ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 24/10/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

الثورة السورية بوصفها ثورة وطنية

الأحد, 23 أكتوبر 2011

ياسين الحاج صالح

الحياة

بينما يظهر اندلاع الثورة السورية بعد خمس ثورات عربية سبقتها أن هناك مجالاً عربياً متميزاً، تتفوق تفاعلاته الداخلية على تفاعلاته مع غيره، فقد غاب عنها، وعن الثورات الأخرى، ما يحيل إلى رابطة عربية حصرية، أو ما يضع العرب ككل في مواجهة عالم مغاير لهم، يقوده الغرب.

حال الثورات تحيل إلى مشترك عربي لا شك فيه، لكن شعاراتها ومطالبها ووعيها الذاتي تحيل حصراً إلى «الدولة القطرية» القائمة. وبصورة متناقضة يبدو العالم العربي عربياً كثيراً، فيما تبدو كل دولة من دوله عربية أقل، مندارة على نفسها ومتجهة أكثر من أي وقت سبق إلى داخلها. في سورية بالذات يتكشف البلد عالماً بأكمله من مدن وبلدات وأحياء، لم يكد أكثر السوريين يعرف عنه شيئاً قبل غيرهم من متابعي الثورة السورية. يستطيع المهتم اليوم أن يعد 100 موقع اشتهر بكونه بؤراً نشطة للاحتجاجات الشعبية، من بلدات حوران إلى بلدات إدلب، ومن بانياس على المتوسط إلى عامودا في أقصى الشمال الشرقي.

ويتقابل مدرك العرب في سياق الثورة السورية مع مدرك الكرد والآشوريين، أكثر مما يتقابل مع الغرب أو مع «أجانب» غير محددين. وبينما كانت الصيغة القومية العربية للعروبة تفكر في سورية بوصفها «جزءاً لا يتجزأ» من «الوطن العربي»، يبدو أكثر تطابقاً مع واقع الحال اليوم التفكير في العروبة كجزء من سورية. جزء مهم والأهم بلا ريب، لكنه جزء. الكل اليوم هو سورية. وهذه تتقابل مع دول أخرى، مثل لبنان والعراق المؤيدين للنظام، ومثل إسرائيل التي يبدو أنها تفضل النظام القائم وإلا فالخراب التام لسورية، وليس تغييراً وطنياً متحكماً به. ومثل الأردن الذي يتعامل بحذر مع الأزمة السورية. ومثل تركيا التي تبدو البلد الأفعل في الشؤون السورية لأسباب يلتقي فيها الجوار الجغرافي مع النظام الديموقراطي مع موقف الحكومة التركية المخاصم للنظام السوري، وبالطبع مع القرب الثقافي.

يصعب تقدير مسارات هذه العملية المركبة، لكن يبدو لنا أن العروبة المطلقة أو عقيدة «العروبة أولاً»، وإيديولوجية القومية العربية التي تشكلت حولها، قد انتهت كلياً. الثورات العربية اليوم هي، على نحو مفارق، نهاية القومية العربية. وهي ثورات وطنية داخلية بكل معنى الكلمة، تعيد اكتشاف الغنى المكبوت لمجتمعاتنا وإحياءه، وإعادة بناء السياسة والدولة فيها حول الداخل الاجتماعي. هذا لا يعني بحال نهاية العروبة أو الرابطة العربية بذاتها. بل لعله بداية طور جديد لها، ينأى بها عن مثال الوحدة الشاملة، وعن واقع التخاصم الشامل.

في سورية بالذات تبدو الثورة وطنية تأسيسياً. ليس فقط لأنها تُبرِز سورية من غمار هيولى امبراطورية عربية كان النظام حريصاً على ألا تتشكل في أية صورة محددة، لأن انعدام شكلها أنسب لخنق أنفاس الداخل والتحكم بالمحيط القريب، ولكن بخاصة لأنها تظهر الداخل الوطني السوري كله دفعة واحدة. داخلاً كثروياً شديد التعقيد، يريد أن تتشكل صورته السياسية على نحو لا يبتره أو يغفل شيئاً من تنوعه وغناه. سورية اليوم ليست «قلب العروبة النابض» وإنما هي هذا المجتمع الفوار الذي سيكون الموضوع الأكبر للسياسة فيه خلال سنوات طويلة آتية هو كيفية تشكله كشعب واحد، ونصب الحواجز التي تمنع تسرب تنوعه الثقافي إلى مقر السيادة الموحد، الدولة. من أجل هذا الغرض سيحتاج السوريون إلى إيديولوجيا جامعة، لم تعد القومية العربية مؤهلة للقيام بها، ولا تصلح لها أية صيغة للإسلام. وأقل صلاحاً لها بعد ذلك الكلام الغنائي المبتذل عن سورية مهد الحضارات، ووريثة خمسة آلاف سنة من الحضارة، وما إلى ذلك. هذا كلام يناسب إيديولوجيا «سورية أولاً»، وهي إيديولوجيا قومية لا تختلف في شيء عن «العروبة أولاً» (لكن «آخَر» سورية أولاً هو العروبة حصراً)، وصالحة مثل كل إيديولوجيا قومية لتسويغ الاستبداد في الداخل والنزعة الامبراطورية في الخارج.

سورية لا تبنى على العروبة وحدها (ضد العروبة أولاً)، لكنها لا تبنى ضدها (ضد سورية أولاً). وما يستجيب لهذا التطلب المزدوج هو وطنية سورية دستورية، تجمع بين المساواة الفردية (المواطنة) والجمعية (الاحترام المتساوي للجماعات الثقافية). ومن دون بناء هذه كثير من المشاق، بالكاد نتلمس وجوهاً أولية لها من الصعوبات التي واجهت تشكل المجلس الوطني، وتواجه عملية استكمال هياكله اليوم.

وأخطر هذه المشاق أن تنتقل سورية من «ما فوقها» العربي إلى «ما تحتها» الإثني والطائفي من دون أن تتطابق مع نفسها. ومن بلد مغلق الداخل قد ننتقل إلى بلد لا داخل له، يلعب فيه كل خارج. ومن نظام طائفي ضمني، تمر إعادة إنتاجه لنفسه بإعادة إنتاج موسعة للانقسامات الأهلية، يُخشى أن نتحول إلى نظام طائفي صريح، يجري فيه تثبيت الانقسامات الأهلية وتحويلها إلى وحدات سياسية للنظام. الفضيلة الوحيدة لهذا النظام أنه أقل سوءاً من هذا القائم جوهرياً على الإرهاب. لكن رذيلته الكبرى أنه يعمل على تأبيد نفسه (انظر لبنان) مثل نظام الطغيان القائم.

بوصفها ثورة ضد الطغيان، لا تحمل الثورة السورية بحد ذاتها ضمانات مؤكدة ضد هذا التطور. بل لعلها، وهي تخرج المجتمع السوري من القمقم الخانق، تكون خطوة نحو انتظامه في صورة روابط أهلية. وهذا وارد بخاصة لأن من أبرز مفاعيل نظام الطغيان أنه لم يسمح بتكوُّن نخب سياسية مستقلة، وأن النسبة الأكبر من النخبة المتاحة تستمد وزنها مما تكون لا مما فعلت أو تفعل، أي من الهوية لا من العمل.

لكن هذا المسار استمرار للعروبة في طور انحطاطها، أي بعد أن ارتدّت إلى إيديولوجيا هوية، فيما كانت إيديولوجيا عمل فعالة في خمسينات القرن العشرين وستيناته. ما يلزم هو الخروج إلى منطق العمل، لا التحول من هوية إلى هوية. ومنطق العمل يطابق سورية كجمهورية مواطنين ناشطين سياسياً.

لكن الحيلولة دون التطور الهوياتي تقتضي مبدأ إضافياً يوازن مبدأ الحرية، ويضاف إلى التنشيط السياسي. ولا يمكن لهذا أن يكون غير مبدأ الدولة، المتدخلة الضابطة القوية. لكن كل الظروف تعمل اليوم ضد هذا المبدأ، بفعل الشكل الإرهابي للدولة القوية الذي عرفناه في سورية والعراق ودول أخرى عربية في العقود الماضية.

ليست هناك حلول تأملية وسهلة لهذه المشكلات. لا أحد لديه حلول. نجد أنفسنا اليوم في مواجهة مشكلات متنوعة، حل بعضها لا يضمن حل بعضها الآخر، بل ربما يزيدها تعقيداً. ولكن لهذا السبب السياسة ضرورية، ولهذا السبب نحتاج إلى معرفة باردة بالواقع.

===============

وحدها الثورة السورية ليست مباركة!

سعيد شهاب

عكاظ

23-10-2011

هلل الإيرانيون لاندلاع الثورة الشعبية في تونس على اعتبار أنها انتصار لإرادة الشعب وتوجه مبارك للتحرر حسب المفهوم الإيراني، ثم كالوا المديح للثورة المصرية ووصفوها بالانعتاق التاريخي من ربقة التبعية للغرب وبالثورة المشروعة على النظام التعسفي الذي جثم طويلا على صدور المصريين ثم أثنوا على ما تلاها من ثورات عربية أخرى واجتهد إعلامهم في ربط ما يحدث في العالم العربي بتأثير الثورة الإيرانية ومدها المزعوم، لكنهم توقفوا حين تعلق الأمر بالثورة الشعبية ضد النظام الذي تربطهم به الأحلاف في سورية ولم يروها بذات العين رغم تشابه أو تطابق الظروف والمعطيات بل أدانوا خروج المواطنين العزل في تظاهرات سلمية تطالب بتغيير النظام الذي يحكمهم رغم إرادتهم، ولم يعتبر الإيرانيون ذلك ثورة مشروعة مع كل ما لها من مقومات الثورة الشعبية، إنما بادروا بوصفها مؤامرة خارجية تسعى لتقويض أسس الدولة الوحيدة التي ما زالت تقف في وجه المخططات الأمريكية الإسرائيلية وتحمل لواء المقاومة والتحرير مع أننا لم نشاهد مقاومة حقيقية ولا تحريراً خلال خمسين سنة من عمر النظام حتى أن الجبهة السورية ظلت أهدأ الجبهات فلم تشهد إطلاق رصاصة واحدة منذ حرب أكتوبر 73، راح النظام الإيراني يكيل التهم للدول التي تململت من تزايد عمليات العنف والقتل الممنهج وحصار واقتحام المدن واتهمها بالسعي لخدمة المخططات الصهيونية، سالت أنهار الدماء في شوارع المدن والقرى السورية وتساقط آلاف القتلى والجرحى بنيران أمن النظام وعصابات الشبيحة وتتابعت قوافل الشهداء وانتهكت حرمات البيوت والمساجد، ومع ذلك لم ير الإيرانيون سوى عصابات المخربين والإرهابيين الذين لم ترصد وجودهم أجهزة استخبارات العالم ولا تقارير وكاميرات الإعلام الفضائي، وحده النظام السوري وحلفاؤه شاهدوا تلك العصابات وتحققوا من وجودها في استغباء واضح لشعوبهم وللمجتمع الدولي الذي سئم مراوغتهم وتضليلهم، وحقيقة الأمر أن إيران تحاول الإبقاء على النظام السوري الآيل للسقوط بكل وسيلة ممكنة فترفد خزينته بالمال رغم حاجتها وعوزها وتمده بالخبراء وبالمعدات العسكرية التي تمكنه من قمع شعبه للحفاظ على بذور الطائفية المذهبية التي ظلت تغرسها في الأرض السورية على مدى عقود وتتشبث بالحلف المشبوه الذي أدارت به سورية ظهرها لمحيطها وعمقها العربي وشرعت الأبواب لقوافل الإمدادات التي طالما أشعلت الفتن وغذت النزاعات الطائفية في لبنان وفي غيره من بلاد العرب.

=================

هذه المرة تسرّبت السياسة إلى بيوت السوريين .. بل إلى أسرّتهم

عمر قدور

المستقبل

23-10-2011

ماذا لو أحب منحبكجي مندسةً؟ أو أحب مندس منحبكجية؟ أو ماذا لو كانت هذه الفوارق موجودة بين اثنين مرتبطين قبل بدء الانتفاضة في سوريا؟()

هذه الأسئلة جزء من تساؤلات تدور في أذهان السوريين منذ أشهر، فالانتفاضة بخلاف أي حدث سياسي سابق أحدثت هزة عنيفة في الوعي الاجتماعي، ولعلها المرة الأولى التي تدخل فيها السياسة حياةَ السوريين اليومية بهذه الشدة. ورغم أن البعض يسترجع ذكرى أحداث ثمانينات القرن الماضي إلا أن المقارنة تبدو تعسفية من الوجهة الاجتماعية العامة. فمواجهات الثمانينات اقتصرت على السلطة والأخوان المسلمين واكتسبت طابع العنف منذ البداية فلم تشهد آثاراً اجتماعية مباشرة كالتي نشهدها الآن. ومع أن الجذور القريبة للحساسيات الطائفية تعود إلى تلك المرحلة، وتُستغل اليوم من قبل الموالين بغية تكريس صبغة طائفية واحدة للانتفاضة، لكن الواقع يؤكد يومياً على الآثار العامة التي تطال السوريين بمختلف انتماءاتهم أو طوائفهم، ويطرح أسئلة متشعبة ومتشابكة لا يجد بعضها الحل، أو لا يجده بيسر على الأقل.

عموماً كان يروق للسوريين النظر إلى أنفسهم كشعب مسيَّس، فالسوري متابع بنسب متفاوتة لمجريات الأحداث الإقليمية والعالمية، وله غالباً موقف منها أو انحياز لجهة من الجهات المتنافسة أو المتصارعة. أما على الصعيد الداخلي فالسوريون كانوا متفقين بنسبة ساحقة على فساد النظام وعلى انعدام الحريات، مع تسليم بالأمر الواقع لم تنجُ منه سوى فئة قليلة يرتفع صوتها أحياناً ويتلاشى أحياناً.

المفارقة التي حكمت منذ انقلاب البعث هي المعرفة العمومية في السياسة دون وجود تجربة سياسية فعلية، فالسوري مسيَّس مع وقف التنفيذ، وصاحب رأي لا يعبر عنه سوى ضمن دائرة ضيقة من معارفه، وبسبب الحرمان من الحياة السياسية لم يكن يدرك أن معرفته ببلده هي أقل مما ينبغي، وربما لم يكن البعض يدرك حقيقة انحيازه السياسي بما أن تصوراته لم توضع على المحك إطلاقاً، أو حتى لم يفكر في أنها ستوضع على المحك كما يحدث اليوم. وعلينا هنا ألا نغفل محاولات غسيل الدماغ التي واظب عليها الإعلام الرسمي بالتركيز على القضايا الخارجية، وتمويه السياسة الخارجية بالادعاء الأيديولوجي أو القومي، وردّ الأزمات إلى مؤامرات دولية كلما سجلت الدبلوماسية الرسمية إخفاقاً جديداً.

في غياب السياسة غابت الاختلافات في ما يخصّ الشأن العام، وكان من المفترض تأويل الصمت على أنه نوع من التقية في مواجهة نظام لا يتورع عن استخدام أعتى أشكال القمع، أي أن الأغلبية الساحقة كانت تؤول صمتها على أنه نوع من عدم الرضا، وبهذا يتساوى الجميع وتذوب الفوارق، فدرجة عدم الرضا لم تترجم على أي مستوى كان. الأخطر من ذلك هي النزعة التبريرية التي سادت، ومنحت الغطاء الاجتماعي لكثير من المظاهر الدنيا للفساد والوصولية. لقد كان من دأب النظام تعميم الفساد كضمانة لاستمراره، وفي الواقع تراجعت المناعة الاجتماعية ضد الفساد باطراد، واكتسب بعض مظاهره صفة "الشطارة"، وفي أدنى الحالات تم التغاضي عنه فلم يعد يتسبب بالحرج الاجتماعي. على نحو عام بات العمل ضمن آليات النظام بمثابة الضرورة التي أباحت المحظورات الأخلاقية والاجتماعية، والذين أبقوا على مسافة تفصلهم عن النظام اضطروا لإبداء "التسامح" تجاه الفساد المعمَّم.

الآن بوسعنا أن نجزم أنّ الانتفاضة أدخلت السياسة إلى كل بيت، بل إلى كل فراش، وصارت وقائع الانتفاضة الحديث الأكثر تداولاً في أي لقاء، ولم يعد نادراً أن ينتهي الحوار على ارتفاع بالأصوات أو ما يشبه الشجار، أو حتى أن يصل الأمر إلى القطيعة النهائية. هناك علاقات عائلية تراجعت كثيراً بسبب الاختلاف حول ما يحصل الآن، ثمة حالات طلاق حدثت بسبب انحياز أحد الزوجين إلى الثورة وانحياز الآخر إلى النظام. إحدى النساء أنهت علاقتها بموالٍ للنظام، تروي ما حدث بالقول: "أحبه حباً شديداً، وكلما التقينا كنت أتحاشى الحديث فيما يحدث الآن،. لكن كان لا بد لحديث أن يبدأ بسبب أو دون سبب فنختلف وتعلو أصواتنا ونفترق. في النهاية كنت أحس أنني سأحتضن مشاركاً في القتل".

ينبغي القول إن الانتفاضة وشعار إسقاط النظام هما السبيل إلى السياسة، فالاختلاف بين السوريين لم يدخل بعد حيز السياسة، هو نوع قاس من الاختلاف، وليس بوسعهم التشدق بأنه لا يفسد للود قضية. لقد أوغل النظام في إحداث الشرخ الاجتماعي بين أنصاره والآخرين، ومن خلال سياسة الإنكار التي يروجها بين مؤيديه ازدادت الهوة التي تفصلهم عن الواقع؛ الموالي لا يستطيع سوى أن يتبنى رواية الإعلام الرسمي، لأن هذه الرواية هي التي تحفظ له توازنه أو تماسكه الأخلاقي، وبالتالي فإنه سينكر وجود انتفاضة في سوريا، وسيتحدث عن قلة من العصابات المسلحة التي تحاول تخريب مشروع الإصلاح الذي يقترحه النظام!. ومن أجل الإبقاء على تماسك قناعاته لن يتابع سوى الإعلام السوري أو الإعلام المتعاطف مع النظام، وإن "تلصص" على قناة تلفزيونية "معادية" فليثبت لنفسه وجود المؤامرة الدولية التي يتعرض لها الوطن.

من الجهة الأخرى، سيكون من الصعب على أي معارض أو صاحب رأي مستقل إقامة تواصل مع هذا النمط الذي ينكر كل الوقائع. التواصل يقتضي حداً أدنى من المشتركات أو الاتفاق على وقائع بعينها، وهذا ما لا يتوفر الآن بسبب الشرخ الأخلاقي الحاد. القسمة هي: لكي تكون مع النظام عليك أن تنكر كل الفظاعات التي ارتكبها، وإن اعترفت بهذه الجرائم فلن يبقى لك أدنى مسوغ أخلاقي لتأييده. وخلافاً لما يشيعه النظام نفسه وللنمطية التي يستسهلها البعض فإن الانقسام الاجتماعي ليس طائفياً أو مناطقيا،هو انقسام يتغلغل في الكثير من القرابات والصداقات مع ميل تقليدي لدى الأكبر سناً إلى المحافظة. هناك شباب أقلعوا منذ أشهر عن زيارة أهاليهم وقراهم بسبب مساندتهم للانتفاضة، وهناك حالات تبرؤ عائلية أعلنت من على التلفزيون، وهناك متظاهرون وجدوا أنفسهم في مواجهة أبناء عمومة أو حتى أخوة من الشبيحة.

بالعودة إلى السؤال الأول، قد يحب منحبكجي مندسة أو العكس، لكن هذا الحب سيصعب عليه اختراق الحواجز الأخلاقية والنفسية بين الطرفين. بين الانحياز إلى القاتل والانحياز إلى الضحية تتضاءل فرصة وجود خيار ثالث. حتى الفئة اللامبالية يُنظر إليها كشريك في القتل، والكثيرون لا يخفون استنكارهم إقامة أي احتفال علني كحفلات الزفاف التقليدية في الوقت الذي تراق فيه الدماء.

في الواقع تأثرت الحياة اليومية للسوريين على نحو غير مسبوق، ولا شك في أن الانقسام الاجتماعي يضغط على وجدان الكثيرين منهم، وثمة تخوف لدى البعض من أن يكبر هذا الشرخ مع مضي الوقت. لكن هذا التخوف يغتذي من الأزمة الحالية ومن المنطقي أن يزول بزوالها. عندما يسقط القتلة وتتوقف أعمال القتل والإرهاب سيختلف السوريون، وسيختلف أبناء الأسرة الواحدة أيضاً. لن ينقسموا حينها بين ضحية وجلاد، بل سيختبرون تمايزهم السياسي الحقيقي، وقد يكون من شأن بعضهم أن يقلع عن السياسة نهائياً، حينها لن يفسد الخلاف للود قضية، أما الآن فإن هذه المقولة معلقة بانتظار سقوط النظام.

() المنحبكجية أو المنحبكجي اصطلاح سوري على الموالين للنظام اشتُق من كلمة "منحبك" التي يرفقها الموالون بصورة الرئيس. أما المندسة أو المندس فهو اصطلاح على المعارضين تم تداوله بعد أن اتُهم المتظاهرون من قبل النظام بأنهم "مجموعة من المندسين"، قبل أن تطول قائمة الاتهام فيوصفوا بالسلفيين والعصابات المسلحة والجراثيم... إلخ.

=================

تحدّيات المعارضة السورية بعد تأسيس المجلس الوطني

دمشق غازي دحمان

المستقبل

23-10-2011

يثير إعلان تأسيس "المجلس الوطني السوري" المعارض في إسطنبول، إهتمام الكثير من السوريين، ليس بصفتهم المعارضة لنظام الحكم أو دليلاً على رغبتهم بظهور بديل سياسي له، ولكن تعبيراً عن حاجة السوريين إلى نمط جديد من التعاطي السياسي. فلأول مرة يظهر جسم سياسي معارض وحقيقي يمثل سوريين ويعبر عن رغبات شرائح منهم، وثمة أجيال، ومنها الجيل المنتفض، لم تعرف عن السياسة إلا النظام الحاكم وأجهزته، ولم تتح لها فرصة للإطلاع على فكر سياسي أخر بإستثناء تلقينيات البعث وحب القائد الذي يضمر بالبديهة الوطنية والعروبة، وكذا الممانعة والنضال.

في الستة الأشهر الأولى من عمر الثورة في سوريا، لم تكن المعارضة السورية، المنظمة والمؤطرة، سوى حالة إفتراضية إستلزمتها ضرورات نظرية للتمكن من مقاربة الحدث السياسي الحاصل في البلاد بوصفه حراكاً او حركة إحتجاج أو إنتفاضة وثورة، ولهذا فإن الأمر إستدعى إفتراض طرف اخر مقابل للسلطة، وعلى أساسه جرى إفتراض وجود معارضة، وغالباً ما كان يتم إطلاق هذه الصفة على أساس قاعدة الغموض الإيجابي، الذي يتقصد عدم الإفصاح عن مكونات هذه المعارضة وآليات عملها وماهيتها.

ولا شك أن هذه الوضعية ترافقت مع حالة نهوض جماهيري وزخم في الحراك الشعبي إستطاع أن يفرز القيادات الضرورية واللازمة للمرحلة، من دون الوقوع في حالة الترهل القيادي. فقد كان المطلوب تنظيم حركة التظاهر وترديد شعاراتها ونقل صورتها إلى وسائل الإعلام، ولم يكن المطلوب في حينه الدعوة للتظاهر أو صناعتها، ومن هذه البيئة وللقيام بهذه المهمات، ظهرت من بين ظهراني التجمعات المحلية المنتفضة ظاهرة التنسيقيات، مجموعات من الشباب، بين سن العشرين والثلاثين في الغالب، تميزوا بقدراتهم التقنية في التنظيم وإستخدام تقنيات الهاتف المحمول والأنترنت، فضلاً عن ميزة الشجاعة النادرة.

ولأنهم كذلك، فقد أصبحوا هدفاً للنظام، حتى ان أغلب إجتياحات المدن والأرياف كانت للبحث عنهم وإصطيادهم، ولأن طبيعة عملهم تتطلب الإنكشاف والتماس مع الشارع، فقد أدى ذلك إلى مقتل الكثير منهم، فضلاً عن إعتقال أعداد أخرى منهم وإضطرار جزء كبير من هذا الجسم إلى التخفي. ولعل هذا ما أدى إلى تخفيف زخم الحركة الإحتجاجية، ودفع بعض المراقبين إلى وصف التظاهرات بالرتيبة وتوقع إنسداد الأفق في وجه الحركة الإحتجاجية.

من هنا يأتي مبعث الأمل الجماهيري بتبلور المعارضة وإصطفافها، وليس مهماً، خلف أو أمام الحركة الإحتجاجية. وعند هذا المفترق الحاسم تتشكل اول التحديات التي تواجه "المجلس الوطني"، الذي نفترض أنه لو إستطاع الوصول إلى حالة التوحد هذه والإنخراط في العمل المنظم قبل ذلك لكانت مهمته أقل صعوبة ولكانت فعاليته أكثر وضوحاً... لماذا ؟.

لأن ثمة متغيرات مهمة إستجدت على الواقع، وهي في الحقيقة جملة المعطيات التي باتت متوفرة في واقع الحراك وسبق ذكرها، وبالتالي فإن المطلوب اليوم من المعارضة إعادة صياغة الحركة الإحتجاجية، وربما إعادة تبويب وترتيب فعالياتها، وخاصة بعد أن تكيف النظام وأجهزته مع أساليب الحركة، وإستطاع إنتاج أنماط دفاعية وهجومية لنزع دينامياتها وتفكيك مفاصل القوة فيها، وهي حالة إن إستمرت، ربما لن تؤدي إلى القضاء على الحراك، لكنها لن تعني سوى شيء واحد، وهو إستمرار حالة النزف، والإقتراب أكثر وأكثر من المخاطر التي إتفق على رفضها أغلب السوريين ( الإقتتال الأهلي التدخل الخارجي - ).

ولعل التحدي الاكبر الذي يواجه ( المجلس الوطني ) بوصفه حاضنة المعارضة السياسية، يتمثل بالقدرة على الإندراج في الواقع السياسي السوري ونزع إعتراف النظام بهذه الحقيقة، وفي هذه الحالة يتطلب الأمر من كافة المكونات السياسية المنضوية تحت عباءة المجلس أن تثبت وجودها وفاعليتها في الشارع السوري، ليس بوصفها منابر إعلامية، ولكن بصفتها الحركية والتنظيمية الفاعلة والمؤثرة والقادرة على الإستقطاب والتنظيم والتأثير في الحراك وقيادته، من أجل إنجاز أهدافه العليا. بإختصار المطلوب من معارضة المجلس الإنتقال بالحالة السورية من مأزقها الدامي إلى حالة ذات أثر أكبر في السياسية وأقل في النزاع الدامي .

وبالطبع، يتساوق هذا المنطق مع بيان المجلس وسياساته المعلن عنها، فطالما أن المجلس أصر على سلمية الثورة ورفض التدخل الخارجي، فإنه يكون قد إختار طريقاً يعتمد المقاربة السياسية للأزمة. وليس ذلك سيئاً بالنتيجة على إعتبار أن شرائح كثيرة من المجتمع السوري تفضل هذه الخيارات إنطلاقاً من إدراكها للنتائج السلبية التي قد يخلفها إستخدام السلاح والتدخل الخارجي على بلد من نمط سوريا، بما يتضمنه من تعددية عرقية وطائفية وإنقسامات فكرية وثقافية. كما أن الأنظمة لاتسقط بالسلاح وحده أو بالتدخل الخارجي، والتجربتان المصرية والتونسية خير دليل على ذلك، بالرغم من كل ما يقال عن إختلاف طبيعة النظام السوري إذ ثمة وجود معايير وشروط حاكمة لبقاء الانظمة وسقوطها، لعل من أهمها طرق إدارة هذه الأنظمة للأزمات التي تواجهها، وقدرتها على التكيف والإستمرار، وخاصة أننا بتنا نعيش في بيئة دولية طاردة للنظم التي لاتحقق الكثير من المعايير المقبولة لبقائها.

=================

المحطة التالية لقطار التغيير العربي ؟!

عريب الرنتاوي

الدستور

23-10-2011

ثمانية أشهر، وقطار التغيير في العالم العربي متوقف في محطته الليبية...ولقد تعين على الشعب الليبي الشقيق، أن يدفع عشرات ألوف الضحايا من رجاله ونسائه،وشيوخه وشبابه وأطفاله، من أجل تحريك عجلاته الثقيلة مجددا، ودفعه للتجوال مجددا، بين هذه العاصمة العربية أو تلك...كل العواصم العربية بانتظار هذا القطار...بعضها وفّر سكة ضيقة وضعيفة للغاية، لا تتسع لعجلاته الفولاذية القاسية...بعضها الآخر، زرع الألغام على الطريق، و»فخخ القضبان» و»أفرغ المحطة من ركابها...لا طريق سالكاً وسلساً تنتظر قطار التغيير...الفرق بين عاصمة وأخرى، يتعلق بحجم الثمن والمعاناة والكلفة.

نحن الآن نعود إلى ممارسة هوايتنا الجديدة المفضلة، والتي اكتسبناها منذ أن أطلق زين العابدين بن علي، الرئيس التونسي «المخلوع»...من سيأتي تالياً؟...على من سيأتي الدور بعد سقوط هذا الديكتاتور أو ذاك...الآن تبدو مهمتنا أسهل...الخيارات تكاد تكون محصورة في اثنين، بعد أن تراجعت في عدد من الدول العربية، مؤقتاً على الأقل...أيهما سيسقط أولاً: الرئيس اليمني «المحروق» علي عبد الله صالح، أم الرئيس السوري بشار الأسد؟...كلاهما بات سقوطه محتماً بعد أشهر طويلة ومكلفة، من المماطلة والمراوحة ومحاولات شراء الوقت؟...كلاهما تابع بكل مشاعر القلق، إن لم نقل الذعر، صور الساعات الأخيرة لديكتاتور ليبيا وجرذها المذعور، معمر القذافي.

سقوط القذافي، وبالطريقة التي تم فيها، وصور الساعات الأخيرة من حياته التي ملأت الأرض والفضاء، سيكون لها أثر ملموس على تطورات الأحداث في عموم المنطقة العربية وعلى اتساعها....طاقة النظامين السوري واليمني على «المقاوحة» و»الصد» و»التعنت» ستضعف بشكل ملموس، مقابل تنامي الرغبة لديهما في توفير مخارج أفضل وضمانات أصلب، للبقاء الشخصي والعائلي، ما أمكن...أليس هذا ما يطالب به، بل ويستجديه الرئيس اليمني المحروق، صراحة ومن دون حياء أو خجل...ألا يمكن هنا بالذات، مغزى الاستعداد السوري لاستقبال وفد الجامعة العربية، بعد الرفض المدوّي الذي أعلنته دمشق لمهمة الوفد وتشكيله ومبادرته؟...أنهم يتراجعون...أنهم يضعفون...صور القذافي والمعتصم وأبو بكر يونس، «هدّت» طاقتهم على «الصلف» و»التعنت»....التغيير آتٍ، وإن بعد حين، لكن «الحين» لن يطول، هذه المرة.

سقوط القذافي وصور مقتله البشعة، ستملي على كل حاكم عربي، التفكير والإقرار، وإن بدرجات متفاوتة، بأن استمرار الحكم بالوسائل القديمة، ما عاد ممكناً...طاقة هؤلاء على الاستئثار والتفرد والاستكبار والطغيان، لم تعد كما كانت...الشعوب العربية قادرة على اقتناص هذه اللحظة لإطلاق ديناميكيّات التغيير والإصلاح....في بعض الدول، لا معنى لذلك سوى رحيل النظام والزمر الحاكمة...في بعضها الآخر - قلة منها – يمكن للنظام أن يعيش مع التغيير ويتعايش مع الإصلاح، ولكن عليه أن يكون مستعداً لتقديم تنازلات جوهرية...ما عاد القديم صالحاً للحياة، بالذات بعد مغادرة قطار التغيير محطته الليبية.

سقوط القذافي، حقن الشوارع العربية بشحنة أمل وطاقة على الصمود والتضحية والإبداع، ستجدد من نشاطه وحراكه...والأنظمة التي نجحت في «وأد» ثورات شعوبها، أو قطع الطريق عليها، عليها أن تستعد للفصل الثاني في مسلسل الربيع العربي، والذي نعتقد أنه سيدشن بانتصارات مدوية في اليمن وسوريا....وبعودة الروح إلى «شوارع» دول أخرى....وفي ظني أن اليمن، بعد قرار مجلس الأمن، سيكون المحطة الرابعة التي سيمر بها قطار التغيير العربي، على أنه لم يمكث هناك طويلاً، إذ تنتظره مهمات عاجلة في دمشق.

ما زالت كلمات الرئيس «المحروق» تتردد في آذاننا: لقد فاتكم القطار...قطار التغيير لن يفوّت علي عبد الله صالح وزبانيته وعائلته وأنجاله، سيأخذهم تحت عجلاته وليس على متن عرباته...والارجح أن مصيراً مماثلاً سيواجه نظام دمشق، الذي أظهر قدرة خارقة على إضاعة كل الفرص وتبديد كل الصداقات والأوراق.

هي لحظة الحقيقة والاستحقاق لهذين النظامين ابتداءً ، النظامين اللذين لم يتركا خياراً أمام شعبيهما، سوى طلب العون والاسناد من كل شياطين الأرض، وليس من المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة وحدهما، وإذا كان صدور قرار عن مجلس الأمن بحق الرئيس المحروق قد بات من الماضي، فإننا لا نستبعد أبداً أن يكون القرار التالي بحق نظام الأسد، بعد أن ضاق أصدقاء النظام «الأقربين»، بألاعيبه ومماطلاته وتسويفه.

وبعد ذلك يأتيك من «بواكي» الديكتاتوريات من يذرف الدموع مدراراً على سيادة واستقلال هذين البلدين، لكأن حكام الفساد والاستبداد فيها، هم سدنة السيادة والاستقلال، وليسوا هم أول من فرّط بها وفتح كل الأبواب لانتهاك حدودها، عندما وضعوا «كراسي سلطانهم» في صدارة أولوياتهم، وعندما ارتضوا أن تشيّد عروشهم فوق جماجم الرجال والنساء وعظام الأطفال والشيوخ...بئس الأنظمة وبئس «البواكي».

=================

مصير بشار وصالح بعد القذافي

الأحد، 23 تشرين الأول 2011 02:22

د. إبراهيم البيومي غانم

السبيل

المشاهد التي صوّرت إمساك ثوار ليبيا بالقذافي، فيها دروس لا تحصى وعِبر لا تعدّ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. تذكرك هذه المشاهد بالأثر الذي يقول: إنّ الله يمهل الظالم، فإذا أخذه لم يفلته. حاول القذافي الإفلات من أيدي الثوار ولكن هيهات. قضي الأمر.

انشرحت قلوب الليبيين فجأة، وامتلأت فرحاً بعد حزن، وأملاً بعد يأس؛ في غد مشرق بأنوار الحرية عند سماعهم نبأ مصرع الطاغية معمر القذافي ظهر يوم الخميس 20 أكتوبر 2011. ولا شماتة في الموت، ولكن من حقّ المعذّبين أن يفرحوا، ولا نبالغ إذا قلنا أنّ السوريين واليمنيين الثائرين كانوا أول الفرحين لفرحة إخوانهم الليبيين، وباتوا في انتظار النبأ السعيد التالي بسقوط جزار سوريا، وطاغية اليمن وغيرهما من الطغاة الذين يحكمون شعوبنا العربية منذ عقود طويلة.

نهاية القذافي أضافت بديلاً ثالثاً أمام الطغاة الذين سيطيح بهم الربيع العربي؛ إمّا الهرب تحت جنح الظلام مثلما فعل بن علي، وإمّا الحبس والمحاكمة في قفص حديدي مثلما حدث ولا يزال يحدث لمبارك، وإمّا القتل وإلقاء جثته في سيارة "نصف نقل" مثلما فعل أحرار ليبيا في القذافي. ولا بديل آخر سوى ذلك، اللهم إن واتت أولئك الطغاة لحظة سوداء، وأقدم كل منهم على الانتحار مثلما فعل هتلر مثلاً، ولكنّي أشك في حدوث ذلك، وحرمة الانتحار لا تترك مجالاً لتشجيع أحد منهم على ذلك.

لن يطول الانتظار كثيراً حتى نسمع أنباء انتصار الثورة السلمية في كل من سوريا واليمن، ولن يفلت طاغية سوريا ولا طاغية اليمن من مصير الذين سبقوهم. سيقول بشار: لست القذافي، ولئن سقط بشار، فسيقول صالح: لست القذافي ولا بشار، وكأنّ هذان لم يستمعا إلى القذافي وابنه وهما يقولان قبلهما "لسنا تونس ومصر، لسنا بن علي ولا مبارك"، وكأنّهم جميعاً لم يستمعوا إلى مبارك وزبانيته قبل سقوطهم وبعد فرار بن علي: "تونس ليست مصر، ومبارك ليس بن علي"!. والحقيقة أنّ كلّهم واحد.

قد يقول قائل: كلامك غير صحيح؛ فبعض الطغاة قد يستمعون ويتّعظون، وسيكون أوّلهم بشار، وربما يليه علي صالح. فقد وردت الأنباء من دمشق على الفور بعد مصرع القذافي، وهي تفيد بأنّ "سوريا ترحّب بلجنة الجامعة العربية برئاسة قطر"، ولم يكن قد مضى سوى بضعة أيام على تصريحات عنجهية برفض استقبال تلك اللجنة والتحفّظ على رئاسة قطر لها، بعد أن قرر المجلس الوزاري للجامعة تشكيلها في اجتماعه يوم الأحد 16 أكتوبر بهدف الاتصال بالقيادة السورية لوقف "أعمال العنف" خلال أسبوعين من تاريخ تشكيل اللجنة!. يقول القائل: هذا القبول باللجنة ورئاستها يعني أنّ طوق النجاة قد لامس أصابع بشار، وأنّه على وشك الإمساك به والقفز إلى برّ الأمان.

وأقول؛ أبداً لن يحدث شيء من ذلك. أولاً، لأنّ دماء ثلاثة آلاف شهيد سوري على أيدي النظام وبمسؤولية مباشرة منه ليست بالأمر الهيّن. وثانياً، لأنّ شباب الثورة السورية أسرعوا برفض قرار الجامعة العربية بتشكيل هذه اللجنة، والقرار بيدهم لا بيد الجامعة ولا بيد النظام. وثالثاً، لأنّ الجامعة برمّتها باتت جثة هامدة لا تستطيع أن تحرّك ساكناً. ورابعاً وهو الأهم؛ لأنّ شيئاً لن يتغيّر أو ينصلح في نفسية "الطاغية" السوري أو اليمني، مثلما لم يحدث أن تغيّرت أو انصلحت نفسية أيّ طاغية على مرّ تاريخ البشرية.

نفسية الطاغية، بشار وصالح وأمثالهما، "نفسية منحرفة" أحكمت خناقها على صاحبها، ولم تترك له فرصة للإقرار بخواء ذاته، ولن تتبدّل سنة الله في الطغاة من أجل سواد عيون "لجنة الجامعة العربية" المتّجهة إلى سوريا، ولا من أجل المبادرة الخليجية المتّجهة إلى اليمن. لن يحدث شيء من ذلك. والطغاة على مرّ التاريخ أثبتوا أنّهم صنف غير قابل للتعلم، ورافض لسماع أيّ نصح أو مشورة. وقد قصّ علينا القرآن الكريم قصة "فرعون" وهو أطغى طغاة البشر، فقد علا في الأرض، واستخف قومه فأطاعوه، وقال لهم أنا ربكم الأعلى، وقال لهم ما علمت لكم من إله غيري، قال كل هذا وغيره مما نعرفه من قصته في القرآن، وكانت نهايته الهلاك ليكون لمن خلفه آية، ولكنّ الطغاة غير قابلين للاتّعاظ. "ولن تجد لسنة الله تبديلاً"، ويقول "ولن تجد لسنة الله تحويلاً". زبانية الأسد يظهرون في مشاهد مصورة وهم يطلبون من الشباب الثائر أن يعترفوا بأنّ "الأسد إلههم ولا أحد"! هل يكون بشار كغيره من طغاة العصر في بلادنا العربية أكثر حنكة أو أقدر على معاكسة سنة الله التي مضت في فرعون، وأمثاله من بعده!؟؟ اللهم لا.

علماء النفس يؤكّدون أنّ شخصية الطاغية شخصية مريضة، وخطرة في الوقت نفسه. د.خضر عباس يقول مثلاً: "إنّ أخطر ما يؤرّق الطاغية هو المفارقة بين قدرته على أن يحوز على كل شيء، في حين أنّه لا يستطيع أن يحوز ذاته، فهي خارجة عن سيطرته بنزواتها وشهواتها". وهذا يجعل الطاغية أفقر الناس نفساً، فيعيش أخطر صراع مع ذاته وكيانه. تتخبط نفسية الطاغية ما بين جنون العظمة وعقدة الاضطهاد، وما بين السادية والمازوخية، ولهذا فإنّه أبداً لا يصل حالة من الاتّزان، بل يشعر دوماً بمزيد من تفسّخ الذات وتوزّعها بين الخنوع والسيطرة التي لا تعرف لها استقراراً إلاّ بمزيد من الاحتماء بالقوة والعنف تجاه الآخرين.

نفسية الطاغية ترفض كل ما يقيّد حركته، أو يقنن سلوكه، أو يخضعه للمساءلة والحساب، ولهذا فإنّه يزدري كل قانون، ويرى نفسه أعلى منه؛ لأنّه يعلم في قرارة نفسه أنّه أول الخارجين على حكم القانون، وأول من يجب محاكمتهم، وما أن تتسلل هذه المعاني إلى عقله الباطن حتى تستفز فيه نزعة التسلّط والسطوة والعنف، فيعمد إلى مزيد من ممارسة القهر ويبالغ في سحق معارضيه، وهنا بالضبط مكمن الخطر في الطاغية. وهذا ما يفسّر لنا مثلاً تصاعد وتيرة القتل في سورياً حتى بلغ متوسط الوجبة من أرواح الشهداء التي يحصدها بشار الأسد كل يوم جمعة أسبوعيا 30 شهيداً، إضافة إلى عشرات الشهداء الذين يحصدهم يومياً، دون جريمة ارتكبوها سوى أننا نراهم يهتفون بسقوط الأسد، ويكبّرون ويهللون ويصفقون!.

كان واضحاً منذ بداية الربيع العربي أنّ النظامين السوري والليبي سيكونان الأكثر دموية والأعتى في سحق المحتجّين. في سورياً لجأ النظام منذ اليوم الأول إلى أكذوبة العصابات المسلحة ليغطي على جرائمه في مواجهة المحتجين وقتلهم بالرصاص الحي، وإعدام كل من تحدّثه نفسه بالانشقاق عن قوات الجيش أو الأمن ورفض قتل أبناء شعبه. وفي ليبيا حصدت آلة القتل التي سلّطها القذافي على الليبيين ثلاثين ألفاً من أرواح الثوار الأطهار، بعد أن مكث هذا النظام القمعي في السلطة اثنين وأربعين عاماً، عاشها الليبيون خلف سور حديدي، فلم يكن يسمح لأحد من الليبيين بالظهور في أيّ مجال؛ لا في العمل ولا في اللعب، لا في السياسية ولا في الأدب، فقط "صورة القذافي" بسحنته الكريهة هي ما ظهر للعالم من ليبيا طوال أربعة عقود وعامين؛ حتى ظننا أنّه حاكم بلا شعب، وكادت ملامح وجوه الليبيين تغيب عن مخيّلة إخوانهم وأشقائهم في جميع الأقطار العربية، ناهيك عن بقية شعوب العالم. حتى كدنا ننسى أنّ هناك "شعباً ليبياً" عريقاً. ولكن عندما حانت لحظة الحقيقة وجد القذافي نفسه وحيداً بين أيدي الثوار الأطهار، ولم ينقذه "الحجاب" أو "التعويذة" التي عثر عليها الثوار في ثيابه ساعة مقتله؛ والتي ربما استغفله أحد السحرة الأفارقة وكتبها له ونصحه بأن يدسها في ثيابه لعلها تنجيه من هلاكه المحتوم!.

عندما حانت لحظة الحقيقة أيضاً ظهر الشعب الليبي مكبّراً مهللاً حامداً وشاكراً لله رب العالمينن وأطلّت على العالم وجوه رجاله ونسائه، أطفاله وشيوخه، وهي تشرق بابتسامات عذبة، ولمعت عيونهم من شدة الفرح، وقلوبهم تضجّ من السرور، وأرواحهم تلحق في السماء على نسائم الحرية. ولم تنفع القذافي عصابته المجرمة، ولا المرتزقة الذين استأجرهم لقتل الليبيين.

وكم كان رائعاً ذلك الثائر الليبي الذي شارك في قتل القذافي وظهر على شاشة الجزيرة مباشر ليلة مقتله ليحكي اللحظات الأخيرة، ويقول أنّه حاول تلقينه الشهادتين أكثر من مرة قبل أن تزهق روحه. كان أحرص على القذافي من نفسه! ما أروعك من ثائر نبيل. ولكن القذافي لم يستطع النطق، سكت إلى الأبد. باقي الطغاة العرب يومهم آت لا ريب فيه.

=================

النهر ضد المستنقع: جريان الثورة، تعفّن الاستبداد

الأحد, 23 أكتوبر 2011

خالد الحروب *

الحياة

لا تقع الثورة في مكان ما إلا وتكون شروطها الموضوعية قد تراكمت ودفعت الناس دفعاً إلى تبنِّيها والانخراط فيها. الثورة -وبالتعريف- مُكلفة، وهي اقرب إلى المغامرة والمقامرة منها إلى اي شيء محسوب بدقة. والميل الإنساني التاريخي نحو التغيير والتخلص من الامر الواقع الفاسد يفضِّل الإصلاح التدريجي إن كان قيد المستطاع، على الثورة العارمة. الاصلاح التدريجي يوفر على المجتمعات أكلافاً كبيرة تضطر لدفعها في خضم اندلاع الثورة، ذلك أن الثورة عندما تنفجر مدفوعةً بأسباب حقيقية، تطال شظاياها كل جوانب حياة المجتمعات، وتزلزل ما استقر من زمن طويل. لكن عندما تنسد كل منافذ الاصلاح التدريجي، او حتى البطيء جداً، تجد الشعوب نفسها امام خيار الثورة بكل اكلافه. بهذا المعنى، تغدو الثورة -بكونها الحل الاخير- علاجاً بالكيِّ بعد فشل كل انواع العلاج الاخرى.

الثورة تندفع إلى الوضع القائم الفاسد المُستبد كما يندفع النهر إلى المُستنقع. ويعرَّف المستنقع بأنه مستودع التكلس والجمود، تتراكم في اعماقه كل انواع التعفنات وامراضها. كلما مر وقت اطول على المستنقع من دون أن يطاله جريان الماء، يزداد تكلساً وتعفناً (القبلية، والطائفية، والفساد، والمحسوبية... وكل ما صار معروفاً). الشكل الخارجي للمستنقع يوحي بالاستقرار والأمان: حدود واضحة، أفق معروف، ولا حركة فيه مجهولة المسار والمصير. المجتمعات التي تعاني وطأة الاستبداد الطافح تتحول مع الزمن مستنقعاتٍ منطويةً على نفسها وعلى أغوارها السوداء. الحرية هي الآلية الوحيدة التي تمنع تحول المجتمعات المستقرة إلى مستنقعات، لأن الحرية تلعب دور النهر الدائم الجريان، يدور في جنبات المجتمع طولاً وعرضاً، ويندلق على كل بقعةِ تعفنٍ قد تطاوله فيطهرها.

المستنقعات العربية طوال العقود الماضية حطمت المجتمعات، ودمرت ثروات البلاد واستنزفتها، وتراكمت طيات العفن فيها إلى درجة الاختناق، ولم تسمح سيطرة حكم الفرد الواحد، والحزب الواحد، والعائلة الواحدة بأي منافذ حقيقية للإصلاح، تدريجياً كان او بطيئاً، إلا في حالات قليلة كان يتم فيها تنفيس الاحتقانات، ويُترك لجريان الماء -او بعض منه- أن يعيد الحياة إلى بعض الجوانب الميتة. لكنها حالات نادرة، ففي المقابل، دافع الاستبداد في معظم الحالات، عن وضع المستنقع كما هو، مبقياً على آليات تراكم التعفن تأكل ما تبقى من الجسم الحي في المجتمع، وتؤبِّد الإحباط وتبذر بذور الغضب القادم والثورة الشاملة لتستدعي تدفق النهر وفيضانه الكبير.

وصلْنا في المنطقة العربية إلى مفترق طرق عسير: إما التمسك بالمستنقع واستقراره الخادع وتعفنه العميق، وإما الانحياز الى النهر المتدفق الذي وإن كان سيجرف المستنقع ويقضي على العفن، لكنه -كنهر جارف- يندفع غير عارف في أي اتجاه سوف يسير بعد جرفه المستنقع... وهنا المقامرة الكبرى، وهنا سبب إعطاء المنطق والأفضلية لطروحات الإصلاح التدريجي، الحقيقي وليس التجميلي والنفاقي. الاصلاح التدريجي يتفادى المقامرات الكبرى، او ما يمكن ان يَنتُج بعد انجراف المستنقع، يمنح للمشاركين إمكانية الانتقاء والتجريب والتحسين، وبطبيعة الحال الإبقاء على أيِّ إنجازاتٍ من حقبة المُستنقع مهما كانت. إنه لا يبدأ من الصفر، لا يكرِّس الدمار والانجراف ليبدأ المسيرة الجديدة، كما يفعل النهر.

في غالب الدول العربية، إن لم نقل في كلِّها، لم تُعلن النخبُ الحاكمة مشروعات إصلاح حقيقي تحافظ على ما تم انجازه، وتُطلِق بها طاقات مجتمعاتها في مناخ من الحرية والمشاركة السياسية. الاصلاح كان تجميلياً، وقشرته هشة، وفي جوهره كانت سياسات المستنقع تُحمى وتُعزَّز. الكل ساهم في الانقياد إلى المأزق والانسداد الكلاني الذي ما عادت تكسره إلا ضربة نهر موجعة، ثورة شاملة، تقلب عالي المستنقع اسفلَه، وتحرره من تعفنه.

إلى أين ستقودنا الثورات العربية؟ أليس من الممكن ان تودي بالمجتمعات إلى اوضاع اكثر سوءاً من تلك التي ثارت عليها؟ أليس ثمة احتمال او حتى احتمالات ان يقودنا فوران هذا النهر غير المنضبط إلى اتجاهات مدمرة او مجهولة، بعيداً من طموحات الحرية والكرامة والعدالة التي أسست لكل الثورات وكانت منطلقَها؟ ألا يتربص أصوليون يتنافسون في التطرف بعضهم على بعض، للسيطرة على مجتمعات ما بعد الثورة وإقحامها في عصور مظلمة؟ ألا يعيد الخارج ترتيب اوراقه إزاء بلدان ما بعد الثورات معزِّزاً سيطرته عليها وعلى المنطقة، ومواصلاً هيمنته وربما استغلاله لثرواتها ولكن بطرق جديدة؟ هذه كلها، وغيرها كثير، جوانب لسؤال او تخوف مركزي يردده كثيرون إزاء الثورات، إزاء النهر المندفع، ويتجرأ كثير من اولئك للقول إن الحفاظ على ما نعرفه رغم شروره، المستنقع رغم تعفنه، أفضل من المقامرة على ما نجهله. بعض من هؤلاء يردد تلك التخوفات بحسن نية وخوف على المستقبل، لكن البعض الآخر بسوء نية وحرصاً على من تبقى في سدة الاستبداد ودفاعاً عنه.

التخوفات تلك، وربما غيرها كثير، مشروعةٌ. ليست ثمة ضمانات مسبقة على المستقبل، لكن في المفاضلة بين النهر والمستنقع الآسن يجب ان ننحاز إلى النهر. مستقبل المستنقع المتعفن معروف: المزيد من التعفن بانتظار النهر والقادم المحتوم. مسألة اندفاع النهر في ومن بطن المستنقع ذاته مسألة وقت: إنها تحوم حول متى سيندفع النهر وليس في ما إذا كان سيندفع ام لا. مستقبل النهر وجرفه للمستنقع مفتوح على كل الاحتمالات. صحيح ان حس المقامرة عال فيها جميعاً، لكن لا مناص من تلك المقامرة. إنها المرحلة التي لا بد لمجتمعاتنا من ان تمر فيها حتى تنتقل إلى مرحلة النضج والتسيس والاجتماع الصحي. إذا بقينا نخاف من القيام بهذه النقلة بسبب أكلافها التي لا مناص منها، معنى ذلك اننا سوف نبقى نغوص في مستنقعاتنا الى الأبد.

وإن كان لا بد من ترميز إضافي لرسم الصورة، فإن ما يعيننا فيها هو التأمل في المثال المباشر للطفل الذي يبدأ المشي للتو: كم عثرة وسقطة يواجه وهو في طريقه لتعلم المشي والانطلاق إلى ما بعده؟ كم مرة يبكي؟ وربما كم مرة يَدمى أنفُه؟ لكن لا بد له من المرور بتلك المرحلة رغم صعوبتها، فبقاؤه في مرحلة الحبو مسألة ضد طبيعة الاشياء.

لذلك، فإن الانحياز الى الثورات العربية، برغم كل ما فيها من اختلالات، ومغامرات، ومخاطرات، هو انحياز الى إرادة المستقبل على الماضي المحنط، وعلى الحاضر المستنقعي ايضاً. انحياز الى الحرية والكرامة ضد الاستبداد والذل المستديم، وهو ايضاً، وبوعي كامل، انحياز مقامِر في الوقت ذاته، إذ ليس هنا اي قدر من السذاجة او التساذج يتغافل عن الصعوبات الهائلة التي تواجه مجتمعات ما بعد الثورات في المنطقة العربية، فإسقاط انظمة الاستبداد هو الشوط الأسهل، رغم صعوبته، واحيانا دمويته وأكلافه الهائلة، في مسيرة بناء مجتمعات ديموقراطية وصحية وفاعلة. الشوط الاكثر صعوبة هو عملية التأسيس والبناء بعد عقود الخراب الطويل. الانحياز هنا يعني الاصطفاف مع التغيير ضد رتابة التكلس وجمود الاوضاع الآسنة. الثورة هي النهر الذي يجرف البرك الراكدة التي عشّش العفن في قلبها، لكن ركوب النهر نفسه مخاطرة ومقامرة ايضاً، فأين يذهب النهر؟ وكيف؟ وفي أي اتجاه سيشق مسيرته؟... كلها اسئلة معلقة برسم المستقبل.

عندما كتب عبد الرحمن الكواكبي سفره الشهير «طبائع الاستبداد»، متأملاً مصائره الحتمية وراصداً انهياراته القادمة في وجه الثورة والتغير – والنهر الجارف، قامر على المستقبل ورأى ان صيحة الحرية، وهي أمُّ البشر كما رآها، قادمةٌ لا محالة، وسوف تخلع جذور الاستبداد. في صدر «طبائع الاستبداد» وصف نداءه للحرية قائلا: «إنها صيحة في واد... او نفخة في رماد... إن ذهبت اليوم مع الريح، فستذهب غداً بالأوتاد».

* محاضر وأكاديمي - جامعة كامبردج، بريطانيا

==================

ملهاة القانون المأساوية في سوريا

فواز حداد

الشرق الاوسط

23-10-2011

تنتشر في شوارع وسط العاصمة دمشق والأطراف القريبة منها إعلانات طرقية، يمولها رجال أعمال سوريون، عنوانها العريض «أنا مع القانون»، ملحق بها عناوين فرعية تختلف من إعلان لآخر: «هادئ أو متوتر» «متشبث أو متساهل» «متفائل أو متشائم» «كبير أو صغير» «تقليدي أو عصري».. الخ، بحيث أنها لا تترك مجالا للمواطنين إلا ليكونوا مع القانون على الرغم من اختلاف طبائعهم، أو ظروفهم النفسية ووجهات نظرهم وأمزجتهم وشرائحهم العمرية؛ والغاية تذكيرهم بسيادة القانون، لا سيما أننا في بلد مستهدف لا ينبغي أن يترك لمخططات المتآمرين أو لعبث العابثين.

يستلفت النظر ما أظهره بعض رجال الأعمال السوريين من غيرة على القانون، إضافة إلى الكرم والأريحية، وما تحلوا به من سداد رأي أخطأ هدفه في هذا المنعطف الحرج، بدعوة أبناء الوطن لئلا تغريهم المظاهرات التي تضرب عرض الحائط بالقانون. فالمحتجون حسبما يرى رجال الأعمال، يخرجون من دون إذن ولا رخصة، يطلقون هتافات تدعو في الظاهر إلى الحرية والوحدة الوطنية، وفي الباطن إلى الفوضى والتشرذم. وهي حالة شديدة الخطورة تشكل تهديدا للاستقرار وللقانون، تتطلب إيقافها والتصدي لها. فجرى استنفار الدولة لأجهزة الأمن ومعها الجيش، يؤازرهم متطوعون من الحزب وعاملون في مؤسسات الدولة، إضافة إلى جيش غير نظامي بات يعرف ب«الشبيحة». هذه الإعلانات البريئة تدعو للتساؤل، مثلما تدعو إلى الريبة، فهي صادرة عن متضامنين مع النظام، ليس عسيرا اتهامهم بأنهم تمتعوا بامتيازات سمحت لهم بأفضليات لم تحقق المساواة مع غيرهم من المواطنين، جمعهم تواطؤ سري كان معروفا مع شركائهم من رجال في النظام استغلوا نفوذهم الوظيفي والأمني، وجنوا معا ثروات أسطورية يشهد عليها ما يملكونه من أموال في داخل البلاد، أو مودعة خارجها. المستغرب دعوتهم إلى الالتزام بالقانون، بينما هم في دائرة الشبهات من القانون بالذات!

بينما يدل تاريخ الأجهزة الأمنية، حماة القانون والساهرين على تنفيذه، على أنهم لم يتقيدوا به، طوال عقود سابقة، خلال فترة عصيبة مر بها الوطن، بل امتطوه وأهدروه، واستغلوه لمصالحهم الشخصية أسوأ استغلال بالمتاجرة بالموقوفين والمسجونين والمحكومين بأحكام طويلة أو بالإعدام. وساوموا الضحايا وأهاليهم، على حرياتهم والإفراج عنهم، إلى حد أنهم كانوا يقبضون ثمن إبلاغهم إن كانوا أمواتا أو على قيد الحياة. المؤلم أن عمل العدالة السورية الحالية لا يطالهم لأنهم يعملون تحت ظل قانون آخر، لا يشبه أي قانون في العالم ما زال ساري المفعول، أباح لهم استعمال عنف منفلت من الضوابط بلا كابح ولا حدود، ومن غير مساءلة.

أما الجيش درع البلاد، فكُلف مواجهة أزمة سياسية غير مؤهل لها ولا ضمن مهامه، فهو لا يتعامل بالقنابل المسيلة للدموع أو الهراوات الكهربائية ولا الرصاص المطاطي، بل على دراية باستخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة. فجابه الاحتجاجات في المدن والقرى، بالرصاص الحي والقنابل والمدافع الرشاشة. مما أدى إلى عكس المرجو من الجيش الوطني حماة الديار، إذ لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يقتل أبناء الوطن بيد جنود الوطن. والأخطر هو ما سيؤدي إليه من فقدان الشعب الثقة بجيشه.

يشارك في القمع ويشكل إحدى ركائزه الأساسية، عصابات «الشبيحة» وهم في أصولهم الأولى، جماعات خارجة عن القانون من أصحاب السوابق الجرمية، تعاملوا بالممنوعات من التهريب إلى القتل المأجور، كانوا ملاحقين من أجهزة الأمن، واليوم يسهمون بالقسط الأكبر من القمع والأشد وحشية وهمجية في التنكيل بالمتظاهرين وإزهاق الأرواح.

دولة القانون، هذا ما يريده السوريون فعلا، لكن في هذا الظرف العصيب، هناك مقدمات كثيرة لا بد من الإلحاح عليها، إحداها عدم استخدامه ذريعة للقفز فوقه. وبالتالي ما يستفز في هذه الدعوة، ليس أنها غير موجهة إلى الجهات المقصودة، وإنما إلى المواطنين المنصاعين أصلا لنواهي القانون ولتجاوزات السادة من رجالات النظام. الأمر المفروغ منه أن الشعب كان في حالة طاعة سواء كانت قسرية أو اختيارية، امتثل لها أو أجبر عليها بدعاوى قومية ووطنية، وإذا كان قد انتفض فلأن لديه مطالب مشروعة وحاجات لم تلب، وحقوقا أساسية سلبت منه، وليس احتجاجا على القانون، بل ضد الذين عبثوا به. والسؤال الذي يستدعي نفسه، ألم يكن من الأفضل لرجال المال والأعمال ألا يعطوا الشعب درسا هم الأحوج إليه؟

القانون في سوريا، مأساة مبكية من جانب، وملهاة مضحكة من الجانب الآخر، ما دام أصحاب الإعلانات الخيرية يتناسون أن العدالة هي موضوع القانون، الضامن لتعايش الحريات، وتكافؤ الفرص، والمحدد لحقوق المواطن وواجباته، وتأمين النظام والسلام في الدولة. هذا القانون لا يصح الغرض منه، إلا بسريانه على الجميع من دون استثناءات. وإذا تأملنا القانون المكتوب نجد غيابا شبه كامل له على الأرض، والأسوأ أن الداعين إلى التقيد به والساهرين على تنفيذه، أول الخارجين عنه. بينما المسؤولون عنه، يتحكمون به، بغية خرقه والتلاعب به. أما الذين يطبق عليهم، فمحرومون من الحقوق التي يمنحها لهم القانون نفسه.

=================

أزمة سوريا تضع المنطقة على صفيح ساخن!

فايز سارة

الشرق الاسط

23-10-2011

عشية دخول الأزمة في سوريا شهرها الثامن، تبدو الأزمة مرشحة أكثر من أي وقت مضى للتأثير في محيطها الإقليمي، بل بعض التأثيرات المباشرة وغير المباشرة، صارت واضحة، وهي آخذة في التفاعل ليس في تجلياتها السياسية/ الاقتصادية والاجتماعية، بل أيضا في تجلياتها الأمنية/ العسكرية في تزايد قعقعة السلاح، وعبر عمليات عسكرية اتخذت من العراق وتركيا ولبنان ميادين لها، إضافة لما يحصل في سوريا وتداعياته.

في الجوانب السياسية والاقتصادية الاجتماعية لما أفرزته الأزمة السورية على محيطها الإقليمي، يمكن ملاحظة الترديات في العلاقات السورية – التركية، التي كانت حققت ازدهارا ملموسا في السنوات الأخيرة، قبل أن تصيبه تداعيات الأزمة بالعطب الشديد، فتترك فيه افتراقا سياسيا بين موقفين متناقضين، يسير كل منهما نحو تصادم لا يستبعد منه الصدام العسكري، كما أدت الأزمة إلى إغلاقات اقتصادية لا تطال العلاقات السورية – التركية في مجال التبادل التجاري والمشاريع والاستثمارات المشتركة فقط، وإنما تترك تأثيرات على حركة المرور التركي الاقتصادي والمالي إلى بلدان العمق العربي في الخليج ولبنان والأردن، ومنها باتجاه تركيا، مما يترك آثارا على البنى والحراكات الاجتماعية في بلدان الجوار السوري.

ولا يقل أهمية عن التأثيرات السابقة للأزمة السورية على محيطها، تأثيراتها على إعادة ترتيب خريطة التحالفات في المنطقة. ففي الوقت الذي كانت فيه سوريا تمثل الركن المشترك في العلاقة بين إيران وتركيا نتيجة علاقاتها القوية بالجانبين، تم قطع التواصل الإيراني - التركي، وبدء تبلور قوتي تجاذب في إطار علاقاتهما العربية: إيران وتحالفها مع سوريا والعراق ولبنان المحكوم من تحالف يقوده حزب الله، وتركيا التي تمثل بعلاقاتها مع أغلبية البلدان العربية ولا سيما مع مصر والسعودية القوة الأخرى، ومن الواضح، أن قوتي التجاذب تتجهان نحو تصادم لا يستبعد فيه الصدام العسكري مدعوما من إرادات ومصالح دولية ومتقاطعا معها.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تبدو كأنها خارج سياق التأثيرات التي تتركها الأزمة السورية في المحيط الإقليمي، فإن ذلك المظهر، ليس أكثر من مظهر خادع، إذ هي مستفيدة من احتدام العلاقات الإقليمية في جوانبها السياسية/ الاقتصادية والاجتماعية، ومن احتمال انزلاق المنطقة وبعض بلدانها إلى أتون الصراعات العنيفة سواء كانت حروبا بين تحالفات ودول، أو جاءت في سياق حروب وصدامات داخلية.

غير أنه وخارج الإطار العام لما تخلفه الأزمة السورية من تداعيات إقليمية في الجوانب السياسية/ الاقتصادية والاجتماعية، فإن من المهم التوقف عند التداعيات الأمنية/ العسكرية، وفي هذا الجانب لا بد من ملاحظة أن ذلك التطور الخطر يتخذ من سوريا مركزا لانطلاقه، طبقا لما تشير إليه الوقائع. ومن حيث المبدأ تتوالى الأحاديث اللبنانية عن عمليات أمنية/ عسكرية سورية في لبنان ولا سيما في المناطق المجاورة للحدود بين البلدين، التي تستهدف منشقين ومعارضين سوريين اتخذوا من لبنان ملاذا آمنا، وهو وضع يتقارب بدرجة أقل مع كلام تركي عن سلوكيات سورية تستهدف منشقين ونازحين سوريين في الجانب التركي من الحدود مع سوريا.

وبالتزامن مع تلك التطورات، ظهرت اتهامات تركية باتجاه سوريا وإسرائيل، مع تركيز خاص على سوريا، بأنها المسؤولة عن العمليات العسكرية الأخيرة لعناصر حزب العمال الكردستاني (p.k.k) التي استهدفت أهدافا عسكرية ومدنية، أحيت سنوات الصراع بين الدولة التركية وأكرادها، وقد استمرت بين مطلع ثمانينات القرن الماضي وأواخر التسعينات، وكان لسوريا فيها دور معروف وتأثير كبير في دعم (p.k.k)، قبل أن تقوم سوريا بتسليم قادة ذلك الحزب وبدء مسيرة تعاون مع الأتراك، وأدت عمليات (p.k.k) في تركيا إلى استعادة وتنشيط روح العسكرية التركية بعد أن شهدت تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، واندفعت قوات كبيرة باتجاه منطقة شمال العراق للقضاء على الوجود المسلح لعناصر (p.k.k)، ولا سيما منطقة زاب بشمال العراق حيث توجد قواعد للحزب، ولا شك في أن هذه العمليات ستشكل مدخلا لتصعيد المشاكل بين تركيا وجوارها سواء مع أكراد العراق وحكومتهم في الشمال أو مع حكومة بغداد.

لكن الشق الأهم في الأثر الأمني/ العسكري للأزمة في سورية على تركيا تمثله احتمالات تطور الموقف التركي حيال الأزمة السورية. فإضافة إلى مخاوف التهاب المناطق الحدودية بين البلدين التي تمتد على طول يقارب الألف كيلومتر وأغلب سكانها من الأكراد، فإن القادة الأتراك معنيون بالتجاوب مع محيطهم الشعبي الذي يؤيد مطالب وأهداف الشارع السوري في ثورته على النظام، والأتراك في الأبعد من ذلك معنيون بالموقف الدولي الذي تميل أغلبيته إلى مساندة الحراك الشعبي ومطالبه، والمحصلة العامة، تتمثل في توافق المخاوف مع المصالح في المستويين الداخلي والخارجي، وتدفع تركيا إلى تجذير موقفها وتشديده، جاء في إطاره سلسلة إجراءات منها فرض حصار على مرور الأسلحة إلى سوريا، وعقوبات اقتصادية منها وقف تبادلات وتنفيذ عقود، والأهم أن العقوبات دخلت حيز التنفيذ العملي.

وقد يكون الأخطر في تداعيات الأزمة على تركيا، هو دور محتمل، إذا تقرر في وقت لاحق الأخذ بالخيار العسكري الدولي لمعالجة الأزمة السورية سواء من خلال قرار لمجلس الأمن تحت البند السابع، أو بقرار من خارج الشرعية الدولية، وتركيا هي الدولة المحتملة لتكون بوابة ذلك التدخل ليس بسبب موقفها من الأزمة، ولا بسبب كونها العضو المجاور الوحيد لسوريا من دول «الناتو»، وإنما لأنها من أقوى دول الجوار ولديها تجربة في ممارسة قوة الإكراه على سوريا. في ظل هذه المعطيات، فإن تركيا يمكن أن تذهب إلى أبعد البعيد في تأثرها بالأزمة السورية الراهنة، تلك الأزمة التي جعلت المنطقة من إيران شرقا وحتى ليبيا غربا، ومن تركيا في الشمال إلى حدود بحر العرب في الجنوب أمام عواصف سياسية/ اقتصادية واجتماعية، وصولا إلى احتمال عواصف أمنية/ عسكرية، تبدو مؤشرات تسخينها اليوم حاضرة وواضحة بصورة لا التباس فيها.

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ