ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الاستشراق الغربي وما
يحدث في سورية راهنا د.طيب تيزيني الاتحاد 2011-09-18 تتعاظم احداث سورية الراهنة شراسة
واضطرابا وخطورة عليها »اي سورية«,
وعلى منطقة الشرق الاوسط. فالنار في
اشتعال يهدد كل ما يطاله, ولا تكتشف
نقطة واحدة تقود الى امكانية اطفاء
الحريق. وليل نهار يعلن ان »السوريين فقدوا
عقولهم وشرفهم الانساني« ان مصدر ذلك
كله انما هو مؤامرة خارجية رهيبة تقف
على رأسها مجموعات مسلحة يصل عدد
افرادها الى اربعة وستين الفا. ومن ثم ,
فان هذا الذي يحدث في سورية - كما
يقولون- لا علاقة له بما تراكم فيها على
مدى اربعين عاما ونيّف من افساد وفساد
وافقار واستبداد ونهب للثروة واستئثار
بالسلطة والاعلام والمرجعية, وبذلك,
يزوّر »موضوع المسألة المركزية, في
سورية, حيث يغيب الحديث عما هيمن في
البلد من تلك المظاهر الخطيرة, ويغيب
معه التوقف امام ما راح شباب سورية
ينظرون فيه ويئنون تحته, ثم يحتجون
عليه, وثالثا يحاولون ان يقفوا في وجهه
عبر تظاهرات احتجاجية متصاعدة, ولكن
سلمية. لقد لخص شباب سورية »وشيبها معهم« ما
يكافحون من اجله, في الحرية والكرامة
والعدالة, ورفض النظام ذلك بان قام
بعملية التفاف على ذلك عبر خطوتين
اثنتين. تتمثل اولاهما في تغييب فكرة
التظاهر من اجل مطالب تُمتلك...... شرعية
قصوى, اما الخطوة الثانية فتتجسد في
تلفيق فكرة »المؤامرة الخارجية على
سورية.... هذه الفكرة التي عبرت عنها
ايران ومعها حزب الله اللبناني ب¯ »المؤامرة
الخارجية الامريكية, واعتقد المسؤولون
في الداخل ان التنكر لمطالب برزت
وتعاظمت على مدى اربعين عاما ونيّف
مشفوعاً بخطاب سوري ينفي ذلك قطعيا,
نقول, ان هذا الاعتقاد الذي ارتفع الى
مستوى خطاب سوري امني كلّي تحول الى
الرهان الاكبر على اسقاط شعلة
الانتفاضة القائمة, بحاملها الاجتماعي
والسياسي والثقافي المحتمل المتمثل
بفئات الشباب. وحين نتحدث عن هذه
الفئات, فانما لانها بوصفها امتدادات
شرعية للمجتمع السوري, بما يتضمنه من
الطبقات الاجتماعية والفئات المفقرة
والمذلة الكادحة. وقد انتج هذا الواقع
السوري وهما كبيرا يتمثل في ان ما يقوم
الشباب وغيرهم من اجله في سورية انما
هو حماقة لا مستقبل لها اولا, وفي ان
النظام الامني المهيمن هنا لديه
القدرة المؤكدة على تأبيد الحرائق اتي
يقوم بها على نحو يتحول المنتفضون
ومعهم الشعب الى عبيد طيّعين.. لقد راح ذلك الوضع المركب والمعقد يدفع
باتجاه العودة الى غلاة المستشرقين
والباحثين في اوروبا وغيرها, لاكتشاف
احد مصادر الوضع السوري المذكور بل
العربي والشرقي, والقائم على الاعتقاد
العنصري القائل - بلسان الكونت الفرنسي
جوزيف ارثر: آربينو »توفي عام 1882 «, ما
يلي »ان الشعوب الآرية وحدها من دون
غيرها هي التي خلفت كل ما له قيمة في
الحضارة وحافظت عليه« وهذا كما هو واضح
يُفضي الى القول بان الشعب العربي
والسوري منه - لم يمتلك في ما فعله في
التاريخ, اي انجاز حضاري تقدمي فهو من
ثم - كما سيقول لاحقا المستشرق
الامريكي اوباما - ظل خارج الانتاج
الحضاري, لان انتاج الحضارة يحتاج عقلا
منفتحا ومستنيرا بحد ما, كما يحتاج
رؤية مستقبلية بناءة واهتماما بالبناء
التاريخي في حقل جيو سياسي وثقافي
واقصتادي متقدم نسبيا. وفي هذه الحال, سوف بقول البعض ان ما يقوم
به في سورية الراهنة رجال معينون , من
قتل وذبح وغيره بحق مواطنين سوريين,
يُفصح عن ان الشعب السوري لا علاقة له
بالحضارة والتسامح والرؤية
المستقبلية البناءة والامر - فيما نرى-
يقوم على ان ما يحدث في سورية حدث مثله
في بلدان اخرى, بغض النظر عن قسوة
الموقف. وهذا بدوره يدعو للعودة الى
دراسة بواطن العنف في سورية في السلطة
وفي من يملك الثروة والبلد.. ================= يوسف الكويليت الرياض السعودية التاريخ: 18 سبتمبر 2011 ليس بدعاً أن يأتي بطريرك الموارنة في
لبنان مؤيداً ما يفعله الأسد بشعبه،
وتعليله الخاص بأن زوال الحكم يعني قتل
المسيحيين أو تهجيرهم، أسوة بما حدث من
فوضى في العراق، لكنه ينسى بأن في مصر
تجري تحريات دقيقة عن أسباب إحراق
الكنائس، لخلق فتنة بين المسلمين
والأقباط، كإجراء لمحاكمة النظام
السابق وتجاوزاته، والحكم بأن سوريا
ستكون نموذجاً للعراق لا تبنى على
قياسات دقيقة، إذ أن سوريا أقل مذهبية
من العراق، وربما وعي الأوساط الشعبية
وعدم تبعيتها لأي تنظيم أو قيادة، يمهد
لنشوء حكم أكثر عدلاً، لأن ما يشاع من
ضرب الأقليات الدينية أو العرقية
الأخرى، هو منطق النظام لتخويف تلك
الفئات وإعطاء مبرر القتل لأي معارضة،
حتى أن ما قيل عن قتل بعض العلويين
والمسيحيين، وغيرهم جزء من عمل منظم لا
يهدف للوحدة الوطنية بشرائحها
المختلفة، بل تبديدها وتقزيمها بما في
ذلك المسيحيون تحت نظام الحكم القائم.. البطريرك أخطأ بأن يكون لاعباً سياسياً
باسم الطائفة المسيحية، ومثل هذا
التصرف يضع إيران على نفس المستوى بدعم
حزب الله في لبنان، والذي يهدد النسيج
العام بمن فيهم المسحيون، ومع ذلك لم
يظهر البطريرك بما يتصل بشعبه ليلوم
تلك الفئة ويحذر منها! في سوريا خرج العديد من مشائخ السلطة،
مؤيدين ومدافعين عن النظام متناسين أن
من يقتل ويعذب ويختطف هم مسلمون
مسالمون رفضوا رفع السلاح، لكننا نجد
في التاريخ الكثير من هذه النماذج
عندما دعوا لرموز الاستعمار بطول
البقاء في خطب المساجد، وظلوا ضحكة
لشعوبهم، وهي سوابق تكررت مع معظم
الأديان، لكن أن يصبح الموقف الراهن
والدقيق تأييد سلطة جائرة ضد شعبها،
ومن رمز ديني مسيحي فقط لحماية أبناء
طائفته، وتجاهل الآخرين، يعد مجازفة
كبيرة، وربما تعلل أن تبعية هذه
الطائفة لفرنسا والتي تقف على خط مواز،
يؤكد أن البطريرك لم يقرأ المشاعر
بدقة، حتى أن من طائفته من شجب وناقض
أفكاره.. نعم هناك ركام كبير من الخلافات المذهبية
والقومية جاء مع سنين الحكومات
العسكرية والحزبية التي بنت ورسخت هذه
المفاهيم، لكننا لا ننسى في حرب لبنان
كيف تقاتل المسيحيون مع بعضهم وكذلك
الشيعة مع الشيعة، والسنّة وغيرهم مع
الفلسطينيين، ووقفت بعض قيادات
الأحزاب مع مذبحة صبرا وشاتيلا مؤيدة
ومع أن كل تلك الأسباب علقت برقبة فوضى
الحرب الأهلية، إلا أن مساندة حكم ظالم
لإنقاذ طائفة لم يجر حتى الآن من أعلن
عداوته لها، تأجيجاً لمشاعر مضادة
تتلقى التعذيب وتنسى أدوارها، وبدلاً
من الاحتماء بالشعب السوري الذي سيكون
العامل الحاسم في المستقبل، تنافق
الحكومة التي تعتبر سائرة في درب
العواطف.. المؤلم أنه من بين قيادات الطوائف أياً
كان انتماؤها يخرج البعض منها بخيانة
مبادئ الوطن لصالح الحكم، ونستغرب في
هذا الموقف دعوات حزب الله إنشاء دولة
شيعية تتبع الولي الفقيه في إيران، وهو
لا يختلف في العراق ممن يعمل على نفس
المنوال، لكن هذا الزيف سينكشف ويموت
على السرير، أو الموت وقوفاً.. ================= نساء الثورة السورية...
القريشيات الجدد رستم محمود المستقبل - الاحد 18 أيلول 2011 العدد 4118 - نوافذ - صفحة 10 "لكني أخجل من النساء القريشيات".
يتداول هذا المثل بشكل واسع في ثقافتنا
الشعبية وذلك حينما يصر المرء على
القيام بفعل ما، بالرغم من اقتناعه
بخطورته وآثاره السلبية عليه، مقابل
أن لا يقال عنه إنه تراجع وأنحى.
فالإصرار ينبع من موقف قيمي متعالٍ،
يصر على أولية المعاني والقيم،
بالنسبة للفاعل، على غيرها من
المفاهيم النفعية التي قد تدفعه
للتراجع. المنبع التاريخي للمثل، يعود لقصة متخيلة
في التراث الشعبي عن لقاء تم بين
الرسول وعنترة بن شداد، حيث أبدى
الرسول إعجابه بشجاعته وكرمه وشعره،
لكنه طلب منه أن يدخل في الإسلام، كي
تكتمل فضائله. وتذهب الحكاية إلى أن
عنترة فكر ملياً بالأمر، وفي النهاية
أبدى رفضه لدخول الإسلام. وحين استغرب
الرسول رفضه هذا، رد عنترة بن شداد: "لكني
أخجل من النساء القريشيات يوم
القيامة، أخشى أن يقلن إن عنترة كان
يخاف نار جهنم". هذه بعض القريشيات الجدد. نساء الداخلية اأسير بسرعة نحوهم حينما يحاولون جر
أحدهم، وأنادي بصوت خفيض بالنسبة
لصوتهم: "يا شباب يا شباب... إلخ"
أحس بألم بالغ في جانب كليتي اليسرى،
ألم أغرق ما بقي من العبارة في حنجرتي.
التفت لجهة الألم، حيث تبدو ساحة
المرجة وقتها وما يظهر من بناء وزارة
الداخلية، كلفحة كردية تقليدية تحيط
برأسي. يصلني من بعيد (مع أنه كان
قريباً جداً) صوت صديقنا مازن درويش:
"مو هيك مو هيك يا شباب..." يتركني
الذي أشبع كليتي تشنجاً من ضربة واحدة،
ويتجه صوب مازن. لا يصل إليه، فمن الخلف
كان ثمة من وضع العصا على عنق مازن وجره.
أضيع بينهما وبين ألمي الذي كاد أن
يأكلني. أعود قليلاً للخلف، قاصداً
زاوية كانت ما تزال مشمسة في ذلك
الصباح الآذاري. اتذكر كل الذين أحبهم من دون تقصد. في لحظة
الرعب تلك، استنشق نفساً طويلا، أغرق
رأسي بين قبضتي كفي، يصعد الألم من
الكلية قليلاً نحو الأعلى ويتوقف فجأة.
اسمع صراخ الطفل المرمي أرضاً، لقد كان
أبن صديقتنا صبا، لقد كانت الحضن الذي
يلمه وهو يصرخ في تلك اللحظات غير حضن
أبيه، حيث رأيتهما سوية منذ لحظات. كان
الحضن الذي يلف الطفل يبدو بأكثر من
جهة، فكلما حاولت يد من الأيدي العشرة
انتشال الطفل منها، صنعت الحاضنة من
روحها حضناً آخر لتلف الطفل به، لقد
رأيت بعيني كيف أن خمسة رجال لم
يستطيعوا أن ينتشلوا ذلك الطفل من حضن
سمر يزبك. في تلك اللحظات القصيرة، لا
أتذكر أني رأيت منها شعرها الذهبي (قررت
الروائية السورية سمر يزبك منذ عدة
أشهر، كعادة البدويات القديمات وقت
المصائب، أن لا تصبغ شعرها أو تتزين
إلى أن تزول هذه الغمة عن بلادها
وشعبها) فقد كان رأسها معكوفاً للأسفل
كي يحمي "أبن صبا" من أي أذية
ممكنة. كما أني لم ألمح عيني سمر
الخضراوين البتة، فكل حواسها كانت
منصبة على "رضيعها" ذاك. حين أصل بالقرب منها (أنهى المناضلون
معركتهم تلك قبل وصولي من دون أن
يظفروا بالصيد الثمين "الطفل")
وأحاول أن ألمس الطفل، تبعدني بحركة
غريزية تامة، وتعيد لفه بيديها. أبتسم
كي أهدأ من روعها، تزفر الهواء الباقي
في صدرها بقوة، ذلك الهواء الذي ربما
حبسته كي تدخله بصدر الطفل لو لزم
الأمر. كانت سمر في تلك اللحظات أماً
محضة، كانت نفسها التي رأيتها من قبل
تحدثني بألم وحنان وخوف عن صديقتها
وأبنتها الوحيدة ربى. سمر يزبك التي
كتبت "الصلصال" و"رائحة القرفة"
و"طفلة السماء" انقطعت أخبارها
عنا منذ ذلك اليوم الثاني من الانتفاضة
السورية، لكن لا يعرف كم طفلاً تريد ان
تحتضن سمر في هذه الأيام، وكيف لها أن
تحيا، من دون أن تستطيع ذلك! ألتفت في
تلك اللحظات، أرى الكثير من اللواتي
يشبهن سمر يزبك. كانت ساحة المرجة في
تلك اللحظات تعيد الاعتبار للنساء
السوريات، كانت الساحة تحيي سيرة سارة
مؤيد العظم، تلك المرأة التي يمكن إن
يقال عنها الكثير، فلولاها لما كان
للتحرر السياسي السوري من الاستعمار
الفرنسي من معنى، طالما أن سوريا لم
تتحرر من روحها القروسطية عبر محررات
اجتماعيات مثل سارة العظم في ذلك
الزمان. نساء الميدان بسبب قدومنا من الناحية الجنوبية، حالت
قوات حفظ النظام بيننا وبين باقي
الرفقة الذين أتوا من شمال المدينة، في
ذلك العصر الذي سمي بـ"موقعة مظاهرة
المثقفين". ما أن صرنا بالقرب منهم،
حتى رأيت مي سكاف تصرخ بطريقة بالغة،
أعقبتها مناوشة بين عدد منهم وبين
عناصر من حفظ النظام و"الشبيحة".
يروي أياد شربجي ما حدث في تلك اللحظات
بما يلي: "قدم الضباط وسألونا من
يمثّل المجموعة؟، تقدمت أنا ولحقني
جميع زملائي دعماً لي، وقلت لهم بلهجة
واضحة: "لا أحد يمثّل أحداً، كلّ
يمثل نفسه" بدأوا ينظرون إلينا نظرة
تحدٍّ. لم نأبه. طلب منا الضابط أن
نتفرّق ونذهب فوراً لأننا لا نملك
ترخيصاً بالمظاهرة، وقبل أن نجيب
اندفع أحد الشبيحة وكان يلبس بنطالاً
مموهاً وكنزة مطبوعة عليها خريطة
سورية تتوسطها صورة للرئيس وقال لنا
بلهجة متحدّية مستفزّة: "جايين
تخربوا البلد انت وياه" فأجبته: "جايين
نعبّر عن موقفنا"، فردّ مباشرة: "وليش
جايين قدام جامع الحسن لإنن كلهن
مجرمين؟ أنا انضربت هون الأسبوع
الماضي من الكلاب اللي طلعوا من الجامع"
فأجبته بكل بساطة: "يعني واضح حضرتك
ما بتصلّي فيك تقللي ليش إجيت عالجامع
الأسبوع الماضي؟" وعندما قلت ذلك
ارتعد وبدأ الشرر يتطاير من عينيه
وتأهّب للانقضاض. كل ذلك حدث وسط صمت
مريب ومباركة واضحة من الضباط، عندها
اندفع فادي زيدان وساشا أيوب ويم مشهدي
وقالوا للضباط،: "بصفتو شو عم يحكي
معنا هاد؟" فقال أحد الضباط للشبيح
مشيراً بيده بالرجوع فرجع للخلف وذهب،
لكن شبيحاً آخر تقدّم وهو يقول بلهجة
متحدّية لمي سكاف ومشيراً لها بإشارة
بذيئة جداً: "وقعتي على بيان الحليب
مهيكي بدك حليب أعطيكي....؟؟" فتعالى
صوته هو ومي سكاف التي صارت تصرخ فيه
"احترم حالك نحنا سوريين متلنا متلك"،
فيجيبها: "انتو سوريين يللي عمتحكوا
عن جيشنا البطل اللي عمينقتل من
هالعرصات". وبدأنا جميعاً نصرخ
مستنكرين، عندها تدخل أحد الضباط
وأشار إليه بالصمت فصمت.... إلخ. في تلك اللحظات عدنا إلى الخلف. كنا حوالي
مئتي شاب وشابة، حيث تم أخذ المتجمهرين
حول مي سكاف بطريقة عنيفة. تجمعنا في
أوتوستراد الميدان، وكانت تفصلنا
مسافة مئة متر عن قوات حفظ الأمن
والشبيحة. من تلك المسافة كنا نسمع
صراخ الذين يتم اعتقالهم. ما كان يزيدنا ألماً ورعباً، تلك النظرات
الصفراء التي كانت تلمع بعيون الأهالي
المراقبين للحدث من شرفات حي الميدان،
فبحركة عفوية كانت أغلب النسوة تضع
يديها على فها في علامة الصدمة، وبعدها
بثوان قليلة، كان الرجال يقعرون
جباههم بأيديهم. في تلك اللحظات
القاسية، تعالى صراخنا شيئاً فشيئاً:
"الله سوريا وحرية وبس... الله وحرية
وسوريا وبس.. إلخ". كنت قد بقيت
وحيداً في تلك اللحظات، بعدما افترقت
عن باقي الذين أتيت معهم للمكان. لمحت
من قريب صبية كانت تعض على طرف قماشة
حجابها، كان ثمة هلعاً بالغاً في
نظراتها، تمشي خطوة للخلف متراجعة، ثم
تعود ثانية للتجمهر بيننا. لا أعرف حتى
الآن، لم مسدت بيدي على رأسها من دون
خوف أو وجل، وهي التي كانت توحي
بمظهرها عن محافظة اجتماعية بالغة.
فجأة رأيتها ترفع يديها معنا، ثم خرج
نشيج ملفوف بالبكاء من حنجرتها، وبدأت
تهتف معنا... أثناء ذلك، كانت القوات
الأمنية تقترب منا لتفرقنا. يتقدمون
ببطء ونتراجع ببطء... يسرعون نسرع.. إلى
أن باتوا قريبين جداً منا. وقتها بدأنا
نعدوا من دون تمهل. أتعثر بين مراقبة
الطريق والفتاة التي كانت بالقرب مني،
فأرى المسافة التي باتت بيني وبين قوات
حفظ النظام لا تتجاوز الخمسين متراً.
أدخل إحدى العمارات التي على
الأوتوستراد، أعدو حتى الطابق الأخير،
بعدما سمعت صوت خطوات على نفس الدرج،
أقرع الجرس بقوة، يأتيني صوت من خلف
الباب "مين مين.." أرد :" خالة..
خالة.." تقترب أصوات الأقدام أكثر،
أنظر للأسفل فأرى شباباً مثلي يصعدون
للأعلى، تفتح المرأة الأربعينية
الباب، ندخل جميعاً دفعة واحدة. نجلس
جميعاً مقطوعي الأنفاس في ممر البيت،
تأتينا المرأة بالماء وهي تخاطب نفسها:
"الله يحفظكون الله يحمكيون..."
وتجلس بصمت بالقرب منا. لم يكن من مجال
لأي كلام، في ذلك الصمت. تخرج من إحدى
الغرف فتاة شبه منقبة، وهي تحمل بيدها
قماشة سوداء، تخاطب أمها: "ملايتك
يامو" (حجابك). تنظر الأم لأبنتها،
وتحمل القماشة في يدها بهدوء، وتضعها
جانباً من دون أن تلبسها!! نبقى لدقائق
في حالة الصمت تلك قبل أن نخرج، وتبقى
المرأة تدندن "الله يحفظكون الله
يحميكون". ما الذي يجمع بين مي سكاف والصبية والمرأة
وهذه البلاد؟ مي سكاف تركت التمثيل لاعتبارها أن الوسط
الفني السوري مخجلاً ومنافقاً وغير
جدير بالانتماء، وكونت معهداً فنياً،
تخرج منهم العشرات من الفنانين
الملتزمين (ملتزمين بالناس مش
بالايديولوجيا) . المرأة المحافظة التي
لم تر غضاضة من الحضور سافرة بحضور
مجموعة من الشباب الذين لا تعرفهم. ما
الذي يجمع بينهم سوى روح هذه البلاد
ومعناها المنتظر ؟! نساء النباريش منذ الأيام الأولى، ذات ظهيرة في أيام
الجمع، نتجمهر أمام جامع قاسماو وسط
مدينة القامشلي. بالعادة يبلغ أعداد
المتجمهرين خارج الجامع أضعاف الذين
يدخلون لأداء الصلاة. نبدأ بالمسير
بعيد انتهاء المصلين، نمشي مسافة
كيلومتر واحد تقريباً نحو الجهة
الغربية من المدينة، على امتداد
الشارع المسمى عرفاً "طريق عامودا"،
وهو شارع "هاشم الأتاسي" بالأساس. منذ بداية أيار، باتت شمس الظهيرة بالغة
القسوة على المتظاهرين، خصوصاً وأن
الحرارة تتجاوز الخمسين في تلك الفترة
من الظهيرة، كما أنها تكون مصوبة للوجه
مباشرة في وجهة المسير. ما يزيد من
حرارة الجو في ذلك الحين، هو حجم
التفاعل الجسدي النفسي مع جموع
المتظاهرين، حيث طوال المسير البطيء
في تلك المسافة، والتي تمتد لمدة ثلاث
ساعات تقريباً، لا يتوقف المتظاهرون
عن رفع الأيدي والأجساد والحناجر،
واستمرت الوتيرة كذلك حتى في شهر
رمضان، حيث كان يغمى على الكثير منهم
أثناء تلك المسافة. طوال تلك المسافة ولساعات طويلة، وعلى
طرفي الطريق بين جامع قاسماو ودوار حي
الهلالية، تطل فتيات من نوافذ البيوت
وهن يحملن نباريش مياه لإنعاش
المتظاهرين. وغير الماء، فإن نساء
النباريش لا يتورعن عن مشاركة
المتظاهرين بالهتاف ورفع الأيدي،
وتوزيع الابتسامات ورد التحيات التي
تأتيهن من المتجمهرين، وعلامات التبرج
والأناقة تبدو واضحة عليهن بالعموم. في
بعض النوافذ تتواجد أكثر من واحدة
منهن، ويلاحظ أنهن يتزاحمن على حمل
نبريش الماء من أيدي بعضهن البعض. لكن
الأجمل في تلك اللحظات، أن نساء
النبريش يستقصدن رش الماء للأعلى، كي
يتفكك الماء ويرجع هادئاً وبطيئاً
وغير حاد على أجساد المتظاهرين!! ننتظر يوماً قريباً تقوم به السلطات
البلدية في بلادنا برش المتظاهرين
بالماء البرد والسلام، فقد تعبت نساء
النبريش، وتعبنا. ================= الثورة السورية وخطر "الوضع
الطبيعي" ياسين الحاج صالح المستقبل - الاحد 18 أيلول 2011 العدد 4118 - نوافذ - صفحة 10 في مطلع شهرها السابع، ينحو قياد الثورة
السورية لأن يقع في يد "الطبيعة".
وقد يكون هذا الملمح عنوان مرحلة ثانية
في الثورة، لا يبعد أن نراها يوما بدأت
في شهر رمضان، وإن كان يتعذر تقدير
مساراتها ومآلاتها الآن. المقصود بالطبيعة في هذا السياق ما
يتعارض مع التدبر والحساب، ومع "الثقافة"
و"السياسة"، وما يحركه الدفاع
الحيوي عن النفس والاستماتة وغريزة
البقاء، أكثر من التقدير المتروي الذي
يستدخل حتما اعتبارات مجردة تحيل إلى
النطاق الوطني العام، وإلى المصلحة
العامة، وأكثر أيضا إلى مطالب
الديمقراطية. "الوضع الطبيعي"
الذي قد تنزلق إليه الثورة السورية
يجمع بين التفتت (تعدد البيئات) ورد
الفعل المباشر، والغريزية، سمة مجتمع
يفقد السيطرة على نفسه أو التصرف بصورة
موحدة. ليس الوضع الطبيعي واقعا محققا
لكنه ميل عام، يحيل إلى ضرب من سياسة
كفاف، مدارها هو البقاء والاحتماء.
وبقدر ما يستحكم منطق الكفاف والبقاء،
ستبدو المقتضيات الأكثر تجريدا
للديمقراطية والوطنية كماليات
وإفراطا في التطلب. وبينما كانت الثورة
تتعرف في البداية بأهدافها العامة،
فإنها تكاد تتعرف اليوم أكثر بالعملية
الصراعية المستميتة التي تخوضها في
مواجهة نظام متوحش. [1 هذا يظهر بصيغ مختلفة أولها نزوع بازغ إلى الدفاع المباشر عن
النفس ومواجهة السلاح بالسلاح، مرشح
لأن يشكل بعدا من أبعاد المشهد السوري
المتحول، وإن لا يزال بعيدا عن أن يطغى
على أداة الثورة الرئيسية حتى اليوم،
المظاهرة السلمية. وإن لا يزال كذلك
محليا ومتناثرا وغير عام. لكن يظهر في
أوساط المرتبطين بالثورة ضيق متزايد
من التأكيد على السلمية، وما يتجاوز
تسويغ المواجهة المسلحة أحيانا إلى
الترحيب بها. وثاني صيغ "الوضع الطبيعي" هي درجة
أكبر من تديين الاحتجاجات. الدين أقرب
إلى الطبيعة في كل المجتمعات، ويكاد
يكون "طبيعة ثانية" في مجتمعاتنا،
وحضوره أقوى في أوقات الأزمات الكبرى،
حيث تنزع الجماعات إلى تعريف نفسها
بعقائدها. كانت الثورة في بدايتها أكثر
دنيوية ومدنية واستيعابية، وحرص
المتظاهرون، ودون تأثير مباشر يذكر
للمعارضة التقليدية، على نفي أي طابع
ديني أو مذهبي عنها في شعاراتهم
المعلنة بالذات (لا سلفية ولا إخوان/
ثورتنا ثورة حرية! ثورة سلمية لا سلفية!
لا سلفية ولا إرهاب/ ثورتنا ثورة شباب!
مع تحيات للأطياف الدينية والمذهبية
والإثنية المكونة للمجتمع السوري). بعد
حين، شهرين تقريبا، ومع اشتداد القمع
وازدياد عدد الشهداء، دخل التكبير
وهتاف عالجنة رايحين/ شهداء بالملايين!
وسار الأمر تدريجيا باتجاه هتاف هو في
الوقت نفسه نداء استغاثة: يا ألله/ ما
إلنا غيرك يا ألله! المسار العام لهذا
التطور اتسم بشعور محتد بالافتقار إلى
الحماية والسند في مواجهة تنكيل
النظام. الطابع العام للانتفاضة ظل
مدنيا وتحرريا وإنسانيا، وبقيت
قاعدتها الاجتماعية عابرة للطوائف
مبدئيا، وتحظى بدعم يبلغ حدود التماهي
التام من منحدرين من مختلف الأطياف
السورية، لكن وجهها العام أخذ يستعير
مفرداته ولغته أكثر من اللغة الدينية
الإسلامية. في المقام الثالث، وبعد موجة الاستئصال
الشامل التي زامنت شهر رمضان، حيث كان
التظاهر يوميا والقتل يوميا أيضا (لم
يمر يوم واحد في رمضان، وأيام العيد
الثلاثة، وكل ما تلا دون وقوع شهداء)،
بدأت ترتفع أصوات تطلب "الحماية
الدولية"، وصولا إلى تسمية يوم
الجمعة 9/9 بجمعة الحماية الدولية.
ويختلف تصور الحماية الدولية ما بين
مراقبين دوليين ومنظمات حقوقية ووسائل
إعلام مستقلة يراقبون الوضع السوري
وممارسات النظام، وما بين توقع حظر
طيران ومناطق آمنة، وصولا إلى التدخل
العسكري الدولي. والواقع أن اختيار
الحماية الدولية اسما ليوم جمعة هو
بمثابة إحلال ما هو مجادل فيه سياسيا
في موقع ما يفترض أن يكون رمزا يحظى
بالإجماع، وهذا مؤشر بين مؤشرات
تتكاثر على بعض سمات الوضع الطبيعي:
تفتت في القرار، منطق رد الفعل، كفاف
في التفكير والتقدير. لكن ينبغي القول
إن منطق السيادة الوطنية الذي تصدمه
هذه التسمية هو منطق كمالي في الوضع
الطبيعي الذي يضغط على قطاعات أوسع من
المجتمع السوري. والملحوظ، رابعا، ميل متزايد إلى الإعلاء
من شأن الأنشطة الميدانية للانتفاضة
على حساب أية أنشطة أخرى، والتشكك في
هذه الأنشطة الأخرى، السياسية
والثقافية بخاصة، والانفعال المتزايد
في الكتابة والكلام. نتصرف أكثر وأكثر
بانفعال وغضب، أقل وأقل بروية وتأن.
ويحتد باطراد مقتنا للنظام والقطيعة
النفسية معه ومع رجاله. في بدايات
الانتفاضة لم يكد يسمع شعار: الشعب
يريد إسقاط النظام! بعد حين صار هو
الشعار المركزي. اليوم الشعار الأبرز:
الشعب يريد إعدام الرئيس! ومعه كثير من
الهتافات التي "تشخصن" ما تثور
ضده الانتفاضة في فرد وأسرة. الكره
ينجذب إلى الأشخاص، ويشخصن. التفكير
بالأوضاع والعلاقات والعمليات كمالي. هذه التحولات تسير نحو التصادم مع ضمير
الانتفاضة السورية أو "نفسها
اللوامة"، هذه التي تبلورت في وقت
مبكر من تفجر الانتفاضة في صيغة لاءات
ثلاثة: لا للعنف، لا للطائفية، لا
للتدخل العسكري الدولي. مع نعم كبرى
مضمرة لتحول ديموقراطي استيعابي، قائم
على المواطنة، يضمن الحرية والمساواة
والكرامة لعموم السوريين، ويفتح أبواب
الصراع السياسي السلمي بينهم. [2 قبل النظر في ما قد يترتب على هذا التحول
الطبيعي للانتفاضة السورية، يلزم أن
ننظر في أسبابه وأصوله. في أصل أصول هذه
"السياسة الطبيعية" التنكيل
المهول الذي يوقعه النظام بشعبه
المنكود. مفردات هذا العدوان معروفة
عالميا بفضل التغطية الذاتية
للانتفاضة. منها، على كل حال، قلع
الأظافر وسلخ الجلد وكهربة الأعضاء
التناسلية، وقطعها بأدوات حادة أو
بالليزر، واقتلاع العيون، وقطع
الحناجر، فضلا عن أشكال التعذيب
التقليدية (الفلقة والكهرباء والشبح
والتعليق والحرمان من النوم...)، فضلا
أيضا عن تعرية السجناء والإهانات
الشخصية والجمعية. ومنها أيضا إهانة
النساء والأطفال. ومنها بالتأكيد فوق
الأرقام المعلنة التي تتكلم على ثلاثة
آلاف شهيد، وأضعاف هذا الرقم من
الجرحى، وعشرات ألوف المعتقلين. هذا
فوق نهب المنازل والأملاك الخاصة،
وتدمير كثير مما لا مجال لنهبه، وفوق
إذلال متعمد واسع النطاق، رأى جميع
الناس أمثلة متكررة عنه تدل على مبدأ
ونهج. فضلا أيضا عن تطييف متعدد
الأشكال لمواجهة الانتفاضة، بلغ شكله
الأقصى في قصف مآذن والاعتداء على
مساجد، وتأليه بشار وأخيه، ومحاولة
إثارة فتن طائفية في اللاذقية وجبلة
وحمص وغيرها. وإلى هذا كله يجري باطراد
تحويل القمع إلى بزنس: اعتقالات
عشوائية كي تضطر أسر المعتقلين إلى
افتدائهم بمبالغ من المال، تصل إلى
مئات ألوف الليرات (سبق أن ازدهر هذا
البزنس، بالمناسبة، في ثمانينات القرن
العشرين، وتكونت منه ثروات لضباط في
المخابرات ورؤساء سجون...). وهذا كله مشحون بكثير من الكراهية
والحقد، وبخلو كامل من التجريد أو
العمومية أو الانضباط بقواعد ثابتة
مطردة. القامع يتصرّف بكل شخصه وكيانه
وروابطه، وليس كموظف عمومي ينضبط عمله
بقواعد قارة، وهو يعامل المقموع كشخص
كامل التعيينات، يحضر أصله وفصله
ومدينته ودينه، فضلا عن أبيه وأمه
وإخوته وذوي قرباه. "عمل التجريد
السياسي" (أحمد بيضون)، الذي لا
يستبقي من تعيينات المتعامل مع جهة
حكومية غير كونه مواطنا، هذا العمل
الغائب في الأوقات العادية يمعن في
الغياب اليوم. ولعله، عبر ارتباطه
بالطائفية، في جذر انشقاقات متواتر في
الجيش. ومحصلة كل ذلك، وخلال ستة أشهر، تكفي
وتزيد للقول إن النظام يمارس حرب إبادة
سياسية ورمزية على السوريين
المنتفضين، ويعمل جاهدا على الإبادة
الفيزيائية للمشاركين فيها أو تحطيمهم
بالكامل. وهذه، بعدُ، تجارب حية لمئات الألوف فعلا.
ليست شيئا سمعوا به أو قرؤوا عنه. لقد
خبروه مباشرة وطوال شهور، وما يزالون. الشرط السوري اليوم هو شرط استماتة في
مواجهة قوة مميتة، ونفس المستميت ترتد
إلى "القوة الغضبية". وفي مواجهة هذا العدوان الاستعماري، يشعر
مئات ألوف السوريين أنهم بلا سند، تنكل
بهم قوة عمياء متعصبة، لا ينضبط سلوكها
بمبدأ إنساني أو وطني أو قانوني. فإلى
متى يحكّمون الضمير في سياستهم بدل
الغريزة، وأعلى مبادئ هذه هو حفظ
الحياة وحماية النفس؟ وإذا كان النظام
وكالة عنف لا حدود له، فهل يمكن
الاستمرار في الكلام على السلمية إلى
ما لا نهاية؟ وإذا قتل النظام ابنك
ونهب بيتك وأهان أسرتك، فمن يلومك إن
حملت السلاح ضده؟ وحين تكون منكشفا،
غير آمن على نفسك وأحبابك، وفاقدا
للسند والحماية، فكيف لا يكون الله هو
سندك؟ وهو سند من لا سند لهم؟ وأمام
طغمة لا تؤمن بغير القوة، ولم تتوقف عن
القتل طوال نصف عام، هل تثابر على رفض
الحماية ممن هو أقوى منها؟ ما المشترك بين التسلح والتديين وطلب
الحماية الدولية؟ نازع الاحتماء:
الاحتماء الذاتي أو الدفاع الذاتي
مرة، والاحتماء بالقدير الجبار مرة،
والاحتماء بالأقوى مرة. ... ومن الأصول الفرعية لهذا التحول ضعف
تأثير المعارضة التقليدية وضعف
كيانها، والطابع الشعبي والمحلي فعلا
للانتفاضة السورية. وكذلك تعذر
التلاقي بين الفاعلية الميدانية
المباشرة للثورة في بؤرها الكثيرة
وبين السياسيين والمثقفين الذين قد
ينضبط تفكيرهم وسلوكهم بمبادئ عامة
أكثر تجريدا واستقلالا عن الظرفي
والمحسوس والمباشر والانفعالي،
والذين يحولون التجارب إلى خبرات
وأفكار وبرامج. وأكثر من ذلك تعرض القادة الشباب الأكثر
نضجا والأوسع أفقا للاعتقال، وقتل
بعضهم تحت التعذيب، واغتيل بعضهم، وهو
ما أخلى المجال لمن هم أضيق أفقا وأكثر
محلية وعضلية. وأقرب إلى الطبيعة. [3 ليس بلوغ الوضع الطبيعي محتوما، لكن إذا
بلغناه فستحكمنا حتمية خلدونية، تؤول
بالبلد إلى الخراب العام. الفاعل
الأساسي المسؤول عن هذا التطور هو
النظام، ولا يبدو أنه يمكن توقع أي
تغيير في سياسته. وهذه سياسة طبيعية
إلى أقصى حد، تسير بمقتضى الغرض
والشهوة، وتعتمد العنف والعصبية،
وتنخرط في شبكة روابط إقليمية ودولية
تجني منها عائدات أمنية وسياسية،
بينما تترك محكوميها منكشفين تماما،
لا أمن لهم، ولا يسيطرون على شيء من
مصيرهم. لا يمكن لوم المحكومين المبتَلين مهما
فعلوا. ليس هناك مفهوم للعدالة يستند
إليه للومهم. المهددون في حياتهم لا
يتوقع منهم أن يبقوا جميعا مسالمين
ودعاة سلم. ومن لا سند له لا وجه
لانتظار أن يفكر بمنطق علماني، هو
كمالي من وجهة نظر منطق الاستماتة
ودواعي البقاء. والضعيف المبتلى بعدو
قوي معدوم الضمير لن يصمد على مبادئ
سياسية خاصة بالدولة الوطنية
المستقلة، حين لا أثر آخر لهذه الدولة
الوطنية المستقلة في جوانب حياته،
وموته، الأخرى. لكن من شأن سير الأمور بمنطق العنف المادي
والنفسي، والبحث عن سند خارجي (متعال
أو..."دولي")، أن يدفعها في اتجاهات
يتعذر على أي كان أن يتحكم بها أو يسيطر
عليها. المسألة ليست اللوم ولا
العدالة، بل محاولة تجنب الشرور
العظيمة. لدينا إذا الوضع المركب التالي: نظام
طغموي يقتل محكوميه ويَكرَههم
ويُخوِّنهم ويرفع نفسه فوقهم درجات،
رغم أنه جامع لأصول الوضاعة كلها.
وجمهور متنوع أخذ ينهج في الدفاع عن
نفسه منهج المستميت الذي يوجّه تصرفه
رد غائلة الموت عن حياته، وليكن ما
يكون. القوي المهاجم بلا ضمير، والضعيف
المدافع لن يقبل بضوابط كمالية تنال من
قدرته على حماية نفسه. الضمير كمالي.
الثقافة أيضا. والسياسة كذلك. هذا وضع قدري. والخراب مآله. [4 لا تزال التطورات الموصوفة في بداياتها،
والمؤشرات عليها ليست حاسمة حتى اليوم.
طوال نصف عام ظهر المجتمع السوري في
صورة فاجأت بإيجابيتها ليس من لا
يحترمونه وحدهم، وإنما بعض من
يحترمونه احتراما مبدئيا كذلك. وليس
ثمة ما يمنع توقع مفاجآت أخرى طيبة في
ثورة لم يتوقعها، ولم يتوقع
استمرارها، أحد. لكن هذا شيء لا يركن إليه في مجتمع تتعرض
قطاعات واسعة منه للإبادة السياسية
والرمزية، ويدفع بوحشية لا تكل إلى
الوضع الطبيعي. وهنا يمكن لما يفعله
المعارضون السياسيون ونشطاء
الانتفاضة أن يحدث فرقا. من المهم قيام إطار سياسي يحظى بقدر معقول
من الإجماع والثقة، ويتولى القيام
بمبادرات سياسية، ويحاول التأثير على
سير الانتفاضة باتجاهات تتوافق مع "الضمير"
المشار إليه أعلاه. تعذَّر تشكل هذا
الإطار خلال شهور، ولعله سيتعذر قيام
إطار جامع، لكن كلما تشكلت مظلة أوسع
تمثيلا حازت قدرا أكبر من الشرعية،
وقدرة على القيادة والمبادرة. وهذا ما سيمكنها من احتكار أوسع للعلاقات
مع القوى الخارجية بدل التناثر الحالي.
ويمكنها أيضا من تقديم مبادرات سياسية
تحاصر النظام، فتسهم في إحكام عزلته
وفي المزيد من تجريمه محليا وعالميا،
أو في فرض تفاوض من مواقع أقوى عليه. ومن شأن ذلك أن يطلق مسارا صاعدا من
اكتساب الشرعية، ومن التأثير الأقوى
على سير الانتفاضة باتجاه التوافق مع
مصلحتها العامة والحد من الانزلاق إلى
"الوضع الطبيعي"، وربما عكس
المسار باتجاه السياسة والثقافة،
والخير العام. ولعله لن يكون من الصعب الشروع في بلورة
تصورات أكثر تفصيلا عن سورية
المستقبل، وصوغ برنامج للتحول
الديمقراطي إثر السقوط المأمول للنظام.
المشكلة الأكبر التي سيواجهها جهد كهذا
هو تفرق الطيف السوري المعارض
وانقساماته المتنوعة، السياسية
والإيديولوجية. وهذه بدورها تحيل إلى
انقسامات اجتماعية، يتقاطع فيها
الطبقي بالطائفي بالجهوي بالثقافي (بالمعنى
الاكتسابي للكلمة). لقد حكم النظام
سورية، وأطال، عبر صنع الانقسامات
ورعاية أزمة ثقة دائمة بين الأطراف،
فإن تعذر تجاوز الانقسامات، منح ذلك
النظام رخصة حكم غير مستحقة وغير
عادلة، ضربا من شرعية تحصيلية ناتجة عن
غياب "البديل". [ 5 ماذا إن لم يحصل ذلك، واستمرت آلة القتل
النظامية تحصد أرواح السوريين بالمعدل
الحالي، أو تتفوق على نفسها فتتوسع في
القتل؟ ندخل حتما في وضع طبيعي، تحركه الحتمية.
نعرف نظائر له في العراق وفي وقت سابق،
في لبنان. الوضع الطبيعي هو الحرب
الأهلية، الطائفية، التي يجر القتل
فيها القتل، والعصبية العصبية،
والحماية الحماية. شيء قريب من حالة
الطبيعة التي هي حرب الجميع ضد الجميع
في مذهب توماس هوبس. حالة الطبيعة ليست
حالة طبيعية. إنها احتمال تاريخي. ومن أخص خصائص هذا الوضع أنه لا يمكن فعل
شيء حياله ما دام الفاعل الأساسي يتصرف
بمنطق الغريزة، أي الشوكة والهوى
والعصبية. والجنون. وما دام يتعثر، وقد يتعذر، تشكل فاعل
منظَّم مضاد. الأصل في المحنة السورية المتمادية أن
الشيء الذي نسميه "النظام" غير
عاقل وبالغ العدوانية. وأنه ربما يدفع
خصومه إلى التصرف كغير عاقلين. لا مكان للسياسة والتدبر في أوضاع
خلدونية كهذه. وغاية ما قد يستطيعه
الفرد العاقل هو كشف الحتميات التي
تقودنا. إنه يقصى إلى وضع مراقب، لا
تأثير له على الأحداث وسيرها. الانتفاضة السورية بدأت جهدا لتعقيل
النظام. أن تكون له ضوابط: لا يجوز أن
يعتقل النظام أطفالا ويعذبهم ويقتلع
أظافرهم, وليس لجلاوزته أن يبيحوا
لأنفسهم التعدي على حرمة المحكومين،
لا لشيء إلا لأنهم متمتعون بحصانة
كاملة، أي بإعفاء تام من المسؤولية
السياسية والقانونية والأخلاقية.
الثورة السورية (والثورات العربية) هي
ثورات ضد الإفراط وتجاوز الحد قبل كل
شيء. أي ضد اللاعقل واللاحد
واللاقانون، واللاضمير. وستكون الثورة حققت أهدافها إن وضعت
حدودا على الحاكمين وفرضت ضوابط
وحرمات. ضميرا. لا حكم أبديا، لا سلطة
مطلقة، لا لشرعة الهوى، لا للملك
الطبيعي. إذ لا سياسة في الأبد والمطلق
والهوية والطبيعة. السياسة ممكنة حين
ثمة ضوابط وحدود، أي حيث تكون جرت
تربية "الحاكم" وتهذيبه، رفعه فوق
مستوى البهيمية والغريزة والطبيعة. ================= حلمي الأسمر الدستور 18-9-2011 ما تبثه القنوات الفضائية والصور
المتسربة من وراء جدران القهر والقتل
والإرهاب في سوريا من وسائل تنكيل
بالشعب السوري لا يشكل 5% من فظائع
النظام و قوى الأمن، هذا ما يؤكده شاهد
العيان الهارب من الجحيم السوري، الذي
بلغ حدا من الوحشية لم يعد ينفع معه
سكوت، الساكتون هم متواطئون ومشاركون
في الجريمة! هناك مقابر جماعية يتم صب الاسمنت عليها
لإخفاء معالمها و طرق تعذيب لا تخطر
ببال أحد ومنها إذابة أجساد المعتقلين
بالأسيد و طحنها في ماكنات! قوى الأمن السوري تمنع أهالي المتوفين من
فتح بيوت عزاء وتكتب عليهم تعهدات
بذلك، حظر التجوال في مناطق بسوريا يتم دون
الإعلان عنه و يتم قتل أي شخص يخرج من
منزله في هذا الوقت دون إنذار! الجيش السوري يشعل فتيل الفتنة بين الشعب
والرئيس ببثه مقاطع فيديو تثير
الاشمئزاز والحمية والغضب لتعذيب
معتقلين و الهدف كما يؤكد شاهد العيان
تحريك الفئة الصامتة ضد النظام! بعد أن صرح الأسد بالعفو عن المتظاهرين في
أول أيام الثورة قام الكثيرون بتسليم
أنفسهم ومن قامت قوى الأمن باعتقالهم
لاحقا وما يزال مصيرهم مجهولا حتى
الساعة! أعداد المعتقلين و المفقودين و الشهداء
أكبر بكثير من المعلن، وهناك آلاف
مؤلفة من المفقودين، وحظهم في العودة
نحو واحد في المائة أو صفر! ترد الوضع الصحي لأصحاب الأمراض المزمنة
على نحو مأساوي، نتيجة عدم تمكنهم من
الوصول للمشافي بعدما قامت قوى الأمن
بقتل المرضى و المصابين داخل المشافي
والإجهاز على العديد من الأطباء الذين
يرفضون الانصياع لأوامر الجيش! حينما تداهم قوى الأمن المنازل تقوم
بإتلاف كل محتوياتها و تعمد لإتلاف
الأطعمة بسكب الزيت على الفراش وسكب
الكاز على الخبز الجاف وإتلاف كل ما من
شأنه كفاية الأسر! قطع الطريق عبر نقاط تفتيش بين المدن
السورية لمنع المتظاهرين من التجمع
والاعتقالات على نقط التفتيش تتم
بالكشف عن هويات المارين أو من يرفض
الامتثال للأوامر! أحاديث يتداولها الشعب السوري حول جثث
المفقودين في مجزرة حماة عام 1982 مفادها
دفن تلك الجثث و بناء فندق عليها! ثمة أناس مجهولون يعطون الاولاد عشرين
ليرة سورية (15 قرشا اردنيا) لكتابة
عبارات معينة ضد النظام، وبعد الكتابة
يقومون بقتل الطفل فورا، شاهد العيان
يقول أنه رأى بأم عينيه الأمن كيف أعدم
ولدا برصاصة في الرأس! تحدث الناس كثيرا عن حمزة الخطيب وما حدث
له، لكنهم لم يتحدثوا عن زملائه في باص
المدرسة الذي قتل الأمن كل من فيه،
ونجت طفلة واحد فقط، ربما لتروي ما
جرى، حيث اختبأت تحت أحد الكراسي..!! الأمن يوزع صور الاعدامات الميدانية،
تخويفا للناس وإرهابا لهم! هذا غيض من فيض ما رواه شاهد العيان،
والكلام كثير ولا يكاد يصدق، فالرعب
ألجم ألسنة البعض، واطلق قدرات
الكثيرين، فلم يعودوا يخافون، لأنهم
يواجهون الموت سواء صمتوا أم صرخوا،
ولهذا يؤثر الكثيرون ان يموتوا وهم في
الميدان رافعي رؤوسهم! سوريا وصلت حافة الهاوية، والنظام يتداعى
ولا امل له بالعودة إلى سابق عهده،
وثمة من يراهن على انتصاره على شعبه
وأنى له ذلك! الصمت على جرائم النظام جريمة، فلا
تشاركوا فيها! ================= علاء الدين أبو زينة الغد الاردنية نشر : 17/09/2011 "رجل الأمن" السوري في السروال
الرياضي واللباس الداخلي "الشبّاح"،
ينهال بكل أطرافه ضرباً على المُعتقل
المقيد بالحبال. وإلى جانبِه، يدوس آخر
بلباس عسكري رأس فتى صغير مكبَّل
اليدين هو الآخر. وفي عاصمة عربية
أخرى، يطلقون الرصاص والغاز على
متظاهرين سلميين. وفي ثالثة، يضرب شرطي
مواطناً بآلة للشواء. وفي كل هذه
الأمكنة، يوصف المواطنون المضروبون
بوصف واحد: "قوى خارجية". وهكذا، إذا كنتَ مُتظاهراً ناشطاً، أو
تفكّر بأن تلتحق بالمتظاهرين، أو
تتعاطف معهم أو تفكر بأنك غير متصالح
مع النظام الذي يَحكُمك، فإنك "قوى
خارجية"، بالفعل أو بالإمكان. أمّا
"القوى الداخلية" الوحيدة،
فالأنظمة وقوّاتها، وشبيحتها،
وبلطجيتها، والفَرحون باستمرار
عبوديّتهم للسادة المحليين المُباح
لهم وحدهم أن
يعملوا، تحت الشَّمس، لقوى خارجية. وفي الحقيقة، يعمَلُ مُعظم المواطنين
العرب لقوى خارجية: فعَوالمُهم
الشّخصية مُصادَرة؛ وإرادتهم مرهونة
بالكامل لمشيئة قوى من خارجهم، بحيثُ
يتحركون كالدُّمى، ويُسالِمون
ويُحاربون بالإنابة. وأحياناً،
يصيبُهم مسٌّ بمرض الشكّ في الأفكار
والأنظمة والبِنى التي تربّوا عليها
منذ الصغر، فيقرأون أفكاراً ويتأملون
أنظمة وبنى خارجيّة، وقد يقتنعون
بوجاهتها فيعتنقونها. وعندئذ، يكون قد
تلبَّسهم شيطان الغُربة، ويصبحون "خارجيين"
وخارجين على الأعراف، ومُعادين
للاستقرار والنظام المستقرّ منذ الأزل. والعدالة الاجتماعية؛ الديمقراطية؛
تكافؤ الفرص؛ الانتخابات؛ وكل هذه
المفاهيم والمصطلحات، هي أشياء "خارجية"
قطعاً. والدليل، أنّ أيّاً من هذه
المفردات لَم يرد في الشعر الجاهلي،
ولا حتّى في السّير الشعبية التي تعبّر
عن المزاج العربي العام. أمّا المألوف
في الثقافة، فبلوغ قمّة الشُّهرة
والشّاعرية بمدح الخليفة، أو التغنّي
بالقبيلة وغزو العُربان المجاورين،
والتغزُّل بالفتيات في الخُدور. وشؤون
الحُكم، لا يَلزم أن تُسجّل أو تُبحَث
لأنها تحصيل حاصل، له جماعته التي
تنشغل به وتجنبُك عناء الغرق في
متاهاته. والشيءُ الوحيد القَمين
بالتسجيل، هو انتصارات القادة
وأسماؤهم على لوحات المباني، وهو شأنٌ
تهتم به جماعة من المؤرخين الموظفين
لهذه الغايات. أمّا أن يتدخل الصِّغار
في شؤون الكبار، فيبدون رأيهم بمَن
يحكُم أو كيف يحكُم، فليس من شيَم
المنطقة. ومكان الصّغار، والدَّهماء،
هو الجلوسُ عند الباب وليس في صدور
المَجالس والإفتاء فيما لا يعنيهم ولا
يَعلَمون. وإذن، تتفلسفون وتتحدثون عن
اليوتوبيا، وأنتُم تعلمون أنّ فكرتها
وضعيّة و"خارجية". والديمقراطية
وتغيير الترتيبات، هي مكوّنات مشروع
"الشرق الأوسط الكبير"، وهو مشروع
خارجيّ بامتياز، تَعرفون مَن وضعَه.
أمّا الشكوى على الأب، والوليّ، لأنّه
ضربك أو حشرك في غرفة الفئران بعد أن
عصيته وتحدثت بما لا يُرضيه، فسلوك "خارجي"
خاصّ بالمُجتمعات المنحلّة التي لا
تُقيم اعتباراً لكبير، وتحبُّ
الفَلتان. وكيفَ ستتعلمون إذا لم
يؤدبكم الكبار بالعصا، فتحفظوا حكمتهم
وتورثورها لأبنائكم؟! الصّحيح أنّ ما يفكّرُ فيه هؤلاء
المطالِبون بالتغيير هو كُلُّه
خارجيٌّ في خارجيّ. وهُم في أحسَن
الأحوال جاهلون مغرّرٌ بهم، يعمَلون
على زعزعة استقرارهم وهدم أوطانهم وهم
لا يَعلمون. إنهم زُعران وجرذان،
وعملاء للأميركان. كيف لا وهم يريدون
إسقاط حاكميهِم الضليعين الخبيرين في
ضبط النظام والمحافظة على القانون،
وإبقاء كلّ شيء في مكانه لا يَريم؟
وكيفَ سيتأقلمون عندما يتغيّر عليهم
الجوُّ ويحكُمُهم أناس لَم يتعوّدوا
عليهم؟ ولماذا تغيير الوجوه وكثرة
الدخول والخروج، والتعددية؛ أي كثرة
الأيدي التي تحرّك القِدر، فتحترق
الطبخة وتَذهبُ البَركة؟! الثّورات أصلاً فكرة خارجيَّة. أما
عندَنا، فاسمها تمرُّد على صاحِب
الأمر وخُروج على المِلّة، وعقابُها
التقتيل والضربُ على الأيدي والأعناق،
لأنّك تكون قد أصبحتَ خارجاً على
الطاعة، وتنكّرت للبيعَة التي وُلدتَ
وهي قائمة. وحتى تكونَ مواطناً مثالياً
ووطنيّاً، فإنك يجب أن تكون "داخليّاً"،
أي أن تلتزم بقوانين هذا الداخل
القَدريّ المرتّب، فلا تنكأ فساده.
أمّا إذا أردتَ أن تكون "داخلياً
بامتياز"، فإنّك ستعمل الآن
بلطجياً، أو شبّيحاً، أو مغنيّاً "وطنياً".
والأفضَل أن تبدأ بضرب الصّغار حتى
يتربّى أقرانُهم الذين يُشاهدونهم وهم
يموتون عذاباً. هذا زمان الحرب: "خسئتم.. إلى الأمام".
ولهذا دَعمنا الرياضة، وجعلنا الناس
يُربّون العضلات. شاهدوا كَم هُو
عَفيّ، و"داخليٌّ حقيقي"، هذا "الشبيح"
السّوري في "الشبّاح،" الذي أكل
من خير الوطن ونام كثيراً ففاز، ولم
يصبح "خارجياً" مثلَكم! ================= عندما يتغير كل شيء ما
عدا النظام سعاد جروس الشرق الاوسط 18-9-2011 ظلال رمادية تلوح على شاشة تلفزيون «سيرونيكس»
- صناعة محلية - تلمع بومضات فضية،
فتضيء وجوها تتابع واجمة اعترافات أحد
«أفراد العصابة المجرمة التي تروع
الناس وتغتال شخصيات قيادية في الحزب
والدولة». طفلة صغيرة تراقب التلفزيون بعيون
مذعورة، ويخفق قلبها مع كل تعليق يهمس
به أحد الحاضرين وهو يلتفت نحو الشباك
المطل على الشارع، بحركة تنم عن توجس
من آذان تتنصت خلسة على الجدران. ترتجف
طفلة العشر سنوات وتلتصق بجسد
والدتها، وكلما زاد الهمس حاولت
الاختباء بدفن وجهها في ظهر أمها، وبين
لحظة وأخرى تسترق نظرة إلى الشاشة، قبل
أن يباغتها خوف ينفر من عيون الساهرين
الذين يتابعون أمرا خطيرا، فتحس
بقلبها الصغير يخفق كعصفور يحتضر. بعد انصراف الساهرين حاولت الطفلة أن
تستفسر من والدها عما كان يعرضه
التلفزيون، فنهرها: إياكِ أن تتحدثي في
هذا. سارعت الأم لتطييب خاطرها موحية
لها أن ما رأته ليس حقيقيا: إنه تمثيل.
انزوى الأب في أحد أركان البيت بعيدا
عن فضول الأبناء ليستمع للأخبار في
راديو «ترانزستور»، وضعه على أذنه
مباشرة كي لا يسمع أحد غيره صوت إذاعة
تبث من بغداد، بعد أن أسدل الستائر
وطلب من الأم أن تأخذ الأولاد إلى
النوم. الأضواء مطفأة عدا مصباح صغير،
يلقي بظلال خافتة، يزيد من أجواء الخوف.
في هذا الجو القاتم، انفرد الأب بنفسه
متابعا ما تقوله تلك الإذاعة عن
الأوضاع في سوريا، وكأنما يقوم بعمل
سري مستنكر. كان ذلك في الثمانينات،
حين كانت حماه محاصرة، وحالة من الغموض
العام ترخي بثقلها على الأحداث فترفع
وتيرة التوتر المكتوم في ظل منع
التداول بغير المعلومات الرسمية التي
تأتي من إذاعة دمشق والتلفزيون السوري
حصرا. الطفلة التي حاولت التجسس على والدها،
سرقت ذات يوم الراديو وأشرت بالقلم إلى
موضع الإبرة، لتتمكن في غيابه من
الاستماع للإذاعة الممنوع سماعها،
لتكتشف أن هذه الإذاعة ضد النظام
السوري، وتقول كلاما يعاقب المرء على
سماعه لا على قوله فقط. حين سمعت بعضا
منه، تملكتها رغبة شديدة لسماع المزيد.
كان مختلفا عما يقال في الإذاعة
والتلفزيون السوريين، على الرغم من
عدم إدراكها لمعناه عموما؛ الاختلاف
شكل إغراء عظيما لها، ولربما اكتسب
مصداقيته لأنه مخالف للسائد. فالعصابة
المجرمة التي يبث التلفزيون اعترافات
بعض أفرادها ويشاهدها الأهل والجيران
بذعر وتكتم شديدين؛ لا يدققون فيما
تحمله الاعترافات من معلومات صحيحة أو
غير صحيحة، ولا يناقشون مصداقيتها،
بقدر ما يتداولون ما يدور في خيالاتهم
عن حجم التعذيب الذي يلاقيه هؤلاء،
وحكم الإعدام الذي ينتظرهم، وغالبا
كانوا يؤكدون أنهم ماتوا وشبعوا موتا
قبل أن تبث اعترافاتهم، معبرين عما
يجول في أذهانهم بنصف جملة أو بتلميح
موارب، فالتعاطف معهم ممنوع، حتى لو
كانوا يعرفون الشخص وأهله، ثمة قصة
رسمية واحدة على الشعب قبولها بفم ساكت
وعقل مغلق. أتذكر طفلة العشر سنوات التي كنت هي في
الثمانينات، فيما أشاهد اليوم شيئا
مماثلا إلى حد ما، القصة الرسمية
الواحدة لا تزال موجودة، وكذلك
التلفزيون السوري والإذاعة وكل وسائل
الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، النظام
نفسه لم يتغير، لكن الذي تغير الواقع
والشعب وكذلك وسائل الاتصال، التي
نقلت عملية الحصول على المعلومة من حيز
التلقي السلبي إلى الحيز التفاعلي.
فتلفزيون الـ«سيرونيكس» الأبيض
والأسود انقرض، حتى الملون منه لم يبق
له أثر بعد هبوب عواصف العالم الرقمي.
أمور كثيرة استجدت على الواقع، وهي
كافية لجعل طفل لم يبلغ من العمر عشر
سنوات يتابع اعترافات أفراد العصابات
المجرمة وهو يأكل الشيبس، قبل أن ينقل
الريموت كنترول إلى قناة أفلام الأكشن
بحثا عن متعة أكبر، بينما والده منصرف
إلى الإنترنت بحثا عن معلومات من
ناشطين على الأرض، حتى متابعة
التلفزيون لم تعد كما كانت سابقا، إذ
بالكاد يصمد المرء أمام نشرة الأخبار
لأكثر من ربع ساعة من دون محاولة
التنقل بين قنوات لا حصر لها لمتابعة
روايات أخرى للقصة ذاتها، إلى أن يصل
إلى صياغة رؤيته الخاصة المنسجمة مع
قناعاته وأفكاره. كل شيء تغير عدا عقلية النظام وأسلوب
إعلامه المنسجم مع تلك العقلية
الأحادية، التي ربما تكون نافعة في
مرحلة اللونين الأبيض والأسود، ولكن
في عصر الألوان والرقميات والإنترنت
الرابط بين القارات فقدت القصة
الرسمية حصانتها، وباتت عرضة ليس فقط
للتشكيك بل أيضا للاستخفاف
والاستهزاء، وبإمكان طفل العشر سنوات
اليوم أن يجادل بقلب صلد ثغراتها،
ويعيد روايتها من قبيل النكتة، ولن
يملك والده عليه سلطانا ليمنعه من
التعاطي في الشأن السياسي، بل ربما
سيدهش ويجلس ليتعلم من ابنه ما لا
يعلمه. وهذا يحصل أمامي في منازل
أقاربي وأصدقائي، أرى الآباء حائرين
في إيجاد إجابات مقنعة عن أسئلة
الأولاد الذين لا يحتاجون لمن يفسر لهم
ما يجري، لأنهم يعرفون ما لا نعرفه،
ولكنهم يسألون ليكتشفوا هل أهلهم
مثلهم يعرفون!! مثال ذلك النكتة
الشائعة عن طفل سأل جدته كيف أتى إلى
الحياة، فأخبرته بقصة الطائر الذي
حمله بمنقاره ووضعه عند باب البيت، فما
كان من الطفل إلا أن التفت إلى شقيقته
الأصغر وسألها: سوسو هل نخبر تيتا كيف
جئنا إلى الحياة أم نتركها على عماها؟ العجيب، أن ثلاثين عاما تغير فيها وجه
العالم بفضل ثورة المعلومات، لم تؤثر
على عقلية الأنظمة البوليسية التي لم
تغير في تعاطيها مع الشعب ولا في وسائل
قمعها. ولا تزال تستمر في نسج القصص
الرسمية ذاتها وعلى عماها، وبالإصرار
ذاته، من دون تغيير أو تبديل أو تطوير
طفيف، حتى إن التقنيات البصرية
المستحدثة سُخّرت للمزيد من التعمية،
ولترويج الرواية الرسمية التي لا تحول
ولا تزول، مهما جافت المنطق، كأن تتجرأ
قناة محلية على اتهام قناة عربية ببناء
استوديو يتم فيه بناء ماكيتات ضخمة
لساحات سورية، بهدف فبركة مظاهرات
زائفة من خلال خدع بصرية وممثلين
محترفين، لا بل والقول إن العاصمة
الليبية لم تسقط، ومشهد وصول الثوار
إلى الساحة الخضراء كان غير حقيقي
وتمثيلا في تمثيل!! والسؤال: ترى هل الذي فكر بهذا السيناريو،
خطر له أنه إذا اقتنع الشعب بأن كل ما
جرى في ليبيا عبارة عن فبركة وخدع
سينمائية، كيف سيقنعه بأن معمر
القذافي الهارب في الصحارى والقفار
ليس معمر القذافي، وإنما دوبلير
استقدم من هوليوود، وأن القذافي
الحقيقي ما زال يحكم ليبيا من خيمته،
وزعماء العالم يتقاطرون إليه زرافات
ووحدانا، أما أعضاء المجلس الانتقالي
الذين وصلوا إلى ليبيا، فمحض كومبارس
تافه!! هذه القصة السورية شبه الرسمية لما حصل في
ليبيا، تعكس على نحو ما أن قناعة تشكلت
لدى القائمين على الإعلام السوري بأن
شيئا مماثلا قد يحصل في سوريا، ولولا
القناعة لما قام باستباق الحدث قبل
حصوله، في تأكيد هو من نوع الكذب على
الذات، بإلغاء ما يجري في أنحاء سوريا
كلها، بأن ما نراه إنما هو بديل بصري
يجري في استوديو مغلق؛ وعلى الشعب أن
يصدق!! إذا كان ما يروج له الإعلام الرسمي وشبه
الرسمي جادا أو مازحا فيه، فلا غرابة
إذا فقد الآباء ومعهم الأنظمة السيطرة
على أبناء فتحوا النوافذ وطلقوا الخوف
إلى غير رجعة.. وخرجوا إلى الشوارع
يعبرون عما يفكرون به نهارا جهارا. * مراسلة «الشرق الأوسط» في
دمشق ================= فايز سارة الشرق الاوسط 18-9-2011 يستطيع أي متابع للوضع في سوريا ملاحظة
تصاعد وتلاحق الهجمات على المعارضة
السورية بكياناتها وقياداتها ورموزها
في الآونة الأخيرة، ويمتد قوس الهجمات
من المقربين للمعارضة، ليصل في الأبعد
منه إلى خصوم المعارضة وأعدائها. غير أنه وقبل الدخول في قوس ومحتوى
الهجمات على المعارضة السورية، لا بد
من الإشارة إلى أمرين اثنين.. الأمر
الأول يتصل بالتاريخ الاضطهادي الذي
عاشته المعارضة في فترة ما بعد
الاستقلال خاصة منذ مجيء حزب البعث إلى
السلطة عام 1963، والأمر الثاني يتصل
بطبيعة المعارضة من حيث تقسيماتها
وانقساماتها في المرحلة الراهنة. وفي الأمر الأول، يمكن القول إن سياسة
النظام حيال المعارضة اتسمت بالقمع
الشديد منذ عام 1963، حيث جرى استخدام كل
الأسلحة والأساليب لإخضاعها
وتدجينها، أو تدميرها حيث فشل ذلك،
وتتلخص هذه النتيجة بصورة واقعية
اليوم في شقها الأول عبر أحزاب وجماعات
تتحالف مع حزب البعث الحاكم في الجبهة
الوطنية التقدمية، وأغلبها تجد لها ما
يماثلها في الاسم والتوجه بين أحزاب
المعارضة من الناصريين إلى الشيوعيين،
وما بينهما. بل إن الأولى هي انشقاقات من الأخيرة، وقد
ذهبت إلى حضن النظام بفعل سياسة العصا
والجزرة، أما التنظيمات والأحزاب
المعارضة من الجماعات الإسلامية
وغيرها من أكراد وثوريين، فلم يسع
النظام أصلا إلى ضمها إلى جبهته، مما
جعلها جميعا في دائرة المعارضة، وقد
تعرضت هذه الجماعات لحملات قمع مستمرة
على مدى عقود، فقتل واعتقل وطورد كثير
من قياداتها وكوادرها، وقد بنى بعضها
حضورا تنظيميا في بلدان المنفى،
تفاوتت أهميته وحجمه طبقا لخصوصيات
ذاتية وموضوعية. أما في الأمر الثاني، والمتصل بواقع
المعارضة الراهنة، فهي غير موحدة، وإن
بدت في الداخل متجانسة في تحالفين
أساسيين هما إعلان دمشق للتغيير
الوطني الديمقراطي، وهيئة التنسيق
لقوى التغيير الوطني الديمقراطي، ويضم
التحالفان أغلب الأحزاب إضافة إلى
مثيلاتها الكردية والمنظمة الثورية
الديمقراطية، ومعها العديد من
الشخصيات الوطنية المستقلة. وثمة قسم
من المعارضة هو الأقل حضورا من الناحية
التنظيمية في الداخل السوري، وهو
التيار الإسلامي الذي يشمل حركة
الإخوان المسلمين وغيرهم ممن لا يظهر
لهم وجود تنظيمي في الداخل بخلاف ما هو
عليه الحال في الخارج، وهذه نتيجة
سياسة القمع الشديد التي تم تطبيقها في
الثمانينات، حيث كان يحكم بالإعدام
على كل منتسب للإخوان المسلمين حسب
المرسوم 49، وكان من السهل تطبيق هذه
التهمة ضد أي شخص على علاقة بالتيار
الإسلامي. وتركت وقائع المنفى من جملة معطيات أخرى
أثرها على وجود معارضة سورية في
الخارج، تضم هيئات وأعضاء في جماعات
مختلفة، إضافة إلى الجماعات الإسلامية
وشخصيات مستقلة، تزايد حضورها ونشاطها
في السنوات الأخيرة، لا سيما مؤخرا في
ظل مساعيها للتعبير عن نفسها في ضوء
الأزمة الراهنة، وهو ما انعكس في تنظيم
العديد من المؤتمرات والكيانات
المؤقتة وبينها المجلس الوطني
الانتقالي الذي تم إطلاقه في أنقرة في
أواخر أغسطس (آب) الماضي. لقد بدا من الطبيعي قيام السلطات السورية
وفي سياق سياستها التقليدية بشن حملات
الاتهام والتحريض ضد المعارضة
وجماعاتها وقياداتها، وإن بدرجات
مختلفة، وهو ما شاركت فيه دول وقوى،
اتخذت مواقف متقاربة مع مواقف السلطات
إزاء الأزمة الراهنة، مثل موقف إيران
التي اتهمت جماعات المعارضة السورية
بالتواطؤ مع السياسات الغربية
والإسرائيلية، فيما اتهمت روسيا
المعارضة بممارسة العنف والإرهاب
متبنية مواقف تزايد على مواقف السلطة
في صراعات الداخل السوري، وبصورة
إجمالية فإن حملة السلطات السورية
وحلفائها الخارجين عن المعارضة، لا
تزيد عن كونها حملة سياسية، هدفها
إحباط المعارضة وقياداتها ومنعها من
تحقيق أي تقدم على طريق تحقيق أهدافها
في الانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي. أما الشق الآخر من الحملة على المعارضة،
فهو حملة داخلية، جزء منها حرب بين
قسمي المعارضة بين الداخل والخارج،
وبين الشخصيات والجماعات الحزبية وفي
داخلها، وللحملة الداخلية أهداف
سياسية وتنظيمية، لا تنفصل عن الإرث
الموروث من تلك الجماعات، بل إن لبعضها
غايات شخصية تتصل بالقادة سواء من قادة
الأحزاب أو الشخصيات المستقلة، والأهم
في جوانب هذا الصراع أن هدفه الضمني
يقوم على فكرة من يمثل السوريين اليوم.
وفي حين تسعى المعارضة الداخلية
لتأكيد حضورها ومكانتها، فإن المعارضة
في الخارج تعمل لتكون ذات وزن وتأثير
في تمثيل الداخل، وربما يسعى بعضها
ليكون بديلا عن الداخل. ويؤكد واقع المعارضة وما يحيط بها، لا
سيما في ظل الحملات الحالية، ضرورة
توجه السوريين لوقف تلك الحملات، أو
الحد منها على أقل تقدير، لأن استمرار
الحملات سوف يؤدي إلى ترديات سياسية
كبيرة في بلد تواجه سلطاته تحدي
المشروعية السياسية والقانونية
والأخلاقية داخل البلاد وخارجها، في
ضوء ما جرى في البلاد عبر الأشهر
الماضية. وتؤدي الحملات إلى تدمير أو
تشويه الموازي السياسي الممكن للنظام
في سوريا، وترك البلد دون مرجعية
مرتقبة فيما لو سقط النظام أو انهار
لسبب أو لآخر، مما يفتح الباب أمام
تطورات غير مرتقبة وغير متوقعة. وينبغي على المعارضة اتخاذ زمام
المبادرة، ليس فقط باتجاه المضي نحو
تفاهمات بين أطرافها، تقودها إلى
إقامة ائتلاف وطني – ديمقراطي عريض،
بل أيضا من خلال وضع مهام للمرحلة
المقبلة، تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع
القائمة من جهة، وهموم ومتطلبات
السوريين في الانتقال إلى نظام
ديمقراطي تعددي، تكون العدالة
والمساواة والمشاركة وتعزيز سلطة
القانون أساسه. لقد آن أوان وقف الحملات على المعارضة
السورية وتغذية الصراع داخلها. فهل
نشهد في الفترة القريبة تحولات جوهرية
في الموقف من المعارضة وكياناتها
والشخصيات المستقلة فيها، وتحولات من
جانب المعارضة، تؤكد السير نحو
مهماتها المطلوبة، بدل السير في
صراعات أغلبها من إرث الماضي، وبعضها
لا معنى جوهريا له؟ ================= عبدالرحمن الراشد الشرق الاوسط 18-9-2011 كلنا نعرف عن مبادرة الجامعة العربية
تجاه الأزمة السورية، لكن لا أدري كم
شخصا سمع بمبادرة سوريا لنشر
الديمقراطية في العالم العربي؟ تذكر
وكالة الأنباء السورية أن بعثتها في
القاهرة طرحت خلال اجتماع وزراء
الخارجية العرب مبادرة «لتعزيز
الديمقراطية والإصلاح في كل الدول
العربية» تدعو هذه الدول لرفع حالات
الطوارئ، وإلغاء محاكم أمن الدولة،
وإنشاء مجالس للشعب، وسن دساتير تضمن
حقوق الإنسان والحريات، إلى جانب
قوانين تسمح بإنشاء الأحزاب والتظاهر
السلمي وحرية الإعلام. أفكار رائعة إلا
أن عيبها الكبير أن الذي قدمها هو
النظام في دمشق بلحمه وشحمه، طرحها ردا
على مبادرة الجامعة العربية بـ«الوقف
الفوري لإراقة الدماء». لا تزال تعتقد حكومة دمشق أنها ماهرة في
الحيل الدبلوماسية وإحراج الآخرين،
كما كانت تفعل زمنا مضى في التعامل مع
قضية اغتيال الحريري والخلاف مع
السلطة الفلسطينية، في حين أنها لم تعد
في موقع يسمح لها بإحراج أحد. تبدلت الأوضاع ولم تعد دمشق في حال يسمح
لها بفرض أو تخويف أي نظام، ولم يعد
للنظام سوى استعطاف الغير من أجل
الحصول على بعض المميزات، أو دعم أفكار
قد تسمح لبعض النظام بالبقاء خلال
محنته الحالية، أو البحث عن ملجأ
لأفراده حتى لا ينتهي مثل العقيد
القذافي وأولاده الذين لم يجدوا أحدا
يمنحهم اللجوء حتى أفقر فقراء دول
أفريقيا. عندما طرح مبادرته بنشر الديمقراطية لم
يبال بها أحد ولم تنقلها وسائل الإعلام
ولم تجد صدى في الإعلام، لماذا؟ لأن
النظام السوري أصبح بلا قيمة وما يصدر
عنه أيضا لا قيمة له في الساحة. ولو أنه
أراد حقا إحراج بقية الأنظمة العربية،
كما جرب في دهاليز الجامعة العربية
الأسبوع الماضي، كان أعلن عن تطبيق
المبادرة على نفسه أولا ثم دعا بقية
الدول إلى تقليده. عوضا عن ذلك، سفّه من
مجهود الجامعة وأمينها، مع أن المطلوب
منه بسيط مقارنة بما يطلبه منه الشارع
الهائج ضده في كل أنحاء الجمهورية.
المبادرة العربية كانت هزيلة، ومحل
استنكار القوى السورية والعربية
عموما، حيث إنها كانت تتمحور على
الإبقاء على نظام الأسد مع برنامج
إصلاح سياسي طويل الزمن يعوزه أهم
عنصر، وهو ثقة الناس فيه. دعت الجامعة
إلى انتخابات برلمانية يشرف عليها
القضاء التابع للنظام. وحتى هذه
المبادرة العربية الهزيلة، التي جاءت
حبل نجاة له، عاملها كحبل مشنقة، وأعلن
رفضه لها، ثم رد عليها بمبادرة يطالب
فيها كل الدول العربية بأن تنفذ
إصلاحات جماعيا. مبادرة الجامعة العربية، رغم هزالها
بالفعل، كانت حبل نجاة للنظام لكنها
برفضه المتعجل قد تصبح بالفعل حبل
مشنقة، لأنها خطوة أولى في تهيئة
المناخ الشعبي والقانوني للتدخل
الدولي الذي تأخر طويلا. إنها مثل
مبادرة الجامعة العربية لإقناع صدام
حسين بالانسحاب من الكويت عام تسعين من
القرن الماضي، التي جربت قبل مؤتمر
القمة، ورفض صدام استقبالها، فكانت
مدخلا للحصول على موافقة أغلبية الدول
العربية للاستعانة بالقوات الدولية.
هذا سيناريو مكرر محتمل، حيث تستطيع
الجامعة العربية أن تدعي لاحقا أنها
بذلت كل ما بوسعها لحل الأزمة السورية
ولم يعد هناك بد من اللجوء إلى العون
الدولي لوقف حمام الدم. ما الذي يفكر فيه النظام وهو يرى الآن أن
الصيف انقضى ولم تتوقف الانتفاضة كما
كان يتمنى، ودخل فصل الخريف بالمزيد من
المظاهرات والمواقف الدولية المعادية
له؟ هذه مسألة تستحق النقاش لاحقا
أيضا، مع أن التفكير مثل النظام السوري
يحتاج إلى بصارة لا إلى محلل سياسي. ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |