ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 12/11/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

لماذا خسر "السيد"؟

محمد أبو رمان

الغد الاردنية

11-11-2011

برهن النظام السوري على نواياه الإصلاحية بشلالات من الدماء والجثث المتكدسة في المستشفيات، ورصاص وقصف يطاول الأطفال والنساء قبل غيرهم، مع هذه "الفرصة الزمنية" الجديدة التي تعطى له من جامعة الدول العربية، وكأنّها "رخصة" للقتل واستباحة المحرمات والأعراض والأرواح، حتى يوم السبت المقبل، موعد اجتماع الجامعة المخصص لمناقشة "خرق الاتفاق"!

أمّا حي "بابا عمرو" فقد كان "الحكاية" الحقيقية في العيد، ليكرّس فصلاً من فصول البطولة والوفاء لهذا الشعب العظيم في مواجهة آلة القتل البشعة، فدفع فاتورة إضافية على غيره، من دماء شبابه وأطفاله ونسائه. وإذا كان المجلس الوطني السوري قد اعتبر حمص "مدينةً منكوبة"، فكيف الحال ببابا عمرو، هل هنالك مصطلح أكثر من ذلك يمكن أن يصف حجم الأهوال التي يذوقها سكانه لأنّهم تواطؤوا على ارتكاب "جريمة المطالبة بحريتهم"؟!

العالم بتباطئه وتقاعسه، والنظام العربي بعجزه وترهله، يساهمان في "شرعنة" هذه الجرائم البشعة ضد الإنسانية والمدنيين. ومن الواضح أنّه لم ينضج إلى الآن قرار دولي أو إقليمي لإنهاء النظام السوري المنهك، الذي ينتظر رصاصة الرحمة، بعد أن فقد أي نوع من أنواع "الشرعية"، حتى تلك الشعارات البرّاقة ضد إسرائيل، فمنحته (سابقاً) ميزة أفضل لدى قوى وشرائح اجتماعية عربية على الأنظمة العربية التي جمعت السوأتين؛ عمالة رخيصة للولايات المتحدة واستبداد وفساد داخلي.

لم يخسر النظام السوري فقط ويظهر على حقيقته الدموية، أمام الرأي العام العربي، بل سحب معه كلا من إيران وحزب الله، اللذين خسرا كثيراً بانحيازهما لهذا النظام. فمهما كانت المبررات، فإن التواطؤ والمشاركة، ولو سياسيا ورمزياً، بهذه الجرائم ضد السوريين، هو سقوط أخلاقي وإنساني كبير، وموقف ليس من السهل على الشعوب العربية أن تغفره لهما.

هل قرّر زعيم حزب الله حسن نصر الله، إغلاق عينيه، عندما صعّد من موقفه المؤيد لمذابح النظام السوري والمبارك للمجازر الحالية، فلم ير بالفعل ما حدث في حيّ بابا عمرو، وحمص، وقبلهما حماه وإدلب ودرعا ودير الزور والقامشلي وجسر الشغور.. فهل يرى نصر الله كل هؤلاء الملايين عملاء للصهاينة ومتآمرين؟!

منذ البداية، وضع إعلام حزب الله في لبنان، من صحف وفضائيات، نفسه في خدمة الدعاية الرسمية للنظام السوري، واتخذ خندقاً معادياً للشعب السوري بأسره، فيما كان بإمكانه أن يبدو أكثر توازناً بين مصالحه السياسية وتحالفاته الآنية وبين صورته ومواقفه الأخلاقية ومصالحه على المدى البعيد، بعد الانهيار الأكيد للنظام الفاشي في دمشق!

لقد خسر "السيد" كثيراً على الصعيد الرمزي، لكن خسارته الكبرى تمثّلت في حساباته الخاطئة ضد شعب بأكمله استهتر بدمائه وتضحياته، بينما أثبتت حركة حماس أنّها أكثر تماسكاً وذكاءً من الحزب، فهي بالرغم من تحالفاتها الاستراتيجية العميقة مع التحالف السوري-الإيراني، والخصومة الرسمية العربية لها، وبرغم الضغوط السورية القاسية على قيادتها التي تقيم في دمشق، إلاّ أنّ الحركة اختارت أهون الشرّين، فصمتت، مع ما يحمله هذا "الخيار" من كلفة سياسية ومالية كبيرة على الحركة لدى حلفائها على الجهتين.

ليست القضية فقط إنسانية وأخلاقية على أهمية ذلك كثيراً لحزب الله، فقد اعتمد كثيراً على هذه "الدعاية السياسية" سابقاً، لكنه أيضاً رهان خاسر وفاشل تورّط فيه "السيد" رمزياً وسياسياً، بل واستراتيجياً. هذا النظام زائل لا محالة، عاجلاً وليس آجلاً، وقادته هم أول من يدركون ذلك، ولا يمكن أن يكون هذا "الإيغال" في المجازر ضمن حسابات البقاء.. بل الرحيل!

m.aburumman@alghad.jo

================

الوضع السوري والانسياق وراء الأوهام

رضوان السيد

الشرق الاوسط

11-11-2011

وصلت الأوضاع في سوريا وما حولها إلى المرحلة الحاسمة، التي كان النظام، بل وكان الجميع من عرب وإقليميين ودوليين، يحاولون تأجيلها أو الهرب من استحقاقاتها الحاضرة والمؤجلة. ما عاد هناك شيء مؤجل. فالنظام الذي قضى سبعة أشهر وهو يأمل أن يتمكن من إخماد الانتفاضة، دخل الآن، أو أرغمه السوريون الثائرون على الدخول فيما يشبه حرب العصابات؛ تارة مع المنشقين عن الجيش وقوات الأمن، وتارة مع «المسلحين» أو المحتجين الذين لجأوا للسلاح؛ إما ثأرا للمقتولين أو للدفاع عن النفس في وجه عمليات الملاحقة للقتل أو الاعتقال.

وقد حصل أمران يوم عيد الأضحى؛ فقد تجنب الرئيس بشار الأسد الصلاة في الجامع الأموي بدمشق، وذهب إلى المسجد الكبير بالرقة لتأدية صلاة العيد، وهو بذلك يريد أن يصور للسوريين أن العشائر السنية بتلك المنطقة على حدود العراق هم من أنصاره. ومن هناك صرح، على لسانه، مفتيه المعروف، حسون، بأن الرئيس لا يريد أن يبقى في السلطة على مدى الحياة، بل إنه، وبعد أن تتم عمليات الإصلاح (!)، سيترك السلطة لممارسة طب العيون الذي تخصص فيه في لندن، قبل أن يموت شقيقه باسل، ويقرر الوالد اعتبار بشار وليا لعهده الميمون! لقد بلغ من ضعف النظام وتخبطه أنه ما استطاع حتى «الاحتيال»، الذي اتهمه به رئيس وزراء قطر.

المبادرة العربية لا تتيح فرصة فقط؛ بل تعرض حلا إنقاذيا للنظام والمعارضين في الوقت نفسه. إنها تعطي النظام شرعية، وتطالبه بوقف العنف، ثم الدخول في حوار مع المعارضة من أجل تحول ديمقراطي متوسط المدى، ينجو فيه الجميع. وقد كان بوسع النظام لو كان لا يزال قويا أن يعطي نفسه فرصة بإيقاف العنف أو تخفيفه، لتشتبك المعارضة فيما بينها من حيث التمثيل في الحوار، وهذا فضلا عن التفاوض على مكان الحوار وزمانه. لكنه (وكما سبق القول) كان من الضعف بحيث ما جرؤ على ترك حمص وحماه وشأنهما ليومين أو ثلاثة خلال العيد. وعمد، كما فعل بحماه في مطلع شهر رمضان، إلى ارتكاب المذابح في المدينتين اللتين صارتا أسطورة في الصمود والتصدي، وليس على طريقة أنظمة الممانعة في ذلك، بل على الطريقة التي اجترحتها الثورات العربية خلال شهور عام 2011.

بيد أن الإحراج الفظيع الذي وقع فيه النظام، نتيجة خوفه من انفلات الاحتجاج وتعاظمه إذا سحب قوات أمنه من المدن والبلدات، يواجه - وإن ليس بالحجم نفسه - المعارضين. فهناك أطراف لا تزال خارج المجلس الوطني أفرادا أو جهات، بحجة أن المجلس تورط في الدعوة للتدخل الأجنبي. وهذا عذر أقبح من ذنب. فالتدخل الأجنبي المقصود هو حماية المدنيين، وإن كان المعارضون هؤلاء مصرين على إنكار أي تدخل، على الرغم من تواضع المطلب؛ فإن أفضل الوسائل للحيلولة دون ذلك، إنما تكون بالوصول بالمجلس الوطني والمعارضة لأي شيء من داخلهم. إذ لا مصير لهم خارج المجلس الوطني إلا الانكفاء وانعدام التأثير، أو الإيمان بحوارات النظام، التي ما عاد أحد يصدقها حتى أصدقاء النظام الأماجد بلبنان! لكن المجلس الوطني نفسه، ومن خلال بيان رئيسه، وضع نفسه خارج الأحداث أو فوقها، عندما حمل على المبادرة العربية، وما طرح بدائل شاملة، بل دعا العرب والدوليين لحماية المدنيين، وطلب من الجيش السوري الحر التعاون معه. وقد كان بوسعه - بانتظار رفض النظام للمبادرة عمليا - أن يعرض برنامجه لمواضيع الحوار، والخطوط الرئيسية للدستور الجديد الذي يقترحه، بدلا من الاكتفاء بمسألتي حقوق الأقليات، وفصل السلطات!

على أن الإحراج الأكبر إنما ينال الأتراك بالذات. فقد رفضوا منذ البداية التسليم بالحل العربي أو الدعوة إليه، وحاولوا التصدي للمشكلة مع النظام مباشرة، وعندما لم ينفع التفاوض مع النظام، تقبلوا اللاجئين، ورضوا باستقبال المعارضة أو السماح لها بإقامة المؤتمرات على أرضهم، وانصرفوا إلى رفض مسالك النظام عَلَنا، والتواصل مع الأميركيين من أجل المخارج. وقد قال الروس والصينيون أخيرا إنهم يريدون من الجامعة العربية التدخل والتوسط، وما قال ذلك الأتراك صراحة. صحيح أنهم تحدثوا إلى العرب فرادى عن الوضع السوري، لكنهم بالتأكيد تشاوروا مع الإيرانيين أكثر. ويكون عليهم الآن أن يحددوا موقفا أو إطارا يرضون العمل معه وفيه لإخراج سوريا جارتهم من المأزق، وليس مع الأميركيين، بل مع العرب الذين لا مدخل طبيعيا إلى سوريا إلا من خلالهم، مهما بلغ طول الحدود بينهم وبين سوريا.

وقد كان الأوروبيون جماعيين في الشهور الأولى للأزمة السورية، واتخذوا قرارات بعقوبات جمة ضد النظام. لكنهم، باستثناء فرنسا، سكتوا في الشهرين الأخيرين. ولذا سيكون على فرنسا العمل مع العرب ومع الولايات المتحدة إن شاءت الوصول إلى مرحلة التقدير والتدبير.

والسلوك الأميركي تجاه الأزمة هو السلوك الأميركي التقليدي، لكنه ما عاد ممكنا الآن. فقد بدأوا مع الأوروبيين في رفع الصوت ضد النظام السوري، وفرض العقوبات عليه لدفعه للحركة باتجاه التغيير، حين كان الأتراك لا يزالون يتفاوضون، وحين كان العرب لا يزالون يلتزمون الصمت المطبق. وكان هذا موقفا متقدما تخللته مشاهد السفير الأميركي في حماه، وتصريحاته الشهيرة.. وإلى حين انسحابه من سوريا. منذ الانسحاب بدأت مرحلة جديدة اتسمت بالتصريحات المضعضعة لوزيرة الخارجية كلينتون، والاجتماع بين أوباما وأردوغان دونما تصريحات علنية، ووصولا إلى تعيين مبعوث لأوباما لشؤون انتقال السلطة في الشرق الأوسط! فهل يشير هذا التعيين إلى مرحلة جديدة في السياسة الأميركية تجاه التغيير العربي، خاصة في سوريا؟! وإذا كان هناك تغيير ففي أي اتجاه؟ ذلك أنه من الواضح أن الأميركيين هم الذين يملكون التأثير التعديلي أو التغييري على الروس والصينيين من خلال مبادلات ومصالح بالمنطقة وخارجها.

ولا فائدة من الحديث عن التأخر العربي، وعن طرائق دخول الجامعة على الأزمة. ذلك أننا الآن في موقف وموقع أفضل بكثير. فهناك لجنة وزارية، وهناك مبادرة تفصيلية، وقد زعم الصينيون والروس أنهم سيتجاوبون معها، وكذلك الأوروبيون. وعلى المجلس الوطني السوري أن يكون أكثر إيجابية تجاهها، بل إن ذلك ضرورة للثورة السورية وللعرب. إذ لا يجوز ترك المبادرات والأدوار في أحضان الأميركيين والأتراك، وذلك لعدة أسباب: حساسيات السياسة الأميركية فيما يتصل بسوريا على الخصوص، ومنها أمن إسرائيل، والجوار مع العراق، والجوار مع لبنان، والوضع الاستراتيجي بالمنطقة ومتغيراته، ومن ضمنها الهياج الإيراني والهياج على إيران. أما تركيا فلديها اعتبارات الجوار والعلاقات الوثيقة السابقة بالنظام، والملف الكردي، والمشترك مع إيران في الملف الكردي والملف العراقي، واستراتيجيات المنطقة باعتبارها شريكا. إن هذه الاعتبارات كلها لا تعني أن الأميركيين والأتراك لا يريدون التغيير في سوريا، وإنما يريدون «ترتيبات» تراعي في المرحلة الانتقالية التي تصاحب أو تعقب تَداعي النظام السوري أو سقوطه. وكل ذلك لا يفيد فيه، ولا يقلل من آلامه بل يزيد من تقوية المجلس الوطني بالاعتراف والدعم، وبالبقاء تحت مظلة الجامعة العربية.

سوريا بلد عربي عزيز ورئيسي. والثورة السورية، بطرائقها في العمل وشعاراتها وتضحياتها، وتعقيدات ذلك النظام المركب، تتحول إلى جانب اليمن سيدة لحركات التغيير العربية. فالمطلوب أن نبقى عربا أولا وآخرا. فالعروبة صارت عبئا، وينبغي عن طريق التضحيات السورية أن تعود مدخلا وميزة. وإذا أخرج الشعب السوري الجمهورية العربية السورية - بدعم العرب وعملهم - من مآزق الترتيبات والتركيبات، فإن بلاد الشام (وهي مهد العروبة الحديثة) ستكون كما غبرت ميزان العروبة واستراتيجياتها في العقود المقبلة. إنه أمر مصيري لسائر العرب، ورافعته اليوم ثورة الشعب السوري، فلا يجوز الخطأ في التقدير ولا في التدبير، ومن ضمن ذلك الانسياق وراء الأوهام!

==============

إثارة الملف الإيراني للتغطية على الملف السوري

الجمعة, 11 نوفمبر 2011

راغدة درغام – نيويورك

الحياة

ستكون الأيام المقبلة صعبة على الحكومتين الإيرانية والسورية اللتين تردان على الانتقادات الدولية لهما بكيل اتهامات العمالة والتدخل والمؤامرة ضدهما. صعبة لأن «الاختباء وراء الإصبع» بات فاضحاً، ولأن موعد المحاسبة بات وشيكاً، ولأن روسيا وأخواتها في حلف «الممانعة» في مجلس الأمن لم يتمكنوا من حماية النظامين في طهران ودمشق من استحقاقات إصرارهما على المكابرة. إنما ليست إيران وسورية وحدهما مقبلتين على أيام صعبة وإنما أيضاً رفيقتهما في المكابرة والغطرسة والتحايل على الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، إسرائيل. فإسرائيل بنيامين نتانياهو تشدّ الحبل على عنقها وهي في صدد شنق الفلسطينيين. كلام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للرئيس الأميركي باراك أوباما – والذي لم يكن يفترض له أن يقال علناً – كلام صب في خانة الصدق عندما وصف ساركوزي نتانياهو بأنه «كاذب». واقع الأمر أن الأكثرية من رجال السياسة والإعلام والخبراء في الشرق الأوسط تصف نتانياهو تكراراً بأنه «محترف الكذب ومدمن عليه». هذه المرة، قد لا تنحصر الأكاذيب في وعود العملية السلمية مع الفلسطينيين وإنما قد تطاول ما في ذهن نتانياهو نحو إيران وكذلك سورية. وفي الأمر الكثير من الريبة – وليس للمرة الأولى. فسوابق رئيس الوزراء الإسرائيلي في دعم استمرار النظام السوري ومعارضة الضغوط عليه معروفة بالذات لدى الإدارة الأميركية. قيل إن إسرائيل عادت عن رأيها المعارض لتغيير النظام في سورية في الأسابيع الماضية، إنما هناك مؤشرات على إعادة النظر في ذلك، منها سعي نتانياهو لتغيير الحديث والتركيز الدولي بعيداً من سورية في اتجاه إيران. هذه خدمات يقدمها نتانياهو إلى كل من الرئيس السوري بشار الأسد والإيراني محمود أحمدي نجاد في شكل تهديدات وإيحاءات بإعداد عملية عسكرية إسرائيلية توقف إيران عن برامجها النووية. هذه «الخدمات» لها مردود على نتانياهو نفسه لأنها قد تورط الإدارة الأميركية في مواجهات ومتاهات في المنطقة العربية مما يخدم نتانياهو في المعادلة الفلسطينية – الإسرائيلية ويُبعد الضغوط عنه. إنها خدمات مشتركة لكل من الأسد وأحمدي نجاد ونتانياهو عنوانها تحويل الأنظار شراء للوقت وتلاقياً للمصالح.

أية ضربة إسرائيلية عسكرية لإيران ستخدم أولاً في حشد العاطفة الشعبية العربية والإسلامية لمصلحة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. أولاً، لأن إسرائيل دولة نووية رغم أنف القوانين والأعراف الدولية. وثانياً، لأن هذه المشاعر ترفض قطعاً المقولة الإسرائيلية إن إيران النووية تهدد بقاء إسرائيل. وثالثاً، لأن إسرائيل لا تملك السلطة القانونية لأخذ مسألة إيران النووية في أياديها ضاربة عرض الحائط بمجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الكبرى.

أيضاً، إن توقيت التوعد والتهديد والتلميح بعملية عسكرية إسرائيلية ضد المفاعل النووي الإيراني يكاد يكون هدية لحليف إيران الأول في المنطقة العربية – نظام بشار الأسد في سورية. فلو وقع مثل هذا القصف الإسرائيلي في هذه المرحلة الحرجة لسورية، لوظّف النظام هذه «الهدية» لمصلحته على حساب المعارضة، ولاستغل الفرصة لسحق المعارضة في ظل تحوّل الموازين الإقليمية، لا سيما الشعبية والعاطفية.

دول مجلس التعاون الخليجي التي تخشى أكثر ما تخشى امتلاك إيران القدرة النووية العسكرية ستُصاب استراتيجياتها بانتكاسة كبرى إذا نفذ نتانياهو ووزير دفاعه إيهود باراك عملية عسكرية في إيران. فبقدر ما يتمنى بعض هذه الدول قطع «رأس الأفعى» في طهران ليكفّ الحليفان الإيراني والسوري عن محورهما الخطير، ترى هذه الدول أن أسوأ خدمة تسددها إسرائيل لها هي «خدمة» شن عمل عسكري ضد إيران. فهكذا عمل يخدم أكثر ما يخدم حكّام إيران وسورية وليس حكّام مجلس التعاون الخليجي.

قد يكون نتانياهو يمارس حرفته المدمن عليها في سياسة حاذقة هدفها دفع الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى الكف عن التلكؤ والتساهل مع إيران وهي ماضية في حيازة السلاح النووي. فإذا كان هدفه المساهمة في إيقاظ كل من روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لإبلاغها أن سباتها مرفوض وبات عليها اتخاذ إجراءات، حسناً. إنما ما يخشاه بعض هذه الدول، لا سيما الولايات المتحدة، أن يكون قرار نتانياهو قائماً على جرّ واشنطن إلى التورط في عمل عسكري ضد إيران أو على الأقل ترك الانطباع بأن واشنطن وافقت على عمل إسرائيلي عسكري. وفي الحالتين، تدفع واشنطن تكلفة غالية.

وربما ليس في ذهن نتانياهو القيام حالياً بعمل عسكري وإنما طرح المعادلة من خانة إحراج باراك أوباما وفتح معركة انتخابية عليه لإظهاره ضعيفاً ومتردداً أمام خطر نووي كهذا. فليس بين الرجلين أية محبة تُذكَر. ورئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد للرئيس الأميركي ولاية ثانية تجعله أكثر حزماً مع إسرائيل إن كان بصدد المستوطنات غير الشرعية أو في إطار وعود حل الدولتين العارية من الصدق على طريقة نتانياهو.

إدارة أوباما أعطت حكومة نتانياهو كل ما شاء، وعلى رغم ذلك، إنها تتعرض لابتزاز من اليمين الإسرائيلي ومزايدات من الجمهوريين الأميركيين. فلقد اضطر باراك أوباما إلى التراجع بتماسك عن الوعود التي قطعها على نفسه عند بدء ولايته نحو حل الدولتين ولم يفلح حتى اليوم في إيقاف بناء المستوطنات غير الشرعية. بل إنه أُجبِرَ على استخدام الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع قرار المستوطنات مع العلم أن السياسة الأميركية لسنوات عدة قامت على معارضة الاستيطان.

وفيما يتعلق بعضوية فلسطين في الأمم المتحدة، جنّدت إدارة أوباما جهودها للتأثير في الدول الأعضاء في مجلس الأمن لحجب الأصوات التسعة اللازمة لمصلحة قرار العضوية الكاملة كي لا تضطر لاستخدام الفيتو مكرراً وكي تُفشِل السياسة الفلسطينية في مهدها. على رغم كل هذا، إنها لا تعجب نتانياهو وطاقمه. فالأولوية عنده هي ألّا يبقى باراك أوباما في البيت الأبيض لعله يجرؤ في الولاية الثانية على الإقدام على ما لم يجرؤ عليه في الولاية الأولى لأسباب انتخابية أو غيرها.

الأفضل أن تتوجه الديبلوماسية الفلسطينية إلى الجمعية العامة لاستصدار قرار لغته واضحة وبسيطة يحشد لها أكبر قدر من الدعم لحصولها على موقع «دولة مراقبة» غير عضو في الأمم المتحدة. هذا التصنيف لا يلغي ما حصلت عليه فلسطين من مرتبة «الدولة» في ال «يونيسكو». فأحد أهم أسباب ضمان موقع «الدولة» هو التمكن من الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية لتحدي تجاوزات إسرائيل، على نسق سياسة الاستيطان، قانونياً. وعليه، إن إقرار الجمعية العامة بفلسطين «دولة مراقبة» يسحب من أيدي الدائرة القانونية للأمم المتحدة ورئيستها باتريشيا أوبراين أية ذريعة لرفض طلب فلسطين «الدولة» الانضمام إلى اتفاقية روما التي أنشأت المحكمة الجنائية. فلقد ذُكِر أن أوبراين ستجد ثقوباً في طلب فلسطيني كهذا يرتكز قطعاً إلى قرار «يونيسكو» باعتبارها منظمة من منظمات الأمم المتحدة. قانونياً، إن الثقوب هي في ثقوب أوبراين، إنما سياسياً، من الأذكى للسياسة الفلسطينية الحصول على ولاية واضحة من الجمعية العامة.

فهذا ليس وقت السماح لأي طرف بالإتجار بالمسألة الفلسطينية لحسابات أخرى. صحيح أن ازدواجية إدارة أوباما واضحة بوضوح فشلها في تنفيذ وعودها نحو قيام دولة فلسطين ونحو عملية السلام للشرق الأوسط. إنما الصحيح أيضاً أن الاحتقان في العلاقة الإيرانية والعلاقة السورية مع الأسرة الدولية يجب ألا يُسمَح له أن يستخدم فلسطين وقوداً لإشعال المشاعر لمصلحة طهران – دمشق. مسؤولية القيادة الفلسطينية تكمن في الحفاظ على المصلحة الفلسطينية أولاً. وهذه المصلحة تتطلب الآن الوعي والبراغماتية والسير خطوة خطوة لتحقيق الأهداف وليس نحو الفشل وتفجير الوضع على الحساب الفلسطيني.

الأولوية الآن يجب أن تكون لما يحدث على الساحة السورية حيث قُتِلَ أكثر من 3500 شخص وحيث المبادرة العربية تتهاوى على قمع وقتل مستمرين على أيدي السلطات السورية.

واضح أن الدول الغربية في مجلس الأمن لن تتحرك قبل التحرك العربي المنتظر غداً السبت أثناء اجتماع وزراء الخارجية في القاهرة. واضح أيضاً أن روسيا وأخواتها في الممانعة قد تسعى وراء إرباك الملف السوري عبر إقحام الملف الإيراني فيه.

واجب العرب ألاّ يقعوا في فخ الإرباك أو الإقحام، إسرائيلياً كان أو روسياً أو أميركياً أو أوروبياً، فيما القتلى هم عرب. المسؤولية العربية تتطلب الوضوح في الرؤية والأفعال سواء تعلق الأمر بسورية أو بغايات نتانياهو الإيرانية أو الفلسطينية، لا سيما أن الأيام المقبلة صعبة وأن زمن «الاختباء وراء الإصبع» ولى على الجميع.

==============

بين الحالة السورية والحالة الايطالية

د. عبدالوهاب الأفندي

2011-11-10

القدس العربي

(1) في هذا الأسبوع، يقف الاقتصاد الإيطالي على حافة الانهيار، حيث بلغت ديون البلد ومعدل الفوائد عليها حجماً يفوق طاقتها على تحمل أعبائه منفردة. وهذا بدوره يتطلب فرض الوصاية الأوروبية والدولية على الاقتصاد الإيطالي بعد عجز الدولة الإيطالية عن الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية. وفي نفس الوقت يواجه النظام السوري إعلان إفلاسه السياسي عندما ترفع الجامعة العربية الغطاء السياسي عنه وتفتح الباب أمام الوصاية الدولية والإقليمية على سورية.

(2)

يذكرنا هذا الوضع بأنه في الاقتصاد كما في السياسة، فإن المسافة بين الواقع وتصوره تتلاشى في كثير من الأحيان. فمكانة الأنظمة، مثل سلامة الاقتصاد، تعتمد على الثقة بعوامل القوة، وذلك استناداً على المعتقدات والانطباعات السائدة. على سبيل المثال، يصعب تصور انهيار الاقتصاد الأمريكي رغم أن حجم ديون أمريكا تجاوز كل حدود المعقول، كما كان من الصعب تصور انهيار الدولة السوفييتية قبيل تهاويها وتفككها. كذلك لم يكن هناك من يتوقع انهيار مصرف أمريكي عريق وضخم مثل ليمان بروذرز في عام 2008.

(3)

هناك خيط رفيع بين الخداع والمهارات الإعلامية حين يتعلق الأمر بهيبة الدول أو سمعة المؤسسات الاقتصادية. فمعظم أهل الشأن يثقون بالمصرف أو المؤسسة الاقتصادية لأنهم يعتقدون أن الآخرين يثقون بها. وبالتالي فإن سمعة المصرف أهم من رصيده الفعلي، لأنه اذا انهارت سمعة المؤسسة فإنها تتعرض للإفلاس بسرعة لأن الناس يتسابقون على سحب أرصدتهم أو بيع أسهمهم، فيقع الانهيار.

(4)

ولكن إذا كان السمعة لا تقوم على أساس سليم، فإن انهيار المؤسسة يتم عاجلاً لا آجلاً، خاصة إذا تعرضت السمعة لامتحان كبير. وقد يحدث هذا إذا تغير الجو العام، حتى إن لم يحدث تغيير في ظروف المؤسسة. ولا ينطبق فقط على حالات الخداع السافر المتعمد، كما كان حال المستثمر الأمريكي الشهير برنارد ميدوف الذي أدين عام 2009 بتبديد أكثر من خمسين مليار دولار من أموال المودعين كان يتظاهر باستثمارها. فكثير من المصارف التي لم تتعمد الخداع انهارت بسبب تورطها في معاملات إشكالية عقب أزمة عام 2008.

(5)

حالة النظام السوري قد تكون أقرب منها إلى حالة برنارد ميدوف منها إلى حالة الاقتصاد الإيطالي أو مصرف ليمان بروذرز، لأن الانطباع المتوهم بأن سورية دولة قوية قام على أسس واهية ومحاولات متعمدة لعكس صورة خاطئة. فقد تعمدت الدولة السورية عقد صفقات 'ديون' سياسية لا يستقيم الجمع بينها على المدى الطويل، ومارست الابتزاز السياسي على طريقة عصابات المافيا حتى تخلق الانطباع بأنها قوة إقليمية لا يستهان بها.

(6)

على سبيل المثال نجد سورية عقدت منذ الثمانينات تحالفاً وثيقاً مع إيران جنت منه الدعم المالي والسياسي والعسكري، ولكنها في نفس الوقت استندت على هذا الدعم لممارسة الابتزاز لإجبار دول الخليج المعادية لإيران لتقوم بدعمها أيضاً. وقد رفعت سورية راية العداء للغرب، ولكنها عقدت صفقات سرية وعلنية مع الغرب، كما حدث حين تدخلت في لبنان بمباركة غربية وعربية لضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1976، وشاركت في الحرب على العراق عام 1990. وقام النظام بتصفية وضرب الإسلاميين في سورية، ولكنه تحالف مع منظمات مثل حماس وحزب الله والتنظيمات السلفية في العراق.

(7)

هذه الممارسات تشبه 'الفهلوة' التي يعمد إليها بعض المتطفلين في السوق، وعلى طريقة برنارد ميدوف، الذي كان يأخذ أموال المشاهير والأغنياء ويتظاهر باستثمارها، بينما يقوم بتوزيع هذه الأموال على أنها أرباح للمستثمرين. وكان هذا بدوره يدفع أغنياء كثرا على إيداع أموالهم لديه لأنه يدفع من 'الأرباح' ما لا يقارن بأي مصارف أو مؤسسات أخرى. وبنفس الطريقة فإن النظام السوري كان يعتمد على دعم إيران لابتزاز دول الخليج، ويستخدم حركات المقاومة للضغط على إسرائيل والغرب، وهكذا.

(8)

انهيار 'المصرف' السوري بدأ مع عملية اغتيال الحريري عام 2005، وهي تندرج في ألعاب 'القمار' التي ظن النظام أنه أتقنها، ولكنها انتهت بخسارة كبرى، أفقدت النظام موطئ قدمه في لبنان وأفقدته السند الخليجي، وجعلته مكشوفاً للضغوط الخارجية. ومع تفجر ثورات الربيع العربي، التي تشبه في بعض أحوالها أزمة عام 2008 المالية، بدأت كل الأنظمة ذات الرصيد المهتز تتهاوى، وكان النظام السوري من أولها.

(9)

في الحالة السورية، كما في الليبية واليمنية، وبدرجات متفاوتة، تعامل النظام مع انكشاف رصيده بمحاولات لإخفاء هذا الانكشاف بمزيد من 'الديون'، حيث اعتقد أنه يمكن أن يستعيد 'رصيده' عبر استخدام أساليب الإرهاب والابتزاز التي ضمنت له في السابق خضوع الناس واستعادة زمام المبادرة. ولكن ما لم يدركه النظام هو أن المفلس يصبح في وضع أسوأ حين يستزيد من الديون، وهو على كل حال لن يجد من يقرضه.

(10)

في أيطاليا كما في اليونان من قبلها، استقالت الحكومة وأعلنت الدولة الخضوع لشروط الدائنين، لأن البديل هو الانهيار الكامل. في مصر وتونس كذلك سلمت الأنظمة بإفلاسها بعد أن نفدت أرصدتها وذخائرها. أما في ليبيا واليمن فقد أصرت الأنظمة على أن تغوص أكثر في المستنقع، والنتيجة معلومة.

إلا أن النظام السوري ظل الأكثر عناداً، لأنه ما زال يرفض الاعتراف بالإفلاس، ويقوم في كل يوم بطباعة عملة مزيفة وعرضها على الناس دون أن يقبلها منه أحد، ثم يبدي استغرابه لإجماع الخلق على فقره وإفلاسه. وتوشك الآن شرطة مكافحة والتزوير أن تلقي القبض عليه بتهمة الاحتيال والغش والتزوير وتطبيق العقوبات المناسبة في حقه.

==============

الاجتثاث السوري

ساطع نور الدين

السفير

11-11-2011

لم يكن مشهد العراك بين المعارضين السوريين أمام مقر الجامعة العربية في القاهرة امس الاول الاربعاء مطمئنا. لعله كان أشد خطرا من اشتباك مسلح، وأكثر إيلاما من المعارك الدائرة حاليا في الداخل السوري، حيث تسفك الدماء بغزارة، بلا حساب وبلا عقل، وبدافع تصفية الاخر واستئصاله لمنعه من المطالبة بحقوقه أو التعبير عن رأيه.

سبق للقاهرة، وتحديدا للشارع الممتد الى مقر الجامعة والقريب من ميدان تحرير مصر من العار، ان شهد اشتباكات سورية عديدة، واحيانا بإيقاع أسبوعي أو حتى يومي، استدعت تدخل الامن المصري لفض تظاهرات كانت الغلبة فيها ولا تزال للمعارضين السوريين على حساب القلة من المؤيدين للنظام السوري، كما هو الحال في مختلف تظاهرات الجاليات السورية سواء في العواصم العربية او الاجنبية بما فيها موسكو التي لا تزال السند الدولي الرئيسي للنظام.

هذه المرة، حصل العراك الاول من نوعه بين أبناء الصف الواحد المعارض، مع العلم انه سبق للمعارضين السوريين ان تدافعوا وتباعدوا في مؤتمرات اسطنبول وانطاليا وغيرها، ولاسباب تنظيمية او إجرائية، او بالاحرى تنافسية، تعزى الى الاجتهادات المختلفة اكثر مما تنسب الى الخلافات السياسية الجوهرية، والاهم من ذلك انها لم تعطل التفاهم بين تيارات المعارضة الخارجية على قيام المجلس الوطني السوري وتوزيع مسؤولياته ومهامه.. وان كانت قد احتفظت بمسافة واضحة ومحددة مع معارضة الداخل، جرى التوافق عليها في اجتماعات باريس الاخيرة الشهر الماضي، بحيث لا يزعم أهل الخارج احتكار المعارضة ولا يتعرض أهل الداخل للخطر الكامن لهم على ابواب منازلهم، لاسيما تحت عنوان الحماية الدولية الذي يورط المعارضين جميعا في جدل عقيم مع النظام حول التدخل الدولي الذي لا يزال يقع تحت باب المحرمات، على الاقل الى حين اعلان وفاة الخطة العربية الميتة اصلا .

حصل العراك المعارض عند هذه الزاوية بالتحديد، امام مقر الجامعة وخلف خطتها التي كان يمكن ان تحرج المعارضين جميعا لو ان النظام نفذها والتزم بوقف العنف واطلاق المعتقلين ونشر المراقبين العرب. لم يكن مجرد خلاف حول سبل التعاطي مع الخطة العربية جرى التعبير عنه بالهتافات او اللافتات المتبادلة. كان هناك تضارب بالايدي وصل الى حد منع المعارضين الاتين من جبهة المواجهة المباشرة مع النظام، من الدخول الى المقر لمقابلة الامين العام نبيل العربي، باستثناء رئيس الوفد الدكتور حسن عبد العظيم الذي نجح بالتسلل الى مبنى الجامعة وعقد اللقاء المقرر.

لم تكن المفاجأة ان المعارضين اشتبكوا في ما بينهم على مرأى ومسمع من النظام الذي لا يدع مجالا للشك في عنفه وتطرفه وفي غلبته الامنية حتى الان. كانت الغرابة في ان يقرر معارضون يفترض ان يكونوا بديلا للاستبداد، وان يفكروا منذ الان في التأسيس لمصالحة وطنية تتجنب ثقافة الاجتثاث، حتى للبعث وفرقه وتوابعه، ان الوقت يسمح بمثل هذا التحدي للاخر المعارض، وللجامعة العربية وخطتها التي يمكن تحويلها الى غطاء للتغيير المنشود في سوريا.

==============

إسرائيل: القيمة الإستراتيجية للولايات المتحدة

روبرت د. بلاكويل والتر ب. سلوكومبي*

The Washington Institute For Near East Policy

مجموعة الخدمات البحثية

قيمة إستراتيجية

إسرائيل بلد صغير في منطقة حيوية إستراتيجياً وغير مضيافة على نحو متزايد. وليس مفاجئاً ظهور الشكوك من حكمة العلاقة الوثيقة الأميركية مع إسرائيل الى السطح دورياً. وقد تبرز هواجس كهذه بشكل أكثر تكراراً حتى في الوقت الذي يمر فيه الشرق الأوسط بفترة من التغيير والتفجر السياسي الكبير. وفي الوقت الذي نقوم فيه بدرس المبررات لدعم أميركي قوي لإسرائيل في السياق الحالي، تناقش هذه المقالة فتطرح بأنه إضافة الى الأسباب القوية المتعلقة بالقيم والأخلاق، تقدم الدولة اليهودية مكاسب هامة للولايات المتحدة ومصالحها القومية.

 

هذا الجانب من العلاقة غالباً جداً ما يتم تجاهله. فعلى إمتداد عقود، فسر القادة الأميركيون، بشكل رئيس، أسس العلاقة الأميركية – الإسرائيلية بالإستشهاد، بإنتظام، ب " القيم المشتركة": الديمقراطية المشتركة للبلدين، الخبرة المتبادلة بالقتال لأجل الحرية، الجذور الموجودة في الثقافة والحضارة اليهودية – المسيحية، والإلتزام بحق الأمم، الكبيرة أو الصغيرة، بالعيش بأمان في الوقت الذي تظهر فيه إرادة الشعب. لكن على خلاف الصيغ التي يستخدمها القادة الأميركيون بما يتعلق ببلدان تتقاسم معها الولايات المتحدة قيماً سياسية وثقافية – بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال – يشتمل عادة النقاش أيضاً لصالح وجود علاقات قوية مع إسرائيل على منطق ثان عميق بخصوص عمق العلاقة: المسؤولية الأخلاقية التي تتحملها الولايات المتحدة لحماية الدولة القومية الصغيرة للشعب اليهودي. كان هذان المفهومان، معاً، الدعامتان الرئيستان اللتان بنت الولايات المتحدة عليهما علاقة ثنائية فريدة مع إسرائيل تتمتع بدعم عميق وقديم من الشعب الأميركي، روابط ثنائية توصف، على نحو شائع ةمشترك وبإجماع عام من شريحة واسعة من القادة السياسيين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي بأنها علاقة " غير قابلة للإنفصام".

 

وفي حين أن هذا دقيق وهام وضروري، فإن توصيف الأسس الجوهرية للعلاقة الأميركية – الإسرائيلية ناقص لأنه يخفق بفهم جانب ثالث حاسم: المصالح القومية المشتركة والعمل التعاوني للدفع بتلك المصالح قدماً. إذ تظل القيم المشتركة والمسؤولية الأخلاقية أسساً غير قابلة للإهتزاز لتلك الروابط، لكن العلاقة تقف، بالتساوي، على هذه الساق الثالثة التي لا تقدر حق قدرها.

 

بالنسبة للبعض، هذا توكيد مثير للجدل. فداخل مجتمعات السياسة الخارجية، الدفاع، والأعمال، إعتبر بعض القادة والمحللين العلاقة الأميركية مع إسرائيل، وبشكل تقليدي، بمثابة شارع بإتجاه واحد، تحمي فيه الولايات المتحدة إسرائيل ديبلوماسياً وتقدم الوسائل لها للدفاع عن نفسها عسكرياً لكن إسرائيل نفسها، بالمقابل، لا تساهم بالشيئ الكثير بالمصالح القومية الأميركية، أو أنها لا تساهم على الإطلاق.

 

نحن نرفض هذا التحليل. على العكس، نحن نعتقد بأن لدى الولايات المتحدة وإسرائيل قائمة من المصالح القومية المشتركة المثيرة للإعجاب؛ بأن الأعمال الإسرائيلية تصنع مساهمات حقيقية وأساسية مباشرة في هذه المصالح الأميركية؛ وبأنه ينبغي على صناع السياسة الحكيمين والناس المهتمين بالسياسة الخارجية الأميركية الإعتراف بالمكاسب التي توفرها إسرائيل للمصالح القومية الأميركية، بينما لا يتناسون أبداً أبعاد القيم الغير قابلة للإستبدال والمسؤولية الأخلاقية للعلاقة الثنائية.

 

المصالح القومية المشتركة

كقوة عالمية، لدى الولايات المتحدة مصالح قومية تمتد الى ما هو أبعد بكثير من الشرق الأوسط، لكن المنطقة هي من بين المناطق الأكثر حراجة وخطورة بالنسبة لبلادنا. تشتمل المصالح الأميركية التي تتضمنها هذه المنطقة الواسعة خاصة على:

منع إنتشار أسلحة الدمار الشامل، خاصة النووية منها؛

 مكافحة الإرهاب وإيديولوجية الإسلامين المتطرفة من حيث تفرخ؛

 تعزيز عملية إحداث تغيير ديمقراطي منظم وتطوير إقتصادي في المنطقة؛

 معارضة إنتشار النفوذ الإيراني وذلك الذي لشركاء ووكلاء إيران؛

 ضمان التدفق الحر للنفط والغاز بأسعار منطقية؛

 حل النزاع العربي الإسرائيلي من خلال عملية تفاوض؛

 حماية أمن إسرائيل.

 

مصالح إسرائيل الوطنية .... عملياً:

منع الإنتشار النووي، خاصة من قبل إيران أو عبر مجموعات إرهابية؛

 مكافحة الإرهاب، الراديكالية، وما تشير إليه إسرائيل على أنه " جهاد عالمي"؛

 تعزيز إستقرار الديمقراطيات الحرة في الشرق الأوسط الكبير وتطورها على المدى الطويل؛

 الحفاظ على حدود سلمية مع جيرانها، بما فيه إتفاق سلام مع الفلسطينيين مبني على حل الدولتين.

بالواقع، ليس هناك من بلد شرق أوسطي آخر يندرج تعريفه للمصالح الوطنية بشكل وثيق مع ذلك الذي للولايات المتحدة.

ففي قضايا هامة، تختلف كل من واشنطن والقدس فعلاً أحياناً، ظاهرة ليست فريدة بالعلاقات الأميركية- الإسرائيلية، وكشاهد على ذلك هذه ثلاثة أمثلة إفترقت فيها طرق الولايات المتحدة مع أقرب حلفاء معاهداتها: مع بريطانيا وفرنسا، خلال أزمة السويس عام 1956؛ مع بريطانيا وفرنسا، عندما تواطأتاعلى إبطاء أو منع توحيد ألمانيا في العام 1990؛ أو مع فرنسا وألمانيا، عندما عارضتا الغزو الأميركي للعراق عام 2003. فالولايات المتحدة وإسرائيل قد تعزوان مستويات التهديد المختلفة الى التحديات التي يواجهانها، قبول درجات مختلفة من المخاطر في إنكبابهم على معالجة تلك التهديدات، والإختلاف حول الطرق الآيلة الى الدفع قدماً بمصالحهما المشتركة. فعلى إمتداد عقود، كان للجانبان مواقف سياسية متفجرة دورياً، بعضها مرير حتى، حول مواضيع تتراوح من العمل الإستباقي الوقائي ضد المفاعل النووي العراقي الى المبيعات الإسرائيلية للسلاح والتكنولوجيا العسكرية الى الصين. أما معظم النزاعات السياسية المستمرة فكانت حول الأعمال التي تؤثر على عملية السلام – هدفت الديبلوماسية الى حل الجوانب العديدة المختلفة للصراع العربي – الإسرائيلي.

 

من عقاب " إعادة تقييم" العلاقات على عهد إدارة فورد وصولاً الى المواجهة الحاسمة لإدارة جورج بوش الأب حول مسألة ضمانات القروض، عندما راهنا بمواقفهما المختلفة على قضايا أساسية ( لا سيما الحكمة من بناء المستوطنات الإسرائيلية وشرعيتها)، والنزاعات بينهما تستحوذ على العناوين الرئيسة، وهذا مما لا يثير الدهشة. لكن هذه الأمثلة أصبحت متكررة أكثر عندما عمل الجانبان، معاً، بنجاح لأكثر من ثلاثين عاماً لتحقيق أهداف سياسية مشتركة، خاصة سلسلة معاهدات السلام والإتفاقيات التي كانت المرساة للنفوذ الأميركي في المنطقة.

 

هذه القائمة تتضمن أيضاً أمثلة أخرى عندما أخضعت إسرائيل أفضلياتها السياسية لتكييفها مع تلك التي لواشنطن، كالإنضمام الى إصرار إدارة جورج دبليو بوش على إجراء إنتخابات تشريعية في العام 2006، برغم الريبة والشك الإسرائيليين – والتي أثبت إسرائيل بأنها ذات بصيرة للأسف – بحيث أنهها هددت بخطر إثارة عملية مدمرة أدت الى إستيلاء حماس على غزة. من خلال كل ذلك، تظهر عقوداً من الخبرة والتجارب بأن الجانبان قد تعلما كيفية إدارة خلافاتهما خدمة لمصالحهما الوطنية المشتركة. لطالما كانت هذه القواسم المشتركة في المصالح الفكرة المهيمنة على العلاقات الأميركية – الإسرائيلية الثنائية، حتى حول القضايا الصعبة المتعلقة بعلاقات إسرائيل مع جيرانها العرب.

 

المساهمات الإسرائيلية بالمصالح القومية الأميركية

إضافة الى عملية السلام وخارجها، يقدم لنا التاريخ عدداً من الأمثلة حول أعمال إسرائيلية محددة أفادت المصالح الوطنية الأميركية.

خلال الحرب الباردة، كان الأمر الأكثر شهرة هو عملية السرقة الإسرائيلية الجريئة لرادار سوفياتي من مصر في العام 1969، رد إسرائيل الإيجابي على طلب الرئيس نيكسون بتحليق طائرات لأغراض إستطلاعية وتحريك جنود للمساعدة على الإلتفاف على الغزو السوري للأردن في العام 1970، ومشاركة إسرائيل في جمع المعلومات الإستخبارية التقنية حول عدد من منظومات الأسلحة السوفياتية التي تم الإستيلاء عليها في حربيْ 1967 و 1970. وفي الآونة الأخيرة، ساهمت جهود مكافحة الإنتشار النووي الإسرائيلية – بما فيها تفجير المفاعل النووي العراقي في العام 1981 – بشكل حقيقي وملموس بالمصالح الأميركية. لقد ضمن هجوم 2007 على المفاعل السوري الذي قامت كوريا الشمالية بتزويد سوريا به، والذي لم تعترف إسرائيل أبداً بهذا الهجوم، بوقف تقدم بشار الأسد بإتجاه الحصول على سلاح نووي في مرحلة مبكرة – وهو تحرك خطير جداً في مجال الإنتشار النووي من قبل كوريا الشمالية.

في عدد من المناسبات، قامت إسرائيل أيضاً بإتخاذ قرارات صعبة بعدم التصرف – خيارات سياسية تتخذها أحياناًو تكون على خلاف مصالحها وتصوراتها السياسية الوطنية الصارمة – وكان ضبط النفس ذاك مهماً للمصالح الوطنية الأميركية. وكذلك كان الحال مع قرار إسرائيل بالإنضمام الى الطلب الأميركي بعدم الرد الإنتقامي ضد هجمات صواريخ السكود العراقية خلال حرب الخليج الأولى، الذي تخوف المسؤولون الأميركيون من أن يؤدي الى إنسحاب الدول العربية من الإئتلاف الدولي. وعلى نحو مماثل، وبعد نزاع بشع أحياناً مع واشنطن، وافقت إسرائيل على وضع حد لإشكالية مبيعات أسلحة وتكنولوجيا عسكرية الى الصين وحرمان نفسها من سوق كبير لصادراتها العسكرية العالمية المستوى ومن مصدر نفوذ لها لدى بكين.

واليوم، تمتد المساهمات الإسرائيلية بالمصالح القومية الأميركية عبر طيف واسع. على سبيل المثال:

من خلال التدريبات والممارسات بالإضافة الى عمليات التبادل حول عقيدة الجيش، إستفادت الولايات المتحدة من إسرائيل في مجالات التعاون بمكافحة الإرهاب، الإستخبارات التكتيكية، والخبرة في الحرب الحضرية ( حرب المدن). أما أكبر تدريب أميركي – إسرائيلي مشترك على الإطلاق فمن المقرر أن يتم في ربيع عام 2012.

تعزز التكنولوجيا الإسرائيلية المصالح الأميركية. فوكالات الأمن الوطني والوكالات العسكرية تتحول شيئاً فشيئاً الى التكنولوجيا الإسرائيلية لحل بعض مشاكلها التقنية الأكثر إزعاجاً. هذا الدعم يمتد من الإستشارة والخبرة بتقنيات الفحص والغربلة السلوكية لأمن المطارات وصولاً الى الحصول على منظومة رادارات تكتيكية من إنتاج إسرائيل لتعزيز قدرة الحماية للقوات. كانت إسرائيل قائداً عالمياً في مجال تطوير المنظومات الجوية من غير طيار، لأغراض قتالية ولجمع معلومات إستخبارية، وقد شاركت إسرائيل الجيش الأميركي التكنولوجيا، العقيدة، وخبرتها في هذه المنظومات. إسرائيل أيضاً قائد عالمي في الإجراءات الناشطة والفعالة لحماية الآليات المدرعة، الدفاعات ضد تهديدات الصواريخ القصيرة المدى، وتقنيات وإجراءات أجهزة الروبوت، وكلها أمور تقاسمتها مع الولايات المتحدة.

 

 في المجال الحيوي المتعلق بالتعاون الدفاعي الصاروخي، لدى الولايات المتحدة علاقة واسعة ومتعددة الأوجه مع إسرائيل، الشريك الأكثر حنكة وخبرة في هذا المجال البارز بالنسبة للولايات المتحدة. فالدفاعات الصاروخية الوطنية الإسرائيلية – بما فيها النشر الأميركي في إسرائيل لمنظومة رادارات X-band المتطورة وأكثر من 100 موظف عسكري أميركي لإدارتها – ستكون جزءاً لا يتجزأ من هندسة دفاعية صاروخية تمتد فوق أوروبا، شرق البحر المتوسط، والخليج الفارسي والتي ستساعد على حماية القوات الأميركية وحلفائها على إمتداد هذه المنطقة الشاسعة. لهذا السبب، أثنى مدير الوكالة الدفاعية الصاروخية للبنتاغون، مؤخراً، على المساهمة المحددة التي تقوم بها شبكات القيادة والتحكم الإسرائيلية المدمجة، والمتعددة الطبقات في قدرة الجيش الأميركي على الدفاع ضد التهديد الصاروخي الإيراني.

 

 وفي حين أن من الصحيح القول بأن إسرائيل تكسب بشكل هام من المساعدات المالية السخية الأميركية لجيشها – معظمها يُنفق في أميركا – فإن للصناعات الدفاعية الإسرائيلية كفاءات فريدة مؤكدة تستفيد منها الولايات المتحدة. إحدى النتائج لذلك هي الأهمية المتزايدة التي يوليها الجيش الأميركي للسلع الدفاعية الإسرائيلية، حيث إستفادت الولايات المتحدة من القدرات الإسرائيلية الفريدة في مجالات " الفجوات" الأساسية الموجودة في التكنولوجيا العسكرية. بالإجمال، لقد زادت قيمة المشتريات الأميركية السنوية من السلع الدفاعية الإسرائيلية بشكل ثابت على مدى العقد الماضي، من أقل من نصف مليار دولار في أوائل العقد الماضي الى حوالي 1.5 مليار دولار اليوم. ومن بين التجهيزات الدفاعية المتطورة المستخدمة من قبل الجيش الأميركي هناك منظومات سلاح الجو من دون طيار القصيرة المدى التي شوهدت في الخدمة في العراق وأفغانستان؛ حاضن الإستهداف (من الأدوات المستخدمة قبل تعيين الهدف لتحديد الأهداف وتوجيه الذخائر الدقيقة التوجيه مثل القنابل الموجهة بالليزر لتلك الأهداف) لمئات الطائرات الحربية التابعة لسلاح الجو، البحرية والمارينز؛ نظام خوذة الرؤية الموحدة الثورية والذي يعتبر قاعدة، تقريباً، في كل مقاتلات خط المواجهة التابعة لسلاح الجو والبحرية؛ درع النجاة (نظام الحماية من السيراميك يركب على المركبات لتوفير نظام حماية فعالة ضد نيران معادية) مثبت في الآلاف من آليات MRAP المدرعة المستخدمة في العراق وأفغانستان؛ نظام مدفع بحري لغرض الدفاع عن قرب ضد قوارب إرهابية وحشود الزوارق الصغيرة. علاوة على ذلك، تعمل الشركات الأميركية والإسرائيلية معاً لإنتاج مشترك لمنظومة " القبة الحديدية" الإسرائيلية – أول منظومة مضادة للصواريخ مثبتة في الحرب في العالم.

 

 إن التعاون في مجاليْ مكافحة الإرهاب والإستخبارات عميق ومكثف، مع عمل الولايات المتحدة وإسرائيل على تطوير مصلحتهما المشتركة بقهر إرهاب حماس، حزب الله، والقاعدة والجماعات المنتمية لها عن طريق تقاسم المعلومات، دعم الإجراءات الوقائية، ردع التحديات، والتنسيق معاً حول الإستراتيجية الشاملة. كما أن تدريبات وتمارين القوات الخاصة المشتركة، التعاون حول أهداف مشتركة، والتعاون الوثيق فيما بين الوكالات الأمنية الأميركية والإسرائيلية كلها أمور تشهد على قيمة هذه العلاقة.

 

 إن "إسرائيل"، وعلى نطاق واسع، شريك كامل في العمليات الإستخبارية التي تفيد البلدين، كجهود تحريم تزويد البرنامج النووي الإيراني بالقطع اللازمة أو منع تهريب السلاح في البحر الأحمر والبحر المتوسط. هذه العلاقة الحميمة تعزز الجهود الإستخباراتية الأميركية الشاملة عن طريق توفر إمكانية وصول واشنطن الى قدرات إسرائيل الفريدة في مجال جمع المعلومات والتقييمات حول بلدان وقضايا أساسية في المنطقة، بما أن إسرائيل قادرة على تركيز الموارد على أهداف معينة ذات أهمية مركزية بالنسبة للولايات المتحدة والإهتمام بها. كان الحال كذلك، على سبيل المثال، عندما مررت إسرائيل للولايات المتحدة دليلاً فوتوغرافياً قاطعاً على أن سوريا، بمساعدة كوريا الشمالية، قد قامت بخطوات هائلة بإتجاه " السخونة" بسبب مفاعل إنتاج البلوتونيوم. فكلما نضجت وتحسنت قدرات إسرائيل في جمع المعلومات الإستخباراتية الإستراتيجية (منظومات الأقمار الصناعية والطائرات من دون طيار على سبيل المثال)، فإن هذا التعاون والتبادل للمعلومات الإستخبارية والتحليلات سيخدم المصالح القومية الأميركية أكثر فأكثر.

 

 نظراً لأن إيران وحلفائها في الشرق الأوسط الكبير يمثلون مخاطرواضحة وحالية للمصالح الأميركية، يلعب الجيش الإسرائيلي – الأقوى في المنطقة دوراً هاماً في الإنكباب على معالجة تلك التهديدات التي تعرضها كل من سوريا، حزب الله، وإيران نفسها الى حد ما. إن قدرة القوات المسلحة الإسرائيلية على ردع الطموحات العسكرية لفاعلين إقليميين مزعزعين للإستقرار يعزز المصالح القومية الوطنية لأنها تعرض لأعدائنا المشتركين قدرة عسكرية إضافية – وقوية على مقاومة عدوانيتهم.

 

 بالتطلع الى المستقبل، سوف تساهم الخبرة العالمية المستوى لإسرائيل، أكثر فأكثر، في مجالين متطورين للأمن القومي – الدفاع الإلكتروني وتخطيط وتنفيذ المرونة الوطنية بإستفادة الولايات المتحدة منهما. فإسرائيل مكان رئيس يمكن للولايات المتحدة فيه بناء شراكة ثابتة في محاولة ضمان أمن المسائل الإلكترونية المشتركة، كما هو منصوص عليه في "الإستراتيجية الدولية للفضاء الإلكتروني" الصادرة عن الإدارة الأميركية. فمع تكنولوجيا المعلومات العالمية المستوى الموجودة لديها ، ومع قدراتها في مجال الأمن الإلكتروني، ستكون إسرائيل أهم لاعب على الإطلاق في جهود تأمين الفضاء الإلكتروني وحماية البنية التحتية القومية الأميركية الحساسة من هجوم إلكتروني ما. ومن خلال نشاطات شركات أميركية كبرى مركزها إسرائيل أو من خلال الترخيص في الولايات المتحدة للتكنولوجيا الإسرائيلية، تستفيد البنية التحتية الأميركية الحساسة الآن من ميزة إسرائيل وتفوقها في مجال الأمن الإلكتروني، كالقطاع المصرفي، الإتصالات، مرافق الخدمات، النقل، ووسائل الإتصال العامة للأنترنت. وإذا كان بالإمكان معالجة الهواجس الأمنية لدى الفريقين، فإن بإمكان إسرائيل أن تصبح شريكاً كبيراً ورئيساً في جهود إستغلال التطبيقات العسكرية للقوة الإلكترونية، بنفس الطريقة التي أسس بها البلدان لعلاقتهما التعاونية في مجالي الإستخبارات ومكافحة الإرهاب.

 

أخيراً، وبناء على خبرتها في بناء إقتصاد مزدهر وديمقراطية نابضة بالحياة والنشاط برغم عقود من الصراع والإرهاب، لدى إسرائيل دور لتلعبه في مساعدة الولايات المتحدة على تعميق مرونتها الداخلية في التعامل مع التهديدات الإرهابية ضد الأرض الأميركية ومع صدمات الكوارث الطبيعية.

 

في السياق السياسي، من المهم الإشارة الى أن إسرائيل – على خلاف بلدان شرق أوسطية أخرى حكوماتها شريكة مع الولايات المتحدة- بلد ديمقراطي مستقر أساساً، لن يكتسحه تمرد مفاجئ أو ثورة متفجرة، واقع قد يصبح أكثر أهمية في الفترة المضطربة المقبلة. علاوة على ذلك، وبما يتعلق بكل خلافاتنا ومشاحناتنا الدورية، فإن شعب إسرائيل والسياسيين فيها لديهم توقعات مترسخة موالية للولايات المتحدة والتي هي نظرة شعبية موحدة مع الشعب الإسرائيلي. وبذلك، فإن الدعم الإسرائيلي للمصالح الأميركية محبوك بإحكام وموجود في النسيج الثقافي السياسي الديمقراطي الإسرائيلي، صفة حاسمة غير موجودة حالياً في أية دولة أخرى في الشرق الأوسط الكبير.

 

لسنا في وارد الجدال هنا بأن مساعدة إسرائيل للولايات المتحدة أكثر قيمة مما هو الدعم الأميركي لإسرائيل بالنسبة لإسرائيل. كما أننا لا ننكر بأن هناك كلفة على الولايات المتحدة، في العالم العربي وأماكن أخرى، لدعمها إسرائيل، كما أن هناك ثمناً للدعم الأميركي لأصدقاء محاصرين متعثرين وأحياناً لديهم عيوب بدءاً من برلين الغربية في الحرب الباردة وصولاً الى الكويت في عامي 1990- 1991 وتايوان اليوم. في كل الأحوال، نحن مقتنعون بأنه عند التقييم الصافي فإن تلك الأثمان الحقيقية ستطغى عليها، بشكل ملحوظ، الطرق العديدة التي تدعم بها إسرائيل المصالح القومية الأميركية والمكاسب التي توفرها إسرائيل لتلك المصالح.

 

نحن نعتقد، تحديداً، بأن هناك إمكانية لأن يكون لدى الولايات المتحدة علاقات قوية ومثمرة مع العرب وبلدان إسلامية أخرى في الوقت الذي تحافظ فيه على إستمرار تعاونها الحميم مع إسرائيل وبأن الدعم الأميركي لإسرائيل ليس هو السبب الأولي والرئيس – وربما ليس المهيمن- لإستهداف الإرهابيين الإسلاميين للولايات المتحدة. فالإلتزام الأميركي القديم تجاه إسرائيل لم يمنع تطور العلاقات الوثيقة مع دول عربية تدرك بأنه مهما كان من أمر عدم موافقتها على الدعم الأميركي لإسرائيل، فإنها مستفيدة من علاقة جيدة مع الولايات المتحدة على صعيد قضايا أخرى. كما أنها لم تجعل الدول العربية المصدرة للنفط أقل وعياً وإدراكاً لمصلحتها الإقتصادية والإستراتيجية في وجود تدفق مستقر ومنطقي للنفط الى الأسواق العالمية، أو في حماسة هذه الدول لشراء تجهيزات عسكرية من الفئة الأولى من الولايات المتحدة أو التمتع بمكاسب الحماية الأميركية ضد هجوم إيراني أو غيره.

 

لوضع الأمر بطريقة مختلفة، هل ستكون السياسات السعودية تجاه الولايات المتحدة مختلفة بالممارسة بشكل ملحوظ لو أن واشنطن دخلت في أزمة قاسية مع إسرائيل على خلفية القضية الفلسطينية لتسير فيها العلاقة الثنائية مع إسرائيل بخط إنحداري منهجي؟ هل ستخفض العربية السعودية سعر النفط؟ هل ستتوقف عن تغطية رهاناتها الإقليمية بما يتعلق بالمحاولات الأميركية لإجبار إيران على تجميد برامج أسلحتها النووية؟ هل ستعتبر السياسة الأميركية الحالية تجاه أفغانستان أكثر إيجابية؟ هل ستنظر الى ترويج الديمقراطية الأميركية في الشرق الأوسط بطريقة أكثر إستحساناً؟ هل ستصبح أكثر ميلاً لإصلاح عملياتها الحكومية الداخلية لتكون بذلك أكثر إصطفافاً في خط الأفضليات الأميركية؟ نحن نحكم ونجيب على كل هذه التساؤلات بأن الأمر "مشكوك به" كجواب إيجابي من قبلنا.

 

علاوة على ذلك، وبما يتعلق بكل الهجمات الشعبية من قبل " الشارع العربي" على الولايات المتحدة بصفتها صديقة لإسرائيل، تظل أميركا حجر المغناطيس الجاذب بالنسبة للشباب العربي – في الثقافة الشعبية، التعليم، التجارة، وفي التكنولوجيا. أما بما يتعلق بإسرائيل، فتظل في مرتبة أدنى في معظم إستطلاعات الرأي العام العربية من تلك المشاغل ذات التماس المباشر الأكبر والمتعلقة بالتقدم الإقتصادي والفساد المستشري.

 

نحو تعاون أميركي – إسرائيلي أعمق

إن نتيجة تحليلنا هي أن العلاقة الأميركية – الإسرائيلية ذات قيمة ثمينة هامة للمصالح القومية الأميركية. وإن إحتمال الحصول على مكاسب أميركية أكبر من تعاون عميق أمر حقيقي وأساسي.

في هذا السياق:

ينبغي على القادة السياسيين الأميركيين، من البيت الأبيض الى الكونغرس، توسيع النقاش الوطني حول السياسة الشرق أوسطية لأميركا لتشمل دور العلاقة الأميركية – الإسرائيلية كقيمة إستراتيجية للمصالح القومية الأميركية. إذ تستحق " المصالح القومية الأميركية" فوترة مساوية مع " القيم المشتركة" و" المسؤولية الأخلاقية" بصفتها مبررات أساسية وجوهرية لعلاقة ثنائية.

ينبغي على الحكومة الأميركية أن تسعى لتوسيع المكاسب التي بإمكان الولايات المتحدة أن تستمدها، الى أقصى حد ممكن، من تعاونها مع إسرائيل ولتوسيع الشراكات في المجالات التقليدية (الجيش، الإستخبارات مثلاً) وفي مجالات جديدة (الحرب الإلكترونية، مرونة الوطن، على سبيل المثال).

ينبغي للمجتمعات الأمنية، الإستراتيجية، والسياسية الأميركية أن تكون أكثر جدية في الحوار حول الجوانب الإستراتيجية للعلاقة الأميركية- الإسرائيلية: كيفية تطوير الروابط الثنائية أكثر وكيفية تفعيل هذه العلاقة بقوة أكبر للدفع بالمصالح القومية الأميركية قدماً.

هذه الإجراءات، معاً، سوف تضمن عدم النظر للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية على أنها آلية ديبلوماسية فقط للتعبير عن قيم عميقة الجذور وعن ممارسة أميركا لمسؤولية أخلاقية، وإنما كوسيلة هامة أيضاً للدفع بالمصالح القومية الأميركية قدماً.

 

" نحن نعتقد بأن الولايات المتحدة و إسرائيل لديهما قائمة من المصالح الوطنية المشتركة المثيرة للإعجاب وبأن الأعمال الإسرائيلية تصنع مساهمات مباشرة حقيقية في هذه المصالح الأميركية."

___________________

*الكاتبان

روبرت د. بلاكويل زميل كبير لهنري كيسنجر في السياسة الخارجية في "مجلس العلاقات الخارجية". خدم في الحكومة في عهد جورج دبليو بوش كسفير أميركا الى الهند ومن ثم كنائب مساعد للرئيس، نائب مستشار الأمن القومي للتخطيط الإستراتيجي، والمبعوث الرئاسي الى العراق. مسؤول سابق رفيع في وزارة الخارجية ومساعد في مجلس الأمن القومي للشؤون الأوروبية السوفياتية، خدم خارج الحكومات كزميل كبير في مؤسسة Rand، رئيس BGR الدولية، وعميد مشارك في Harvard University’s Kennedy School of Government.

والتر ب. سلوكومبي محام بارز في مكتب Caplin & Drysdale في واشنطن. أحد علماء رودس، تتضمن سيرته الحكومية الطويلة الخدمة في البنتاغون على إمتداد إدارتيْ كارتر وكلينتون، بما في ذلك تعيينه كوكيل وزارة الدفاع للسياسة من العام 1994 وحتى 2001. في العام 2003، عمل كمستشار بارز للدفاع الوطني في سلطة الإئتلاف المؤقتة للعراق.

================

لماذا لا يستطيع النظام السوري تنفيذ المبادرة العربية؟

خيرالله خيرالله

المستقبل - الجمعة 11 تشرين الثاني 2011

نظراً الى أن ما هو مطروح يشكل مدخلا للإحاطة باللازمة المصيرية التي يعاني منها النظام السوري من كلّ جوانبها، سيكون صعبا على هذا النظام، بل سيستحيل عليه قبول مبادرة جامعة الدول العربية. فالسؤال المنطقي، الذي يطرح نفسه في المناسبة، هل يمكن لنظام ما القبول باصلاحات، اي نوع من الاصلاحات، في حال كان يدرك انه سيوقع بذلك شهادة وفاته؟

على الرغم من ذلك، لا يمكن الاّ توجيه الشكر للجامعة على إقدامها على هذه الخطوة الحكيمة نظرا الى انّها تمثّل محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا نفسها وإيجاد مخرج لائق للنظام لعلّه يدرك قبل فوات الاوان ان عليه الاعتراف اوّلا بانّه يواجه ثورة شعبية حقيقية لا يمكن ان تنتهي الاّ يتغيير كبير. انه تغيير من النوع التاريخي الذي ينقل سوريا الى مرحلة جديدة مختلفة كليا عن تلك التي عاشتها منذ العام 1963 تاريخ وصول حزب البعث الى السلطة وصولا الى تحوّل النظام، بشكل تدريجي، الى تابع لعائلة واحدة مرتبط بها كلّيا ابتداء من العام 2000.

لماذا قبل النظام المبادرة العربية "من دون تحفّظ"، علما انه يدرك ان ليس في استطاعته تنفيذ اي بند منها؟ الجواب بكلّ بساطة ان ما حصل في ليبيا اخيرا كان له تاثيره النفسي في سوريا. كلّ ما يمكن قوله في هذا الشأن ان هناك مخاوف سورية من تكرار للتجربة الليبية بغض النظر عن كلّ ما يصدر عن هذا المسؤول السوري او ذاك. فخلافا لكلّ ما يقال في بعض الاوساط، هناك ارتباط تاريخي في العمق بين النظامين السوري والليبي وذلك منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي. كان هناك دائما وجود عسكري وامني سوري في ليبيا، خصوصا في مجال استعانة سلاح الجو الليبي بطيارين سوريين، مع ما يستتبع ذلك من وجود سوري على ارض ما كان يسمّى "الجماهيرية".

من هذا المنطلق، كان طبيعيا ان تترك الاحداث المصيرية التي شهدتها ليبيا والتي توجت بالطريقة البشعة التي قتل بها معمّر القذافي انعكاسات في اوساط الحلقة الضيقة التي تحكم سوريا. بات على افراد الحلقة الضيقة التفكير في مستقبلهم. لا شكّ ان المبادرة العربية توفر فرصة لالتقاط الانفاس ومواجهة الواقع كما هو وليس كما يتصوره اولئك الذين يعتقدون ان في استطاعة النظام اعادة الوضع الى طبيعته في المدن والبلدات السورية عن طريق القمع ولا شيء آخر غير القمع. كذلك، لا شكّ ان هناك في سوريا من شاهد سيف الاسلام القذّافي يصيح:"طز بالمحكمة الجنائية الدولية". ولم تمض اسابيع الا وصار سيف الاسلام يجري اتصالات غير مباشرة مع المحكمة الجنائية الدولية بحثا عن طريقة تؤمن له تسليم نفسه بموجب شروط معينة من بينها عدم احتجازه في الاراضي الليبية ومحاكمته فوقها. قد يكون على حقّ في ذلك بعدما شاهد ما حلّ بوالده وشقيقه المعتصم!

اضافة الى العامل الليبي، ثمة سبب آخر في غاية الاهمية دفع في اتجاه قبول دمشق المبادرة العربية. هناك رهان سوري على ان الوضع في البلد، اي داخل سوريا نفسها، سيتبدل كليا بمجرد انسحاب القوات الاميركية من العراق اواخر السنة الجارية نظرا الى ان الانسحاب الاميركي سيكون له تأثيره على التوازنات الاقليمية. وهذا ما تؤمن به ايران. يظنّ النظام الايراني ان مجرد خروج الاميركيين من العراق سيكون نقطة تحوّل في المنطقة تكرّس واقعا جديدا ونشوء قوة اقليمية مهيمنة بعد سقوط الخط الفاصل بين الثقافتين العربية والفارسية لمصلحة الاخيرة.

هل مثل هذا الرهان في محله؟ لا شكّ ان ايران ستكون قادرة على ملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الاميركي من العراق. في النهاية كانت ايران الشريك الحقيقي للولايات المتحدة في الحرب التي شنتها ادارة بوش الابن في العام 2003 وأسفرت عن إسقاط النظام العائلي- البعثي، غير المأسوف عليه، الذي أقامه صدّام حسين.

في نهاية السنة 2011، سيتبين اكثر من اي وقت ان هناك منتصرا وحيدا في الحرب الاميركية على العراق. اسم هذا المنتصر هو ايران. ستسعى ايران، بكلّ بساطة، الى تأكيد ان العراق صار يدور في فلكها.

من الطبيعي اذا، ان يفكّر النظام السوري في كيفية الاستفادة الى ابعد حدود من انتصار حليفه الاوّل في العراق... هذا اذا كان الانتصار سيتحوّل حقيقة وستسمح الولايات المتحدة به.

ولكن ما قد يكون طبيعيا اكثر ضرورة تفكير النظام السوري في ان مشكلته ليست مرتبطة بالتوازنات الاقليمية، بل هي في مكان آخر. بكلام اوضح، مشكلة النظام السوري هي مع الشعب السوري ولا علاقة لها بسيطرة ايران على العراق وتمددها في هذا الاتجاه او ذاك على حساب كلّ ما هو عربي في الشرق الاوسط.

جاءت مبادرة جامعة الدول العربية، التي تدعو اوّل ما تدعو الى وقف العنف واللجوء الى الحوار، لمساعدة النظام السوري على ايجاد مخرج من الازمة العميقة التي يعاني منها. انها ازمة عائدة اوّلا واخيرا الى رفضه الاعتراف بانه في مواجهة مباشرة مع اكثرية الشعب السوري. ما العمل اذا مع نظام لا يريد ان يساعد نفسه من جهة ويعتقد ان الترياق سيأتي من العراق من جهة اخرى؟ ما العمل مع نظام لا يريد ان يأخذ علما بان جدار برلين سقط قبل اثنين وعشرين عاما بالتمام والكمال وان برلين الغربية هي التي انتصرت على برلين الشرقية وليس العكس!

==============

المعارضة في خدمة النظام!!

الجمعة 15 ذو الحجة 1432ه - 11 نوفمبر 2011م

يوسف الكويليت

الرياض

مؤسفٌ ما جرى أمام مقر الجامعة العربية في القاهرة من صدامات المعارضة بين الجناحين الداخلي والخارجي السوري، فالأولى، كما يقول معارضو الخارج، أنها جاءت تمثل النظام وبإذن منه، وأنها لا تحمل الصفات التي تدّعيها، ومجيئها كان لتجنيب السلطة حجب عضويتها في الجامعة، بينما الأخرى تدّعي أنها المخولة عن الشعب، وليست خاضعة للنظام أو تحت وصايته.

صحيحٌ أن المعتصمين أمام مبنى الجامعة العربية هم ممن فقدوا الإخوة، أو الأصدقاء والقريبين، ومنفيون بحكم جبروت النظام، لكن، مهما كانت الذرائع فالمفترض أن يكون حضور هذه العناصر للحوار، حتى لو اتسع الخلاف، بل كان المفترض كشف من كانوا مع النظام، وجاءوا لتمثيله بصفة تتعارض وواجبهم..

معروفٌ أن الثورات تولّد تناقضات تصل إلى التصفيات بين رفاق الأمس وأعداء اليوم، وقد يُعدم أي شخص بمجرد الشك أو الاتهام، لكن في الحالة السورية، المفترض أن تتوحد الفصائل وأن تستوعب تناقضاتها، حتى لو ظل فصيل مقارب للسلطة، بل وكان من المنطق فضح توجهاته من داخل أروقة الجامعة مع كافة حضور الحوار كشهود على حقيقة غائبة..

فالتضحيات العظيمة التي يقدمها الشعب السوري، ليست مجال مزايدة، وليس المطلوب أن تكون المعارضة عبئاً عليه، وإلا فإن من يمثلهم، هو من يقدم نفسه ليس شاهداً، بل داخل في عمق المواجهة، وإلا فقد أحد الاشتراطات بالتفويض، فكل ثورات التاريخ قادها زعماء كان لهم توجيهها بقدرات شخصية وكوادر، لكن الثورات العربية تفتقد هذا الجانب، أي أنها ثورة شباب بوسائط حديثة لها القدرة على تحريك الشارع لإسقاط النظام، لكن ما بعد ذلك يبقى ضبابياً، وبالنسبة لسورية كان المفترض على قادة المعارضة أن يتحولوا للمكوّن الأساسي للقيادة لما بعد زوال النظام، لا أن يدّعي كل طرف امتلاك الحقيقة، والمرض العربي ليس في السلطات الباطشة، بل بهشاشة أي نظام اجتماعي منقسم على نفسه مما عزز دور الدكتاتوريات عسكرية أو حزبية طيلة ما يزيد على نصف قرن..

التفاف الحكم في سورية على أي حركة داخلية، أمر تجاوزه الزمن بفعل كسر الحاجز النفسي، أو الخوف من التنكيل، وبطولة الشعب السوري أعطت حجماً عربياً وعالمياً هائلاً، وقد كشفت الثورة عن الوجه الحقيقي لنشأة وتسرطن الحكم بأدواته البشعة والضيقة الأفق عندما استخدم سلاح الطائفة ومن يوالونها ضد الأكثرية الوطنية، غير أن انقسام المعارضة يعطي نفساً لأركان الدولة لأنْ تقول هؤلاء هم الوجه الآخر لحكمٍ لايمكن أن ينسجم مع نفسه، ويمكنه تمزيق الخارطة الوطنية، ثم ليس كل من خرج من سورية يحكم عليه بالتخوين لأن من يتعرضون للموت والتعذيب هم في قلب المعركة، ويجب أن لا تكون حادثة القاهرة سبباً في إخراج المعارضة من دورها المطلوب، والذي يؤكد أنها البديل القابل للاعتراف بها دولياً إذا ما أثبتت وجودها ودورها في توحيد كل الفصائل، وأن لا تحجب الموقف الحقيقي الذي يتعرض له الشعب..

الخوف على سورية أن تنقل واقع الحرب الأهلية في لبنان لأسباب سفّهها اللبنانيون، ولا تجربة العراق الذي خرج من الاحتلال إلى خلق دويلات ونظام طائفي ضيق الأفق بل عليها تجاوز المحنة بتعريفها وتطويق خلافاتها..

==============

النظام في سورية بين سقوطين

سعيد شهاب

عكاظ

يجمع المحللون أو يكادون يجمعون على حتمية سقوط النظام السوري كنتيجة طبيعية لسياسات القمع والتنكيل التي مارسها على مدى عقود وكمحصلة لخروج الشعب في طلب حريته فالشعب دائما ينتصر..! ، لكنهم يختلفون حول سيناريو وتوقيت هذا السقوط، يتوقع بعضهم أن يستجيب النظام مكرها لضغوط الجامعة العربية ومن ورائها المجتمع الدولي الذي يراقب الأحداث عن كثب تحسبا لما يلوح به حلفاؤه الكبار من سحب البساط من تحت أقدامه وتعرية موقفه ما لم يقدم على الإصلاحات التي مافتئ يعد بها الجميع فلم يعد الوضع ليقبل المزيد من التبرير وخشية مما يلمح إليه المجتمع الدولي من إمكانية التدخل العسكري بعدما استنفدت الدبلوماسية معظم وسائلها وهو العارف بجدية هذا التوجه فيسحب مدرعاته وآلياته من شوارع المدن ويأمر جنوده وشبيحته بوقف القتل المتعمد للمتظاهرين العزل ويفرج كما وعد عن المعتقلين ويسمح بدخول المنظمات الإنسانية ووسائل الإعلام العربية والعالمية لترصد ما يحدث هناك عن قرب، ستنزل في هذه الحالة أضعاف الجموع الهادرة التي تحدت الرصاص الحي إلى الشوارع وستهتف بصوت واحد بسقوط النظام، ستطوق المواقع الحيوية للدولة حتى يشل عصبها وستزحف إلى القصر الجمهوري فتحاصره حتى يتهاوى النظام.

أما السيناريو الثاني فيعمد بموجبه النظام إلى مراوغة وتضليل الجامعة العربية والمجتمع الدولي ومحاولة كسب الوقت عسى أن تخمد جذوة الثورة إن طال عليها الأمد وسيعمل من جهة أخرى آلة بطشه الرهيبة في الشعب الأعزل قتلا وتنكيلا فيواجه الشعب التحدي بالمزيد من التصعيد لاسيما وقد استنشق عبير الحرية ولاح له وميض الأمل في آخر نفق القهر والتعسف، عندها لن تجد الجامعة العربية بدا من تجميد عضوية النظام والاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي وتحويل ملف الأزمة إلى مجلس الأمن الدولي وطلب الحماية للمدنيين وهكذا سيتشكل تحالف دولي جديد يعمل بقوة السلاح على حماية المدنيين بفرض المناطق الآمنة وتحطيم آلة النظام العسكرية وتنظيم جهود الثوار والاعتراف بمجلسهم الانتقالي، لن يتراجع الشعب عند ذاك عن طلب حريته كاملة ولن يقبل بأقل من خلع النظام من جذوره وتقديم رموزه للمحاكمة ومهما عرض حينها من التنازلات فلن تفي بحق الأرواح التي أزهقت والدماء التي أريقت والكرامات التي أهدرت فقد ينسى الصافع لكن أبدا لا ينسى المصفوع.

sds1331@hotmail.com

==============

الجريمة الحقيقية

الجمعة, 11 نوفمبر 2011

حسام عيتاني

الحياة

يغفل الشامتون بانقسام المعارضة السورية، والمهزلة التي ارتكبها بعض المحسوبين عليها أمام مقر جامعة الدول العربية، أن 16 مدنياً سورياً قتلوا برصاص «الأمن» في اليوم ذاته، وأن عدداً مشابهاً من الضحايا سقط في اليوم التالي للحادث.

نعم، لم يكن منظراً مشرّفاً ذلك الذي ظهر فيه شبان سوريون يتعرضون بالضرب والإهانة لوفد «هيئة التنسيق» أمام مقر الجامعة. ويمكن بسهولة الحديث عن آثار التربية البعثية الإقصائية على المهاجمين الذين لم يعتادوا، على الأرجح، الحوار الديموقراطي وتعدد الآراء والخلاف في المواقف من دون أن يفسد كل ذلك في الود قضية.

والأرجح أن المجتمع السوري سيدفع في الأعوام المقبلة ثمن ما زرعه فيه الحكم الشمولي من خصال لا يمت أي منها بصلة إلى الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجهات نظره، من دون أن يتلقى صفعة أو بيضة على وجهه. والأرجح، أيضاً، أن «بعثنة» المجتمع السوري، على غرار نظيرتها في العراق، ستتخذ أشكالاً تبقى بعد سقوط النظام، على رغم أن صدور التغيير في سورية من الداخل يسمح بآمال، ولو متواضعة، في سرعة شفاء السوريين من أمراض الحكم الحالي.

المهم في المسألة أن ما جرى في القاهرة ليس سوى عارض جانبي لما يجري في سورية. والخلافات بين قوى المعارضة، حتى لو لم يستحق قسم منها هذا الاسم، ليست جوهر الموضوع وصلبه. فالجريمة الحقيقية لم تقع خارج مقر الجامعة، أول من أمس، بل تقع كل يوم ومنذ أكثر من ثمانية أشهر في شوارع البلدات والمدن السورية وفي أقبية تعذيب فروع الأمن والسجون المكتظة بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي.

والمهم في المسألة أن النظام السوري لم يكلف نفسه عناء البحث في تطبيق أي من الخطوات الإصلاحية التي أعلنها (والتي فات وقتها، في جميع الأحوال) مكتفياً بتسريح زبانيته في الشوارع يطلقون النار على المواطنين في مشاهد لم يُرَ مثلها منذ مجازر رواندا.

والجريمة الحقيقية تقع في انتشار مناخ شائن من التواطؤ بين الدول والحكومات العربية على التسامح مع انقضاض النظام السوري على المجتمع، والإمعان في انتهاك قيمه وتمزيق نسيجه وتعريضه لاختبار قاس لقدرته على تحمل الممارسات الطائفية المقصود منها دفع البلاد إلى حرب أهلية مفتوحة.

والجريمة الحقيقية تكمن في تمدد الممارسات التي تمارسها السلطات السورية إلى لبنان الذي قررت حكومته الوقوف إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد ضاربة عرض الحائط بالتزاماتها الدولية بحقوق اللاجئين الذين يتعرضون للإذلال من قبل الأجهزة اللبنانية التي تقوم بتسليم بعضهم إلى «زملائها» السوريين.

والجريمة الحقيقية ترتكبها قوى لبنانية لا تتورع عن إذكاء الرعب الطائفي أو التلويح بتفجير الموقف في لبنان كرماً للحكم السوري، في مقامرة قد تودي بما تبقى من مقومات لتماسك المجتمع اللبناني. فالشحن المذهبي والطائفي الذي تصر عليه قوى عدة (ليست حكراً على لون سياسي أو طائفي واحد) لن يمر من دون أن يترك أثره على اللبنانيين الذين يعرفون ما يقصده «الزعماء» من لعب على أوتار الحساسيات الطائفية، حتى لو تفننوا في تنميق الكلمات.

على أن ذلك كله ليس إلا الشكل الظاهر لسؤال واحد كبير: هل يستحق السوريون واللبنانيون وغيرهم من أهالي هذه الأنحاء، أن يعاملوا كبشر يدركون حقوقهم السياسية، أم إن تشكيل القطيع هو الأنسب لهم في مسيرة التصدي للمشاريع الإمبريالية والصهيونية؟

==============

دوّامة الحجج ونهر الدم

الجمعة, 11 نوفمبر 2011

وليد شقير

الحياة

هل ستتصرف القيادة السورية في شكل يحتم «التدخل الخارجي» في الأزمة الراهنة التي أخذت تتمادى وتتسع ويزداد نهر الدماء غزارة فيها، نتيجة تعاطيها السلبي مع المبادرة العربية، أم أنها يمكن أن تلتقط فرصة تجنب هذا التدخل مجدداً، من خلال اجتماع الجامعة العربية غداً السبت وقبله اجتماع اللجنة الوزارية المكلفة متابعة الأزمة السورية اليوم في القاهرة.

لا يتفاءل من يعنيهم الأمر في الإجابة عن هذا السؤال، بل يذهب بعض المعنيين من المسؤولين العرب، الى حد توقع ما يشبه إعلان الجامعة العربية عجزها عن حل الأزمة. وهذا إذا حصل يضع النظام في سورية في مواجهة مع الدول العربية هذه المرة، وهي مواجهة تتيح نقل الصراع على سورية الى صراع دولي طالما أنها تعني رفع العرب يدهم عنها.

وواقع الأمر أن القيادة السورية حين قررت الموافقة على المبادرة العربية قبل أسبوعين، مضطرة، أسقطت بنفسها مقولة إن ما يجري من حركة احتجاجية هو مؤامرة خارجية، لمجرد أنها قبلت بمبدأ الحوار مع المعارضة السورية، سواء كان ذلك على الأرض السورية أم في الجامعة العربية، والذي كان يفترض أن يبدأ نهاية هذا الأسبوع، لو نجح تطبيق بنود المبادرة العربية القاضية بسحب الجيش وأجهزة الأمن من الشارع ووقف القتل وإخلاء الأسرى وإدخال وسائل الإعلام الأجنبية ومراقبين عرب الى المناطق السورية.

إلا أن النظام، الذي لا يريد الاعتراف بأن الأزمة داخلية، يعتقد بقدرته على إنهائها بالوسائل الأمنية، مهما كلفت من دماء، ويذهب الى حد عدم الاكتراث بحصول تدخل خارجي، إما نتيجة مراهنته على أن توسيع دائرة الأزمة وتكبيرها يستدرج قوى خارجية لمساعدته في مواجهة قوى خارجية أخرى، أو لاقتناع عميق لدى بعض أركانه بأن على الخارج أن يدفع ثمن تعاطفه مع تجرؤ قوى في الداخل على وضع شرعية النظام على المحك. ولا مانع لدى هذه القوى بأن تصيب شظايا إسقاط النظام، إذا كان سيسقط، المنطقة برمتها. من هنا الحديث تارة عن زلزال، وأخرى عن حرب إقليمية... على لسان قادة النظام.

بل ان القيادة السورية تطرَبُ لحديث المؤامرة الخارجية، وكذلك حلفاؤها في لبنان، فيسهل عليها إيجاد الحجج للمضي في هذه النظرية، من دون أن يحرجها التناقض في هذه الحجج. فحين عرضت دول أوروبية مشروع قرار لإدانة العنف الذي تتعامل به السلطات السورية مع الانتفاضة الشعبية، بعيد دخول الجيش السوري الى مدينة حماة قبل أسابيع عدة، كانت الحجة أن قوات حفظ النظام أفشلت مؤامرة إسقاطه من الداخل، ولهذا تحركت الدول الغربية لإسقاطه من الخارج والتوجه الى مجلس الأمن يأتي في هذا الإطار، إلا أن فشل التصويت على القرار في مجلس الأمن بفعل الفيتو الروسي والصيني على مشروع القرار الأوروبي حينها يفترض أن يكون أفشل «المؤامرة الخارجية»، لكنه أعاد الأزمة الى مصدرها الداخلي، الذي شهد الإعلان عن إنشاء المجلس الوطني السوري ومعه عودة الزخم الى التحركات الشعبية في الأماكن التي دخلها الجيش حتى الآن مرات عدة منذ شهر آذار (مارس) الماضي، وأعلن النظام بعد كل مرة أن الأزمة انتهت أو في طريقها الى النهاية. ولا يمر أسبوع إلا ويعلن النظام أن الأزمة انتهت بفعل الحلول الأمنية الدموية التي يعتمدها في المدن السورية. ومن كثرة الاستغراق في مقولة المؤامرة الخارجية، ينسى النظام، في الأسبوع الذي يلي، أنه سبق أن أعلن أن الأزمة بمعناها الداخلي انتهت، فيعيد تكثيف حملاته الأمنية، في هذه المدينة أو تلك، ثم يعلن مرة جديدة أن الأزمة انتهت. وهكذا دواليك. وجلّ ما يكون فعله في هذه الحال هو التسبب بمزيد من الدم والعنف الذي يستجلب المزيد من حقد السوريين عليه الى درجة قياسية. فعدد الضحايا الفعلي أكبر بكثير من عددها المعلن، وفق المعلومات عن حمص وحماة وغيرهما، في الأسبوع الحالي.

يُطرب النظام الى مقولة المؤامرة الخارجية، الى درجة أنه يصطنع لمصلحته انتصارات على الخارج، كمثل القول إن النظام سيبقى والآخرين ذاهبون، متوقعاً أن يسقط نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية العام المقبل، وأن يفشل باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الأميركية أواخر عام 2012... وأن يصمد هو الى ما بعد هذه الاستحقاقات. وهي حجة تتجاهل بذلك أنه إذا أُخرج ساركوزي وأوباما من السلطة أو بقيا فيها، يكون ذلك نتيجة انتخابات فرض المزاج الشعبي الفرنسي والأميركي «الداخلي» فيها رأيه على الحاكم، لا نتيجة الدم والحديد والنار.

==============

سورية ولادة القواشيش

مصعب عزّاوي

2011-11-10

القدس العربي

عندما اقتلعت المخابرات العسكرية حنجرة المغنى الشعبي إبراهيم القاشوش الذي شكّل رمز مظاهرات مدينة حماة التي خرج فيها نصف مليون متظاهر يصدحون بأغنيته الرمز: (ارحل يا بشار)، كانت العقلية الأمنية المريضة التي لم تستطيع يوماً أن تبصر أبعد من أرنبة أنفها تظن بأن تلك العقوبة المرة لمغنٍ شعبي باقتلاع حنجرته سوف تردع كل من يتجرأ على أن يقحم حنجرته في خضم الثورة السورية خوفاً من أن يكون مصيره مثل القاشوش الشهيد.

ولكن العقلية' الأمنية المريضة نفسها لم تدرك بأن إبراهيم القاشوش لم يكن يصدح بأغانٍ عذبة تصدر من حنجرة فنان منمق يبحث عن المجد و الشهرة والنجومية، ولكنها كانت في جوهر الأمر محاكاة لضمير أبناء الوطن الذي لم يكن أي منهم يستطيع أن يفكر يوماً في ما قد يجول بخاطره في قهر ووجع وألم وحسرة جراء القمع والعسف الذي يتعرض له كل أبناء سورية البسطاء الطيبون والشرفاء والمخلصون كلما فكروا بأن يجاهروا برفضهم لأن يكونوا عبيداً أذلاء مهانين في وطن يزاود عليهم مستعبدوهم بأنه وطن الشعب وحصنه الحصين، والذي كان في حقيقة الأمر وطناً محتلاً من حفنة من المستبدين ومن والاهم من المعتاشين من فساد المستبدين والفتات التي يقتاتون بها من نهش جسد ذلك الوطن المحتل.

ولأن القاشوش كان امتداداً طبيعياً للضمير الجمعي المقهور في سورية الوطن المحتل وليس طفرة استثنائية وليدة مصادفة محضة، فقد كان الهول والذهول نصيب الجلادين الذين اقتلعوا حنجرته حينما هم يسمعون كل يوم بآذانهم صداح مغن شعبي حر في كل زقاق وحارة وزاوية من هذا الوطن فكأنما القاشوش الشهيدلم يقتل وكأن حنجرته الطيبة الطاهرة تناسخت في حناجر القاشوشيين الأباة وهم يلهجون بصوت القاشوش المعلم الأجش الذي له عمر سورية الأم ولّادة الحضارة من فجرها، و إيقاع بسيط يحاكي نبضات قلب الوطن الذي يكاد ينفطر كمداً على أبنائه وأيادي الجلادين المحتلين تخطفهم و هم في عمر الورود وزهوتها.

نعم إن قاتلك أيها القاشوش الشهيد لم يدرك بأن سورية أم مخصبة لم يستطيع كل غزاتها ومن احتل أرضها لحين أن يوقفها عن الحيض و المخاض، و م يستطع أن يسلبها خصوبتها التي سوف تنجب في كل لحظة قاشوشاً أبياً يقاوم بحنجرته الجريحة كل مخارز طغاتها ومستبديها ، و يحيك بحباله الصوتية المقروحة جسراً نحو وطن لا يخشى فيه أبناؤه على حناجرهم.

طبيب وكاتب سوري

==============

'المجلس الوطني' و'هيئة التنسيق': استعصاء الاداة ام اقتسام العجز؟

صبحي حديدي

2011-11-10

القدس العربي

حمص (المدينة 'المنكوبة' حسب التعبير القاصر الذي استخدمه 'المجلس الوطني السوري'، وكأنّ زلزالاً ألمّ بالحجر والبشر!) لم يكن ينقصها إلا تلك 'النكبة' الأخرى التي شهدتها العاصمة المصرية أمام مقرّ الجامعة العربية. كانت دبابات النظام ومدفعيته وطائراته الحربية تواصل حصد الأرواح بدم بارد، وهمجية منفلتة من كلّ عقال، حين توافد عدد من شخصيات المعارضة السورية إلى القاهرة، بدعوة من نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية. وكان أن اختلفوا فيما بينهم أكثر ممّا اتفقوا، وأعلن بعضهم الانسحاب من المشاركة دون تبيان الأسباب حتى الساعة، أو مع تبيانها نزر يسير منها على نحو أقرب إلى الغمغمة منه إلى إيضاح سبب واحد مفهوم.

وما زاد في بؤس المشهد أنّ نفراً من غلاة السوريين أنسوا في أنفسهم القدرة على الجزم بأنّ وفد المعارضة السورية يوشك على ارتكاب 'خيانة عظمى' بحقّ الانتفاضة السورية، فسارعوا إلى الاعتداء الجسدي على بعض أفراد الوفد، أو رشقوا بعضهم الآخر بالبيض والحجارة. وكان السلوك هذا لا يستدعي الاستهجان الصريح والإدانة القاطعة فحسب، بل يستدرّ الشفقة على هذا التدرّب، الهجين والفجّ، على استخدام الحقّ في التعبير الحرّ، حتى بالبيض والبندورة. كان ممكناً، وربما مشروعاً، استقبال الوفد بهتافات أو لافتات توضح طبيعة اعتراض الحشود على الزيارة، سواء انطوى الاعتراض على وجاهة مقبولة أم بُني على تعسّف، واتصل بمعطيات ملموسة أم تأثر بتسريبات مختلقة، وتحرّك عفوياً وعاطفياً أم سهرت على تحريكه أياد ذات مصلحة...

كل ذلك لا يمسّ، في أية حال، حقّ المرء في الاختلاف مع هذه الكتلة السورية المعارضة أو تلك، وفي الاتفاق مع المجلس الوطني السوري أو 'هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي'، فضلاً عن هذا أو ذاك من الشخصيات المعارضة المستقلة، أو التي لا تحتسب نفسها إلا على الإطار العامّ للمعارضة، بعيداً عن كلّ وأيّ مجموعة ذات انتظام. خلاف وفد القاهرة كان مدعاة عجب (إذْ يسأل المرء ببساطة: علام تفاهموا، إذاً، قبيل مجيئهم في وفد موحّد؟)؛ وكذلك كان محزناً أن يكون بعض الخلاف قد نجم عن تفسير حسن عبد العظيم، الأمين العام لحزب الإتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي والمنسّق العامّ ل'هيئة التنسيق'، بأنّ الدعوة موجهة إلى 'هيئة التنسيق' وحدها، وهي التي سوف تتولى التمثيل الرسمي والنطق باسم الجميع في اللقاء مع العربي (كما نفهم، على الأقلّ، من بيان 'تيار بناء الدولة السورية' الذي انسحب من الوفد).

فإذا جاز استهجان هذه الحال، والله يعلم أنّ ثمة الكثير الذي يستوجب الاستهجان هنا، فقد كان حرياً بغلاة السوريين الذين احتشدوا ضدّ وفد المعارضة، واعتدوا ورشقوا البيض والحجارة، أن يعبّروا عن استهجان مماثل، لأسباب ليست أقلّ وجاهة، حين استقبل الأمين العام للجامعة العربية وفد المجلس الوطني السوري، قبل أيام. صحيح أنّ هذا الوفد جاء موحداً (من حيث المظهر، في أقلّ تقدير!)، وحمل سلّة مطالب واضحة ومتجانسة (حتى إذا كان بعضها لا يُنال بالتمنّي على أية جهة أخرى، عربية أو أجنبية، باستثناء أهل الانتفاضة السورية، بنسائها وأطفالها وشيبها وشبابها). إلا أنّ المجلس ظهر إلى العلن بعد غياب طويل واحتجاب غير مفهوم، مثقلاً بالأخطاء الفادحة، وميادين التقصير الفاضحة، والسبات والخمول والتراخي والاتكال... حين كان النظام يريق المزيد من الدماء السورية الزكية، ويستبيح حمص، ويحيل أفكار الجامعة العربية، إسوة بمبادرتها السابقة الموؤودة، إلى أضحوكة.

فهل كان عسيراً، يسأل المرء، أن تذهب المعارضة إلى لقاء العربي بوفد موحّد، بافتراض أنّ نقاط الاختلاف بين 'المجلس الوطني' و'هيئة التنسيق' ليست على درجة من التباين تحتّم تشكيل وفدين، وتقسيم المهمة الواحدة إلى اثنتين؟ أم أنّ ذلك الافتراض هو الخاطىء، في واقع الأمر، وكما اتضح على الأرض عملياً؛ والتباين لا يشكّل هوّة فاغرة بين كتلتَيْ المعارضة، فحسب، بل استدعى العنف الجسدي والبيض والحجارة من بعض الغلاة، والتراشق المتبادل ذا الطراز الآخر (نأي المجلس الوطني بنفسه عن الغلاة، ومسارعة بعض ممثّلي 'هيئة التنسيق' إلى اتهام المجلس بالوقوف وراء المشهد البائس)؟

وفي كلتا الحالتين، هل هذه هي المعارضة السورية التي تليق بالطور الراهن من عمر الانتفاضة، أو الطور الراهن من خيارات النظام في كسر إرادة الشعب؟ وإذا كان هذا هو الذي يفرّقها، فما الذي يجمعها، أو سيجمعها، اليوم أو غداً أو بعد غد؟

لم يعد سرّاً أنّ ما أثار غلاة السوريين أمام مقرّ الجامعة العربية، هو ذاته وإنْ صيغ بلغة أخرى، أكثر تعقيداً وفذلكة بعض ما يفرّق أطياف المعارضة السورية، في الداخل مثل الخارج، ويأخذ طريقه أيضاً إلى الأداء اليومي لمختلف التنسيقيات ولجان العمل المنخرطة ميدانياً في إدارة الحراك الشعبي. وذاك افتراق يفعل أفعاله، اليومية، على مستوى الأحزاب أو الهيئات أو التجمعات أو المجالس أو الأفراد المستقلين، بصرف النظر عن التلاوين الإيديولوجية الصرفة، بين تيارات يسارية أو قومية أو إسلامية أو ليبرالية، أو تعبيراتها السياسية والمدنية والحقوقية والفكرية، علمانية كانت أم متديّنة أم في منزلة وسيطة. وذاك افتراق ينبغي أن يكون طبيعياً، ابن الحياة التي تغتني بالتعدد والتنوّع لا بالأحادية والامتثال، فلا يلغي الحقّ في الاختلاف، وليس له أن يفسد للودّ قضية كما يسير التعبير الشائع.

بيد أنّ نهج النظام في تغييب السياسة عن الوعي السوري، طيلة أربعة عقود من عمر 'الحركة التصحيحية' بين حافظ الأسد ووريثه بشار الأسد، كان كفيلاً بتغييب ثقافة الحوار حتى بين أطراف الصفّ الواحد والحساسية السياسية او الفكرية المتجانسة، من جهة أولى؛ وكان، من جهة ثانية، ميدان تنشئة لثقافة أخرى مضادة، تبدأ من رفض الآخر على قاعدة الاختلاف معه، ولا تنتهي عند تخوينه وتأثيمه، قبيل محاربته بأساليب وذرائع وأسلحة أسوأ ممّا تُجرّد ضدّ الخصم المشترك، الأكبر والأعتى. وإذْ لا يجوز للمرء الارتياب في مقدار ما أضافت أشهر الانتفاضة الثمانية من ثقافة بديلة، مقاومة وتسامحية وائتلافية وديمقراطية، فإنّ الرواسب المتراكمة تظلّ هي الأثقل، وعقابيلها أطول عمراً، وأبعد أثراً، وأشدّ قدرة على إلحاق الأذى.

وبذلك كان وفد المعارضة السورية قد وصل إلى القاهرة، تسبقه مفاعيل ذلك الافتراق وقد اختزلها الوعي المغالي الشعبوي، العنيف أيضاً، العصبوي المتعصّب، ولكن ليس ذاك الذي تنطبق عليه صفة الغوغاء أو الدهماء، كما شاء البعض الإيحاء من قبيل الإفراط في جبر الخواطر! في ثلاثة محرّمات، تمّ افتراضها مسبقاً أغلب الظنّ: أنّ الوفد سيطلب عدم تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية، كما سيرفض أي شكل من أشكال حماية المدنيين، وسيلحّ على ضرورة استمرار الحوار مع النظام لبلوغ الإصلاحات. ورغم أنّ مواقف معظم أعضاء الوفد ولكن ليس كلّهم، للإيضاح الضروري لا تذهب باتجاه تلك المحرّمات الثلاثة، ولم يتوفّر أي دليل بعد على أنّ مواقفهم تبدّلت في الرحلة إلى القاهرة، فإنّ الغليان كان قد بلغ الذروة لتوّه، مسبقاً في الواقع، فاستدعى البيض والحجارة والعنف، بعد أن استولد سلسلة من الأسئلة الافتراضية.

وتلك أسئلة إشكالية، استطراداً، لأنها تنبثق من الافتراض وحده أوّلاً؛ ولكنها مشروعة، في اعتبارات عديدة، ثانياً؛ وتنهض، ثالثاً، على استبعاد أسئلة أخرى رديفة قد تشكّل، في ذاتها، إجابات شافية من وجهة نظر الآخر المختلف. فقد يطرح أحد راشقي البيض والحجارة السؤال التالي: كيف يجيز أعضاء الوفد لأنفسهم طرح هذه المحرّمات، الأشبه بالخطوط الحمر في الطور الراهن من الوعي الشعبي العريض، والنظام يوغل في دماء السوريين بهذه الوحشية؟ وقد يردّ عليه الآخر، بسؤال مضاد: ولكن ألا يتوجّب، في الطور الراهن من الوعي الشعبي ذاته، تفادي تحوّل المواجهات بين الجيش النظامي والجنود المنشقين إلى عسكرة الانتفاضة؟ وقد يُثار سؤال ثالث، كالآتي: هل نترك المدنيين عرضة للقتل والاعتقال والاختطاف والتعذيب والتصفية، دون حماية دولية؛ فتأتي الإجابة: كلّ حماية دولية هي مقدّمة للتدخّل العسكري الخارجي، وهذا مرفوض مطلقاً...

نطاق الأسئلة الأخرى سوف يشتمل على مخاوف الوحدة الوطنية، والحرب الأهلية، وأوضاع الأقليات الدينية والإثنية والطائفية، واحتمالات أسلمة الشارع السوري ومنعكساته على العلمانية والتسامح والتعددية، وآفاق المصالحة الوطنية، ومصائر الشبيحة والميليشات وجماهير النظام عموماً، والتطابق أو التنافر بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية، ومستقبل الجيش الوطني، وتحرير الجولان المحتل، والعلاقة مع العدو الإسرائيلي، وهواجس الموقع السوري الوطني في التشكيل الجيو سياسي للمنطقة... وهو، هنا أيضاً، نطاق طبيعي تماماً لو أحسنت أطراف المعارضة تناوله دون تأثيم للآخر يتكىء على تنميطات جاهزة، أو جرّبت الخوض فيه دون خشية مسبقة من عواقب الخطأ والصواب.

وضمان الأمان في هذه السيرورة، الشائكة دائماً والحقّ يُقال، ليس بحاجة إلى اعتمالات أليمة أو مخاضات عسيرة، إذْ تتولى الانتفاضة توفيره كلّ يوم، مع كلّ شهيدة وشهيد، ليس البتة ضمن أية صياغة أحادية تحتكر التمثيل والتعبير والنطق، بل عبر ذلك التنوّع العبقري الذي أدام الحراك الشعبي طيلة أشهر ثمانية، وأطاش صواب النظام بمؤسساته العائلية والأمنية والعسكرية والمالية والسياسية كافة. وإذا صحّ أنه أطاش صواب بعض أطراف المعارضة، أيضاً، وكان قميناً به أن يفعل، في الداخل مثل الخارج، فذلك لأنّ قسطاً كبيراً من خلافات تلك المعارضة تصنعه تلك الحصيلة المزجية بين استعصاء الأداة (تكوينات المعارضة الكلاسيكية، على تنوّعها)، وديناميكة الحراك الشعبي (الذي استبق المعارضة أصلاً، وكان طبيعياً أن تظلّ شعاراته أسبق دائماً، وأكثر جذرية غالباً).

وتلك التكوينات منضوية، كلّها أو تكاد، في واحد من تكتّلَيْ 'المجلس الوطني' أو هيئة التنسيق'، ومن المنطقي أن تخضع لعوامل شتى تؤثّر في برامجها السياسية اليومية، وفي تنظيراتها العامة بصدد حاضر الانتفاضة ومستقبلها، فضلاً عن الإجابات التي تقترحها للأسئلة الآنفة.

ومن غير المنطقي المساجلة بأنّ تلك العوامل لا تنهض، بدورها، على إرث الماضي السياسي والعقائدي والتنظيمي، وعلى اعتبارات سوسيولوجية تختلط فيها انحيازات الطبقة بوطأة المحيط الإثني أو الديني أو الطائفي؛ وبالتالي ليس من مفاجأة في أن يتفق معارضان، كما يحدث اليوم بالفعل، على هدف إسقاط الاستبداد، ولكن... دون إسقاط النظام!

وثمة، بالتالي، ما يُلقي بفارق مثل هذا في منطقة وسطى مدهشة، بين استعصاء الأداة واقتسام العجز!

==============

هل هناك من يفقه أو يتعلم؟

اليوم السعودية

11-11-2011

يُعيدنا الوضع الراهن في سوريا، واحتمالات التدخّل الدولي، إلى سيناريو العجز العربي الواضح في مواجهة التقلبات الشعبية والسياسية، خاصة على المستوى الرسمي.

الكوارث المتتالية، وفقدان أسس إدارة الأزمات في العالم العربي، وضعتنا جميعاً في سلة واحدة، خاصة أن هناك أنظمة عربية للأسف أصبحت تتعامل مع شعوبها وكأنها خارج سياق التاريخ، وصيرورته وتطوّراته.

الغزو العراقي للكويت منذ عقدين، مثل حالة فارقة في التاريخ العربي، سجّل فيها العرب الفشل الذريع، نتيجة تعنت نظام الرئيس الراحل صدام حسين، مما اضطر العرب للاستعانة بقوات دولية.. تكرر نفس السيناريو فيما أصبح يُعرف ب"الربيع العربي" خلال الأزمة في ليبيا/ القذافي، وبشكل أقل في اليمن، بينما نجت مصر وتونس.

سوريا الآن، تعيدنا إلى نفس المربع/ الأزمة، بعد تجاهل نظام الرئيس الأسد عناصر مبادرة الجامعة العربية، واستمراره في منهج القتل المنظم للثوار والمحتجين، وعدم الاستجابة للمطالب الشعبية في الإصلاح، وبالتالي قد تتعرّض سورية لما هو أخطر وأسوأ.. وهذه خطيئة الأنظمة التي تعتقد أن بإمكانها الاستمرار في سياسة الحديد والنار، وقهر شعبها وعدم الاستماع لصوته ومطالبه، ليس هذا فقط، بل اعتبار المتظاهرين والمحتجين "خونة" ونزع ثوب الوطنية عنهم!.

بعض الحكومات تسقط في فخ تصنيف مواطنيها، وتعتقد أنها بهذا التصنيف تجنب نفسها عواقب دفع ثمن ما ارتكبته أنظمتها طيلة سنوات وعقود، متناسية أن العالم تغيّر، وألا حصانة لأحد يعتقد أن بإمكانه تجاوز الواقع الشعبي، وأن ما كان يمكن السماح به منذ سنوات لم يعُد مقبولاً الآن وتحت أي ذريعة.

بعض الأنظمة لم تفهم بعد أن حالة العقد الاجتماعي بينها وبين مواطنيها، قائمة على أساس قدرة هذه الحكومات على تلبية متطلبات شعبها. المهلة العربية انتهت قبل أيام، والنظام السوري لا يزال يمارس نفس سياسة التجاهل، ولم يحاول الاستماع لأصوات العقل والنصيحة، والعالم لن يقف متفرجاً على مشاهد الذبح والدمار، فيما العرب لا يستطيعون فعل أي شيء، والنتيجة تكرار مأساة نحن في غنى عنها، للأسف.. ويتعيّن على النظام السوري أن يبدأ على الفور بالوفاء بتعهّداته قبل أن تتطور الأزمة، ويضع سوريا والمنطقة في مقامرة مفتوحة على كل الاحتمالات.

===========================

سباق الحوار والعصيان... والحرب الأهلية

وحيد عبد المجيد

تاريخ النشر: الخميس 10 نوفمبر 2011

الاتحاد

ربما لا تكون الأشهر القليلة القادمة شبيهة بالأشهر السبعة الماضية إذا فشلت جهود جامعة الدول العربية التي تهدف إلى حل سلمى للأزمة المتفاقمة في سوريا. فقد بدأت الانتفاضة السورية المطالبة بالإصلاح سلميةً في منتصف مارس الماضي، واستمرت كذلك بعد تحولها للمطالبة بتغيير النظام ورحيل قيادته. وظلت حالات اللجوء إلى العنف هامشية ومعزولة حتى منتصف الشهر الماضي عندما بدأت تتوسع نسبياً نتيجة انشقاق بعض الضباط والجنود السوريين لرفضهم إطلاق النار على المدنيين واستخدامهم السلاح في بعض المناطق.

لذلك تبدو سوريا، ومن يحاولون مساعدتها في تجاوز الأزمة، في سباق مع الزمن. فالأمل الذي حمله الاجتماع الأخير للمجلس الوزاري للجامعة العربية ليس كبيراً، فضلاً عن أن هذه هي الفرصة الأخيرة.

ويتوقف الأمل بإمكان إجراء حوار جاد من أجل حل سلمي على استعداد الحكومة السورية لاتخاذ خطوات فورية تجعل الحل ممكناً؛ مثل وقف إطلاق النار على المتظاهرين، وسحب قوات الجيش من المدن، والإفراج عن المعتقلين. كما يرتبط هذا الأمل بإقناع المعارضة السورية بجدوى حوار بلا ضمانات.

ويحدث ذلك بينما يزداد خطر الاتجاه إلى عسكرة الانتفاضة السورية على نحو قد يفتح الباب أمام حرب أهلية في البلاد. فقد أحدث انتصار الثوّار الليبيين على نظام القذافي بالقوة المسلحة تغييراً في مزاج بعض الناشطين السوريين رغم الاختلاف الذي لا يمكن إغفاله بين الظروف في البلدين. وظهر هذا التغيير في بعض النقاشات التي جرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام التالية لمقتل القذافي، إذ ازداد فيها التعبير عن اليأس من إمكان تحقيق التغيير السلمي، وتوسع الميل إلى تبرير العمل المسلح. وأصبح معتاداً أن يدعو ناشطون إلى إسقاط شعار سلمية الثورة للمطالبة بتسليح المحتجين للدفاع عن أنفسهم بالحد الأدنى. كذلك لا يمكن إغفال الأثر النفسي الخطير الذي ترتب على "روتينية" مشاهد قتل المتظاهرين وتشييعهم ومجالس العزاء يومياً. فقد أصبح الاستعداد للموت شائعاً في ظل شعارات من نوع "نريد أن نموت بكرامة".

ويتوازى هذا التغيير المرتبط بنجاح المقاومة الليبية المسلحة في إطاحة نظام القذافي مع ازدياد نسبي في معدلات الانشقاق في الجيش السوري، وبدء بعض المنشقين في تنظيم أنفسهم، ليس فقط للدفاع عن المدنيين في المناطق التي يوجدون فيها، ولكن أيضاً لشن بعض الهجمات.

ورغم أن الانشقاقات التي حدثت حتى الآن محدودة وتبدو في مجملها معزولة ولا تمثل بداية تمرد مسلح بالمعنى الدقيق، فليس مستبعداً أن تتوسع خلال الفترة المقبلة إذا ما فشل الحل السلمي. ورغم أن ما أُطلق عليه "الجيش السوري الحر" لا يبدو إرهاصاً لكيان يمثل تهديداً يُعتد به للنظام، فقد يشجع إعلانه المزيد من الضباط والجنود على الانشقاق إذا ازدادت الأزمة تفاقماً. وسواء كان لدى هذا الجيش 12 كتيبة، مثلما قال بعض المعبرين عنه، أو أقل من ذلك، فثمة شواهد على وجوده في بعض المناطق عبر هجمات شنها على دوريات للأمن وسيارات الجيش السوري ونقاط تفتيشه. وأصبح اسم "لواء خالد بن الوليد" في حمص معروفاً بعد عدة عمليات قام بها ضد قوات تابعة للجيش السوري، ومن خلال دور جنوده في حراسة الشوارع أثناء بعض التظاهرات ومهاجمة ميليشيات "الشبيحة". غير أن هذا الكيان العسكري لا يزال غامضاً إلى حد كبير من حيث العدد الحقيقي لأفراده ونوع الأسلحة التي يمتلكها، وما بقي منه بعد الضربات القاسية التي تعرضت لها حمص عشية إعلان دمشق قبول المبادرة العربية.

لكن العمليات التي نفذها منشقون عن الجيش لا تزال أقل بكثير من أن تمثل بداية تمرد عسكري مؤثر، وإن لوحظ حدوث تطور ملموس في بعضها وخصوصاً العمليتين اللتين وقعتا يومي 25 و26 أكتوبر الماضي وأسفرت أولاهما عن مقتل سبعة من عناصر قافلة أمنية سورية بينهم ضباط على مشارف بلدة معرة النعمان، بينما أدت ثانيتهما إلى مقتل 11 عسكرياً خلال هجوم مسلح في بلدة حمر قرب حماة.

ويعني ذلك عدم إمكان استبعاد احتمال توسع الانشقاقات تدريجياً في حالة فشل جهود الجامعة العربية، وغلق الباب تالياً أمام أي حل سلمي. كما يصعب إغفال احتمال لجوء بعض الناشطين المدنيين إلى التسلح للدفاع الذاتي. فإذا توسع نطاق الانشقاقات المحدودة حتى الآن وازداد الميل إلى حمل السلاح في الشارع، سيخيِّم شبح حرب أهلية بشكل ما في سماء سوريا.

وقد لا يمكن تفادي هذا السيناريو الخطير والمؤلم، في غياب حل سلمي، إلا إذا لقيت الدعوة إلى التوسع في أسلوب الإضراب العام والسعي إلى عصيان مدني استجابة متزايدة في الأسابيع المقبلة. فقد اعتمدت الانتفاضة السورية على أسلوب التظاهر بالأساس، ونجح ناشطوها في ابتكار أدوات جديدة لتنظيم التظاهرات على مدى أكثر من سبعة أشهر في ظروف شديدة الصعوبة وفي مواجهة قوات أمن تتسم بقسوة شديدة وتستعين بأعداد كبيرة من "الشبيحة" الذين لا يترددون في إطلاق النار على المحتجين ويمارسون القتل بدم بارد.

لكن الاعتماد على هذا الأسلوب دون غيره من أساليب الاحتجاج، أضعف قدرة الانتفاضة على التأثير وجعلها أشبه بعمل روتيني متكرر لا يحقق تراكماً سريعاً، خصوصاً مع بقاء مدينتي دمشق وحلب الرئيسيتين ساكنتين باستثناء بعض ضواحيهما الريفية. غير أن الانتفاضة بدأت تأخذ شكلاً جديداً بعد النجاح المعقول الذي حققه إضراب عام استقبل به الناشطون وفد الجامعة العربية الذي زار دمشق يوم 26 أكتوبر الماضي. فقد شل هذا الإضراب الحياة في مناطق متفاوتة ببعض المحافظات، وخاصة في حمص ودرعا وحماة، حيث أُغلقت المحال التجارية، وخلت الشوارع من المارة وفقاً لأكثر من فيديو تم تحميله عبر "يوتيوب" وصفحة "الثورة السورية 2011" على "الفيس بوك".

وأدى ذلك إلى إثارة جدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول الارتقاء بالاحتجاجات السلمية لقطع الطريق على الاتجاه إلى عسكرة الانتفاضة، وذلك عبر توسيع نطاق الإضرابات العامة وبحث إمكانات جعلها أسبوعية، وتفعيل التعاون بين "تنسيقيات الثورة" والفعاليات الأخرى، سعياً إلى خطة تقود إلى تنظيم عصيان مدني شامل قدر الإمكان.

وكانت لافتةً المفارقة المتضمنة فيما بدا أنه سباق بين النظام وناشطي المعارضة لاستقبال الوفد الوزاري العربي في 26 أكتوبر، كل بطريقته. ففي مقابل ذلك الإضراب العام، نظمت السلطات تظاهرة مؤيدة للأسد في ساحة الأمويين في دمشق. غير أن السباق الذي سيحدد مصير سوريا في الأسابيع القليلة القادمة قد يكون بين الحل السلمي الذي تبحث عنه الجامعة العربية، والعصيان المدني الذي يسعى إليه ناشطو الانتفاضة المتمسكون بسلميتها، والمواجهات المسلحة التي قد تضع هذا البلد العزيز لدى كل عربي على أعتاب حرب أهلية ربما يتجاوز خطرها حدوده.

=================

نظرية المؤامرة ومهنة الزعماء

بسام الكساسبة

الرأي الاردنية

10-11-2011

تعتمد غالبية الدول نشيداً وعلماً وطنيين، وتنشيء العديد من الأجهزة الرسمية الممولة بأموال الشعب لتنفيذ مهام وطنية في ظاهرها، لتبدو الأمور وكأن الأوطان هي القيمة العليا وخدمتها هي الواجب الوطني الأعلى والمقدس، في دول العالم الثالث فإذا ما إقترف أحد الفقراء المعدمين سرقة ولو علبة ماجي فسرعان ما يحول للقضاء ويُودعَ السجن، أما إذا ما نُهبَت الأموالُ بالجملة وبمئات ملايين الدولارات بل بمليارات الدولارات وتحت مرأى ومسمع السلطات الرسمية فحينها يغدو الأمر إنجازاً وطنياً يكافأ الناهب بالمناصب العليا وبالنياشين والأوسمة ويسجل إسمه في سفر الأبطال الميامين، وإذا ما أبدى صاحبُ فكرٍ رأياً سديداً في قضايا الوطن وهمومه، فسرعان ما يُحشد في وجهه كتيبة من المداهنين والمرائين والمتزلفين ليثبتوا بطلان موقفه الوطني، وقد يصل به الأمر إلى تخوينه وتجريمه وتحويله للقضاء تحت ذريعة التآمر على الوطن وعلى أمنه القومي، وفي ذات السياق إذا ما إمتشق الزعيم الأول دبابات جيشه الوطني من مهاجعها، واستل مدافعه الثقيلة والخفيفة من مرابضها، وسحب كل خناجره المسمومة من أغمادها وجَيَشَ أتباعه وعصاباته ضد أفراد شعبه لمجرد مطالبتهم بالتحرر من الطغيان السياسي والفقر الاقتصادي والحصار الفكري، حينذاك تزور الحقائق ليبدو ما يقترفه الزعيم من جرائم وكبائر وموبقات بحق شعبه كإنجازات عظيمة وتاريخية وصد للمؤامرات الخارجية عن الوطن ورد لكيد المتآمرين عن حياضه!

لقد ظهر نهج ذبح الشعوب في الدول التي أطيح بأنظمتها وزعاماتها، في ليبيا ومصر وتونس، كما ظهر في دول أخرى ممن تسير على مسار التغيير الديموقراطي كسوريا واليمن وغيرها، ففي جميع الحالات السابقة أبرز رجال السلطة وإعلامهم الرسمي المتخلف وأبواقهم الناعقة نظرية المؤامرة الخارجية على دولهم، ولا شك أن نظرية المؤامرة موجودة ولا ينكرها إلا مغفل أو جاهل، لكن نتساءل من المتآمر الحقيقي على الدول؟ ومن يتآمر على من؟ فهل الشعوب المضطهدة المسالمة المنهوبة حقوقها وثرواتها هي المتآمرة على الحكام الفاسدين والطغاة أم العكس هو الصحيح؟ أجزم شأني شأن العديدين أن مقدار تآمر بعض الحكام العرب على شعوبهم وعلى أمتهم يفوق تآمر المستعمرين التراكمي المقيت والكريه على أمتنا.

فمن جوَع الشعوب وصادر مستقبلها الاقتصادي ونهب ثرواتها وبددها على الغي والفسق والمجون والملذات وشراء الذمم فجعل الأمة تصطف في مؤخرة ركب الحضارة الاقتصادية والإنسانية غير الحكام الفاسدين الظلمة؟ ومن جعل الصهيونية العالمية تمتطي صهوة أمتنا غير أنظمة الحكم الخانعة المتصهينة؟ أليس تجويع الشعوب وإفقارها هو أشد فتكاً وإرهاباً مما تقترفه العصابات الإرهابية؟ أليس من المخزي إستئجار السلطات الرسمية للشبيحة والبلطجية والزعران لإرهاب الشعوب وتخويفها وقمع جذوة التحرر فيها؟ ومن أعطى الحكام حق مصادرة أرواح عشرات الآلاف من أفراد شعوبهم لمجرد مطالبتهم بحقوقهم وحقوق أوطانهم في التحرر من نير الإرهاب الرسمي والدكتاتورية ؟ ولماذا ينسحب بسلاسة الزعماء في غرب المعموره وفي أقصى شرقها عن كراسي السلطة بعد مرور أربع أو ثماني سنوات من مكوثهم فيها بينما يهجع الزعيم العربي على كرسي السلطة كما نام أهل الكهف في كهفهم.

=================

أين النخبة السورية؟

عدي الزعبي

2011-11-09

القدس العربي

 مع دخول الثورة السورية شهرها السابع، يبدو السؤال عن موقع النخبة السورية من الثورة مؤرقاً. في مقابل تشكيك النظام بالثوار ووصفهم بالحثالة والعصابات والعملاء، يشكك بعض المثقفين بالثورة بسبب غياب التنظيم الواضح والأهداف المنشودة. ربما كان أدونيس المثال الأبرز. يبدو أن التشكيك في كلتا الحالتين ينبع من سوء فهم عميق، ومقصود، لمجمل الحراك العربي بصفة عامة، والسوري بصفة خاصة.

أقدم هنا إجابة عن هذا السؤال في ثلاث مستويات مختلفة:

أولاً. الثورات العربية ثورات شعبية. إن عدم التشابه بين هذه الثورات والثورات الأخرى لا يشكل نقطة ضعف. لا تحمل الثورات العربية إيديولوجيا بالمعنى التقليدي. فهي ليست ثورات دينية أو ماركسية أو قومية. تجمع الثورات العربية التيارات الثلاثة السابقة وتتجاوزها. إن الإصرار على عدم تسمية الحراك العربي بالثورة بسبب غياب القيادة الحزبية والإيديولوجية المحركة ينم عن قصر نظر في فهم معنى الثورة. إن الشباب العربي يقدم نموذجا جديداً للثورة. تقييم هذا النموذج ودراسته سيشكل مدخلاً لفهم المستقبل العربي. أما الإصرار على عدم إطلاق اسم الثورة على الحراك العربي، فيشكل موقفاً إيديولوجياً، غير قادر على قراءة الواقع، والانخراط فيه.

ثانياً. فيما يتعلّق بالثورة السورية تحديداً. يتجاهل القائلون بغياب النخبة السورية الحقائق. لقد انتفضت محافظات بأكملها في سورية. ضمت المظاهرات الأساتذة والمهندسين وطلاب الجامعة والمثقفين والأطباء والمحامين. شملت الثورة محافظات درعا وحمص وحماة ودير الزور وإدلب واللاذقية وريف دمشق. هكذا يبدو القول أن النخبة السورية غائبة عن الثورة ينطلق من مواقف متعالية وعنصرية اتجاه أبناء المحافظات. يشكل تعامل النظام مع مدينتي دمشق وحلب أنموذجاً لهذه العنصرية. تشديد القبضة الأمنية ترافق مع الإيحاء بأن أبناء المحافظات الأخرى ليسوا سوريين بنفس الدرجة. بالطبع، كانت الردود الأولى في حمص ودوما وبانياس على أحداث درعا مفاجئة للنظام، وللكثير من السوريين. بعد ستة أشهر تحولت معظم مدن سورية إلى ثكنات عسكرية، وزادت القبضة الأمنية من سطوتها في مدينتي دمشق وحلب. انتفض السوريون لأنهم يؤمنون بأن كرامة كل مواطن سوري، من أية محافظة وبأية صفة كان، هي كرامة كل السوريين. هكذا بقي النظام، وبعض المشككين، يعيشون في عالم ما قبل الثورة. قبل الثورة، كان السوريون يميلون إلى نوع من التشكيك المتبادل بين أبناء المحافظات. مع اشتعال الثورة، أصبح الانتماء المناطقي موضع فخر واعتزاز، لا يتعارض مع الوطنية.

إن الثورة التي بدأت من درعا وامتدت إلى كافة المدن السورية، أثبتت أن السوريين يعون أنهم مختلفون، وأن المحبة التي يحملها ابن حوران أو حمص لمنطقته، لا تتعارض مع المحبة لسورية الوطن. من هنا، تتشكل مفاهيم المواطنة الجديدة في سورية على قبول التنوع واحترامه والفخر به. ولذلك كان للمشاركة الكردية في الثورة نكهة خاصة. لم يشكك الثوار العرب بالأكراد، أو العكس. ثار أكراد سورية، كما ثار العرب، من اجل أطفال درعا. مع الثورة السورية، ابتدأ الشباب السوري يحترم المكونات المتنوعة للمجتمع، ويجاهر بها. نعود للقول بأن ما يُعرف بالنخبة قد شاركت بالثورة منذ يومها الأول، في مظاهرة الجامع الأموي وفي درعا. إذا كان المقصود بالنخبة الأطباء المهندسين وأساتذة المدارس والجامعات والمحامين، فأولئك متواجدون منذ بداية الثورة في درعا.إن سقوط عشرات الشهداء من حملة الشهادات الجامعية واعتقال المئات لا يشكل دليلاً كافياً للمتشككين في أن النخبة السورية كانت وما زالت في قلب الثورة.

ثالثاً. مفهوم النخبة الأخلاقي. ربما كان البعض يفكر بمفهوم النخبة بمعنى التنوير الأخلاقي والسياسي. ليست النخبة حملة الشهادات الجامعية. يضم الشعب السوري آلاف الجامعيين الذين لم يحركوا ساكناً ضد الاستبداد على مدى عقود. النخبة تشكل طليعة أخلاقية تحمل رؤية مختلفة للمستقبل. أين النخبة، بهذا المعنى، من الثورة السورية؟ لماذا لا نجد هذه الرؤية في الثورة السورية؟ الإجابة واضحة. إن النخبة السورية تقود الثورة السورية، بهذا المعنى تحديداً. ينطبق هذا المعنى على قيادات الثورة في سورية. إنهم أولئك الذين ما زالوا يتظاهرون يومياً، ويواجهون الموت. نخبة المجتمع السوري يمثّلها غياث مطر وابراهيم قاشوش ومعن العودات. آلاف الشهداء والمعتقلين والمفقودين هم نخبة سورية. أولئك الذين يملكون رؤيا لسورية مختلفة، بنضالهم السلمي سيغيرون التاريخ.

أين النخبة السورية؟ النخبة السورية في بابا عمرو والميدان، تقود الثورة السورية نحو مجتمع متعدد منفتح ديمقراطي.

=================

المشهد السوري بين المؤيدين والمعارضين

د. يوسف نور عوض

2011-11-09

القدس العربي

 لا يبدو أن الخطة التي ٍقدمتها الجامعة العربية من أجل احتواء العنف في سورية قد وجدت أذنا صاغية في دمشق، إذ انفجر العنف من جديد، ما حدا بالأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي أن يحذر من أن عدم الاستجابة لمبادرة الجامعة قد تكون له نتائج كارثية ٍعلى الوضع في سورية، وكانت مجموعات كبيرة من المحتجين أرادت أن تختبر نوايا الحكومة السورية في هذا الاتجاه فخرجت في مظاهرات تصدت لها السلطات بإطلاق الرصاص ما أدى إلى مقتل الكثير من المواطنين، وانتهزت الحكومة نزول المتظاهرين إلى الشوارع لتواصل إنزال الدبابات من أجل قصف المواطنين، وكان الرئيس بشار الأسد أعلن من قبل أنه سيفرج عن أكثر من خمسمئة سجين بمناسبة عيد الأضحى، وهو إعلان يتكرر من وقت لآخر بينما يبقى السجناء في سجونهم.

وقد بدأت في هذه المرحلة تساؤلات كثيرة حول الأسباب التي جعلت المسألة السورية عصية على الحل بالمقارنة مع غيرها من الأحداث في بلدان عربية أخرى وذلك ما سنحاول أن نركز عليه الآن ونبدأ ببعض الآراء التي سجلها النظام داخليا في سورية، إذ يرى هؤلاء أن المراهنة على سقوط النظام وهم من الأوهام التي لم يتنبه لها الكثيرون، فهم يرون أن الداخل السوري متماسك اقتصاديا مع الاعتراف بضرورة إجراء بعض الإصلاحات السياسية، ويرى هؤلاء أن سورية قطعت شوطا كبيرا في اقتصادها الموجه نحو الاقتصاد الحر، ويبدو ذلك واضحا في منظومة السلع المصنوعة في سورية والتي تتلقى الدعم من الحكومة إلى جانب توفير خدمات التعليم والاستشفاء المجاني للمواطنين، كما تشجع الحكومة من جانب آخر الاستثمارات الخارجية وتحاول بقدر الإمكان الابتعاد عن الديون الخارجية التي تثقل عادة كاهل الدول.

ويرى هؤلاء بحسب تصورهم أنه إلى جانب النجاح الاقتصادي فإن سورية تلعب دورا مهما على المستوى القومي وفي مواجهة إسرائيل، لذلك فإن مجرد إعلان الإصلاحات وإلغاء قانون الطوارىء سيكون من وجهة نظرهم كافيا لتحقيق الانسجام بين الشعب ونظام الحكم. ويذهب المؤيدون إلى أنه في ظل غياب البدائل الواضحة يبقى النظام السوري متحركا في ثلاثة محاور، المحور العربي الذي تقود فيه سورية بحسب زعمهم خط الممانعة، وهو محور مهم خاصة بالنسبة للأمن في لبنان والعراق وفلسطين، والمحور الثاني هو المحور التركي بسبب الحدود الطويلة بين تركيا وسورية ويعتقد هؤلاء أن سورية هي مدخل تركيا إلى العام العربي، والمحور الثالث هو أوروبا التي تفكر في أخطار الهجرة إليها من دول كثيرة في حال سقوط النظام السوري. ويذهب مؤيدو النظام السوري إلى أن هذا النظام تعامل بحنكة مع المجتمعات الغربية وهو ما جعلها تتردد كثيرا في سحب الدعم منه ومواجهة واقع جديد في المنطقة.

ولا شك أنه في هذه المرحلة فإن الكثيرين يريدون الإجابة على سؤال قائم وهو هل النظام السوري حالة خاصة أم أن ما ينطبق على غيره من النظم العربية يمكن أن ينسحب عليه، وهنا أتوقف عند الدراسة التي قدمها الدكتور نجيب صليبا في هذا الاتجاه إذ هو يرى أن النظام السوري يستمد دعمه من ولاء القوات المسلحة له، ومن أيديولوجية حزب البعث والمفاهيم القومية التي تبنتها سورية على المستوى العربي منذ نهاية الانتداب الفرنسي، يضاف إلى ذلك بعض الحقائق التاريخية التي وظفتها دمشق من أجل تأكيد مكانتها في العالم العربي، إذ المعروف أن سورية كانت هي سرير الخلافة الأموية على مدى أكثر من قرن من الزمان وهي الخلافة التي أنشأت إمبراطورية خاصة امتدت حتى بلاد الأندلس في إسبانيا، وقد جعل هذا الواقع الأموي سورية تفاخر بما أنجزته في تاريخها الطويل في قيادة العالم العربي وهذه المنطقة من العالم، ويرى صليبا أن الواقع المعاصر لسورية يرتبط ارتباطا كبيرا بفكرة القومية العربية التي تبنتها، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة نمت وترعرعت في بيروت في نهاية القرن التاسع عشر فهي قد لاقت هوى عند السوريين واحتضنتها دمشق بكونها تستعيد بها مجدا غابرا في التاريخ العربي، ولا شك أن التاريخ السوري حافل بالأحداث الكبرى، ولكن القضية التي تواجه نظام الحكم في الوقت الحاضر ربما تأخذ منحى آخر بسبب وجود معارضة لنظام الحكم القائم في البلاد ووجود مواجهات مستمرة بين أفراد الشعب والنظام وهي مواجهات تجعل أي كلام في مجال الأيديولوجيات وغيرها غير ذي موضوع، وهنا يتساءل صليبا عن نوع المعارضة التي تواجه النظام، وهو يرى أنها معارضة غير موحدة في توجهاتها فهي مكونة من أفراد ومجموعات دينية، وتفتقر إلى القيادة بسبب اختلاف توجهاتها، ولوحظ ذلك في مؤتمر أنتاليا في تركيا الذي حضره أكثر من ثلاثمئة من المعارضين المهاجرين الذين يعيشون في أستراليا والولايات المتحدة وأوروبا وغيرها من البلاد.

ويتساءل الكثيرون هل تستطيع هذه المعارضة أن تسقط النظام في هذه المرحلة ؟

الإجابة تحيطها كثير من الشكوك لأنه لم يحدث انشطار واضح في الجيش المؤسس على قواعد طائفية، والذي يرى أن تركيز المعارضة في هذه المرحلة هو أساسا على التوجهات العلوية بين فصائل الجيش المؤيد للتوجهات الطائفية لنظام الحكم على الرغم من أنه يحاول أن يقدم نفسه بوجه قومي.

ويعتقد الكثيرون أن سقوط النظام البعثي في هذه المرحلة ربما يؤدي إلى نوع من الفوضى في البلاد بسبب عدم خبرة المعارضين في نظم الحكم، وأيضا بسبب وجود عناصر قد لا توافق على أرضية مشتركة مع بعض عناصر المعارضة الأخرى، وإذا نظرنا في بعض السيناريوهات المحتملة في حالة سقوط النظام السوري، فإن من أخطرها بالطبع الوضع في لبنان الذي سينفجر ضد الغرب، كما أن حزب الله لن يقف مكتوف الأيدي، وأيضا لن تترك إيران النظام السوري يذوب مثل كرة الثلج، والأغرب هو الموقف الإسرائيلي، ذلك أنه على الرغم من دعاوى النظام السوري بأنه يقف في خط المواجهة من إسرائيل، ففي الحقيقة لا تريد إسرائيل أن ترى نظاما في سورية يسبب لها المتاعب بعد فترة استمرت نحو أربعة عقود من الهدوء، وهذا الموقف الذي ستتبناه إسرائيل سيماثله موقف الدول الغربية التي لا ترى في هذه المرحلة أي سبب لإسقاط النظام السوري، والقضية المهمة الآن ليست النظر إلى النظام السوري من منظور الاستراتيجيات الدولية، بل التساؤل ما إذا كان النظام السوري سيكون قادرا على توصيل رسالته إلى الشعب السوري في المرحلة المقبلة؟

والحقيقة التي لا تقبل الجدل الآن هي أن النظام السوري لن يستطيع الاستمرار في بيع الشعارات لشعبه، الذي أصبح يعلم أن مشروع الوحدة العربية تحول إلى مشروع خيالي في هذه المرحلة، وحتى لو لم يكن كذلك فإن نظام البعث السوري غير قادر على أن يحقق تقدما في مشروع الوحدة العربية، لأن الحزب في حقيقته لا يستند على مفاهيم سياسية بل يركز على مفاهيم طائفية لم يتنبه لها الكثيرون في المراحل السابقة، وهو غير مستعد لأن يتنازل عن مفاهيمه الطائفية من أجل أن يحقق قيمة سياسية عربية، كما أن كثيرا من الدول العربية لم تعد تتحمس لمفاهيم الوحدة ويظهر ذلك واضحا في الفشل الذي تكابده الجامعة العربية التي أصبحت كالبطة العرجاء كما يقول الغربيون، ويظهر ذلك على نحو الخصوص في عدم قدرتها على إقناع النظام السوري بقبول مقترحات الحل التي قدمتها.

ويبدو في ضوء ذلك أن النظام السوري لا يختلف عن غيره من كثير من أنظمة الحكم في العالم العربي، التي تركز على سلطة الحكم أكثر من تركيزها على نظام الدولة الذي يحقق مصالح المواطنين وفق النظم المتعارف عليها في هذا المجال، ومع ذلك فنحن نعتقد أنه حتى لو حدث التغيير في سورية فإنه سيكون على نحو مختلف مما حدث ويحدث في بلدان عربية أخرى بسبب ما ذكرناه آنفا.

=================

سورية: تخبط النظام في التعامل مع المبادرة العربية

د. بشير موسى نافع

2011-11-09

االقدس العربي

لم تكن موافقة الحكومة السورية على المبادرة العربية، التي أعلنها المجلس الوزاري للجامعة العربية يوم الأربعاء، 2 تشرين ثاني/نوفمبر، مفاجأة.

المفاجأة أن النظام بدا بعد الموافقة وكأنه فقد بوصلته الاستراتيجية، وأظهر تخبطاً كبيراً في التعامل مع المبادرة. مثل هذا التخبط يعزز من وضع الشعب السوري وقواه السياسية المعارضة في هذه الأزمة الأصعب والأكثر دموية بين كل أزمات التغيير العربية.

كان النظام السوري قبل شهرين قد رفض اقتراحاً عربياً للتخروج من الأزمة، أكثر تفصيلاً من المبادرة الحالية، ومعه محاولة الجامعة للتدخل في الشأن السوري كلية؛ وهو الرفض الذي أبلغ به الأمين العام للجامعة في زيارته الثانية لدمشق بلا مواربة، وفي لقاء مع الرئيس بشار الأسد شخصياً. ولكن الأمور خلال الشهرين الماضيين تغيرت إلى حد كبير. الحملة الأمنية الهائلة، ودرجة القمع الدموي العالية وغير المتحفظة، التي تعهدتها قوات الجيش الموالية والأجهزة الأمنية خلال شهر رمضان، انتهت إلى فشل ذريع. لا القتل العشوائي الأعمى في مدن مثل حماة وإدلب وحمص دير الزور وبلدات ريف دمشق، ولا اعتقال الآلاف من كافة أنحاء البلاد، نجح في إخماد الحركة الشعبية المشتعلة منذ منتصف آذار/مارس. إن كان ثمة من نتيجة لتصعيد الحل الأمني والعسكري، فقد كان في تخلي قطاعات متزايدة من الشعب السوري عن مساندة النظام، وقطاعات أخرى لا تقل اتساعاً عن موقف الصمت واللامبالاة.

من جهة أخرى، ينحدر اقتصاد البلاد إلى ركود لم يشهده منذ عقود، بعد أن كادت حركة التصدير والاستيراد أن تتوقف، ونفدت الأرصدة المالية من العملات الاجنبية لدى البنوك السورية. كما تتراجع الموارد المالية للدولة بمعدلات خطيرة، سيما وأن العقوبات التي فرضت على النظام دخلت مرحلة التطبيق القاطع منذ منتصف تشرين أول/اكتوبر.

كانت دوائر النظام، مثلاً، قد أظهرت استهتاراً سياسياً بالمقاطعة الغربية للنفط السوري، الذي يدر على مالية الدولة ما بين 7 - 9 مليارات سنوياً، مشيرة إلى أن سورية سرعان ما ستعوض الأسواق الغربية بأسواق أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية. ولكن المؤكد الآن أن إيجاد مثل هذه البدائل لن يكون يسيراً، سيما أن النفط السوري من النوع الثقيل، الذي لا يصلح سوى لعدد قليل من مصافي النفط الأوروبية.

من جهة ثالثة، نجحت قوى المعارضة السورية، التي راهن النظام طوال الشهور الماضية، في لم صفوفها، والاتفاق على تشكيل المجلس الوطني الموسع. لم يضم المجلس الوطني أغلب قوى وشخصيات المعارضة السورية في الخارج فحسب، ولكن أيضاً قوى إعلان دمشق، والقطاع الأكبر من التنسيقيات المحلية، التي تنظم الحراك الشعبي وتقوده.

وما أن أعلن عن تشكيله، حتى خرج السوريون في كافة أنحاء البلاد لمبايعة المجلس الوطني ممثلاُ للثورة السورية؛ وهو الأمر الذي انعكس في استقبال قيادات المجلس في عدد من العواصم الغربية والعربية، وفي حصول المجلس على اعتراف كامل من الحكم الثوري الجديد في ليبيا. وإلى جانب هذا التطور الهام في ساحة المعارضة السورية السياسية، ازدادت معدلات الانشقاق عن الجيش السوري وأجهزة النظام الأمنية، وأخذ الجنود والضباط المنشقون في تعهد أدوار ملحوظة في حماية المظاهرات الشعبية والأحياء والبلدات الثائرة، والتعرض المسلح لميليشيات النظام.

من جهة رابعة، تعرض النظام خلال الأسابيع القليلة الفاصلة بين تحرك الجامعة الأول والثاني لضغوط متزايدة من حلفائه في إيران (وبدرجات متفاوتة من روسيا والصين)، التي تشهد تصاعد معدلات العنف في سورية وعجز النظام عن احتواء الحركة الشعبية، وإلى تصعيد في لغة التهديد من تركيا وبعض الدول العربية الأخرى، التي ينتابها قلق كبير من احتمالات انحدار الوضع إلى عنف أهلي داخلي، يمتد إلى الجوار الإقليمي. ولأن إيران، وعدداً من الدول العربية، باتت تخشى أن يؤدي التدخل الخارجي في الشأن السوري إلى مسار يصعب التحكم في نتائجه، فقد عملت على دفع النظام إلى القبول بالصيغة العربية الجديدة، التي تترك الباب مفتوحاً لتوازنات القوى بين النظام وشعبه لتقرير ما تكون عليه سورية الجديدة. بمعنى أن تكون المبادرة، كما توحي صياغتها بالفعل، مقدمة لاحتواء تصاعد العنف وتحلل مؤسسات الحكم، ومن ثم يترك للنظام والقوى السياسية المعارضة أن تتفق على خطوات التغيير التالية، مستوى وحجم التغيير، وسبل الوصول إلى هذا التغيير.

بيد أن أزمة النظام وصلت الآن إلى مستوى أعمق بكثير مما يمكن أن توفره المبادرة العربية من مخرج عقلاني. المنطق الذي تستند إليه المبادرة أن طرفي التدافع: النظام ومؤيدوه وأجهزته، من جهة، والشعب وقواه المعارضة، من جهة أخرى، وصلا إلى حالة من تعادل القوة؛ لا النظام يستطيع وضع نهاية لحركة المعارضة الشعبية، ولا الحراك الشعبي يبدو قادراً على إطاحة النظام، بالطريقة المصرية أو التونسية. مثل هذه المقاربة، بالطبع، تفتقد إلى فهم صحيح لما هي الدولة. عندما تعجز دولة، سيما دولة يقودها نظام حكم اعتاد السيطرة المطلقة والتحكم بلا هوادة، عن إيقاف أو احتواء تحد شعبي لسيطرتها وتحكمها، بالحجم والاستمرارية التي تعيشها سورية منذ ثمانية شهور، تفقد الدولة ونظام حكمها معنى وجودهما. نظام الحكم السوري خسر المواجهة مع شعبه بالفعل، وخسرت معه المواجهة مؤسسة الدولة التي تماهت معه منذ عقود وتحولت إلى مجرد أداة لحراسته، بغض النظر عن الزمن الذي ستأخذه هذه الخسارة للتحول إلى واقع سياسي فعلي. وهذا هو السبب الذي يجعل النظام عاجزاً عن تنفيذ بنود المبادرة العربية، كما ينبغي أن تنفذ.

قد يلجأ النظام، بعد مماطلة طويلة، إلى سحب قوات الجيش من شوارع المدن، كما نصت على ذلك المبادرة. بل أن خطوة سحب الجيش، أو القطاع الأكبر، ستصب في النهاية لمصلحة النظام، بعد أن ازدادت معدلات الانشقاق من وحدات الجيش، خاصة تلك التي تضم أعداداً كبيرة من الجنود والضباط السنة. ولكن النظام لا يستطيع أن ينسحب أمنياً، بمعنى أن يتخلى عن الحل الأمني. مثل هذه الخطوة ستنتهي بخروج واسع النطاق في دمشق وحلب إلى الشارع، وتغلق بالتالي الحلقة الشعبية على عنق النظام. في أفضل الأحوال، سيلجأ النظام إلى زرع قواه الأمنية وميليشياته، بزي مدني، في المدن والأحياء والبلدات الثائرة، أو إلباسها زي قوات الشرطة والبوليس المحلي. هذا إن إراد فعلاً أن يقابل الجامعة العربية في منتصف الطريق. ولكن الاحتمال الآخر، احتمال أن يلجأ إلى ذرائع ومسوغات ما لعدم سحب الجيش والقوات الأمنية أصلاً يظل قائماً. ادعاء وزير الخارجية السوري (6 تشرين أول/نوفمبر) أن الإعلان الرسمي عن دعوة المسلحين إلى تسليم أسلحتهم مقابل العفو عنهم خلال أسبوع، هو خطوة نحو تنفيذ المبادرة العربية، ليس إلا مثالاً لذرائع نظام فقد مصداقيته، ويفقد الآن بوصلته الاستراتيجية بخسارة النظام العربي الذي أراد إنقاذه من أزمته.

قبل أن يبدأ التحرك العربي لصياغة مخرج للأزمة السورية الدموية، كان الأتراك قد حاولوا هم أيضاً إيجاد مثل هذا المخرج. وليس ثمة شك أن تقدير دمشق لعلاقاتها التحالفية مع أنقرة، العلاقات التي وفرت غطاء بالغ الأهمية للحكم في سورية في سنوات التهديد الحرجة التي تلت غزو العراق، أكثر بكثير من تقديرها لأغلب علاقاتها العربية. ومنذ نهاية نيسان/ابريل وحتى نهاية آب/أغسطس، توجه إلى العاصمة السورية وفد تلو الآخر من كبار المسؤولين الأتراك، أجروا جميعاً مباحثات مباشرة مع الرئيس الأسد، وتلقوا منه شخصياً وعوداً واضحة بوضع نهاية للعنف وتعهد برنامج إصلاحي شامل والسماح بعودة قوى وشخصيات المعارضة في المنفى، وإجراء حوار سريع مع كافة أطراف المعارضة. ولكن الرئيس لم يقم مرة واحدة بالوفاء بتعهداته. مقاربة النظام للجهود العربية قد لا تختلف كثيراً عن مقاربته للجهود التركية، بالرغم من أن المبادرة العربية تبدو وكأنها الفرصة الأخيرة للحفاظ على سورية من مخاطر اندلاع عنف أهلي دموي واسع. مشكلة النظام في سورية لا تختلف عن مشكلة كل أنظمة الاستبداد القمعي عندما تواجه ثورة شعبية. في البداية، يظن النظام أنها ليست سوى زوبعة سرعان ما تخمد، وأن أجهزته من الكفاءة والتجربة بحيث ستنجح أخيراً في احتواء الأزمة. وما أن تتفاقم الأزمة وتزداد تعقيداً، تكون مؤسسات النظام وأدواته قد قطعت شوطاً كبيراً في الولوغ بدماء الشعب وحرماته، ويصبح من الصعب عليها التراجع وإلا وضعت، سياسياً وقضائياً، أمام سجلها القمعي البشع.

وافقت المعارضة السورية، بالرغم من أنها لم تعلن ذلك صراحة، سواء في المجلس الوطني أو في هيئة التنسيق، على المبادرة العربية، وانتظرت أن يثبت النظام مصداقيته. ولم يكن اللقاءان اللذان عقدهما ممثلون عن المجلس الوطني مع الأمين العام للجامعة العربية سوى مؤشر على الموافقة الضمنية للمجلس على الجهود العربية. ولكن أعداد القتلى من السوريين، التي تجاوزت العشرين قتيلاً يومياً، في الأيام الأربعة التالية لموافقة النظام على المبادرة العربية، أظهرت إلى أي حد يصعب على النظام الالتزام بتعهداته. الكرة الآن في ملعب المجموعة العربية، ومجلس جامعتها الوزاري، الذي بات عليه أن يكون أكثر مصداقية من الرفيق السوري. المزيد من الصمت والسكوت ليس أقل من مشاركة فعلية في الجريمة الفادحة التي ترتكب الآن بحق السوريين البواسل.

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

=================

اسعد لحظات النظام السوري

عبد الباري عطوان

2011-11-09

القدس العربي

ترتكب فصائل وجماعات المعارضة السورية خطأ كبيراً اذا ما عوّلت على الجامعة العربية ووزراء خارجيتها لمساعدتها في مسعاها لإسقاط النظام السوري واستبداله بنظام ديمقراطي عصري، ليس لأن هؤلاء لا يريدون، وانما لانهم غير قادرين، وينتظرون الضوء الاخضر من الولايات المتحدة وحلف الناتو قبل اتخاذ اي خطوة تجاه سورية.

صحيح ان الجامعة العربية، وامينها العام السابق عمرو موسى، لعبا دوراً كبيراً في توفير الغطاء 'الشرعي' العربي لتدخل حلف الناتو عسكرياً في ليبيا، تحت عنوان فرض مناطق حظر جوي لحماية المدنيين، تطور بعد ذلك لقصف مواقع العقيد القذافي وكتائبه في كل مكان، حتى بعد تدمير جميع طائراته ودفاعاته الجوية، ولكن الوضع في سورية مختلف تماماً، ودول حلف الناتو مترددة في التورط عسكرياً في اي محاولة لتغيير النظام، رغم دمويته ووصول عدد الذين سقطوا برصاص قواته الامنية الى ما يقرب من الاربعة آلاف شهيد حتى الآن.

المشكلة الاخطر التي تواجه المعارضة السورية تتمثل في الانقسامات المتفاقمة بين فصائلها، واللغة غير المقبولة، بل والبذيئة، المستخدمة بين المتحدثين باسمها في ذروة خلافاتهم على 'كعكة' التمثيل للثورة السورية، وهي لغة اكثر مفرداتها تأدباً كلمة 'التخوين' و'العمالة للنظام'.

من المؤكد ان السلطات السورية كانت في ذروة سعادتها وهي تتابع فصول المشهد الاسوأ حتى الآن لهذه الخلافات على ابواب الجامعة العربية، عندما منع افراد من الجالية السورية المقيمة في القاهرة (بعضهم محسوب على المجلس الوطني) ممثلي 'الهيئة الوطنية للتغيير' التي تضم خليطاً من رموزٍ معارضة في الداخل والخارج، من دخول مقر الجامعة العربية للقاء امينها العام الدكتور نبيل العربي، وتنسيق المواقف قبل اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم السبت المقبل، لتقييم التعاطي الرسمي السوري مع مبادرة الجامعة، وتقرير طبيعة الخطوات والعقوبات المتوقعة.

كان مؤسفاً ان يتعرض هؤلاء للتشائم والقذف بالبيض الفاسد، والاتهامات بالخيانة والعمالة للنظام، وبينهم شخصيات تعرضت للسجن، مثلما حدث للسيد ميشيل كيلو، وافراد اسرته، وللقتل مثلما حدث لشقيق الدكتور هيثم منّاع.

فإذا كانت المعارضة السورية تريد تغييراً ديمقراطياً، ولا نشك في ذلك مطلقاً ونعتبره حقاً شرعياً، فإن ما مارسته بعض فصائلها، او المحسوبون عليها من افعال في القاهرة، يتعارض كلياً مع هذا الهدف، لأن اول شروط الديمقراطية هو احترام الحريات وحق الآخر في التعبير عن وجهة نظره.

' ' '

ندرك جيداً ان حالة الغضب التي تسود اوساط المجلس الوطني وبعض اتباعه تجاه 'هيئة التنسيق والتغيير' التي تضم رموز المعارضة في الداخل راجعة الى انخراط هؤلاء في حوار مع النظام، ومعارضتهم لأي تدخل عسكري دولي في الأزمة السورية، للمساعدة في اسقاط النظام ووقف آلة القتل الدموية التي يمارسها بقوة. ولكن من قال ان المعارضة يجب ان تكون متساوية مثل اسنان المشط، ولماذا لا يكون هناك تكامل او تبادل ادوار، او تعدد اجتهادات؟

وربما يفيد التذكير بأن المجلس الوطني السوري عارض، وفي البيان الاول لتأسيسه الذي اصدره في اسطنبول، التدخل العسكري الخارجي بشدة، وكانت هذه المعارضة نقطة التقاء مهمة مع معارضي الداخل، مثلما كانت معارضة 'عسكرة الثورة' نقطة التقاء اخرى في الاشهر الاولى لانطلاقتها.

نحن هنا لا ندافع عن معارضي الداخل، او نبرر مواقفهم في الحوار مع نظام نعرف جيداً ديكتاتوريته واصراره على الحلول الدموية الأمنية، ولكن لا بد من تفهم الظروف التي يعيش في ظلها هؤلاء تحت سقف هذا النظام القمعي، واصرارهم على البقاء على ثرى وطنهم، وتحمل الاهانات بل ومواجهة خطر الموت في اية لحظة.

ارتكب الكثير من العرب خطأ، والفلسطينيين منهم خاصة، عندما اتهموا عرب فلسطين الذين بقوا على ارضهم، ورفضوا مغادرتها، وقرروا ان يظلوا شوكة في حلق الاحتلال الاسرائيلي يقاومونه بكل الوسائل المتاحة، بالخيانة، واغلقت دول عربية الابواب في وجوههم، وها هم يكتشفون، وبعد عقود كم كان هؤلاء محقين في موقفهم عندما رفضوا قرار المغادرة، رغم عمليات الارهاب التي مورست ضدهم وما زالت حتى هذه اللحظة.

مرة اخرى نؤكد بل ونشدد اننا لا نقارن هنا بين النموذجين، فسورية تحكم من قبل ابنائها حتى وان اختلفنا مع اسلوب حكمهم، ولكن نتوقف هنا عند خطيئة الاحكام المسبقة، والاتهامات بالتخوين التي باتت، وللأسف الشديد، من ابرز ادبيات التخاطب في الوقت الراهن بين فصائل او بعض فصائل المعارضة السورية.

لا نريد لجماعات المعارضة السورية، وهي جميعها تنخرط في عمل سياسي وطني مشروع عنوانه التغيير الديمقراطي، ان تكرر الاخطاء التي وقعت فيها فصائل المقاومة الفلسطينية، عندما سقطت ضحية الخلافات العربية، وبات بعضها ينفذ أجنداتها العقائدية، ويحارب دولاً او حتى فصائل اخرى تحت راياتها.

' ' '

فإذا كانت فصائل المعارضة تتنافس فيما بينها على نيل الاعتراف بها كبديل للنظام في سورية، فأن عليها ان توحد صفوفها اولا، وتنضوي تحت مظلة ديمقراطية واحدة، مثلما انضوت الفصائل الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وانخرطت في مؤسساتها الشرعية مثل المجلسين الوطني والمركزي، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقبل هذا وذاك يجب ان تعترف المعارضة السورية، وفي الخارج خاصة، انها لا تحظى بدعم ومساندة 'كل' الشعب السوري، وهناك نسبة، كبيرة كانت او صغيرة، من هذا الشعب ما زالت تؤيد النظام وتقف في خندقه، سواء خوفاً منه واجهزته الامنية، او من المستقبل المجهول الذي ينتظر البلاد في حال سقوطه.

ومثلما تعاني فصائل المعارضة السورية من الانقسامات، فإن الجامعة العربية ليست متماسكة ايضا، كما ان الغالبية الساحقة من الانظمة الممثلة فيها ليست ديمقراطية على الاطلاق، وبعض شعوبها لا تقل معاناتها عن الشعب السوري نفسه، وبعض هذه الانظمة لا تريد انتقال عدوى الانتفاضات الديمقراطية الى شعوبها، والا لماذا لا نرى اجتماعاً لوزراء الخارجية العرب لبحث الوضع في اليمن والانتصار لثورته؟ نقول ذلك على سبيل المثال لإظهار مدى الازدواجية العربية والغربية في آن.

من حقنا ان نطرح سؤالاً واضحاً على المجلس الوطني السوري وقيادته وهو: ألم يكن القبول بالمبادرة العربية التي يشدد احد بنودها على بدء جلسات حوار بين المعارضة والنظام تحت قبة الجامعة في القاهرة، اعترافا بهذا النظام ووجوده ، في الوقت الراهن على الاقل، فما هو الفرق بين محاورة النظام في دمشق او محاورته في القاهرة؟ اليس حواره في دمشق في عقر داره، وادانة قمعه، وقتله لشعبه، ومصادرة حرياته، وسلبه كرامته الوطنية والانسانية، هي ابلغ انواع المعارضة، وقول كلمة 'لا' لسلطان جائر التي وضعتها عقيدتنا في مكانة عالية سامية؟

لا نريد القاء محاضرات على الاشقاء في المعارضة السورية، فبينهم اساتذة وشخصيات تملك خبرة عالية في العمل السياسي، سواء اولئك الذين دفعوا ثمن معارضتهم سجناً وتعذيباً في السجون السورية الاسوأ في العالم بأسره، او الآخرين الذين تشردوا في المنافي وذاقوا طعم الحرمان من اهلهم وذويهم وارض وطنهم، ولكن من حقنا ان نطالب بالحكمة والتعقل، والترفع عن الانفعالات الشخصية، والتحلي بفضيلة التعايش مع الآخر، كتدريب على الديمقراطية، واستعداد للتعايش الاكبر في سورية نفسها حيث تعدد المشارب والآراء والطوائف والاعراق.

فإذا كانوا غير قادرين على التعايش فيما بينهم، وعددهم لا يزيد عن العشرات، فكيف سيحكمون او يتعايشون مع الملايين الذين قد يختلفون معهم في داخل سورية؟

=================

أحياناً... القتل في سورية

الخميس, 10 نوفمبر 2011

عبدالعزيز السويد

الحياة

على الجامعة العربية حفظ ما تبقى من ماء الوجه، برصد كل المشاهد المروعة التي تحفل بها شبكة الإنترنت عمّا يحدث في سورية. مشاهد مصورة مفزعة لذبح ونحر وتقطيع تتفطر لها القلوب وتجزع منها العقول، هذا هو الدرك الأسفل من الإجرام المتوحش. على الجامعة أن تنحاز للإنسان وتحقق بشكل عاجل في هذه المشاهد من خلال خبرات عربية بعيدة من التجاذب السياسي، لا يصح الانكفاء على الجهود الديبلوماسية بما يتيح هذا للظلمة المتجبرين مزيداً من الترهيب وذبح البشر. إنها مشاهد تبعث على الخزي والعار، ولا تدل سوى على حقارة مرتكبيها، وهي أدلة إدانة دامغة سواء كان النظام السوري مسؤولاً عنها أو ما يقول إنه مجموعات مسلحة. في إمكان الجامعة العربية الفصل لحالة التداخل الإعلامي بين ما يردده النظام السوري وما تعلنه المعارضة من خلال لجان تحقيق ميدانية، لقد ساهمت بعض القنوات الفضائية التعبوية باستقبالها لكل ما يصل من أخبار وبثها في توفير مزيد من الغموض الإعلامي، ولا أدل على حالة الغموض في سورية من تصريح ملك الأردن الملك عبدالله الثاني حينما قال لشبكة «سي أن أن»: «لا أحد يفهم ما يجري في سورية»، والجامعة هنا ليست معنية بما قيل ويقال من مسؤولين سوريين عن «تجاوز حدود الصلاحيات». هنا واجب على الجامعة تجاه الشعب الأعزل وبسطاء الناس لا يجوز التفريط فيه وله الأولوية جنباً إلى جنب مع العمل الديبلوماسي. وإذا ما رفضت الحكومة السورية تسهيل عمل لجان التحقيق فهي تدين نفسها.

***

قال الشيخ أحمد حسون مفتي سورية إن الرئيس بشار الأسد لن يستمر رئيساً مدى الحياة. ولم يحدد أي حياة يقصد، حياته هو أم حياة الأسد أم حياة الشعب السوري، وكل الرؤساء العرب الذين سقطوا قالوا هذه المقولة في اللحظة الحرجة، وحده القذافي قبل سقوطه نفى كونه رئيساً وإلا لرمى الاستقالة في وجوه معارضيه، إذ كان له غيبوبة خاصة، ولكل زعيم غيبوبته. والشيخ حسون هو المفتي بما يعني هذا مسؤولية العلم الشرعي وحينما يذكر أن وسائل الإعلام «المغرضة» تنشر ما «ينافي الواقع ولا يعبر عن الحقيقة» عمّا يحدث في سورية فهو سيسأل عن هذه الشهادة في يوم طالما حذر منه الآخرين.

وذكر مفتي سورية لمجلة «دير شبيغل» أن بشار الأسد يريد الإشراف على عيادة متخصصة في طب العيون، «طبعاً» بعد الانتهاء من الإصلاحات، وأزعم أن الأسد حشر فيما ليس بأهل له، حينما ورث السلطة ولم يتمكن من إحداث التغيير بل عجز عن استيعاب الزلزال الذي أصاب المنطقة، وهو الآن عالق في وضع لا يحسد عليه.

=================

مَن استغفل مَن في «اتفاق» الجامعة وسورية؟

الخميس, 10 نوفمبر 2011

عبدالوهاب بدرخان *

الحياة

سيكون معيار نجاح الاتفاق بين الجامعة العربية وسورية أن يتمكن الشعب السوري من مواصلة انتفاضته بجانبها السلمي، الذي كان ولا يزال غالباً، وأن يثبت الشعب أنه كما أفشل الحل الأمني الذي اتّبعه النظام يريد أن يُفشل أيضاً ضغوط النظام من أجل عسكرة الانتفاضة ليتاح له منازلتها وفقاً لميزان القوة النارية.

لم يصبح الصباح على خبر «الاتفاق» حتى كان النظام قد نقضه وتأكد للوزراء العرب أنهم تورّطوا وورّطوا الجامعة. وبعد سكوت مريب دام ثلاثة أيام بضحاياها الكثر وبأنباء المحاصرة والقصف لمدينة حمص، أمكن للجامعة أن تكسر صمتها لتقول أن النظام أخلّ بتعهداته واستعدّت لاجتماع جديد بعد غد لتقويم الموقف، وليس متوقعاً الإعلان صراحة عن سقوط «الاتفاق» بسبب عدم وضوح الخطوة التالية للجامعة، أهي «تجميد العضوية» أم الاقتراب من التدويل عبر «المطالبة بحماية المدنيين»؟ ليس هناك إجماع عربي، لكن حتى التوافق لا يبدو مضموناً.

ينبغي ألا تنسى الجامعة أن المهلة التي استهلكتها قبل التوصل إلى «الاتفاق» كلفت نحو أربعمئة قتيل، وهي حصيلة ارتفعت بعده وقد تزيد أكثر قبل الوصول إلى يوم يؤمل ألا يسقط فيه أي قتيل. ذاك أن الجامعة باتت مسؤولة معنوياً عن هذا الدم، وستكون لاحقاً شريكة في المسؤولية الجنائية عن أي دم يهدر. فما تحقق غداة «الاتفاق» هو عدم التنفيذ «الفوري» بل عدم سحب الآليات العسكرية في الموعد الذي حددته السلطة السورية نفسها يوم عيد الأضحى.

بمعزل عن المواقف المعلنة لجهات عربية وغير عربية، يبدو هذا «الاتفاق» كأنه وليد «صفقة»: يوافق النظام السوري على المسعى العربي ويمتنع العرب عن التوجه إلى تدويل الأزمة أو على الأقل يؤجلونه، وقد رحبت العواصم الدولية بحذر ثم فهمت أنها حيال سراب. هناك من أراد إظهار موافقة النظام «بلا تحفظات» على أنه التنازل «الأول» الذي يقدم عليه منذ بداية الانتفاضة. لكن أنصار سورية في لبنان تبادلوا ما يشبه التهاني بالموافقة السورية على أنها «ضربة معلم» سياسية من النوع الذي تجيده دمشق حين تتعامل مع الخارج، وكان واضحاً أن هؤلاء الأنصار يعرفون أن الأمر يتعلق بخدعة لتمرير مرحلة من خلال استغفال العرب. والواقع أن المضمر في «الاتفاق» أكثر من المعلن، فهو أخذ بتحفظات النظام كلها. وإذا كان لبنوده أن تستند إلى مفاهيم محددة فإن التنفيذ لا بد أن يستند إلى تفاهمات صارمة، وهو ما لم توضحه الصياغة ربما لأن البحث جرى ويجري بين ممثلي أنظمة عربية لا اختلاف جوهرياً بين مفاهيمها.

ليس في قوانين عمل الجامعة ما يلزم أي نظام بما لا يريده، وقد جاء في حيثيات «الاتفاق» أنه يهدف إلى «تجنب التدخل في الشأن الداخلي»، ما يعني أن الجامعة تتوسط ولا تتدخل. ويفترض في الوسيط أن يحترم مصالح الطرفين، لكن القول ب «وقف العنف من أي مصدر كان» يساوي بين عنف النظام وعنف معارضيه، وهو ما ترّوجه الرواية الرسمية السورية.

وافق النظام السوري على الاتفاق لأنه يحقق له مصالح، أولها احتواء الدور العربي وقطع الطريق على أي تدويل للأزمة بغطاء عربي، وقد نصحه الحليف الإيراني والصديق الروسي وبعض محاوريه العرب بأن مبادرة عربية «لا أسنان» تبقى أفضل من قرار دولي تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ثم أن الموافقة تُكسب النظام وقتاً وقد تمكنه من تهدئة الأوضاع وتمييع الانتفاضة والتحكم بالحوار المزمع مع المعارضة. ولعل المكسب الأكبر من مسايرة العرب طي صفحة «إسقاط النظام» لمصلحة «إصلاح يقوده النظام» كنتيجة للحوار إذا قدّر له أن ينعقد. وبالتالي طويت أيضاً «المبادرة العربية» التي لحظت في جانبها السياسي مجموعة «إلزامات» للنظام (فصل الأمن والجيش عن الشأن السياسي، جدول زمني للإصلاحات الأساسية والتعديلات الدستورية، حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية معارضة...) وهي «إلزامات» لم تأتِ من فراغ إذ طرحها الأتراك أولاً، ونوقشت مع الروس، وأعطى الإيرانيون رأياً فيها. لكن في الوقت الحالي يصعب على أي مرجع عربي القول إن «المبادرة» لا تزال على الطاولة.

في حدود ما توصلت إليه الجامعة بهذا «الاتفاق» حصلت دمشق على إظهار الانتفاضة كمجرد مشكلة أمنية، والأمن من شأن الدولة، وعلى هذا الأساس لا يجد النظام مشكلة في الاستعانة ب «مراقبين عرب» لاستعادة الهدوء الأمني. بل إن دمشق قد تسارع إلى أخذ زمام المبادرة فتطرح مشروعها للإصلاح استباقاً لحوار لا تزال ترفض مبدأ عقده في الخارج. وقد تفادى الاتفاق تأكيد مكان الحوار فإنه ربطه بنجاح خطوات وقف العنف.

في أي حال، ثمة رهانان سيتصارعان في سورية مع وصول المراقبين. فالنظام يعتبر أن وقف العنف لا يعني وقف استهداف «العصابات المسلحة» و «الإرهابيين» والمنشقين عن الجيش، لكنه يجب أن يعني وقف التظاهرات ولو سلمية، وهو ما لن يحصل. أما الجامعة فتراهن على أن يكون وقف العنف إيذاناً بتغيير جوهري في سلوك النظام، ولا سيما أجهزته الأمنية، وهو ما لن يحصل. وتعتقد الجامعة أن البند الرابع من الاتفاق (دخول منظمات الجامعة ووسائل الإعلام العربية والدولية للإطلاع على حقيقة الأوضاع...) سيدعم رهانها. وفي حين أن فاعلية منظمات الجامعة لم تُختبر سابقاً خصوصاً في مجال حقوق الإنسان أو بالتعامل مع معاناة الشعوب، فإن أريحية النظام السوري بقبول وسائل الإعلام وتركها تعمل وتتنقل بحرية في مختلف المناطق تحتاج أيضاً إلى اختبار، إذ لم يسبق أن سجّلت في أي فترة كانت فيها سورية بلداً مفتوحاً للإعلام، وإذا انفتح فعلاً الآن في سابقة أولى من نوعها فليس له أن يتوقع انشغال الإعلام بالروايات الرسمية وإنما سينكب على تغطية التظاهرات ومراجعة مآسي الشهور الماضية والسعي إلى توثيق الجرائم التي ارتكبتها أجهزة النظام وشبّيحته.

ما يمكن أن يؤخذ على الجامعة لا علاقة له تحديداً بالاتفاق مع النظام السوري، ولا بمحاولة النظام العربي الرسمي إنقاذ نظام هو من أركانه على رغم أنه لم يعد منذ زمن معنياً بالشأن العربي بل مأخوذاً تماماً بحلفه مع إيران... ما يؤخذ على الجامعة أنها غير مؤهلة عموماً للتعامل مع هذا النوع من الأزمات وبالأخص في غياب فاعلية الدول العربية الأساسية، ثم أنها محدودة بصلاحياتها وبتراثها الطويل كإطار موظف حصرياً في خدمة الأنظمة والحكومات، ولأنه كذلك فهو معني بالتستر على أمراضها وصون مصالحها على حساب مصالح شعوبها. وهذا ما يفسر خلو اطروحات الجامعة حيال الأزمة السورية من أي احتكام إلى العدالة والحقوق الإنسانية، وكأن معاقبة مجرمي النظام الذين قتلوا أبناء الشعب بدم بارد وارتكبوا فظائع في إهانة كرامات الناس لم ترد حتى في الأذهان، لأنها ببساطة ليست من الثقافة العربية التي تمثلها الجامعة أو تنتمي إليها.

* كاتب وصحافي لبناني

=================

سورية وإيران: مَنْ يُنجِد الآخر؟

الخميس, 10 نوفمبر 2011

زهير قصيباتي

الحياة

يضغط الغرب لإعادة ملف «الخيار الأمني» السوري إلى مجلس الأمن، ويضغط في آن لإعادة الملف النووي الإيراني الى المجلس. في الحال الأولى، تتسلح الدول الكبرى بإحباط دمشق مبادرة الحل العربي، وفي الثانية تضع أصابعها على ما كشفته الوكالة الذرية من مشروع «تصنيع رأس حربي نووي»، عملت طهران لإنجازه.

ووراء «أصابع» الأمن التي تتصدى لانتفاضة السوريين منذ نحو ثمانية شهور، والرأس النووي المزعوم، الذي يثير الذعر من سيناريوات حرب ستوزع الكوارث بين منطقتي الخليج والشرق الأوسط... تتوارى رويداً حقيقة التحالف المديد بين نظامين في طهران ودمشق، باتا عقدة المواجهة، وبين فكي الحصار، بعدما فاخرا لسنوات بانتصار ممانعتهما على «شرور» القوى الكبرى.

والحال، بعيداً من تفاصيل تلك الممانعة ومآلها الراهن في عهد «الربيع العربي» وثوراته وانتفاضاته، أن كلاً من جناحي ذاك التحالف، بين نظام ولاية الفقيه الديني ونظام حزب «البعث» الذي يسِم ذاته بالعلمانية (الشمولية!) بات عاجزاً عن تقديم النجدة للجناح الآخر... على الأقل في الوقت المناسب. فلا دمشق قادرة على خوض «المواجهة الكبرى» مع إسرائيل إذا وجّهت حكومة نتانياهو الصواريخ الى المنشآت النووية الإيرانية، ولا طهران المنهمكة بأزمات الصراعات الداخلية والتأهب لسيناريو «تدمير إسرائيل» – إذا بادر الثنائي نتانياهو – باراك إلى «الحسم» – قادرة على التدخل لإنقاذ النظام السوري، في حال واجه أشكالاً من التدخل الإقليمي أو الدولي.

يزداد ارتباك الحليفين السوري والإيراني، لأن الغبار الكثيف فوق رأس الجبل «النووي»، وعلى ساحة انهيار المبادرة العربية لتسوية الأزمة في سورية، من شأنه تضليل جناحي «الممانعة»، المتآكلة بالقمع والكذب. هنا تبدو الاحتمالات المضلِّلة مشؤومة للجميع مثلما هي بائسة للجناحين، إذ تندرج في البحث عن توقيت «الجراحة»، لا عن ترجيحها. وأي تدخّل في سورية لن يطيح النظام بالضرورة، لكنه قد يطيح وحدة البلد لأمد طويل، وأي هجوم على إيران أكلافه الأولى إسرائيلية ثم عربية كارثية. وأما البديل، من نوع حصار «أطلسي» بحري، فيطيل الصراع مع طهران، إلى ما بعد قلب معادلة تحالفها مع دمشق وملحقات «الممانعة» التي لا تعرف بعد المرساة النهائية لما تسميه إعصار «الشرق الأوسط الجديد».

تراهن طهران على الردع النفسي، فتهدد بتدمير مفاعل ديمونا إذا هوجمت منشآتها النووية. ودمشق على خطاها تراهن أيضاً على الردع النفسي الذي يتمثل بخوف العرب على وحدة سورية، ومن انفلات الصراعات المذهبية على امتداد المنطقة، فيصرّون على تمديد الفرص لنظام الرئيس بشار الأسد، لعله يحتوي الانتفاضة ويبادر إلى خطوات إصلاح. لكن السؤال، بعد حرق فرصة المبادرة العربية، هو ما إذا كانوا قادرين على مقاومة الضغوط الغربية الساعية إلى شد حبال التدويل على عنق النظام السوري. وأما الضغط على «الخاصرة» الإيرانية بالتشهير بكذب طهران في الملف النووي، فلعله يشغل خامنئي – نجاد عن مد آخر حبال الإنقاذ ل «الحليف الوفي» الذي مكّن طهران من أوراق فلسطين ولبنان لسنوات، بالوكالة ثم مباشرة، إلى أن حوصر في خندق الدفاع عن شرعيته.

وإن كان اتهام طهران الوكالة الذرية الدولية بالتسييس يستعيد كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، رغم سجل إيران في تضليل الوكالة، فجهود الغرب حيال الملف النووي الإيراني تذكّر بتجربة الحصار المتدرّج الذي فُرِض على عراق صدام حسين لسنوات، وانتهى بإطاحة الديكتاتور.

الآن، ما يعني النظام السوري الذي «يهترئ» التعاطف الروسي – الصيني معه بتهاوي المبادرة العربية، هو الاطمئنان إلى أن تركيا التي قد يستخدمها الغرب رأس حربة في مشروع حماية المدنيين السوريين، لا بد أن تفكر في عواقب الانجرار إلى مواجهة مكشوفة مع إيران. لكن ذلك لا يلغي السؤال مجدداً عن قدرة طهران على الذهاب الى حرب كبرى، فيما عينها على المنشآت النووية ومياه الخليج ومضيق هرمز الذي تهدد بإغلاقه، كلما لاحت نُذر الضربة العسكرية، لطي الملف النووي.

إيران وسورية إلى مجلس الأمن؟ فوق جبل المواجهة غبار كثيف من التضليل، ردع نفسي وحرب إعلامية، فيما سكين العقوبات أسهل خيارات الغرب، لكنه أكثر وهناً من سيف الخداع الذي لا يمكن أحداً التكهن بخبث «الشيطان الأكبر» إذا استلّه.

=================

هكذا وبالضربة القاضية أنهى بشار الأسد المبادرة العربية

صالح القلاب

الشرق الاوسط

10-11-2011

لأنه كان معروفا سلفا أن النتيجة ستكون هي هذه النتيجة، فإنه ما كان على الجامعة العربية أن تمنح نظام الرئيس السوري بشار الأسد مهلة جديدة ليسفك المزيد من دماء السوريين الأبرياء، وإنه كان عليها أن تلجأ مباشرة إلى الإجراء الذي هددت به وهو تعليق عضوية سوريا في هذه الجامعة وتفتح الطريق أمام حماية دولية لشعب من حقه، بعد مرور نحو ثمانية أشهر من الذبح والتشريد والاعتقالات، أن يطالب المجتمع الدولي بتوفير الحماية الفعلية له حتى وإن اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية.

تقضي المبادرة العربية، التي أكد رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني على ضرورة تنفيذها فورا، وقد كرر كلمة «فورا» أكثر من مرة، بوقف أعمال العنف كافة، من أي مصدر كان، حماية للمواطنين السوريين، والإفراج عن المعتقلين بسبب الأحداث الراهنة، وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلحة، وفتح المجال أمام منظمات جامعة الدول العربية المعنية، ووسائل الإعلام العربية والدولية للتنقل بحرية في جميع أنحاء سوريا للاطلاع على حقيقة الأوضاع ورصد ما يدور من أحداث.

وقد نص القرار أيضا على أنه مع إحراز تقدم ملموس في تنفيذ الحكومة السورية تعهداتها الواردة في البند السابق، تباشر اللجنة الوزارية العربية القيام بإجراء الاتصالات والمشاورات اللازمة مع هذه الحكومة ومع مختلف أطراف المعارضة السورية من أجل الإعداد لعقد مؤتمر حوار وطني خلال أسبوعين من تاريخه. والملاحظ أن ما شجع الرئيس بشار الأسد على الإسراع لإسقاط هذه المبادرة وإفشالها «فورا» هو أن الجامعة العربية تعمدت، ليس عن جهل، وإنما عن قصد إغراق مبادرتها بإبهام بادر النظام وبسرعة إلى استغلاله بالبدء بمناورة حكاية «العصابات المسلحة وحكاية العفو عمن سيبادرون بتسليم أسلحتهم من غير الملطخة أيديهم بدماء أفراد الأجهزة الأمنية وعناصر القوات المسلحة».

كان على لجنة الجامعة العربية أن لا تُضمّن البند الذي ينص على وقف أعمال العنف كافة جملة «في أي مصدر» فهذا ساوى بين الجزار والضحية وبين القاتل والمقتول، وهذا أعطى النظام تفويضا للمسارعة بارتكاب كل الجرائم التي ارتكبها خلال الأيام الأولى من مهلة الأسبوعين لبدء الحوار الوطني الذي لم يحدد مكانه، والذي لم تحدد أطرافه، والذي لم يوضع له جدول أعمال يتضمن تصورا مسبقا لما من المفترض أن يتم التفاوض عليه وهل هذا التفاوض سيتم على أرضية بقاء هذا النظام مع بعض الإصلاحات الهامشية التجميلية أم إنه سيتم، كما تطالب المعارضة، لضمان انتقال السلطة من بشار الأسد وجماعته إلى القوى الجديدة البديلة بصورة سلمية؟!

والمؤكد أن اللجنة الوزارية المكلفة من قبل الجامعة العربية بالتعاطي مع هذا الملف الصعب والشائك تعرف أن تنفيذ أي بند من هذه المبادرة وفي هذا القرار يعني نهاية هذا النظام، وهذا ما كان قاله بشار الأسد كرد عاجل قبل التشاور مع إيران وروسيا والاتفاق على هذه المناورة التي باشر نظامه تنفيذها لإفراغ مبادرة العرب هذه من مضمونها، ولهذا، فإنه كان لا بد أن تدرك سلفا أن التحول «الدراماتيكي» للحكومة السورية من الرفض العنيد إلى القبول المتهالك يعني أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هناك كمينا أُعد لتحويل الأنظار عن المذابح اليومية المستمرة منذ الخامس عشر من مارس (آذار) الماضي وحتى الآن، وتسليطا للضوء محليا وعربيا وإقليميا وأيضا دوليا على كذبة العصابات والزمر المسلحة، التي باتت مكشوفة حتى بالنسبة لأصحاب أنصاف العقول والمصابين بحول شديد في عيونهم.

لقد كان مستغربا ومستهجنا أن يتخلى نظام بشار الأسد عن «ممانعته» ورفضه لهذا القرار العربي، الذي يعني تطبيق أي بند من بنوده نهاية حكمه وحكم أبيه بعد أكثر من أربعين عاما، بعد الزيارة الخاطفة التي قام بها وفد الجامعة العربية إلى دمشق وبعد اجتماع الدوحة الذي انعقد بعد يومين من هذه الزيارة، لكن ما تم كشفه لاحقا هو أن السر يكمن في أن الروس والإيرانيين قد نصحوا القيادة السورية بأنه لتجنب إعادة الملف السوري إلى مجلس الأمن الدولي، فإنه لا بد من التخلي عن الرفض و«الممانعة» وأنه لا بد من الموافقة على هذه المبادرة العربية بكل بنودها ثم بعد ذلك الانتقال فورا للعبة العفو عن المسلحين في حال تسليم أسلحتهم ولعبة العصابات والزمر المسلحة وأيضا لعبة إطلاق سراح أكثر من خمسمائة من المعتقلين الذين شاركوا في هذه الأحداث «من غير الملطخة أيديهم بدماء رجال الأمن العام وجنود وضباط القوات المسلحة».

وحقيقة، فإن كل هذا قد جرى في هيئة مسرحية سخيفة مكشوفة حتى لأعمى البصر والبصيرة، واللافت هنا أن الجامعة العربية قد تغاضت عن تأكيدات رئيس لجنتها الوزارية التي كررها مرارا والتي طالب فيها النظام السوري بضرورة التنفيذ الفوري لوقف أعمال العنف والإفراج عن المعتقلين (بسبب الأحداث الراهنة) وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلحة، وتركت نظام بشار الأسد بدل أن يبادر إلى التنفيذ الفوري إلى ما وافق عليه بعد تردد وممانعة، يفعل ما فعله ويواصل الذبح والتقتيل بعد الانخراط في مناوراته وألاعيبه المكشوفة.

والمستغرب حقا أن الجامعة العربية قد بقيت تلوذ بالصمت المريب بينما ذبح الشعب السوري على أيدي جلاديه بقي متواصلا بالوتيرة السابقة نفسها وأشد، وذلك مع أن المفترض أن تبادر فورا لاجتماع عاجل على مستوى وزراء الخارجية واللجوء الفوري إلى ما كانت هددت به وهو تعليق عضوية سوريا فيها بدل أن تعطي نظام بشار الأسد كل هذه الفترة التي شهد كل يوم من أيامها الطويلة سقوط أكثر من عشرين شهيدا، وكل هذا بالإضافة إلى عشرات الجرحى وإلى مئات المعتقلين، وإلى مواصلة التدمير الهمجي الذي شهدته مدينة حمص التاريخية منذ بداية هذه الانتفاضة، ولا تزال تشهده يوميا حتى الآن.

في كل الأحوال ورغم كل هذا التقصير الذي وقعت فيه الجامعة العربية ورغم الأخطاء «التكتيكية» و«الاستراتيجية» التي ارتكبتها لجنتها الوزارية، فإنه عليها في اجتماع بعد غد السبت أَن لا تدرج على جدول أعمالها إلا بندا واحدا؛ هو تعليق عضوية سوريا فيها والتوجه إلى مجلس الأمن الدولي بمناشدة عاجلة لتوفير حماية فعلية وحقيقية لشعب بات مستباحا من قبل نظام ديكتاتوري ثبت أنه لا يريد أي إصلاح وأن كل ما يفعله هو مجرد مناورات وألاعيب، وذلك حتى وإن اضطر، لتوفير مثل هذه الحماية، التي يجب أن تكون عاجلة، لاستخدام القوة العسكرية.

ويبقى، ونحن بصدد الحديث عن هذه القضية المهمة جدا، أنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك من اعتبر أن هذا التحرك العربي له هدف واحد وهو اعتراض الدور التركي الذي بدأ يتخذ توجها جديا إزاء الأزمة السورية المستفحلة في الآونة الأخيرة، وهو بالتالي قطع الطريق على المساعي التي يفكر فيها بعض العرب وبعض غير العرب لإعادة ملف هذه الأزمة إلى مجلس الأمن الدولي، وهذا يعني - إذا كان صحيحا والمؤكد أن فيه شيئا من الصحة - أن المستفيد الأول هو إيران التي تعتبر أن هذه المعركة هي معركتها والتي ترى أن السماح لتركيا بأي دور في هذه الأزمة سيكون على حساب مشاريعها الاستراتيجية في الشرق الأوسط وفي المنطقة كلها.

وهكذا، فإنه على العرب أن يتعاملوا مع هذا الأمر بكل جدية، وعليهم أن يدركوا أن نجاح نظام بشار الأسد في كل هذه الألاعيب والمناورات التي يمارسها من دون خجل ولا تردد، وأنه إذا تمكن من إطفاء جذوة الانتفاضة على غرار ما فعله والده بالنسبة لانتفاضة «حماه» في عام 1982، فهذا يعني أن نفوذ إيران سيعم هذه المنطقة كلها وأن الشرق

=======================

القادة والأتباع

خالص جلبي

إيلاف

2011 الأربعاء 9 نوفمبر

في نوفمبر من عام 2011م تجاوز عدد القتلى في سوريا خمسة آلاف والمعتقلين ثمانين ألفا والمشردين والنازحين والمهجرين عشرين ألف، والمفقودين عشرة آلاف

.

بشار الأسد يقتل بآلة قمع جهنمية الناس في كل قرية ودسكرة وحارة من سوريا، ولكن من ينفذ القتل ليس هو، بل يظهر على الناس بكرافته مذهبة وبذلة رائعة وكلمات حلوة فمن يقوم بالجريمة إذن؟ إنهم الأتباع والذيول والقفازات.

هنا تظهر فلسفة كاملة بين القادة والأتباع تحتاج إلى تحليل في الجدل الإنساني.

في كتاب (تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم) يذكر الضابط محمد الرايس الذي اشترك في محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في قصر (الصخيرات) ضد النظام الملكي في المغرب. والقبور التي ضمتهم عشرين سنة، كفاتاً أحياءً وأمواتاً، في مكان لا يعرفه إلا الملك والراسخون في الاستخبارات.

يقول المؤلف في المواجهة الدموية التي جرت مع ضباط القصر الملكي جاءته الأوامر بالقتل فقتل. ولكن (توقع) الشيء غير (مواجهته) وممارسته؛ فعندما خر الضحية صريعاً يتخبط في دمه شعر الجاني في تلك اللحظة أنه (فقد شرفه). هكذا يقول محمد الرايس في كتابه تذكرة ذهاب إلى الجحيم.

و(هملر) رئيس الجستابو النازي حينما كان يأمر بالقتل الجماعي كان سهلاً وبجرة قلم، ولكنه عندما طلب من الجنرال النازي أن يجهز على أحدهم في قبر جماعي يضم حوضاً من الجثث والدماء أصيب بنوبة إقياء حادة.

واليوم لم يبق من أثر للسجن فقد أزيل كما بني في غفلة عن أعين الناس، ويزور الناس المكان فيضيئون الشموع على أرواح الضحايا الذين قضوا نحبهم بأشنع الميتات في سجن (تزمامارت) في المغرب.

إنها عظة لجميع الأطراف أن المشاكل لا تحل بالانقلابات ولا بالانتقام ولا بدفن الناس تحت الأرض في القبور أو السجون. وأن بذور الكراهية في النهاية لا تحصد إلا نبات الأحقاد. وأن الشر إذا قاوم الشر زاد الشر شرا، وأن الشر يردع بالخير فهذه نبتة الإنسان.

والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.

إن القارئ يتألم عن قبور الموت في تزمامارت التي مات فيها معظم الضباط الانقلابيين في المغرب، ولكن لو جلس أولئك على سدة الحكم هل سيكونون في رحمة النبي يوسف عليه السلام عندما قال لأخوته لا تثريب عليكم اليوم؟ أم أنها عملة اجتماعية متبادلة؟

منذ عام 1945 م كانت البلدية في مدينة هيروشيما قد وضعت لافتة تذكارية تحمل عبارة (لن نجعلهم يكررون الشر) ولكنها غيرتها حديثاً إلى عبارة أشد دقة (لن نكرر الشر).

إنها آلية قاسية للنقد الذاتي. إنها اعتراف أنهم كانوا طرفا في الشر أليس كذلك؟

وفي معركة ستالينجراد كان المفوضون السياسيون من رجال الحزب الشيوعي يدفعون الشباب الروسي إلى الموت بمئات الآلاف. أولاً بزربهم في القطارات كالأنعام إلى الجبهة، ثم حشرهم في زوارق تحت قذف المدفعية والطيران الألمانية لخوض مياه نهر الفولجا الباردة التي انقلب لونها إلى الأحمر القاني، ومن تردد أو حاول الهرب سارع (الرفاق) إلى قتله فورا، ومن نجا من رصاص (الحزبيين) وقاذفات النازيين دفع إلى خنادق الألمان فحصدتهم الرشاشات، والأفراد القلائل الذين نجوا فحاولوا العودة من جدار النيران قتلهم (الرفاق) باعتبارهم خونة جبناء لم يموتوا بشرف في الدفاع عن مدينة ستالين.

كانت معركة (ستالينجراد) جنازة مليونية ومسالخ بشرية وجنون مطبق وعربدة للموت وبحار من دماء وجبال من جثث وأنهار من دموع وزوجات وأمهات تم الضحك عليهن بأنها معركة الشرف من أجل الوطن.

كما تفعل الكثير من الأنظمة حتى اليوم فتحتفل ب (عيد الشهداء) أو (الثورة) وهي في الحقيقة أعياد التقدم بالقرابين والخيانة.

إن إبراهيم عليه السلام لم يلغ القربان البشري عبثاً وموسم الحج كله يدور حول هذا الترميز. كما أنه غير مفهوم وضد كل منطق أن من يفشل بالانقلاب يصبح خائنا وإذا نجح سمي بطلاً. ذكر الكولونيل (هيربرت سيلي Herbert Silly) في رسالة كتبها إلى عائلته من الأتون عندما احتدمت حرب الشوارع في ستالينجراد:

(إن دموعاً كثيرة ستنهمر اليوم في ألمانيا. طوبى لمن ليس مسئولاً عن هذه التضحيات غير المبررة).

واليوم مات ستالين باللعنات، ومات هتلر بالانتحار كما مات القذافي في 20 أكتوبر 2011م ذليلا بعد استخراجه من مجرور مياه، ولم يبق شيوعية أو نازية وقذافي وصدام وإنما ذكرى لكن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

والسؤال من هو المسئول وغير المسئول عن هذه القرابين البشرية هل هو ستالين وهتلر؟ هل هو الجنرال فون باولوس وتشيكوف؟ أم هم الجنود (الأدوات) التي تنفذ الموت بالأوامر؟

إن هذه المشكلة أقضت مضجعي منذ الصغر وأنا أسمع قصة جريمة مؤثرة كانت ترويها لي والدتي اشترك فيها أكثر من طرف بقتل فتاة.

كان السؤال من هو المجرم؟ من ذبح؟ أم من دل؟ أم من أعان؟ أم من خطط؟

وفي مذبحة صابرا وشاتيلا لم يباشر (شارون) القتل بنفسه ولكنه طوَّق بيت الدجاج ثم فتح كوة فيه دخل منها الثعبان الكتائبي اللبناني، ثم جلس شارون (المسبوت حاليا في ظلال الموت) في الظل بريئاً يسمع فحيح الأفاعي وصياح الديكة والدجاج.

تم قتل ألف فلسطيني مثل ذبح الدجاج والخرفان في المسلخ. وكما نرى عن قتل الناس المدنيين في حمص والجامعة العربية تجتمع مثل اجتماع مجموعة من العميان تبحث عن عصا للمشي.

رحم الله والدتي كان لها مثل: كومة عمايا على هالعصايه. كومة من العميان على عصا واحدة. إنه منظر كاريكاتير أليس كذلك؟

وعندما همّ اليهود بقتل المسيح وقف (بيلاطس) يغسل يديه ويقول إنني بريء من دم هذا البريء فرفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.

إن أعظم مشكلة إنسانية هي علاقة الإنسان بالانسان في مجتمع بني خطأً على الهرمية والتراتبية والأوامر، وأعظم مرض إنساني قاطبة هو خلل هذه العلاقة بين تسلط واستكانة. حينما ينفرز الناس إلى شريحتين تصعد فيها قلة إلى قطب (الاستكبار) وتنهار الأكثرية إلى درك (الاستضعاف).

ويزداد الفقراء فقرا وتعاسة وذلا، والأغنياء غنى ونفوذا وفسقاً، ويمرض الاثنان بالتخمة والمجاعة، ويصاب المجتمع كله بالداء الفرعوني في ثنائية مانوية : الأقوياء أمام الضعفاء والعبيد تحت السادة، والجبارين فوق الأذلاء والمستكبرين يسوقون المستضعفين.

إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين.

إن تضخم الذات في حوض اجتماعي مشترك يدفع بقية (الذوات) إلى الانكماش والضمور. إنه الداء الفرعوني القديم يتكرر على صور شتى.

وعندما ترفع الصور والتماثيل في الساحات العامة لفرد واحد لا يبقى أمة. وكارثة 67 كانت بسبب قرار من رجل واحد لم يريهم إلا ما رأى وما هداهم سبيل الرشاد.

وعندما تختل رافعة القوة في المجتمع فإن صعود شريحة معناه مصادرة القوة من البقية. وانتفاخ جيوب البعض يعني خواء جيوب الكثيرين. وعندما يرتفع مليونير إلى سدة الثراء فإنه يعني دفع بقية الرقم دون المليون من الطبقة الوسطى إلى حزام الفقر. إنها سرقة الشرفاء من مجتمع مستباح.

تماما كما في الميزان أو (مراجيح) الأطفال فإن هبوط كفة أو طرف يعني تلقائياً صعود الطرف المقابل.

يقول (الغزالي) في (الإحياء) إن المال عندما يسقط في يد يكون قد طار من يد أخرى، ليتحول المجتمع إلى مغارة لصوص يسرق كل واحد من جيب الآخر. ويصبح المال دولة بين الأغنياء ويفقد وظيفته ك (دم) في (الشرايين) الاجتماعية.

مع هذا فإن التاريخ يصنعه الأفراد والنخب، وسارت الأكثرية دوماً خلف الأقلية المبدعة بآلية المحاكاة والتقليد.

يقول (ابن خلدون) في (المقدمة) أن المغلوب يقلد الغالب في (شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده لما يستولي عليه من توهم (كمال) الغالب يقول (ابن خلدون):( والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه .. لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب .. ولذلك ترى أن المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم) .

الديانات الكبرى جاء بها أنبياء، وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم. وولادة البلشفية تمت على يد لينين في يوم عسر. وتأسيس الحزب النازي كانت في مدينة نورمبرغ بجهود هتلر. ويعتبر (ميشيل عفلق) الأب الروحي لحزب البعث. ومؤسس الأخوان المسلمين كان شابا صغيرا هو حسن البنا تم اغتياله بسرعة. وأسس المدرسة الفلسفية (الأكاديمية) أفلاطون. واعدم (أنطون سعادة) رئيس الحزب القومي السوري دينامو الحزب وعقله النابض. وترك (أتيين دي لابواسييه) مخطوطة من أعظم ما كتب في تحليل الاستبداد بعنوان (العبودية المختارة) ومات بعمر الثلاثين. ويدين وجود حزب التحرير الإسلامي بدرجة كبيرة إلى (تقي الدين النبهاني) وكتبه العشرين التي تركها حول الخلافة الإسلامية يستظهرها الأتباع في هولندا وأندنوسيا!. ويعود الفضل لقيام دولة الموحدين في المغرب إلى (محمد بن تومرت).

يعتبر (برتراند راسل) في كتابه (النظرة العلمية) أن كل النهضة الحالية تدين ربما إلى مائة دماغ ولو تم اغتيالهم لما بزغت عصور التنوير ولعل أهمهم في الواجهة هو (غاليلو). ولم تكن الثورة الإيرانية لتنجح لولا شخصية (الخميني).

وكتب (توماس كارليل) في مقاله عن (الأبطال وعبادتهم والبطولة في التاريخ) عام 1841 م أن :(تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء).

وكرر (امرسن) في مقالة بعنوان (التاريخ) :(ليس هناك تاريخ بالمعنى الدقيق للكلمة هناك فقط سير شخصية).

ينطبق هذا على تأسيس الديانات، وبناء المدارس الفلسفية، وقيام الأسر الحاكمة، وتحول مصائر الدول بمعارك حاسمة على يد قواد عسكريين.

كنت البارحة أسمع للمنشدين في المغرب وهم يمدحون العربي محمد ص بعد مرور ألف وأربعمائة سنة على غيابه فدمعت عيني وقلت أنا سيذكرون بالحب وآخرون يموتون قتلا مثل القذافي باللعنات.

هكذا ولدت البوذية تحت الشجرة التين على يد راهب. وأصبح اسم (سقراط) منارة للهدى. وعمرت الدولة الاليخانية في إيران أكثر من قرن على يد (هولاكو) مدمر بغداد. وانتهت الدولة الساسانية عام 333 قبل الميلاد في معركة جواجاميلا على يد (الاسكندر الكبير). كما قرر مصير قرطاجنة عام 146 قبل الميلاد بعد هزيمة (هانيبال) في معركة (زاما).

كذلك فإن الفرد لا يحكم لوحده لولا (النخبة) التي تأتمر بوحيه والرعية التي تنصاع. كما أن الديانات لم تنتشر بدون الحواريين. ولم ينتصر (سكيبيو) الأفريقي على (هانيبال) بدون تطوير أداة الحرب من خطط وأدوات وجنود.

والطاغية عندما يمسك رقاب الأمة لا يستطيع أن يفعل هذا بمفرده بل لابد له من رهط حوله يسبحون بحمده بالعشي والأبكار وزبانية يربطون مصيرهم بمصيره. كل واحد منهم لهم ذيل ضخم من الأتباع، وهذه الحاشية من الأتباع تزداد طردا كلما اتجهت إلى الأسفل بحيث تتحول في النهاية إلى شبكة جهنمية تربط الأمة كلها إلى مقود العبودية.

يقول (أتيين لابواسييه) في كتابه (العبودية المختارة):

(هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه. أربعة أو خمسة أو ستة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية. في كل عهد كان ثمة خمسة أو ستة تصيخ لهم أذن الطاغية. يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إما حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال . ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك . إن من أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة في وسعه أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل مثل جوبيتر إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب الآلهة جميعا).

وفي سورة النمل إشارة خفية إلى هذه المافيا التي تمسك البلد عادة: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون).

يذكر (ادوار سعيد) في كتابه (خارج المكان) هذه الظاهرة أيضاً في مستوى الطلبة وجو المدارس حينما تبرز إلى السطح بدون تعيين من الإدارة أو انتخاب من الطلبة شخصيات من المجهول تشكل زعامات طلابية من خلال مواصفات ليست هي الأفضل عادة. وكيف أنهم يتحولون تلقائياً إلى مجموعات متنافسة يسيطر عليها زعماء من خلال تراتبية خاصة تعتمد ليس صفات الرحمة والاجتهاد بل الشقاوة وقوة البنية الرياضية و(البلطجية) وعدم التورع عن العنف ولي أكواع الآخرين.

إن هذا التميز وانقسام الطلبة إلى (شلل) يقودها في العادة الطلبة الأشقياء أمر معروف وما يحدث في السياسة يشبه هذا فيتقدم ليس الأتقى بل الأقسى والأخبث والألعن والأجرأ على الشر. وهذه الظاهرة تتكرر في السجون حيث يهيمن على (العنبر) في العادة عتل زنيم، وفي أحد المصحات العقلية كادت المجموعة أن تقضي على النزيل الجديد لولا تدخل (الزعيم) الذي يتمتع بالعادة بجسم ثور ودماغ ضفدع.

يروي (فيكتور فرانكل) في كتابه (الإنسان يبحث عن المعنى) تجربته من معسكرات الاعتقال أن المهجع كان يسيطر عليه (الكابو) وهو في العادة من نفس المجموعة ولكنه الألعن بسبب تودده إلى قيادة المعسكر.

جرت العادة أن من يبطش بتنظيم ما هو من نفس التنظيم. والذي أسلم المسيح إلى محكمة (السنهدرين) كان يهوذا الاسخريوطي حينما قال أيهم أقبِّله سيكون هو.

ولم تنشب عداوة بين بلدين كما حصل مع بلدين عربيين متجاورين وبنظامين متشابهين حذو القذة للقذة مثل التوأم من بيضة واحدة ونفس الرحم إلى درجة أن جوازات السفر التي تصدر في البلدين مفتوحة على العالم كله إلا البلد الشقيق (العراق وسوريا ونفس نظام الحزب الواحد البعث الإجرامي)

إنها أعظم مأساة.

كما أن من بطش بالأخوان المسلمين كان منهم. والذي فضح التنظيم العسكري لهم في بلد عربي كان من بين صفوفهم. وفي العادة عندما يستلم في الغربة شخص منصب المسئولية يضحي بأولاد بلده أكثر من غيرهم حرصاً على نظافة سمعته من التحيز لبني قومه. وهو إنذار لكل من اجتمع بأهل بلده في بلد بعيد أن يبني علاقاته هناك على الجهد والإنتاج والحذر من بني بلده والعلاقات الإنسانية أكثر من القربى والعنصرية.

يحاول (دين كيث سايمنتون) في كتابه (العبقرية والإبداع والقيادة) فهم هذا السحر الخاص (الكاريزما) عند بعض الأشخاص بحيث يستقطبون جماهير تمحضهم الولاء كما قاد (الخميني) الجماهير إلى الثورة في إيران. وكما بقي (تشي غيفارا) في الذاكرة كمناضل للحرية. أو غاندي الذي هزم الإمبراطورية البريطانية بدون طلقة واحدة.

لقد اصطدم بظاهرة عصية على الفهم ويبدو أن خاصية (الكاريزما) التي ترجمت ب (الشخصية الساحرة أو الآسرة) بأنها: (لاعقلانية لا تذعن لتطبيق المنهج العلمي).

وعندما قام (تشارلز سيل C.Cell) بتطبيق قياسه المكون من 11 نقطة حول 34 من زعماء الدول المعاصرين كان الزعماء الذي ركبوا القمة من أسوئهم مثل موسوليني وهتلر ونزل إلى القاع أشهر رئيس ألماني هو (أديناور) عند النقطة صفر، وفي الوقت الذي حصل الطاغية (سوكارنو) على 9 نقاط حصل تشرشل على نقطتين).

ويروي (برتراند راسل) عن (برونو موسوليني) ابن الطاغية تجربته حينما كان يسلط النيران على قرى التعساء في الحبشة من طيارته (كان العمل مسلياً للغاية وعندما اندلعت السنة النيران في سقف زريبتهم خرجوا يتواثبون ويتراكضون كالمجانين وأحاطت دائرة النيران بنحو خمسة آلاف حبشي فلاقوا حتفهم. كان المكان كالجحيم).

جاء في الحديث أن الله عاتب رجلا أنه احرق قرية للنمل أن أحرقت أمة من الأمم تسبح الله.

إن العمل الاجتماعي مشكلته أنه لا ينجز من شخص واحد ولا يمكن، بل يتوزع عبر سلسة من الأفعال ينجزها أناس لا يشعرون بخطورة مايفعلون، كما يحدث في الحروب الحديثة التي تقوم على كبس الأزرار لأناس يمارسونها خلف شاشات، فلم تعد في صورة المذبحة القديمة التي كانت تخوضوها (الليجيونات) الرومانية بالسيف القصير.

سألني رجل من الجلادين أذكر اسمه رياض بكتلة لحمية كبيرة ووجه وديع حين أفرجوا عني من معتقل (كراكون الشيخ حسن) بجنب مقبرة الدحداح في دمشق وكان جلاد الفرع رجل من دير الزور لا أنسى وجهه الجهنمي حتى اسمه كان مرعبا (طحطوح)!

سألني بلهفة: أستاذ كيف تنظرون إلى مهنتنا؟

أجبته: هناك شهادة من الرب فيكم .

ذعر الرجل وقال كيف؟

قال : وصفكم الرب في كتابه :(إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين).

اضطرب الرجل وهتف ولكن هذه مهنتي وأعيش منها .

قلت له: أن تفعل أي شيء أفضل لك من كتابة التقارير الكاذبة أو جلد العباد أو اقتحام بيوت الناس بدون مذكرة قضائية.

إن ستالين قضى على بوخارين وهو الرفيق الكبير بإيماءة من عينه، وكلمة من فمه، ولكن من نفذ الجريمة كان رجل الاستخبارات بيريا، ثم أعدم بدوره عندما دالت دولة ستالين، كما لحقهم إلى قبور البؤس كثيرين وهي نهاية تنتظر كل الجبارين الذين ولغوا في دماء الناس.

ولعذاب الآخرة أشد وأبقى..

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ