب الرئاسة قبل يوم من موعد نهاية الولاية الرسمي. لم يجرؤ احد على ابلاغه ان غاندي، صانع اكبر استقلال في التاريخ، لم يطلب معطفا يتدثر به. لم يجرؤ صديق على مصارحته بان ثمة بابي خروج في التاريخ: باب مانديلا وباب احمد سوهارتو.

باب الى الفرح الدائم وباب الى الندم المضني.

============================

مراجعات على خطاب ما بعد الثورة

فهمي هويدي

السفير

15-2-2011

بعض الأفكار المتداولة في الساحة المصرية بعد الثورة تحتاج إلى مراجعة وتصويب، لأنني أخشى أن تدفعنا الحماسة إلى الوقوع في الغلط. وفى اللحظات الراهنة فإن الغلط مشكلة، وما ينبني عليه مشكلة أكبر.

(1)

ثمة نكتة رائجة في مصر تقول إن الرئيس مبارك التقى الرئيسين جمال عبد الناصر والسادات في السماوات العلى، فسألاه: سُم أم منصَّة، فرد عليهم باقتضاب قائلا: «فيسبوك»، وهو كلام إذا جاز في مقام النكتة فإنه حين يساق في ذكر الحقيقة يصبح بحاجة إلى وقفة، ذلك أن كثيرين باتوا يعتبرون ما جرى ثورة الفيسبوك، بما يعطى انطباعا بأنه لولا تلك الأداة في التواصل بين النشطاء، ومعها «تويتر»، لما انفجر غضب المصريين، ولما قامت ثورة 25 يناير. ولا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الدور الذي لعبه الاثنان في العملية، لكننا لا ينبغي أن نبالغ في تقدير الدور الإلكتروني في تقييم الثورة.

ذلك أن «فيسبوك» و«تويتر» هما ضمن أدوات وقنوات الاتصال الحديثة، التي تساهم في النشر والبث غير المؤسسي.. بمعنى أنها لا تخضع للمعايير المهنية المتعارف عليها في وسائل الإعلام المعروفة، وتعتمد اساسا على ما ينشره المستخدمون، وذلك أهم ما يميزها.. لكنها تظل في نهاية المطاف مواضع تساهم في النشر والتواصل، شأنها في ذلك شأن أي وسيلة أخرى، كالرسائل النصية للهاتف المحمول، وقنوات التلفزة وحتى الهاتف الأرضي.

أدري أن ما نشره الوسطاء والمستخدمون العاديون عاديون على «الفيسبوك» و«تويتر» أسهم بشكل رئيسي في إيصال كم كبير من المعلومات المهمة والصور ومواد الفيديو.. إلخ.. أدري أيضا أن صفحة «كلنا خالد سعيد» على «الفيسبوك» مثلا ضمت نحو نصف مليون مستخدم، وكانت تنشر كل ما له صلة بالاحتجاجات والمظاهرات المناوئة للنظام، وحتى ما ليس له صلة بقضية خالد سعيد، ما ساهم في تشكيل وعي الكثيرين أو تحفيز آخرين للتحرك، لكن يجب الانتباه إلى أن الملايين التي خرجت في المظاهرات المليونية في أنحاء مصر، وهي تعلم أنها ستواجه ببطش الأمن وذخيرته وهراواته أو قد تعتقل، هذه الملايين لم تجازف بأمنها وحياتها ولم تتحرك بهذا الشكل الجماعي في هذه الملحمة التي استمرت 18 يوما، لم يكن «فيسبوك» هو الذي دفعهم إلى الثورة التي تعارف كثيرون على وصفها بأنها «ثورة شباب الفيسبوك». وهي المقولة الرومانسية التي تناقلتها الألسن، والتي أزعم أنها تبخس جموع الشعب العظيم حقها.. فلا كان «فيسبوك» مفجر الثورة، ولا كان الشباب وحدهم رجالها ووقودها، وإنما هي ثورة الشعب المصري بكل فئاته العمرية وبكل أطيافه: من الرجال والنساء، الكبار والصغار، المسلمين والأقباط، الأغنياء والفقراء.. هؤلاء جميعا انتفضوا ولم يتحركوا من فراغ، وإنما حركهم شعورهم بالمهانة ودفاعهم عن كرامتهم وكبريائهم. ولم تكن رغبتهم في التغيير ولا إدراكهم ضرورة التخلص من النظام قد تشكلا بين ليلة وضحاها. لكن ذلك كان ثمرة الشعور الدفين بالظلم والتعبئة المضادة التي دعت إلى التمرد ورفض الاستبداد والقبح من قبل كثيرين ممن صمدوا وأصروا على تحدى الخطوط الحمراء وتجاوزها. وظل ذلك المخزون جاهزا للانفجار، وحين لمعت في الأفق ثورة شعب تونس، وأدرك الجميع أنهم أقوى من كل المستبدين، فإن المصريين نهضوا وقرروا أن ينتزعوا حقهم بأيديهم دون انتظار مخلص أو بطل.

(2)

لقد قيل بحق إن ما يميز الثورة المصرية أن الشعب هو الذي استدعى الجيش وليس العكس، كما قيل إن الجيش في موقفه كان وفيا للشعب، وقائما بدوره التاريخي كحارس للوطن.. ورغم أنني لا أختلف في كلمة مما سبق، فإنني أرجو أن نضع الأمر في نصابه الصحيح، كي نحفظ للجيش مكانته ودوره ولا نحمله بأكثر مما يحتمل.

في غمرة حماستنا لدور الجيش وحفاوتنا به دأب بعضنا على القول ان الجيش ضامن للشرعية في مصر. ولم يكن ذلك رأي نفر من المثقفين البارزين فحسب، لكن ذلك ما قال به بعض كبار المسؤولين الجدد في البلد. واعترف بأنني لم استرح لهذه المقولة، رغم تقديري لموقف الجيش المصري أثناء الثورة وسعادتي بدوره الذي أسهم في رحيل الرئيس السابق.

ذلك أنني ما إن سمعت هذا الكلام حتى قلت: هل يمكن أن يصبح الجيش ضامنا للشرعية والحقوق في بلد كإنكلترا مثلا؟ ولماذا يكون الشعب هو الضامن والحارس في انكلترا في حين أن الجيش هو الذي يقوم بذلك الدور في مصر؟

لم أكن بحاجة لبذل جهد كي أخلص إلى أن الشعب يصبح الضامن والحارس لحقوقه في الدول الديموقراطية، التي للشعب فيها كلمة، وهو الذي يعين قادته ويعزلهم، أما الدول غير الديموقراطية التي يغيب فيها الشعب ولا يُسمع له فيها صوت، فإن الجيش يصبح هو القوة الأكبر، وهو «الكفيل» الذي يرشح لحماية الشرعية التي تتمثل في النظام المهيمن الذي لا رأي للشعب في اختيار رموزه أو عزلهم.

لدينا نموذجان لدور الجيش من حولنا، الأول في تركيا الذي ظل فيها الجيش وصيا على المجتمع والسياسة لأكثر من سبعين عاما، من ثلاثينيات القرن الماضي حتى بداية القرن الجديد، حيث ظل بمثابة الحكومة الخفية التي تدير السياسة وتراقب الحكومات وتعزلها، إلى أن وصل حزب العدالة والتنمية، إلى السلطة عام 2002، وعمل على تقليص دور الجيش ووضعه في حجمه الطبيعي ونجح في ذلك. النموذج الثاني في الجزائر التي لا يزال الجيش فيها صاحب القرار في السياسة منذ الاستقلال بداية الستينيات وحتى هذه اللحظة. ورغم الدور البطولي الذي قام به الجيش في كل من البلدين، إلا أن الجيش في البلد كان واحدا من حيث الدور البطولي الذي قام به في تحرير البلاد، فإن الهامش الديموقراطي النسبي الذي توافر لتركيا سمح بتقوية المجتمع وتعزيز عافيته بحيث تمكن في نهاية المطاف من تحجيم دور الجيش، في حين أن تراجع ذلك الهامش في الجزائر أدى إلى زيادة تمكين الجيش وتعاظم دوره هناك طول الوقت.

إن السؤال الذي نحن بصدده الآن هو: هل يصبح الجيش وصيا على المجتمع كما هي الحال في الجزائر وكما كان في تركيا الكمالية، أم يكون إحدى مؤسسات المجتمع التي تؤدي واجبها في تأمينه وليس الوصاية عليه؟

لقد قرأت مقالا نشرته صحيفة «ملِّليت» التركية في (2/7) قال فيه كاتبه قدري غورسال إن مصر في وضعها الجديد بعد الثورة ستخرج من حكم العسكر الديكتاتوري إلى وصاية العسكر على حكم برلماني متعدد الأحزاب، وبذلك فإنها تحتذي نموذجا تركيا متخلفا تم تجاوزه في ظل حكم حزب العدالة والتنمية. سيكون رأي الكاتب التركي صائبا في حالة واحدة، هي ما إذا ما ظل سقف الحريات في مصر منخفضا وبقي المجتمع على ضعفه وقلة حيلته، ومن ثم يصبح بحاجة إلى «الكفيل» يأخذ بيده، الأمر الذي ينصب الجيش في دور الضامن والوصي.

(3)

مثلما.. تقلقني المبالغة في دور الجيش، تثير الارتياب عندي الأولوية التي تعطى في مرحلة الانتقال الحالية لفكرة تعديل الدستور، ولا يستطيع عاقل  فضلا عن دارسي القانون  أن يقلل من أهمية الدستور بأي حال. وأرجو أن تلاحظ في هذا الصدد أنني أتحدث عن الأولوية التي تعطى لذلك الملف وليس مبدأ النظر فيه. يؤيد ذلك الارتياب أن الخطوة الوحيدة التي نالت قسطا من الاهتمام في مرحلة التردد والتسويف التي سبقت تنحية الرئيس مبارك كانت فكرة تشكيل لجنة لتعديل الدستور.. التي صدر بها قرار رسمي، وبدأت عملها بالفعل، وتحددت المواد المطلوب تعديلها، وهو ما أفاض فيه السيد عمر سليمان حين تحدث عن الانجازات التي حققها استجابة لطلب المتظاهرين، والتي كان في مقدمتها إجراء الحوار وتشكيل لجنة تعديل الدستور، والخطوتان كانتا من قبيل الفرقعات الإعلامية الفارغة. وقد قيل عن حق إن المراد بهما لم يكن لا إجراء حوار أو تعديل الدستور، إنما كان للعملية هدفان، الأول هو التجميل أمام العالم الخارجي الضاغط وإيهام عوام الغرب بأن النظام شرع في الاصلاحات فعلا ولم يعد هناك مبرر لتغييره، أما الهدف الثاني فقد كان كسب الوقت وإطالة عمر النظام لانهاك المعتصمين.

هذا الكلام ليس من عندي، لكني سمعته من أحد أعضاء لجنة الفقهاء القانونيين التي شكلت للنظر في تعديلات الدستور. وخلال المناقشة معه حاولت إقناعه بأن أي نظر في الدستور أو تعديل له ينبغي أن يسبقه إطلاق الحريات في المجتمع، بما يسمح بإلغاء الطوارئ وحرية تأسيس الأحزاب، ورفع القيود عن النقابات وحرية إصدار الصحف، وغير ذلك من الاجراءات التي تفتح الأبواب واسعة لحضور القوى السياسية وتفاعلها مع الجماهير، بما يسمح في نهاية المطاف بالاحتكام إلى رأى الجماهير في انتخبات نزيهة وشفافة.

إن تعديل الدستور، في ظل استمرار الطوارئ وتكبيل مؤسسات المجتمع بالقوانين المقيدة للحريات لن يحدث تقدم يذكر في البناء الديموقراطي، في حين أن إطلاق الحريات من شأنه أن يسمح بظهور خيارات وبدائل عدة أمام الناس، تكون أصدق تعبيرا عنهم.

إن تعديل الدستور قبل إطلاق الحريات لن يختلف في شيء عن وضع تكون فيه العربة ولست اخفي شكي وسوء ظني بمن يحاولون إشغال الناس بنصوص الدستور المرشحة للتعديل، مع عدم التطرق لملف الحريات العامة، الأمر الذي اعتبره دليلا على السعي إلى التسويف وعدم الجدية في الإصلاح.

(4)

لا أستطيع أن أحسن الظن أيضا بالذين لا يرون في الثورة الحاصلة سوى الإضرار بالوضع الاقتصادي، وتراجع عائدات السياحة ودخل قناة السويس، وعندي في هذا الصدد ملاحظات منها:

 ان تلك الآثار الاقتصادية جزء من الثمن الطبيعي الذي يدفعه البلد لتحقيق مكسبه الكبير المتمثل في إسقاط نظامه الاستبدادي، أملا في الانتقال إلى نظام ديموقراطي حقيقي.. وإذا كان المئات قد دفعوا حياتهم لقاء تحقيق ذلك الكسب فيتعين علينا أن نحتمل أي أضرار اقتصادية تترتب على ذلك.

 ان الثورة استثمار للمستقبل كما قيل بحق، ذلك أنها إذا أوقفت نهب البلد واستنزاف ثرواتها، وفتحت الأبواب للاصلاح الحقيقي، فإن ذلك سيعوض أي خسائر اقتصادية راهنة. وينبغي ألا ننسى هنا أن لبنان ظل يشهد قتالا أهليا استمر ستة عشر عاما، ثم نهض بعد ذلك واستعاد عافيته وجاذبيته.

 ان الجميع مشغولون بالفساد السياسي في مصر، وهو هم ثقيل لا ريب أحسب أن الثورة نجحت في إزاحة أكبر دعائمه، لكن المسكوت عليه في أزمة مصر هو الخراب الاقتصادي الذي أحدثه وخلّفه النظام السابق والذي ظل يتستر عليه ويخفي معالمه ويزيف الشهادات الدالة عليه طوال السنوات الأخيرة، وحين تعلن حقائق الواقع الاقتصادي فسوف يكتشف الناس أن الأزمة سابقة على الثورة، وأن الذين عاثوا في مصر فسادا طوال السنوات الثلاثين الماضية مصوا دماءها وتركوها قاعا صفصفا. لذلك كان لا بد للنظام من أن يزول بعد أن ضيع المكانة وخرّب المكان، ومن ثم ارتكب بحق مصر جريمة تاريخية مضاعفة ينبغي الا تنسى والا تتكرر.

============================

اسرائيل: من دولة لليهود الى دولة يهودية!

المستقبل - الثلاثاء 15 شباط 2011

العدد 3913 - رأي و فكر - صفحة 19

محمد السمَّاك

ماذا يعني أن تكون اسرائيل يهودية ؟ هناك إجابتان عن هذا السؤال :

الإجابة الأولى تتعلق بغير اليهود من العرب المسلمين والمسيحيين. والإجابة الثانية تتعلق باليهود العلمانيين غير المتدينين. بالنسبة للفئة الأولى، تقول الإجابة بصراحة وبوضوح انه لا مكان لهؤلاء في دولة يهودية. وذلك ليس عملاً بقانون يمنع وجودهم. فالقانون غير موجود. ولكن التزاماً بالنصوص التوراتية. والتوراة موجودة. واستناداً الى كبير حاخاماتهم عوفوديا يوسف فإن التوراة تقول بتحريم بيع أو تأجير العرب بيوتاً أو محلات أو أراضٍ في اسرائيل. وهذا يعني تحريم مساكنتهم. وتطبيقاً لهذا النص التوراتي وقع أكثر من ثلاثماية حاخام هم من كبار موظفي الدولة في الشؤون الدينية على عريضة نشرتها الصحف تشكل توجيهاً دينياً لعامة الاسرائيليين يدعونهم فيها للتعامل مع الفلسطينيين العرب كعناصر غير مرغوب فيها في المجتمع اليهودي.

وجد اليهود العلمانيون في هذا التوجيه نوعاً من العنصرية الدينية التي تسيء الى سمعة اسرائيل في العالم. ولذلك انتقدوها. ومن هنا كان المدخل الى الإجابة الثانية حول معنى يهودية اسرائيل بالنسبة لهذه الفئة من الاسرائيليين.

لقد صاغ هذه الإجابة الحاخام عوفوديا أيضاً، وفيها يقول "ان التوراة تقول برفض اللاتوراتيين (من المسلمين والمسيحيين) وان التوراة لن تتغير كرمى لمجموعة من الاسرائيليين الذين لا يفهمون روح هذه التوراة وأحكامها. فلا الحاخامات سوف يسكتون ولا إسكاتهم سيغير الحقائق التوراتية، وهي ان اليهودية لا تقبل غير اليهودي. ويؤكد الحاخام ان هذا هو الدين اليهودي، "ونحن فخورون بذلك".

وقد أيده في ذلك المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية يهودا فاينشتاين، مما جعل هذا الموقف العنصري من عرب الأرض المحتلة موقفاً دينياً حكومياً في الوقت ذاته.

استناداً الى هذه الفتوى الدينية، قررت جامعة صفد طرد طلابها العرب. وتكاملاً مع هذا القرار، دعا حاخام المدينة الى طرد العرب من مدينة صفد. فإذا كانت التوراة تحرم تأجيرهم أو بيعهم بيوتاً أو محلات أو اراضٍ فان معنى ذلك تحريم بقائهم. وبالتالي فان طردهم يكون امتثالاً للتعليمات التوراتية.

كذلك، ارتفعت دعوات تدعو الى تجميع العرب داخل اسرائيل في معسكرات اعتقال جماعية لدى وقوع أي صدام أو خلاف حاد مع أي دولة عربية أو اسلامية، تمثلاً بما فعلته الولايات المتحدة مع مواطنيها المتحدرين من أصول يابانية اثر العدوان الياباني على بيرل هاربر. وتقوم هذه الدعوة على أساس عدم الثقة بالعرب المسلمين والمسيحيين في اسرائيل الذين يرفضون اعلان الولاء لاسرائيل والتخلي عن قوميتهم العربية وعن وطنيتهم الفلسطينية، والذين يتمسكون بإيمانهم الديني الاسلامي أو المسيحي.

يعرف كثير من الاسرائيليين بمن فيهم أعضاء في الحكومة ان هذه الأدبيات الدينية توصم اسرائيل أمام العالم بالعنصرية وبممارسة الكراهية الدينية التي كان اليهود أنفسهم ضحاياها على مدى عقود وقرون، خاصة في أوروبا.

وخوفاً على سمعة اسرائيل وحرصاً على علاقات التعاطف معها، ارتفعت أصوات سياسية واعلامية تندد بالحملة الدينية ضد العرب، وذلك ليس تعاطفاً معهم ولكن رغبة في التخفيف من رد فعل المجتمع الدولي على هذا الموقف الديني العنصري الجديد.

وفي الواقع، فان المزيد من التهويد يعني المزيد من استضعاف القوى العلمانية في اسرائيل. والمزيد من استقواء رجال الدين وهيمنتهم على عملية اتخاذ القرارات السياسية. ونتيجة لذلك بدأ عدد المهاجرين العلمانيين الى اسرائيل بالانخفاض بل بالانحسار، مقابل ارتفاع حاد في نسبة المتدينين اليهود الذين يحملون أفكاراً الغائية لكل من هو غير يهودي وخاصة للمسلمين والمسيحيين. ومن شأن ذلك أن يسرّع في عملية التحول في اسرائيل من دولة لليهود كما أرادتها الحركة الصهيونية العالمية في عام 1897 (مؤتمر بال)، الى دولة يهودية، كما تريدها الحكومة الاسرائيلية الحالية التي تُعتبر اكثر حكومات اسرائيل تطرفاً منذ عام 1948.

أدّت هذه التبدلات الى تبدل في طبيعة ديموغرافية الهجرة من والى اسرائيل. كان المهاجرون الأوائل يعتبرون الهجرة واجباً قومياً ودينياً مقدساً. هدفها العمل على تحقيق الحلم الذي طالما راود اليهود في شتى أنحاء العالم وهو أن تقوم لهم دولة. وكان الهدف الأساس والمباشر من الهجرة هو تعزيز هذه الدولة وتقويتها لتكون ملاذاً لهم إذا ما تعرّضوا مرة جديدة الى الاضطهاد الذي ذاقوا مرارته على مدى حقب تاريخية متعددة من روسيا في الشرق حتى بريطانيا في الغرب.

غير ان تحوّل اسرائيل من ملاذ آمن لشعب مضطهد الى دولة عنصرية تضطهد الفلسطينيين أدى الى أمرين :- الأمر الأول حصول هجرة معاكسة من اسرائيل الى الخارج، شملت نخباً فكرية وعلمية. أما الأمر الثاني فهو تراجع حاد في نسبة الهجرة التلقائية من الخارج الى اسرائيل واتساع نسبة التهجير من الفئات العنصرية المتطرفة.

طبعاً، لعبت عوامل عديدة أخرى في التأثير على الهجرة من والى اسرائيل، منها الاضطرابات الأمنية، والمصاعب الاقتصادية، والتحولات التي طرأت على الاتحاد السوفياتي (السابق) ودول أوروبا الشرقية. ومنها كذلك الحروب العربية الاسرائيلية، والانتفاضات الفلسطينية والعمليات الانتحارية، وكذلك بناء الجدار العنصري العازل ؛ كما لعبت عوامل اسرائيلية داخلية في التأثير على نمط هذه الهجرة، منها ارتفاع نسبة المتدينين المتشددين في الجيش الاسرائيلي، وسيطرة التشدد على الحياة العامة في المدن الاسرائيلية بدءاً من مدينة القدس المحتلة، وسيطرة الأحزاب الدينية على عملية القرار السياسي من خلال اضطرار الأحزاب العلمانية الأخرى الى التحالف معها من أجل تأمين الأكثرية في الكنيست البرلمان.

وتبين الأرقام الإحصائية أن أكبر مصدرين للهجرة الى اسرائيل هما أولاً روسيا (الاتحاد السوفياتي السابق)، ثم أميركا الشمالية. فمن أصل ثلاثة ملايين مهاجر (2,992,870 مهاجراً) حتى عام 2006، بلغ عدد المهاجرين اليهود من روسيا وحدها مليون و155 ألفاً و 653 مهاجراً. بينما بلغ عدد المهاجرين من أميركا حتى تلك الفترة 199 ألفاً و 418 مهاجراً. أما بقية المهاجرين فقد استقدموا الى اسرائيل من فرنسا وبريطانيا وأميركا الجنوبية  خصوصاً الأرجنتين  وجنوب افريقيا وأثيوبيا وأخيراً اليمن.

لقد تعامل المجتمع الدولي مع اسرائيل منذ أن فرض قيامها في عام 1948 على انها حالة استثنائية. حتى عندما كانت اسرائيل تنتهك المواثيق الدولية وتضرب بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط، وتمارس ارهاب الدولة على نطاق واسع، كان المجتمع الدولي يجد تبريراً لذلك في أن اليهود عانوا كثيراً وطويلاً من الاضطهاد، وانهم يتصرفون عن خوف من الماضي وعن قلق من المستقبل.

وقد شجع ذلك اسرائيل لأن تصبح دولة عنصرية بامتياز. بل الدولة العنصرية الوحيدة في العالم الحديث. وهي في عنصريتها دولة نووية، تملك ترسانة ضخمة من الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى. بمعنى أن عنصريتها قد تنفجر نووياً في أي مكان من العالم العربي القريب، ومن العالم الاسلامي البعيد. فهل يتعلم المجتمع الدولي من النتائج المدمرة للتجربة النازية ويعيد النظر في موقفه من اسرائيل قبل فوات الأوان ؟..

============================

حق التطلع إلى عالم أفضل

المصدر: صحيفة «إندبندنت» البريطانية

التاريخ: 15 فبراير 2011

البيان

يمكن أن تكون العولمة أمراً حميداً. وخلال السنوات ال22 التي مضت منذ سقوط سور برلين، تحرك 7٪ من سكان العالم و47 دولة إلى نور الديمقراطية، وذلك وفقا لتقرير منظمة بيت الحرية. وقد انضم 1,2٪ من سكان العالم في مصر، أخيراً، إلى العالم الحر.

كانت الجمعة الماضية لحظة كبيرة في تاريخ العالم. لا مفر من التطابق بين الانتفاضة التي حدثت في تونس، والتي ألهمت الثورة المصرية، وبين سقوط سور برلين، الذي أحدث سقوط قطع الدومينو في الكتلة الشيوعية السابقة. واليوم، فإن أحجار الدومينو للأنظمة في المنطقة تهتز، في أكثر من دولة. والأبعد نطاقاً من ذلك، تستمد الاضطرابات الشعبية المستمرة منذ فترة طويلة في الغابون، الواقعة في وسط إفريقيا، قوتها من النموذج المصري.

من السابق لأوانه القول كيف أن الطريقة التي يتم بها إسقاط الأنظمة المستبدة في المنطقة، ستترك تأثيرها على الشعوب، وليس بالمعنى الذي قصده «شو إنلاي» عندما قال إنه «من المبكر جداً» الحكم على أثر الثورة الفرنسية. لكن تجدر الإشارة إلى أن بعض حجج «البراغماتيين»، يبدو أنها على غير أساس. وفكرة أنه يصب في مصلحة الولايات المتحدة وأوروبا القيام بدعم الحكام المستبدين، خوفا من أن الديمقراطية سوف تطلق العنان للحركات المناهضة للغرب، لم تجد دليلاً يذكر بين الحشود في ميدان التحرير، على سبيل المثال.

بالطبع علينا أن نكون حذرين، ونعترف بأن مصر وتونس يمكن أن تنتكسا إلى الحكم الاستبدادي، ولكن سحراً تم إبطاله، ولن يكون من السابق لأوانه استخلاص بعض الدروس من الأحداث التي وقعت في الأسابيع الأخيرة.

في الواقع، لم يستمر النقاش حول نشر الديمقراطية لبعض الوقت بين البراغماتيين والمثاليين، ولكنه دار بين نمطين من «المثاليين». شدّد كل من رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير وإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، على استخدام القوة العسكرية لإحلال الديمقراطية في العراق، وأبديا بشكل متفاخر، لامبالاة حيال استخدام التعذيب من قبل بعض الأنظمة في المنطقة، طالما أنها اعتبرت مجدية في تكثيف مكافحة الإرهاب. تعزّز شكل المثالية الأقل قوة الذي اعتمده الرئيس الأميركي باراك أوباما (رغم أنه لم يتم اختباره بعد)، من خلال الثورات في شمال إفريقيا. وقبل كل شيء، فإن إسقاط أصدقاء له بمثابة توبيخ ل «بلير». فقد وجّه رئيس الوزراء البريطاني السابق، انتقاداً إلى الرئيس أوباما على خطابه في القاهرة في مايو 2009، باعتباره استرضاء لبعض الجماعات. ومع ذلك فقد تم تبرير حكم أوباما، ومن خلال التخلي عن الغطرسة الأميركية في الماضي، حوّل أوباما المواقف الشعبية تجاه الولايات المتحدة في مصر، وجعل من السهل على حركة المواطنين أن تكون تعبيراً إيجابياً عن الكبرياء الوطني، بدلاً من كونها سلبية مضادة للغرب.

الدرس الكبير يتمثل في أن الديمقراطيات في العالم، يمكن بشكل أفضل أن تساعد الشعوب التي لا تشارك في حرياتها، من خلال قوة القدوة «الناعمة»، والمعلومات والوعد بالرخاء والازدهار، بدلاً من القوة «الصلبة». والدور المتزايد ل «فيسبوك» و«تويتر» والهواتف المحمولة في تعبئة الثورات، يعكس إلى حد كبير أهمية سهولة وصول الناس في البلدان غير الحرة إلى الأخبار، وثقافة وقيم العالم الحر. أما الدور الذي ألقي الضوء عليه بشكل أقل، فهو دور الضائقة الاقتصادية التي تمر بها بلدان شمال إفريقيا، وأمل شعوبها في التخلص من الأحكام العرفية وأحكام الطوارئ المستمرة لفترة طويلة، وأنهم سوف يتخلصون من الفساد وينعشون ازدهار السوق الحرة.

وعلى الرغم من أنه ستكون هناك نكسات على الطريق، فإن العالم أصبح، نتيجة البسالة في مصر وتونس، مكاناً أفضل وأكثر إذكاء للأمل.

============================

تحديات الغد

كامل يوسف

التاريخ: 15 فبراير 2011

البيان

عندما انصبت عيون العالم على ميدان التحرير في قلب القاهرة، لم تكن تتابع التاريخ وهو يكتب سطور ثورة فجرها الشباب، وأيدها الملايين من أبناء مصر من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة فحسب، وإنما كان العالم حيال إضراب هائل من أجل اقتصاد أفضل أيضاً. يليق بشعب يملك قدرات المصريين وطموحاتهم.

ولهذا، على وجه الدقة، فإن الوعي الجمعي للمصريين اعتبر أن من أكثر الإهانات التي وجهت لهم ضراوة وتجسيداً لابتعاد صانع القرار عن نبض الشارع قرار حكومة الفريق شفيق زيادة المرتبات والمعاشات بنسبة 15٪ في الوقت الذي يعرف الجميع أنها لم تدبر الموارد التي تغطي منها هذه الزيادة، وهو ما يعني عملياً دوران المطابع لضخ جنيهات تسحب قيمتها في الوقت نفسه من جيوب أبناء الشعب المصري، لأنها مجرد إضافة جديدة إلى ركام التضخم. الآن لا أحد يقلل من التحديات الهائلة التي تنتظر مسيرة العمل العام على الصعيد السياسي في مصر، فعند كل منعطف مهمة صعبة، ومع كل انطلاقة يأتي الكثير من غياب اليقين والافتقار إلى الثقة، وينفتح الأفق كل يوم على السؤال الصعب: إلى أين من هنا؟

غير أنه أياً كانت التحولات السياسية وثمارها في مصر فإنها لا تحدث في فراغ، ولا تنهض من عدم، ولا تمضي إلى المجهول، وإنما الحقائق الاقتصادية هي التي تشكل الأرضية التي تنطلق عليها مسيرة العمل السياسي، وتلك بديهة لا تحتاج إلى تكرارها هنا. أياً كان صانع القرار الذي سينعقد عليه الإجماع في مصر، فإنه سيجد نفسه مضطراً للتعامل مع اللغز الصعب في الحياة الاقتصادية المصرية.

هذا اللغز الصعب يوضحه الاقتصاديون بالإشارة إلى أنه بعد نقطة معينة في مسار العلاقة بين نسبة العاملين في الحكومة والقطاع العام إلى إجمالي عدد السكان، فإن نتائج بالغة الخطورة على الاقتصاد الكلي تبدأ في التوالي، ومصر قد تجاوزت هذه النقطة بمراحل، فهذه النسبة تصل الآن إلى 35٪ من إجمالي عدد السكان يعملون في الحكومة والقطاع العام.

حقاً إن مصر لم تصل بعد إلى النسبة المرعبة التي وصلتها إحدى الدول العربية الأخرى وهي 50٪ والتي عقب عليها اقتصادي عالمي شهير بأربع كلمات مدوية ذهبت مثلاً في الأدبيات الاقتصادية، عندما قال متسائلاً: هل هذا اقتصاد حقاً؟

غير أن ذلك لا يخفي خطورة هذا الملمح المهم من الاقتصاد المصري، والذي يبدو جلياً إذا تذكرنا أن نسبة العاملين في الحكومة والقطاع العام التركيين لا يتجاوز 13٪. وهذه النسبة لا تتجاوز في سنغافورة 3٪ وهي لا تتجاوز نسبة متواضعة في العديد من دول العالم المتوثبة اقتصادياً، مثل كوريا، اندونيسيا، الهند، ماليزيا، تايوان وتايلاند، وهي لا تتجاوز في الصين 8,3٪. ومن المؤكد أن هذا ليس اللغز الصعب الوحيد الذي ينبغي حله، إذا أريد لمصر أن تنطلق قدماً نحو المستقبل الأفضل، الذي يتطلع إليه أبناؤها، وإنما هناك العديد من الألغاز التي ينبغي التصدي لها، وفي مقدمتها الاختلال بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق، والافتقار الهائل للكفاءة في الإدارة على كل المستويات، ابتداء من إدارة الحكومة وصولاً إلى إدارة أصغر المشروعات. وفي مجتمع تتميز بنيته السكانية بغلبة الشباب وصغار السن فإنه من المؤكد لن توجد فرص العمل من خلال أكفأ أشكال العمل السياسي وحدها، فهذه الأخيرة لا تمتلك عصا سحرية لإيجاد فرص العمل.

هذه الفرص الحقيقية وحل الألغاز الصعبة في الاقتصاد المصري لن يتحقق إلا عبر جهود لا تنتهي وعمل شاق، بدأه شباب ميدان التحرير فعلاً بوعي جمعي رائع، حينما انتقل من الاحتفال بتحقق أول مطالبه إلى البدء بتنظيف شامل للميدان.

فلعلها تكون بداية لها ما بعدها حقاً، في مواجهة تحديات الغد، وهي كثيرة على كل المستويات.

============================

عن الغرب وسياساته  

آخر تحديث:الثلاثاء ,15/02/2011

ميشيل كيلو

الخليج

في كل مرة يشهد العالم فيها حدثاً كبيراً، يعلن قادة الغرب أنهم بوغتوا بوقوعه، ويحمّلون أجهزتهم المسؤولية إما عن حدوثه أو عن عدم علمهم المسبق به . في الحالتين، تمرّ السياسات الغربية بمرحلة من التخبط، تقوم جوهرياً على ردود الأفعال أكثر مما تستند إلى منظور صلب ومعارف واضحة، وبالتالي إلى خطة متماسكة تعرف ما تريد وكيف تبلغ أهدافها .

هذا ما حدث غالباً عند وقوع تطورات كبرى: من الثورة الروسية عام ،1917 إلى الثورة الإيرانية عام 1978/،1979 إلى أحداث العالم العربي الأخيرة والراهنة، التي لا تزال جارية تحت أعيننا . وقل الشيء نفسه عن حروب ومذابح كثيرة وقعت هنا وهناك، ربما كان أشهرها وأكثرها مأساوية في العصر الحديث مجازر رواندا، التي سقط فيها قرابة مليون إنسان خلال أقل من عام، قيل يومها إن أجهزة الغرب وسفاراته ومبعوثيه المختلفين، من مدنيين وعسكريين، سريين وعلنيين، لم يكونوا على علم بوقوعها، أو لم يتوقعوه بصورة مسبقة، رغم وجود جيوش وبعثات سياسية أوروبية في المنطقة أو بقربها .

ومن يراقب أحداث أيامنا الحالية، يجد أن الغرب أساء دوماً تقدير الحقائق، ومارس سياسات اتسمت بجهل الوقائع، وأنه تعامل مع العرب خلال السنوات العشرين الأخيرة انطلاقاً من أحكام مسبقة أكثر مما نظر إليهم في حياتهم وواقعهم، لذلك تسود صحافته ووسائل إعلامه دهشة حقيقية مما يحدث اليوم، ويسيطر على مواقفها المعلنة عجز فاضح عن فهمه، يعبّر عن نفسه في تقلب السياسة الأمريكية من ساعة لأخرى، رغم جسامة التطورات وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لها قبل كل شيء، فمن المطالبة برحيل مبارك الفوري إلى المطالبة بإشرافه على مرحلة الانتقال، ومن الإشادة بدور الجيش إلى التخوف منه، ومن تعبيرات جزئية عن إدراك حقيقة ما يجري بالنسبة إلى مصالح أمريكا و”إسرائيل” إلى التخوف منه والذعر من بعض جوانبه . . في سلسلة تناقضات يستغرب المتابع وقوعها في سياسات دولة أعلنت نفسها وصية على عالم، يبدو جلياً أنها تجهل تقريباً كل شيء عنه، تبدي مواقفها حياله قدراً فظيعاً من البلبلة والتناقض، فلا تجد ما تبرره بواسطته غير اتهام أجهزتها بالعجز عن تزويدها بمعلومات دقيقة حوله، أو إلقاء المسؤولية عنه على عاتق بعض الساسة المساعدين أو الثانويين، الذين تحملهم وزر أخطائها وتزيحهم عن أماكنهم .

والغريب أن كل حدث خارجي مهم يتحول بسرعة إلى موضوع صراعات داخلية في الدولة الأكثر تنطحاً للإمساك بالشؤون الدولية، والأكثر رغبة في إدارة أمور غيرها والتدخل في قراراته وخياراته، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما أن تقع واقعة ما حتى يظهر موقف لرئيسها وآخر لوزارة خارجيتها وثالث لوزارة دفاعها ورابع لمجلس نوابها، فإن أنت تابعت ما يفعله هؤلاء ويقولونه أصابك الدوار، ليس بسبب تناقضاته وتخبطه فقط، بل كذلك لأن جزءاً مهماً من مواقف هذه الأطراف ينبع من رؤى داخلية الخلفيات والمرامي، كثيراً ما تفسر الحقائق في ضوئها أو تسخر لخدمتها، فيختلط الداخلي بالخارجي، المحلي بالدولي، الجزئي بالعام، الحزبي بالاستراتيجي، ولا يعود أحد يفهم حقيقة ما يحدث، وأين هو موقف أمريكا الأخير والحقيقي: وهل يعبر عنه الرئيس أم وزراؤه أم الكونغرس . وهل هناك تناقضات أكبر في سياسة دولة من قيام الكونغرس بسن مشروع قانون يلزم مبارك بترك الرئاسة، في الوقت الذي طالب الرئيس أوباما فيه بإشراف مبارك نفسه على مرحلة الانتقال إلى سلطة بديلة، وتدعو وزارة الخارجية إلى الديمقراطية من دون أي تحديد، وتشيد وزارة الدفاع بتعاون الرئيس المخلص مع واشنطن خلال ثلاثين عاماً . أي واحد من هذه المواقف هو موقف أمريكا الحقيقي؟ أعتقد أن للتناقضات وظيفة هي ترك أبواب الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، وفي الوقت نفسه عدم تحديد موقف واضح وأخير، والتعامل تالياً مع الأحداث بغموض مقصود يمليه غالباً الجهل بالواقع، أو الخوف من ممكناته غير الملائمة أو الخطرة، خاصة إن كانت تطوراته غير متوقعة أو تضمر احتمالات لا تنسجم ورؤية واشنطن ومصالحها، مثلما هي التطورات العربية الأخيرة .

لا داعي لإضاعة الكثير من الكلام على سياسة أوروبا، أو بالأصح سياساتها المتناقضة/المتعارضة، التي تتسم من جهة بعدم فهم وقائعنا، ومن جهة أخرى بالعجز عن فعل أي شيء مفيد حيالها، ولا تعرف ما تريد، فهي تارة مع الحكومات وطوراً مع قيم ومعايير مناهضة لها، وهي تراهن اليوم على الشعوب بينما تمد يد العون إلى حكامها، المناوئين لها، وهي تعلق آمالها اليوم على الاقتصاد باعتباره رافعة السياسة، وغداً على السياسة باعتبارها بديل الاقتصاد، في حين تتسم سياساتها وآراؤها عموماً بنزعة محافظة يمليها الخوف من أي تغيير، خاصة إن حملته قوى شعبية، علماً بأن أوروبا لا تتوقف عن الحديث عن رغبتها في خدمة الشعوب، وعن التبجح بأنها القارة التي أنجبت نموذجاً مكرساً للتطور المجتمعي والفردي الحر . هل يغفر لأوروبا ما في مواقفها من تهافت وكذب وبلبلة أن دولها ليست موحدة الرأي والمصالح، رغم الاتحاد الأوروبي واليورو الموحد والعلم ذي النجوم الزرقاء؟

والآن: إذا كانت أمريكا الرسمية تعترف بأن أجهزتها لا تفهم غالباً الواقع خارج بلدانها، ولا تتوقع بصورة شبه دائمة ما يقع فيها من تطورات، ولا تقدم معلومات صحيحة عن المجتمعات والأفراد، والأحداث والاحتمالات، وإذا كانت سياساتها تتناقض من دون أية مبالغة من ساعة لأخرى، وتفتقر إلى جهاز مفهومي وسياسي يتيح لها التعامل بمرونة من المستجدات والمفاجآت، يكون من الحتمي طرح السؤال التالي: بأي حق تتنطع أمريكا لقيادة العالم، وتعطي نفسها الحق في مطالبة الآخرين بالسير وراءها، وبالتسليم بدورها في قيادتها، وبعدم الاعتراض على خياراتها وخطواتها العملية، إذا كانت نتائج سياساتها مأساوية دوماً، على الآخرين؟

طرح هذا السؤال نفسه خلال الفترة التالية لعام 1990/،1991 الذي طرح جورج بوش الأب أثناءه فكرة قيادة أمريكا للعالم باعتبارها قطبه الوحيد . وبقي مطروحاً لسببين، ذكرت أولهما في ما سبق، أما ثانيهما فهو استحالة أن تمسك القبضة الامريكية الصغيرة بالعالم الكبير ومشكلاته، وأن تفهم دولة واحدة وتدير بطريقة عادلة أو ملائمة أزمات ومسائل على درجة عالية من التعقيد والتفجر . والآن، تتحول سياسات أمريكا بصورة يسلّم بها الجميع إلى سلسلة فضائح مكشوفة، تجد انعكاسها حتى في مواقف الإعلام الأمريكي، الذي يكاد يطالب حكومته والكونغرس بالإقلاع عن اتخاذ مواقف من القضايا الدولية، تجنباً للفضائح التي تقع يومياً تحت سمع وبصر العالم كله .

ليس هناك ما يمكن أن تفعله أمريكا خيراً من الامتناع فعلاً عن السعي إلى فرض رؤاها على غيرها، والتدخل في شؤونه بطريقتها البائسة، التي تزيد الأمور تعقيداً وتأزماً . وليس هناك غير موقف واحد يطالبها الجميع باتخاذه، هو ألا يكون لها أي موقف من وقائعنا وأحداثنا، لأنها لا تهتم بشيء غير مصالحها الخاصة، التي تتعارض تعارضاً كاملاً أغلب الأحيان مع مصالحنا، ولا غرض لها غير عرقلة أمورنا وتعقيدها، بجعلها غير قابلة للحل من دون تدخلها فيها ووضع يدها عليها، بصورة تزداد حصرية وأنانية وخطورة .

أيها السادة في واشنطن خاصة والغرب عامة: دعونا وشأننا . ابقوا بعيدين عنا، واتركونا نتدبر أمورنا بطرقنا، التي لا تفهمونها ولا تقرّونها في آن معاً . دعونا بحق الله، إن كنتم تريدون حقاً صداقتنا، كما تزعمون، ولا تسعوا إلى جرّنا نحو متاهات لطالما أجبرتمونا على التخبط فيها، في فلسطين وغيرها .

============================

“الأطلسي” ومنطقة الخليج

آخر تحديث:الثلاثاء ,15/02/2011

اندريس فوغ راسموسين

الخليج

إن رياح التغيير تجتاح مصر وتونس والعالم العربي، والأسباب متعدّدة، حيث الوضع في الكثير من البلدان العربية مقلق، ويصعب التكهن بالنتائج على المدى الطويل . والقليل منا توقع مثل هذه التطورات المهمة قبل بضع أسابيع فقط، وبمقدرتي أن أتفهم أن الكثيرين في المنطقة كانت لديهم مخاوف من حالة اللا استقرار . لكن كتحالف للدول الديمقراطية، نؤمن أن الطريق الصحيح نحو ذلك هو الإجابة عن التطلعات الشرعية للناس عبر الانتقال السلمي إلى الإصلاحات الديمقراطية من دون تأخير، وذلك هو الطريق لبناء استقرار حقيقي على المدى الطويل . وذلك لمصلحة كلّ دولنا، لأن أهمية الأمن في الشرق الأوسط الأوسع تمتدّ إلى مابعد المنطقة .

إن أمننا متشابك ببعضه، ولهذا السبب على وجه الدقة، أنا ومجلس حلف الأطلسي جئنا إلى قطر . حيث سنلتقي في مؤتمر كبير في الدوحة مع ممثلين عن دول الخليج الأربع، التي تشكّل مع الأطلسي مبادرة إسطنبول للتعاون (البحرين والكويت، وقطر والإمارات العربية المتحدة)، وذلك لمناقشة كيفية العمل على دعم شراكتنا، ونشرها إلى البلدن الأخرى في المنطقة . كما سيحضر المؤتمر ممثلون من سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية . ويتطلّع ممثلو الأطلسي للاستماع إلى وجهات نظر هذه البلدان، والتي عندها دعوة دائمة للانضمام إلى مبادرة إسطنبول للتعاون .

علينا أن ندقق في هذه المناقشات بعيون مفتوحة . في 2004 وصلت مبادرة إسطنبول للتعاون إلى بداية واعدة جداً، لكن في السنوات الأخيرة، ثبت أنه من الصعوبة جداً أن نكثف تعاوننا العملي . وبصريح العبارة، لم نقترب من نقطة لإمكانية شراكتنا . إن الوقت قد حان لنعيد تنشيط هذه الشراكة، حيث حاجتنا إلى التعاون قد نمت أخيراً .

إن التقدّم التكنولوجي والعولمة جعلت البلدن مترابطة على نحو متزايد، كما أننا نواجه تهديدات مشتركة (الإرهاب، والهجمات الإنترنيتية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والقرصنة، وعرقلة تدفقات الطاقة التي تعتمد عليها كل دولنا) .

في اجتماع قمتنا في لشبونة نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وافق حلفاء الناتو الثمانية والعشرون على اتباع مبدأ استراتيجي جديد، أجندة للعقد القادم . وتم وضع خطوة للتغيير في منهج الحلف بخصوص هذه التهديدات الناشئة والجديدة، وتمّ التأكيد بشكل خاص على حاجة الناتو للعمل عن قرب أكثر مع دولنا والمنظمات لإيجاد حلول مشتركة .

أرى أن هناك عدداً من الفرص لجلب نشاط متجدّد وإطار ومضمون جديدين إلى شراكتنا في مبادرة إسطنبول للتعاون . أولها، آمل أن يكون بمقدورنا تكثيف مشاوراتنا السياسية، حيث هناك العديد من قضايا الأمن تسبب قلقاً عاماً . وبمناقشتهم أكثر بشكل منتظم ومعلن على قاعدة ثنائية ومتعدّدة الأطراف، يمكن لنا أن نتوصل إلى تفاهم مشترك، ونشجّع على حلول مشتركة . ويستحسن أن نعزّز تعاوننا العمليّ . والأطلسي يخطّط لفتح صندوق أنشطة التعاون بشكل كامل لكلّ شركائه، وذلك سيعطي شركاءنا في مبادرة إسطنبول للتعاون سلسلة من الفرص الجديدة المثيرة للاهتمام في مجالات مثل التعاون العسكري، والاشتراك في العمليات الاستخباراتية وقضايا متعلقة بأمن الحدود .

نستطيع أيضاً أن نعمل الكثير على قضايا الطاقة، مع 50% من إمدادات طاقة العالم تنتقل عبر منطقة الخليج، وهذا اهتمام مشترك واضح . يقف الحلف بكل جاهزية للعمل سوية مع شركاء مبادرة إسطنبول للتعاون لإيجاد وتمييز أكثر الطرق كفاءة وأهمية لتطوير مشاريع في هذا المجال . يشكّل انتشار أسلحة الدمار الشامل تهديداً حقيقياً وصاعداً علينا جميعاً . نعرف أن لهذا أهمية بالغة عند شركائنا في مبادرة إسطنبول للتعاون، ونحن منفتحون لعقد نقاشات معهم حول هذه القضية لعرض تعاون عملي ومركز بشكل أكبر .

يمكن في أوقات الاضطراب الاعتماد على الشراكات المترسّخة، ويجب أن تكون مبنية على إدراك عام للمصالح المشتركة، كما يجب أن يكون هناك تصميم وتحديد مشتركان للسعي وراء هذه المصالح معاً . وبالنظر إلى التهديدات الأمنية المعقدة في القرن الحادي والعشرين، أعتقد أنها تشكّل سبباً للأطلسي وشركاء مبادرة إسطنبول للتعاون لتعميق شراكتنا . وأنا على أمل أنّ مؤتمر الدوحة سوف يشكّل نقطة حاسمة في تحقيق ذلك .

============================

ثورة مصر: عودة السياسة إلى العالم العربي

تاريخ النشر: الثلاثاء 15 فبراير 2011

حسين آغا - باحث بارز في جامعة أوكسفورد

الاتحاد

روبرت مالي - مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية

لم يكن المتظاهرون في شوارع القاهرة الذين استطاعوا خلال 18 يوماً إنهاء حكم مبارك الذي استمر ثلاثة عقود، يطالبون بمجرد وضع حد لنظام سياسي، فهم لم يستنكروا فقط الحرمان الذي كانوا يُعانون، بل إن ما حارب المتظاهرون من أجله هو أعمق وأكثر تعقيداً.

فالعالم العربي الذي "مات" جاءت الثورة المصرية لتعيد إليه الحياة، فمنذ خمسينيات القرن الماضي درج العرب على الافتخار بصراعهم ضد الاستعمار واعتزازهم بمكانة حكامهم وبالإحساس بالأهمية والمكانة على الصعيد الدولي واعتناقهم لهدف بناء دولة وطنية مستقلة ومقاومة الهيمنة الأجنبية.

وهكذا ورغم حالة الاقتصاد السيئ في عهد عبد الناصر وتعرضه للإهانة بعد هزيمة قاسية في عام 1967 على يد إسرائيل، بقيت القاهرة قلب العالم العربي النابض وظل الرأي العام العربي مشدوداً لخطب عبد الناصر وهو يهاجم الغرب ويتحدى قوى الاستعمار السابقة، أو وهو يعلن قراراته التاريخية بتأميم قناة السويس واستفزاز إسرائيل. وفي أثناء ذلك كانت الجزائر تخوض صراعها المرير لانتزاع استقلالها لتصبح لاحقاً ملاذاً للثوريين، فيما قادت السعودية من جهتها حصاراً نفطياً على الغرب زلزل الاقتصاد العالمي، كما برز ياسر عرفات ليعطي الفلسطينيين صوتاً مسموعاً ويضع قضيتهم على خريطة العالم، ورغم تكبد العالم العربي لنكسات عسكرية وسياسية، إلا أنه قاوم ورفض الاستسلام، واضطرت العديد من القوى العالمية التي لم يرقها ما كانت تسمعه في القاهرة، أو الجزائر، أو بغداد، أو طرابلس إلى الانتباه.

بيد أن تلك المرحلة من تاريخ العالم العربي ولت وانقضت، فعدا انتظار ما سيفعله الآخرون لم يعد للعرب أية مقاربة فعالة وواضحة للقضايا المهمة التي تؤثر على مستقبلهم المشترك، وحتى في المرات التي يلجؤون فيها إلى اجتراح سياسات معينة فهي غالباً ما تأتي مناقضة للتطلعات الشعبية، وقد كانت هذه الهوة بين الطبقة الحاكمة والرأي العام هي التي ساهمت في انهيار نظامي بن علي ومبارك.

ففي قضية العراق على سبيل المثال استسلمت أغلب الحكومات العربية للغزو الأميركي وقام البعض الآخر بالتغاضي عنه، ومنذ ذلك الحين فقد العالم العربي أي تأثير له في مجريات العراق، وتقاعس أيضاً في مساعدة الفلسطينيين على تحقيق تطلعاتهم.

قد رأينا مدى عجز القوى العربية الفاعلة، بعدما فقدت أي هدف عدا الحفاظ على استمرارها، وبالنسبة لمصر التي كانت الأهم والأكثر حضوراً جاء التراجع مدوياً، ليس فقط بسبب ما جرى في ميدان التحرير بل حتى قبل ذلك عندما تخلت مصر عن دورها القيادي في بعض الملفات العربية، حيث افتُقد دورها في العراق، وفي تنافسها مع سوريا لم تحقق أي تقدم لتخسر نفوذها القديم في لبنان، والأمر نفسه ينطبق على عملية السلام التي خسرتها مصر وفشلت حتى في توحيد الحركة الفلسطينية.

والخلاصة أن القيادة العربية أثبتت سلبية كبيرة وحتى في أوقات التحرك كانت النتيجة متواضعة، وفيما كان النظام العربي يدافع عن سلسلة من القضايا مثل الوحدة العربية والوقوف في وجه الغرب ومقاومة إسرائيل لم يعد الآن يحارب شيئاً وفقد بوصلته تماما.

ورغم حالة الاستقرار اليوم، أضاع العرب شعورهم بالفخر والاعتزاز اللذين كانوا يحسانهما حتى في أوج هزائم الماضي، وليس الفقر أو الاستبداد هو ما تعاني منه الدول العربية ويضعف قدراتها، بل تحولها إلى صورة باهتة بعيدة عن شعوبها التي ترى في سياساتها خططاً يتم إعدادها في الخارج.

لذا لا يمكن فهم سلوك التونسيين والمصريين والأردنيين وغيرهم دون الأخذ في الاعتبار الإحساس المقيم لديهم بأنهم حُرموا من أن يكونوا أنفسهم وانتُزعت منهم هويتهم.

وفي هذا الإطار يمكن فهم الانتفاضات الشعبية التي غذاها شعور متنامي بالقدرة الذاتية وانكسار حاجز الخوف بعدما رأت الشعوب المتاعب التي يعانيها الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان وعجز إسرائيل في القضاء على "حزب الله" و"حماس"، بحيث لم تعد الشعوب العربية تخاف الأنظمة أو تتهيب منها.

وبالنسبة للولايات المتحدة جاءت الانتفاضات الحالية لتطيح بفكرة خاطئة مفادها أنه يمكن الاعتماد على القادة وإهمال الشعوب، هؤلاء القادة الذين لم يكن يهمهم سوى ترديد ما يقوله الغرب على حساب مصداقيتهم.

وكلما أوغلت واشنطن في دعم نظام مبارك كانت تخسر مصر، وأمام هذا الفشل سعى صناع القرار في النظام العربي إلى التركيز على حل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل كوسيلة لتهدئة الشارع العربي دون أن ينتبهوا إلى أن الرأي العام فقد كل ثقته في عملية السلام وأن جميع المحاولات المبذولة لا تعكس سوى أجندة غربية.

ولا بد من التذكير هنا أنه في جميع تجارب الانتقال من نظام إلى آخر، كما تشهد بعض الدول العربية حالياً، فإن ما يبرز هو رغبة في تحقيق الذات وإعادة فرضها، بحيث يتعين على الحكومات الاستجابة إلى تلك الرغبات الشعبية التي تجد تعبيرها اليوم في تركيا أكثر مما تجدها في مصر.

وإذا كان العالم العربي عانى لعقود طويلة من استنزاف سيادته وحريته وشعوره بالفخر والأهم من ذلك استنزاف السياسة، فإننا اليوم نشهد عودة مرة أخرى إلى السياسة التي تنتقم لنفسها بعد تغييب قسري دام طويلاً.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة

«واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»

===============================

الجوانب الإيجابية للثورة المصرية

جاكسون ديهل

الشرق الاوسط

15-2-2011

تخيل مصر تعارض الغرب باستمرار في المحافل الدولية، بينما تشن حملات دؤوبة ضد إسرائيل وحكومة مصرية تغذي إعلامها بمعاداة السامية الحقيرة وتجمد العلاقات مع إسرائيل، وتجعل من رفض «التدخل» الأميركي في شؤونها الداخلية علنا عادة.. إنه نظام يسمح لحماس بإدخال أطنان من الذخيرة والصواريخ الإيرانية الصنع إلى قطاع غزة.

ستكون هذه حكومة حسني مبارك، وهي نفسها الحكومة التي دعمتها الولايات المتحدة بعشرات المليارات من الدولارات على حساب تشويه صورة أميركا بين الديمقراطيين وجيل الشباب المحبط في الشرق الأوسط. إذا كانت مصر على مشارف انتقال حقيقي للديمقراطية، فالسياسة الخارجية قد لا تتغير إلى الأفضل كثيرا من وجهة النظر الأميركية، لكن من المرجح أن لا تصبح أسوأ.

في الواقع تتجاهل التكهنات الكئيبة بشأن تولي الإسلاميين السلطة أو انتهاء النفوذ الأميركي، الجوانب الإيجابية المحتملة للثورة المصرية. سوف تحقق الولايات المتحدة من المكاسب ما يفوق الخسارة من انتشار الحرية في الشرق الأوسط مثلما حدث عندما تحولت آسيا وأميركا اللاتينية إلى النظام الديمقراطي. وفي النهاية قد تكون الفوائد عظيمة.

الفائدة الأولى ستكون كشف احتيال دام ثلاثين عاما على من قبل النظام المصري السابق. لقد كان ذلك يستند إلى فكرة أن المعونة الأميركية العسكرية غير المشروطة والتغاضي عن الاستبداد كانا ثمنا لا بد من دفعه لضمان تنفيذ مصر معاهدة السلام مع إسرائيل والحصول على «مساعدتها» في ما يتعلق بحماس و«دعمها» عملية السلام في الشرق الأوسط. الواقع أن مبارك حافظ على السلام البارد مع إسرائيل، التي زارها مرة واحدة خلال 29 عاما، لأن ذلك كان يصب في مصلحة مصر. ونظرا لعدم مطالبة مصر بأي أرض، لم يكن هناك أي دافع لدخول حرب ضد إسرائيل. كذلك قدرة الجيش المصري أقل من أن تجعله يواجه الجيش الإسرائيلي في القرن الواحد والعشرين. قد تكون حكومة مصرية ديمقراطية غير ودودة مع الدولة اليهودية، لكنها لن تلغي معاهدة السلام. وإذا سمحت لحماس بتهريب أسلحة إيرانية أو فتحت الحدود مع قطاع غزة، ستختلف قليلا عن مبارك. أما في ما يخص عملية السلام، فأي حكومة جديدة سوف ترث تركة من وعود قطعها مبارك لواشنطن لكن لم يتم الوفاء بها؛ لقد تعهدت مصر خلال السنوات الأخيرة بمنع حماس من الاستيلاء على قطاع غزة ومنه تهريب الأسلحة عبر الأنفاق والتوصل إلى مصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية وعقد اتفاق لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الذي تعتقله حماس، لكنها لم تحقق أيا من ذلك.

لذا؛ ستكون أولى ميزات مصر الديمقراطية حكومة تتحمل مسؤولية سياستها بدلا من تحميل الولايات المتحدة تلك المسؤولية وابتزاز واشنطن. كذلك سيتعين عليها الدفاع عن سياساتها أمام شعبها. فعلى سبيل المثال سيكون هذا دافعا للتحقق من فكرة معاداة السامية عوضا عن الترويج لها.

الميزة الثانية ستكون نهاية عهد كان الإعلام العربي والكثير من الشعوب يحملون فيه الإدارة الأميركية مسؤولية حدوث جانب كبير من أعمال التعذيب والرقابة وأشكال القمع الأخرى. لم تغذِ هذه الصلة التوجه المعادي لأميركا في المنطقة فقط، بل مثلت دافعا لإرهابيين مثل أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة.

لقد كان من المعتاد تلوث سمعة الولايات المتحدة بجرائم الأنظمة الديكتاتورية في البرازيل وكوريا الجنوبية وتركيا. والآن بعد أن أصبحت تلك الدول التي تحولت إلى دول ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، لا تزال علاقتها بالولايات المتحدة جيدة. قليلون هم من يحملون واشنطن المسؤولية عن سياسات تلك الدول، فأحيانا يكون من الصعب التعامل معها وأحيانا تصوت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على نحو غير صحيح، لكنها تؤمن بالقيم الأميركية وتحارب الإرهاب. من المرجح أن تسير مصر الديمقراطية على نهج تلك الدول لا نهج إيران أو فنزويلا غير الديمقراطي. يقودنا هذا إلى الخاسرين في عملية التحول في مصر، وهم: المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله علي خامنئي، وعملاء طهران في سورية ولبنان. سينهي التحول الذي تمر به مصر نموذج الحكم العربي الاستبدادي بعد أن ظل في مصر لمدة ستين عاما تقريبا. إلى متى سيصمد الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي على رأس نظام مبني على نموذج جمال عبد الناصر في عالم عربي ديمقراطي؟ وماذا سيكون رد فعل الإيرانيين، الذين فشلت ثورتهم عام 2009، على انتصار إرادة الشعب في القاهرة؟

يساور البعض في واشنطن قلق من أن مصر ستسير في طريق الثورات السابقة، وقد يحدث هذا. أحيانا يتم اختطاف الثورات، والارتداد إلى نظام الحكم السلطوي أمر وارد أيضا مثلما حدث لأوكرانيا بعد سبع سنوات من «الثورة البرتقالية». لكن تاريخ الشرق الأوسط والعالم يشير إلى أن المدّ سيكون في الاتجاه الآخر، وستُحدث مصر تحولا في المنطقة إن عاجلا أو آجلا، وستستفيد الولايات المتحدة من ذلك.

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ