ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 15/03/2012


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

العدالة الدولية.."فيتو" في اتجاهين

2012-03-14

الوطن السعودية

لا يختلف المراقبون على أوجه الشبه التي باتت واضحة للجميع بين الكيان الصهيوني ونظام بشار الأسد، فكلاهما يعيشان ويتنفسان برغبة دولة أو دولتين كحد أقصى، كل ذلك بفضل الفيتو الذي يمنح الحماية للأول ويمنع العقاب عن الثاني، برغم كل الممارسات الخطيرة التي يقومان بها على الأرض، من تهويد لحضارة وتنكيل لشعب، كان آخرها الهجمات الوحشية الإسرائيلية التي شنت على قطاع غزة وأوقعت أكثر من 20 قتيلا، مما يرسم علامات استفهام حول توقيتها ودوافعها.

حينما قررت أميركا غزو العراق في العام 2003، لم تنتظر تفويضا من مجلس الأمن، وعندما أرادت حماية إسرائيل حشدت الدعم الدولي لرسم الخط الأزرق في 7 يونيو 2000، وجاءت حرب تموز بعد 6 سنوات لتعطي الذريعة لنشر قوات اليونيفيل (جنوب لبنان) برسم قرار مجلس الأمن رقم 1701، وكل ذلك كان تحقيقا لمصلحة الكيان الصهيوني وحماية له، أو جريا وراء مصالحها في المنطقة.

العدالة الأميركية تقف اليوم أمام مفترق طرق، لكونها في حيرة حقيقية، فهاهي حقوق الإنسان تنتهك أيما انتهاك على الأراضي السورية، بينما أميركا حامية الحريات لا تستطيع أن تقدم إزاء تلك الانتهاكات شيئا ملموسا، وهاهي التصريحات الأميركية من موضوع التسليح تلتحف دبلوماسية عدم الرغبة في انتشار السلاح في سورية، ليس خوفا على البلد بل خوفا على جار البلد، كما أن حيرة واشنطن تنطلق كذلك من مبدأ التفريط بالأسد كحام حقيقي لإسرائيل، ومدى مقدرة البديل على تحقيق إنجاز عدم إطلاق رصاصة واحدة صوب إسرائيل منذ توقيع اتفاقية فض الاشتباك في 31 مايو 1974.

واشنطن تريد مقارعة الروس والصينيين، ولا أدل على ذلك من المشادة الكلامية التي جرت بين هيلاري كلينتون ونظيريها الروسي والصيني، في جلسة مجلس الأمن التي عقدت مساء أول من أمس، لبحث الأزمة في سورية، بيد أن مواقفها الداعمة لإسرائيل، لا تختلف كثيرا عن موقفي روسيا والصين الداعمين لنظام الأسد.

إنه النظام الدولي القائم على ازدواجية المعايير، وسياسة الكيل بمكيالين، ولو أن الدول الكبرى توخت العدل في مواقفها السابقة لكانت مهمتها اليوم أسهل من أي وقت مضى.

=================

اللاجئون السوريون... يتكدسون في لبنان

نيكولاس بلانفورد

مشاري القاع - لبنان

ينشر بترتيب خاص مع خدمة

«كريستيان ساينس مونيتور»

تاريخ النشر: الأربعاء 14 مارس 2012

الاتحاد

في عصر يوم ضبابي، بدت حدود لبنان الشمالية مع سوريا بسطحها الحجري المسطح، وطرقها الطينية كجزء من مشهد عام كئيب، ينذر بالشر. وتتميز منطقة الحدود بمجاز شرقي ضيق، وصف من الأسلاك الشائكة، تقع وراءه بساتين البرتقال الخضراء التي توفر غطاءً للسوريين الهاربين من جحيم العنف في وطنهم، إلى الأمان النسبي في لبنان.

وفي الأيام العادية يشهد مبنى الجمارك اللبنانية الواقع على بعد ستة أميال من هذا المكان، حركة تنقل يومية كثيفة للأفراد والشاحنات. ومعبر "القاع" الحدودي يربط ما بين سهل البقاع اللبناني، ومدينة حمص ثالث أكبر المدن السورية التي تبعد 22 ميلاً للشمال من خط الحدود الدولية مع لبنان.

في الوقت الراهن، هناك عدد قليل من الناس، هو الذي يريد السفر لحمص، بحيث أن المركبات التي كان يمكن رؤيتها على الطريق الضيق الممتد فيما بعد مبنى الجمارك، كانت عبارة عن جرار زراعي وحيد يقوده فلاح لبناني، وعدة حافلات صغيرة للركاب متجهة جنوباً، تحمل أرقاماً سورية وتئن سقوفها تحت وطأة أعداد كبيرة من الحقائب المختلفة الأحجام المتكدسة فوقها لارتفاعات خطرة.

منذ أسبوع، شق عامل سوري اسمه"جعفر" هو وزوجته وثلاثة من أبنائه، طريقهم عبر هذه البقعة النائية بعد أن نجحوا في الفرار من حي"بابا عمرو" في حمص، ونجحوا في تجنب نقاط التفتيش التابعة للجيش السوري وفرق الشبيحة الموالية للنظام التي تتجول في كل مكان، والوصول للجانب اللبناني من الحدود.

والآن يسكن"جعفر" وعائلته مع 30 شخصاً آخرين، في منزل صغير من طابق واحد يقع في أطراف قرية"الجديدة" في البقاع الشمالي، على بعد ثمانية أميال أقصى الجزء الجنوبي من الوادي.

كان جعفر يجلس مع عدة رجال سوريين آخرين، في غرفة شحيحة الأثاث في الجزء الأمامي من المنزل، يوجد بجوانبها الأربعة بطاطين وأغطية سرير مقدمة كمساعدة من لدن إحدى المؤسسات الخيرية المحلية، لا يملكون شيئاً غيرها إلا ما ندر من الحاجيات.

ويقول جعفر: "لدينا 18 بطانية فقط لثلاثين شخصاً... لقد جاء 20 شخصاً من المؤسسات الخيرية كي يرونا ويحصوا عددنا بالضبط ويسجلوا أسماءنا، ولكنهم لم يعودوا مرة ثانية... وها نحن كما ترون لا نملك شيئاً، لا طعام، ولا حليب للأطفال".

وعلى الرغم من أنه كان لديهم سقف فوق رؤوسهم، فإن السكن لم يكن مجانياً بل كان عبارة عن منزل مؤجر لهم بمبلغ 200 ألف ليرة لبناني(120 دولاراً) في الشهر.

ويضيف جعفر:"لم نصل لنهاية الشهر بعد، ومع ذلك لا يوجد لدينا أي نقود.. ونحن غير قادرين على دفع الإيجار، وليس لدينا ديزل لتشغيل الموقد الذي يدفئنا ليلاً".

وبينما هو يتحدث، تنقطع الكهرباء فجأة ويسود الظلام. وبعد دقيقة من البحث في الظلام الدامس، ينجح أحد الموجودين في إيقاد شمعة صغيرة، يقوم بوضعها على الموقد.

ويقول جعفر مازحاً وإنْ بصوت مكتئب:"على ما يبدو أن هذه الشمعة ستكون مصدر الدفء الوحيد لنا الليلة".

أحدث تدفق للاجئين على المنطقة كان الأسبوع الماضي (2000 لاجئ) عقب سقوط حي"بابا عمرو" بعد شهر من حصار القوات السورية له.

ويوم الأربعاء الماضي، زارت "فاليري آموس" مسؤولة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة الحي، مع ممثلي عدد من وكالات الإغاثة، وذلك قبل يوم واحد من الاجتماع المغلق الذي عقد في جنيف، والذي كان مقرراً أن يحضره عدد من وكالات ومنظمات الإغاثة، بما في ذلك منظمة الصليب الأحمر الدولي لبحث الطرق التي يمكن الوصول بها لسوريا من أجل توزيع المعونات الإنسانية.

وحسبما جاء في تقارير وكالات الأنباء، فأن السيدة "آموس" وجدت حي"بابا عمرو" مهجوراً.

وفي القاهرة حث "كوفي عنان" المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية، المعارضة السورية المنقسمة على نفسها، على التعاون من أجل إيجاد حل للأزمة، محذراً إياها في نفس الوقت من أن لجوءها للمزيد من العسكرة، سيؤدي لجعل الصراع المستمر منذ عام يزداد سوءاً.

وقال "عنان" للصحفيين بحضور الأمين العام للجامعة العربية "نبيل العربي": "آمل ألا يكون هناك في الوقت الراهن من يفكر جدياً في اللجوء لاستخدام القوة في الوضع القائم حالياً في سوريا".

وأضاف "عنان" الذي زار العاصمة السورية السبت الماضي للقاء الرئيس الأسد:" يجب أن نكون حريصين وألا نقدم الدواء الذي هو أسوأ من المرض".

وكان المجتمع الدولي قد عجز عن إيقاف نزيف الدم في سوريا، كما لم يحسم أمره حتى الآن بشأن الطريق الذي يتعين عليه السير فيه.

وهذا الوضع يجعل المستقبل يبدو غائماً وغير مطمئن في نظر"جعفر"وغيره من اللاجئين السوريين في ملجئهم البائس.ولكن جعفر يقول مع ذلك:"لقد وصلنا لنقطة لا رجعه فيها... فإما أن نواصل القتال إلى أن يرحل الأسد أو نموت".

=================

مسيحيو سوريا.. والموقف من التغيير

ميشال شماس دمشق

المستقبل

14-3-2012

لسوريا أهمية خاصة في تاريخ المسيحية، فمنها انطلق المبشرون والرسل لنشر الديانة المسيحية في أوروبا والعالم، وفي مقدمهم بولس الرسول. وفيها أهم المقدسات المسيحية من كنائس وأديرة واضرحة كثيرة مثل كنيسة حنانيا ودير مار جرجس الحميراء ودير مار تقلا في معلولا ودير صيدنايا..الخ. ومازالت فيها بلدات تتكلم لغة السيد المسيح حتى اليوم مثل معلولا، وجبعدين وصيدنايا وبصرى..الخ.

وسوريا التي انطلقت منها المسيحية إلى العالم، وقدمت للعالم سبعة باباوات وبعض الأباطرة الرومانيين الكبار لم يبق فيها من المسيحيين العرب إلا عشرة بالمائة من عدد السكان، بعد أن كانوا يشكلون حتى العام 1967 بحدود 30% من سكان سوريا، وهناك من يقول إن عددهم كان في عام 2005 بحدود 2160000 نسمة أي 12% من سكان سوريا وفي إحصائية نشرها سمير عبده العام 2000 تبين أن تعداد المسيحيين في سوريا بلغ حوالي 10%.

ويتوزع المسيحيون في كافة المحافظات والمدن والمناطق السورية ، ويتواجدون بشكل أساسي في محافظات حمص وطرطوس وفي جبال القلمون وفي ريف دمشق وحلب ودمشق والحسكة والقامشلي وحماه واللاذقية. وسواء كانت الأرقام التي أوردتها تلك الدراسات والأبحاث والمقالات قريبة من الواقع أو مبالغ فيها كثيراً، إنما يؤكد حقيقة واحدة وهي أن أعداد المسيحيين في تناقص مستمر سواء في سوريا أو في غيرها من البلدان العربية.

وقد تبوأ المسيحيون مناصب مهمة في سورية على نفس المستوى قبل الاستقلال عن فرنسا وبعده حتى قيام الوحدة السورية المصرية وذلك على كافة الصعد السياسية والاقتصادية، وشاركوا بفعالية في تنشيط الحركة السياسية في سوريا من خلال الإسهام في تأسيس أحزاب سياسية كالحزب الشيوعي والبعث والقومي وحزب الكتلة الوطنية الذي لعب دوراً بارزاً في مناهضة الاستعمار الفرنسي، كان من أبرز أعضائه الرئيس شكري القوتلي وسعد الله الجابري والرئيس هاشم الأتاسي والرئيس فارس الخوري الذي كان عميداً للكتلة، كما انتخب رئيساً للبرلمان السوري لمرتين، كما تولى منصب رئيس الحكومة في سوريا عدة مرات منذ العام 1944 وحتى العام1954، ومثّل سوريا في الأمم المتحدة.. ومن منّا لم يقرأ ما حدث لفارس الخوري بعد عودته إلى دمشق من الأمم المتحدة، عندما أبرق لابنه وهو في الطائرة أن يأتيه "بالطربوش" ليغطي رأسه على عادة الناس في تلك الحقبة... إلا أن ابنه نسي ذلك، وحين نزل من الطائرة كان في استقباله عدد من المسؤولين السوريين وفي مقدمهم الرئيس شكري القوتلي وخالد العظم والشيخ بهجت البيطار. وهو إمام السلفية في ذلك الزمن، وقد لاحظ الشيخ بهجت ارتباك فارس الخوري لعدم وجود ما يستر رأسه، فخلع عمامته. ووضعها على رأس فارس الخوري قائلاً له: أنها تليق بك وصفق الجميع...... وخرجوا في موكب جاب حارات دمشق التي كان أهلها محتشدين لاستقبال فارس الخوري تقديراً له على حسن تمثيله سوريا في الأمم المتحدة.. ولم يلاحظوا أو يتفاجئوا بوجود العمامة على رأس فارس الخوري لان الشعب السوري حينذاك كان بعيداً كل البعد عن أي تفكير أو منطق طائفي، وهذا الجو الديموقراطي سمح أيضاً للنائب الأول لرئيس البرلمان سعيد إسحاق المسيحي أن يتولى رئاسة الجمهوية بالوكالة لمدة 24 ساعة اثر الانقلاب الذي قام به أديب الشيشكلي بتاريخ 2/12/1951 وكانت تلك أخر مرة يستلم فيها مسيحي رئاسة الحكومة في سوريا ورئاسة الجمهورية. وشكلت تلك التجربة الديمقراطية القصيرة في تاريخ سوريا هذا حدثاُ فريداً في العالم العربي.

إلا أن تلك التجربة الديموقراطية الفتية التي بدأت تخطو أولى خطواتها في سوريا منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي، سرعان ما تم الانقضاض عليها بقيام الوحدة بين سوريا ومصر بتاريخ 22 شباط 1958 واستلام جمال عبد الناصر زمام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة، حيث قام بتعطيل الحياة السياسية في سوريا ، وأقام بديلاً عنها نظاماً استبدادياً أمنياً مازلنا نعاني من أثاره حتى اليوم، وبعد انهيار الوحدة، استلم حزب البعث العربي الاشتراكي مقاليد السلطة في آذار عام 1963، الذي تابع نفس النهج الاستبدادي الأمني وسياسية التأميم الخاطئة التي ساهمت في هروب قسم كبير من البرجوازية السورية كان من بينها الكثير من المسيحيين إلى لبنان وبلدان عربية وأجنبية أخرى. وقد أرخى هذا السلوك الأمني المتعاظم ظلالاً ثقيلةً على مجمل نواحي الحياة في سوريا، والذي انعكس فشلاً ذريعاً في قيادة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..الخ وعجزه عن حماية البلاد أمام الأخطار الخارجية ولاسيما الإسرائيلية منها.

صحيح أن المسألة الطائفية لم تبرز في سوريا كما برزت في مصر والعراق ولبنان، فنظام الحكم في لبنان يقوم على المحاصصة الطائفية بين ثلاث طوائف رئيسية الموارنة والسنة والشيعة، وفي مصر برزت الطائفية بوضوح بعد الدعم الذي لقيته الحركات الإسلامية في مصر خاصة في عهد السادات والتي تركت أثراُ سيئاً على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر. أما في سوريا وإن كان المسيحيون لم يتمتعوا بامتيازات خاصة في ظل نظام حكم حزب البعث. إلا أنه لا يمكننا نكران أن وضعهم بالمقارنة مع وضع المسيحيين في الدول المحيطة كان إلى حدٍ ما مستقرا ولم يشهد هزات عنيفة كما حصل في لبنان والعراق ومصر وفلسطين. وأكثر من ذلك فقد وجد المسيحيون في سوريا حضناً دافئاً احتضنهم حين لجأوا إليها قبيل وأثناء وبعد المذابح التي تعرضوا لها في تركيا في مطلع القرن الماضي. كما تمتعوا بعد زوال الحكم العثماني بحرية دينية بدرجة مريحة ولم يسبق لهم أن اشتكوا من مضايقات في هذا المجال لا في فترة حكم النظام الحالي ولا قبله. وهذا يعود إلى أن الشعب السوري بغالبيته المسلمة تقبّل هذا الوضع عن قناعة، ولم يجد في الوجود المسيحي ما يدعوه إلى الامتعاض أو الرفض. لابل أكثر من ذلك، فقد وجد في مواطنه المسيحي عنصراً حضارياً خلاقاً أثرى البلاد وأفادها في مجالات عديدة.

صحيح أن النظام الحالي في سوريا قد رفع شعارات العلمانية، إلا أنه حدد في الدستور السوري النافذ دين رئيس الجمهورية بالإسلام واعتبر أن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع، وبقي تمثيل المسحيين في مجلس الشعب السوري وفي الوزارة ضئيلا، لا يتناسب مع حجمهم الديموغرافي. وإن أقصى ما حصلوا عليه هو وزيران أو ثلاثة وزراء في أحسن الأحوال وسبعة عشر مقعداً في مجلس الشعب من أصل 255 مقعداً يتم انتخابهم في لوائح الجبهة الوطنية التقدمية، ونادراً ما كان ينجح نائب مسيحي خارج إطار الجبهة التي يقودها حزب البعث. ورغم أن الرئيس الراحل حافظ الأسد ومن بعده الرئيس بشار الأسد عينا مستشارين لهما من الطائفة المسيحية منهم إسكندر لوقا، وجبران كورية، وجورج جبور، وكوليت خوري.. وهناك مستشار مسيحي لمفتي الجمهورية، إلا أن ذلك لا يعني أن مسيحيي سوريا شاركوا أو كانوا يشاركون في صنع القرار السياسي أو حتى الاقتصادي، بل كانوا ومازالوا مهمشين أكثر من بقية فئات المجتمع السوري، وقد عبّرت عن ذلك الدكتورة كوليت خوري قبل تعيينها مستشارة لرئيس الجمهورية بأن المسيحيين أكثر فئات المجتمع السوري تغيباً وإبعاداً عن المشاركة السياسية في إدارة البلاد.

والحديث عن أوضاع المسيحيين العرب لم يهدأ طيلة السنوات الأخيرة، بعد أن تناقصت أعدادهم بشكل خاص في العراق ولبنان ومصر وفلسطين المحتلة وسوريا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين. لأسباب مختلفة يأتي في مقدمهما الخوف من صعود التيار الإسلامي الأصولي المتطرف، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وما تلاها من احتلال أفغانستان والعراق، ولاسيما بعد الاعتداءات المباشرة التي استهدفت المسيحيين في أرواحهم وممتلكاتهم وكنائسهم في العراق ومصر.

ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في أكثر من بلد عربي ارتفعت وتيرة الحديث عن مستقبل المسيحيين العرب، لاسيما بعد تصدر الإسلاميين للمشهد العربي إثر فوزهم في الانتخابات التشريعية التي جرت في تونس ومصر التي أعقبت اندلاع ثورات الربيع العربي، وكذلك فوز الإسلاميين في انتخابات المغرب، وبعد التحذير الذي أطلقه من باريس بطريرك الموارنة في لبنان بشارة الراعي من مغبة سقوط النظام السوري واستلام الإسلاميين وانعكاس ذلك على مستقبل المسيحيين في سوريا ومجمل الشرق العربي. ترى لو أن أجدادنا مسيحيي المشرق فكروا بمثل هذا المنطق في زمن الحملات الصليبية، واعتبروا أنهم في معركة مع الإسلام السني وفي حلف مع من يحكم المسلمين ضد إرادتهم أو يعاديهم، هل كان بقي مسيحي واحد في المشرق كله إلى اليوم؟

إن خشية المسيحيين في سوريا وخوفهم على وجودهم ومستقبلهم لا يرتبط بوضعهم الداخلي في سوريا، قدر ارتباطه بما جرى ويجري من تطورات وأحداث في دول الجوار العربي، فالخوف منبعه خارجي وليس داخلياً، ويأتي في مقدم الأحداث التي أثرت في مخاوف المسيحيين ما جرى ويجري في فلسطين المحتلة، حيث أدت سياسة إسرائيل المدعومة من الغرب إلى تهجير وطرد أغلب المسيحيين خارج وطنهم، كما إن الاعتداءات التي تقوم بها إسرائيل تحت بصر وسمع ودعم دول الغرب المسيحي ضد الفلسطينيين والعرب واستمرار احتلالها للجولان السورية ومناطق في جنوب لبنان، انعكست سلباً على أوضاع المسيحيين العرب، كما أدت الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان على مدى 15 عاماً إلى إضعاف الوجود المسيحي فيه وتحجيم دورهم. وكذلك تنامي التحريض الديني ورعايته من قبل عدد من الدول لاسيما بعد استلام السادات الحكم في مصر وإطلاقه العنان للحركات الإسلامية المتطرفة، وقد أدى هذا التحريض إلى احتقانات وصدامات طائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر والسودان. إلا أن التطور الأبرز حدث بعد احتلال أميركا للعراق، والتي كان من نتائجها المباشرة تعرض المسيحيين لمذابح دموية وتدمير لكنائسهم وتهجير واسع لهم خارج وطنهم في خطوة تكاد تماثل ما أصاب المسيحيين في فلسطين.. لقد هدمت كنائس ودمرت بيوت، وقتل رهبان وشردت عائلات مسيحية على نحو لم يعرفه العراق منذ استقلاله عن بريطانيا.. وحمل المهاجرون المسيحيون العراقيون الذين توزعوا في المدن والبلدات السورية ذات الأكثرية المسيحية وقائع مفجعة ومروعة عن معاناتهم إلى من سكنوا بجوارهم في سوريا. فتسلل الخوف إلى قلوب المسيحيين في سوريا. وأخذوا يتساءلون متى يحين دورنا. ويضاف إلى تلك المخاوف مخاوف جديدة تتمثل في الدور الجديد الذي تقوم به دولة قطر بما تملكه من إمكانات مالية هائلة في دعم وتمويل الحركات الإسلامية في البلدان العربية، وما قد يشكل ذلك ضغطاً إضافياً على ما تبقى من مسيحيي المشرق.

ومع استمرار الاحتجاجات المتواصلة في سوريا منذ حوالي السنة وتصاعد وتيرة أعمال القتل والقمع والتي أخذت منحى طائفيا في بعض المناطق السورية، جعلت معظم المسيحيين السوريين يخشون من أن يحصل لهم كما حصل للمسيحيين في العراق الذين هجروا من العراق بعد استهدافهم في أرواحهم وممتلكاتهم، والاعتداءات التي يتعرض لها مسيحيو مصر على يد الجماعات السلفية، وأن يؤدي استمرار تلك الاحتجاجات إلى اندلاع حرب أهلية على أسس طائفية تستهدف الأقليات عموماً والمسيحيين خصوصاً، لاسيما بعد تواتر الحديث عن وجود مسلحين وعصابات مسلحة استغلها البعض لإشاعة الخوف بين الأقليات وجعلها تتطلع إلى النظام لحمايتها، إلا أنه لم يُثبت حتى الآن أن مسيحياً قُتل لكونه مسيحياً، بل أن القتل حدث لأسباب تتعلق بشبهة التعاون مع الأمن..

وقد انقسم المسيحيون في سوريا بما يشبه الانقسام المسيحي في لبنان بين فئة مؤيدة لبقاء النظام مع تنفيذ إصلاحات سياسية جذرية للنظام وفئة يغلب عليها الشباب والمثقفون تطالب بتغيير النظام، وانخرط الكثير منها في الحراك السياسي المعارض وشاركت فيه بفعالية، حيث استشهد العديد منهم كما اعتقل الكثير منهم. وكان عشرات المثقفين المسيحيين في سوريا أصدروا بياناً بتاريخ 16/9/2011رفضوا فيه تصريحات البطريرك الماروني بشارة الراعي لجهة خشيته على مسيحيي الشرق من سقوط النظام في سوريا.. معتبرين تصريحاته بمثابة إساءة لهوية وأصالة ووطنية الشعب السوري، وذكّروا "بأن المسيحيين عاشوا منذ مئات السنين إلى جانب إخوتهم في الوطن السوري دون خوف، ولا فضل لأحد في بقائهم أو حمايتهم، فهم جزء لا يتجزأ من هذه الأرض." مؤكدين في بيانهم "أن الأزمة السورية سياسية بامتياز وليست طائفية، وأن الحراك القائم حالياً هو ثورة شعبية ذات طابع مدني...,ومعلنين رفضهم لكل ما نتعرض له كسوريين من عنف وقتل وملاحقة وتشريد، بسبب مطالبتنا بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة".

إن الانقسام في المواقف من الأحداث التي تشهدها سوريا منذ منتصف آذار من العام الماضي لم يقتصر على المسيحيين في سوريا، بل طال معظم شرائح ومكونات الشعب السوري عرباً وأكراداً مسلمين ومسيحيين، فالفئة الموالية للنظام متلونة بكافة ألوان الطيف السوري، كما هي الفئة المعارضة للنظام تماماً.. ولم يكن مستغرباً وقوف معظم رجال الدين مسلمين ومسحيين مع النظام، فأغلب رجال الدين وقفوا في صف الحاكم حفاظاً على الامتيازات الممنوحة لهم، وهو أمر لا يتسق مع تاريخ المسيحية الشرقية والسيرة الوطنية لكنيستها منذ القديس يوحنا الذهبي الفم، ولا ينسجم مع جوهر وجود المسيحية في البلاد التي ولدت فيها وانطلقت منها، ولا يراعي مصلحة المسيحيين كمواطنين يشتركون مع أبناء وطنهم في مسؤولية إدارة الحاضر وبناء المستقبل. غير أنه لابد من الإشارة هنا إلى ما يمكن وصفه ببداية تحوّل في موقف بعض رؤساء الكنائس المسيحية في سوريا تجاه ما يجري في سوريا وهذا ما يُفهم من حديث غبطة بطريرك الروم الكاثوليك غريغورس لحام لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 8/1/2012 والذي أكد فيه: "لا يمكن أن يرتهن المسيحيون في المنطقة لأي نظام".. وقوله :" ليس هناك خوف على مسيحيي سوريا بوصفهم مسيحيين.. أنا لم أشعر يوماً بأنني كمسيحي مستهدف ).

وفي مقابل ذلك هناك قسم كبير من المسيحيين التزموا الصمت تجاه ما يجري في سوريا، خشية من أي تغيير قد يستهدفهم، وهو تغيير بنظر الكثير منهم مازال غير واضح المعالم حتى الآن خصوصاً بعد تصدر الإسلاميين لمشهد الربيع العربي، وربما خوفاً من عمليات القمع والاعتقال التي يتعرض لها مناهضو النظام، فأثروا الصمت طريقاً للسلامة حفاظاً على حياتهم. ومع ذلك فهناك مناطق انضم فيها مسيحيون إلى الحراك السياسي المعارض للنظام كما في يبرود وعربين وقطنا بمحافظة ريف دمشق وبعض مناطق حمص وأدلب وحماه والحسكة، وإن استمرار القمع والقتل والاعتقال وبحكم طبيعة المسيحيين المعادية للعنف وكرههم للدماء وميلهم الشديد للتسامح والمحبة سيدفع المزيد من الصامتين منهم إلى الانخراط في الحراك السياسي الذي تشهده سوريا. وهذا ما برز مؤخراً عندما قامت مجموعة شبان مسيحيين من حي باب توما وجرمانا بلباس بابا نويل بالمشاركة في تظاهرة مناهضة للنظام شهدتها منطقة زملكا بريف دمشق مساء يوم 21/12/2011 حيث أضفت مشاركتهم مع أطياف أخرى جواً احتفالياً معبراً عن وحدة الشعب السوري ورفضه للاستبداد والطائفية.

لذلك ولكل ما تقدم يمكن القول إن تخويف المسيحيين من التغيير والمستقبل لا يصمد أمام الحقائق الموجودة في الواقع السوري، لعل الأبرز فيها "أن المجتمع السوري لا يملك رصيداً من الأحقاد والمواجهات الحادة بين مكوناته يستحق التوظيف والاستثمار فيما تشهده سوريا اليوم، ثم أن وعي الشعب السوري والتفافه واندفاعه نحو ممارسة المهمات الوطنية والقومية ترك آثاراً إيجابية على تضامنه ووحدته واندماجه بعيداً عن الأطر الطائفية والمذهبية. وإلا كيف نفسر اندفاع المواطن السوري المسيحي "جول جمال" للدفاع عن مصر إثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث فجّر نفسه في البارجة الفرنسية وضحى بحياته من أجل أن يحيا الشعب المصري. كما إن المسيحيين في سوريا مندمجون مع بقية مكونات الشعب السوري، ولعبوا وما زالوا يلعبون دوراً مهماً في التحرر القومي والمعرفي، والذي ثبت خلاله تعايشهم وتفاعلهم مع محيطهم الاجتماعي والسياسي بما فيه الجماعات الإسلامية، ويجب ألا ننسى أهمية التداخل الجغرافي بين مكونات المجتمع المختلف إذ قلما نجد أحياء خالصة مسيحية أو إسلامية في المدن كما هو الحال في لبنان، ولعل الأهم من ذلك كله هو أن الحراك الشعبي الذي تشهده سوريا منذ تسعة أشهر ليس حراكاً إسلامياً صرفاً، بل يضم جميع مكونات الشعب السوري، الإسلاميين والعلمانيين والمسلمين والمسيحيين والعرب وغير العرب، وأن أحداً من زعماء التيار الإسلامي لم يطرح إقامة حكم إسلامي في سوريا بعد سقوط النظام، وأن أحد أهم وجوه الحراك السياسي والثقافي هم مسيحيون، ولا ننسى عشرات المسيحيين الذين اضطهدوا واعتقلوا وسجنوا على خلفية معارضتهم النظام قبل الأحداث بسنوات وخلالها أيضاً ونذكر منهم المعارض ميشال كيلو وجورج صبرا والمحامي أنور البني والكاتب أكرم البني والراحل الكبير الياس مرقس..الخ، ولعب المثقفون المسيحيون نشاطاً مهماً في ربيع دمشق إلى جانب أخوتهم السوريين، وأن الاضطهاد والظلم لم يقتصر على طائفة بعينها، بل شمل جميع الطوائف.

ومن هنا تبدو مسؤولية مسيحيي الشرق كبيرة ومضاعفة تبدأ أولاً من الاعتراف أن مسيحيي الشرق ولاسيما رؤساء الطوائف منهم قد تقاعسوا عن أداء دورهم ورسالتهم الحضارية وهجروا بلدانهم. ومن بقي منهم حصر نشاطه السياسي والثقافي والفكري بالعبادات التي لم تتعد عتبة باب الكنيسة. بعد أن أحجموا طوعاً أوقسراً عن المشاركة السياسية والاقتصادية الثقافية والفكرية والفنية في المجتمع وتقوقعوا على أنفسهم واستكانوا العيش في ظل الاستبداد، إلا قلة قليلة أخذت على عاتقها مقاومة الاستبداد ودفعت أثماناً باهظة. وثانياً وهو الأهم ضرورة إعادة الاعتبار لدور المسيحيين العرب في نهضة مجتمعاتهم في هذا الشرق، وهم الذين سبق أن كانوا البادئين في إدخال المطبعة إلى البلدان العربية ونشر التعليم وتأسيس المدارس ونقلوا مفاهيم النهضة الأوروبية والدولة الحديثة إلى العرب كمفاهيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والحق بالتعليم وتحديث الدولة.

نعم نريد استعادة هذا الدور المسيحي في نهضة بلداننا من براثن التخلف والتطرف والاستبداد بالمشاركة مع إخوتهم المسلمين، وعلى المسلمين أيضاً أن يساعدوهم في ذلك. فإذا كان العرب المسلمون قادوا الثورة العربية والنهضة العربية عسكرياً، فإن المسيحيين عرباً وأشوريين وأرمناً وسرياناً كانوا رواد هذه النهضة فكرياً وثقافياً.. فهذا هو قدرنا الذي لا مفر منه في هذه المنطقة من العالم. نحتمي بأخوتنا المسلمين عرباً وأكراداً وتركماناً وشركساً ويحتمون بنا، تماماً كما احتمى العظيم فارس الخوري بأخوته المسلمين، عندما اعتلى منبر الجامع الأموي مخاطباً المصلين:" إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله ... فأقبل عليه مصلو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف وخرجوا به إلى أحياء دمشق القديمة في مشهد وطني مازال يتذكره السوريون إلى يومنا هذا.

إن مستقبل شعوب هذه المنطقة في خطر وثرواتها سوف تضيع، ما لم نتلمس دوراً حقيقياً للرواد من أبناء سوريا والمنطقة العربية من مسيحيين ومسلمين يضعون أسس النهضة الجديدة على أساس من الحرية والديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية واحترام الإنسان، بصرف النظر عن أي انتماء سياسي أو ديني، عن اللون أو العرق والجنس...

=================

14 آذار اللبناني و15 آذار السوري

عبد الوهاب بدرخان

2012-03-14

النهار

لعل مجلس الأمن الدولي أراد، من خلال جلسته الخاصة ب"الربيع العربي"، أن يسجل اولا ان هذا الحدث باشر تغييرا عميقا في منطقة تكلّست في أنظمتها الاستبدادية، وانه ثانيا لن تكتمل حلقاته الاولى الا ببلوغ الانتفاضة السورية غايتها بانتصار ارادة الشعب اسوة بشعوب مصر وتونس وليبيا واليمن. لكن المجلس، في جلسته هذه، جسد مرة اخرى ما بلغه العجز الدولي في مقاربته للأزمة السورية، فهو انعقد بعد ساعات على ارتكاب "شبيحة" النظام السوري احدى ابشع مجازره في حمص. واذا اطلق "المجلس الوطني السوري" استغاثة لم يصل صداها الى مجلس الامن، فإن الشعب السوري بات مدركا الآن انه لن يستطيع الاعتماد الا على نفسه، على تضحياته، وعلى الدعم القليل الذي يصله.

في الذكرى السابعة ل"ثورة الأرز" في 14 آذار يدرك اللبنانيون اكثر مما فعلوا عام 2005 ما الذي انجزوه وقتئذ ولما يكتمل بعد. فهم ثاروا على نظام الوصاية الاستبدادي الذي كان يحكمهم طوال ثلاثين عاما، مصادرا مؤسساتهم كبيرها وصغيرها، لاغيا ارادتهم، ومحاولا تغيير طبيعة مجتمعهم. لم يحسب اللبنانيون بعد الكلفة الباهظة التي تكبدوها بفعل تلك "الوصاية" التي حظيت طويلا بتزكية دولية واقليمية. ولم يحسبوا بعد اكلاف تبرع الوكلاء المحليين بادامة "الوصاية" ومدها برديف ايراني. لكنهم يعرفون اليوم ان 15 آذار السوري انجز منذ عام ما استطاع اليه سبيلا في جعل بقاء هذا النظام مستحيلا. واذ يبدي اللبنانيون وعيا اكبر بأن "ثورة الأرز" لا تزال مستمرة، بشكل او بآخر، أقله لأن انصارها لم يهنوا ولم يتراجعوا رغم جلافة المستقوين بالسلاح، فإنهم يعون كذلك ان ثورة السوريين تستكمل المسيرة ولو بثمن دموي يفوق كل احتمال.

تطل ذكرى 14 آذار هذه السنة على امل مفتوح بأن يستعيد اللبنانيون والسوريون الروح الوطنية العروبية الصحيحة التي تمتع بها رجالات الاستقلال في البلدين وقد وحدهم هدف الخلاص من الاستعمار الفرنسي. ولا تقل رمزية شعار "الاستقلال" في ثورة 14 آذار 2005 في لبنان عن رمزية استعادة ثورة 15 آذار 2011 علم الاستقلال في سوريا. انه التاريخ يعاد صنعه وكأن العقود التي مضت على الاستقلال كانت وقتا مبددا. بل ان في لبنان من يريد كتابة التاريخ بالعقلية المتعفنة اياها التي اهدرت حياة اللبنانيين (والسوريين) بين جدران نظام جاهلي.

تشير وثائق "سيدة الجبل" والكتائب و"تيار المستقبل"، والمواقف المتقدمة لوليد جنبلاط، الى ان لبنانيي 14 آذار لم يفقدوا البوصلة، بل ارادوا ان يسجلوا – للتاريخ – لكن خصوصا للحاضر والمستقبل، ان ثمة بداية تحدث الآن في لبنان وفي سوريا، وانها في الاتجاه الصحيح مهما تكاثفت الصعوبات امامها. واهم ما في تلك الوثائق والمواقف انها تنتظر بل ترغب في مساهمة الآخرين في هذه البداية... وفي الاتجاه الصحيح.

=================

روعة الثورة وضعف المعارضة

ياسر الزعاترة

الدستور

14-3-2012

لا خلاف على عظمة الشعب السوري الذي يواجه أعتى آلة قتل عرفتها الثورات العربية، وسر العظمة يتمثل في أننا إزاء شعب يدرك طبيعة النظام الذي يواجهه، ولم يعتقد يوما أن ثورته ستمر بسلاسة مثل الثورات الأخرى، بما فيها الثورة الليبية.

لا يشبه نظام الأسد أيا من الأنظمة التي واجهت الثورات في العالم العربي، فهنا ثمة نظام يستند ابتداءً إلى طبيعة أمنية دموية، تستند بدورها إلى بنية طائفية تجعل من العسير إحداث اختراقات مهمة داخله، بخاصة في الجيش والأجهزة الأمنية، فضلا عن استناده إلى دعم النسبة الأكبر من الأقليات الطائفية الأخرى التي تعتقد بأن وجوده يشكل وضعا أفضل للحاضر والمستقبل من البديل “الإسلامي” المحتمل بحسب رؤيتها.

لا يتوقف الأمر عند ذلك، بل هناك المدد الذي لا يخلو بدوره من البعد الطائفي (إيران، العراق، لبنان الذي يهيمن عليه حزب الله)، والأهم أنه نظام متمرس في مطاردة المعارضة واختراقها، ومتمرس أيضا في لعبة الإعلام، وله مشايعين من قوىً حزبية عربية لها حضورها في ميادين السياسة والإعلام، وإن افتقرت إلى المدد الشعبي.

من هذه الزوايا جميعا، يتأكد المراقب من أن خروج الشعب السوري إلى الشوارع كان ولا يزال مغامرة بطولية تعرض صاحبها للهلاك، أكان بالرصاص أم تحت التعذيب في السجون، وأعداد الشهداء إلى الآن، وحجم الدمار شاهد على ذلك.

هذه العظمة التي أبداها الشعب السوري لا تظهر جلية بين صفوف المعارضة السورية التي تعيش قدرا من البؤس لا تخطئه العين، رغم حرص مخلصين بين صفوفها على تقديم الواجب الوطني الآني على القيادة والمزاحمة عليها.

والحق أن الإخوان المسلمين الذين كان لهم نصيب الأسد في التضحيات خلال عقود النظام الأسدي (الأب والابن)، ومعهم إسلاميون مستقلون، لم يكونوا الأكثر بحثا عن الشهرة والمزاحمة، وهم من ساهموا بقوة في تشكيل المجلس الوطني السوري، ولولاهم لما كان لمشروع من هذا النوع أن يمر. وإذا قال البعض إنهم يفعلون ذلك إدراكا لطبيعة الوضع العربي والإقليمي والدولي، فإن الأمر ليس كذلك تماما، إذ تتوفر دول يمكنها التعامل معهم بشكل مباشر مثل تركيا وقطر وغيرها، كما أن الخطاب الذي تبنته الجماعة لم ينطو على أي إقصاء، وغابت عنه النبرة الطائفية.

على أن ذلك لا يغير في حقيقة أن بعض قوى المعارضة ورموزها لم يرتقوا إلى مستوى تضحيات شعبهم، بما في ذلك المجلس الوطني نفسه حين يؤخذ ككتلة كاملة، وما قصة عضو المجلس بسمة قضماني عنا ببعيد، فالأخيرة ظهرت في تسجيل مصور بوصفها مناصرة للكيان الصهيوني، كما ظهرت مستخفة بعقيدة الشعب أيضا، لكن ذلك لم يدفعها إلى الاستقالة من المجلس، في حين لم يبادر المعنيون فيه إلى إقالتها، بل ذهبوا أبعد من ذلك حين دافعوا عنها واعتبروا مهاجميها جزءًا من ماكينة النظام.

والحال أن النظام لم يكن ليوفر فرصة كهذه من دون استثمارها في الهجوم على المعارضة والتشكيك بها، وما كان ينبغي أن يفعله المجلس ليس الدفاع عن تلك السيدة، بل دفعها نحو الاستقالة، أو إقالتها بشكل مباشر حفاظا على سمعته.

لا خلاف على أن ثمة جهدا كبيرا يُبذل من طرف المجلس والمعارضين الآخرين من أجل تأمين الحماية للشعب السوري وتوفير متطلبات الصمود، لكن الخلافات الجانبية غالبا ما تطغى على هذا الجهد. وما يزيد الوضع سوءًا هو تلك الفئة التي تدعي تمثيل معارضة الداخل وما زالت تراهن على بقاء النظام، وهي (على تفاوت بين رموزها) لا يمكن أن تكون معبرة عن تضحيات الشعب ورؤاه حتى لو قيل إن لبعض رموزها تراث مشهود في مواجهة النظام، إذ أن أي تراث مهما كان لا يسمح لصاحبه بحرف مسار الثورة عن أهدافها الرامية إلى إسقاط النظام تبعا لإيمانها بأن إصلاحه من الداخل ضرب من الخيال.

إن واجب الوقت الذي ينبغي أن يبادر إليه المعارضون بشتى تصنيفاتهم هو دعم الثورة في الداخل أكثر من اللهاث خلف التدخل الخارجي، ويعلم المخلصون أن مصير الثورة سيحسم في الداخل، رغم أهمية الدعم الخارجي، والأصل هو صرف الجهد في ابتكار فعاليات شعبية تستقطب النسبة الأكبر من الجماهير في سائر المدن، ومن يركز جهده في هذا الاتجاه لن يعدم الوسيلة وفرص النجاح.

نؤمن تمام الإيمان بأن النصر حليف الشعب السوري، ونحن لا نتحدث عن واقع المعارضة من باب التيئيس، فما من ثورة إلا وشهدت مثل ذلك أو قريبا منه، لكننا نتحدث من باب الحرص، ومن أجل الدفع في اتجاه مسارات تقلل ما أمكن حجم التضحيات في الطريق إلى إسقاط النظام الذي سيسقط لا محالة، ليس لدينا شك في ذلك.

=================

حين يخجل سوريون من سوريتهم!

حلمي الأسمر

الدستور

14-3-2012

«بعدما رأيناه يوم أمس من مجازر في حمص على يد أجهزة أمننا، بعدما نقلت وكالات الأنباء عن قيام أجهزة الأمن في حي عشيرة بتعرية نساء وبنات حمص أمام آبائهن بطريقة تجعلنا نخجل من سوريتنا، بعدما أصبح واضحاً وجلياً أن عناصر الأمن يقومون بذبح الناس بالسكاكين، نعلن للعالم أجمع أننا نخجل ونبرأ من تصرفات هذه الأجهزة ونعلن انحيازنا للشعب في سعيه للحفاظ على كرامته»...

بهذه الكلمات التي تشق عنان السماء، يعلن «فصيل» مما يسمى الجيش السوري الإلكتروني التابع للنظام السوري انشقاقه وعودته إلى صفوف شعبه، ويقول القائمون على الصفحة المنشقة عن الجيش السوري الإلكتروني أنهم كانوا فيما مضى ينفذون أوامر المخابرات السورية «كنا في قبو مظلم نكتب فيه ما يرسل لنا من المخابرات ومن الأمن السياسي، كم هو صعب أن تكون مكمماً ومقيدا»..

هي كلمات تقرأها ثم نمضي، نتعاطف أو ننفعل، ولكننا نمضي إلى شؤوننا اليومية، وهمومنا، ويبقى شعب كامل تحت أبشع محنة يمكن أن يتعرض لها بشر، على ايدي آخرين يفترض بهم انهم أخوتهم ومن بني جلدتهم، وهم ليسوا كذلك، فالحيوانات تترفع عن مثل هذه الممارسات الشيطانية، وفي الأثناء.. يتقاذف اللاعبون كرة القضية السورية، في أروقة الفنادق، ودهاليز المؤتمرات، ولا حل للمذبحة المفتوحة، ولا تدخل عسكريا للضرب على أيدي القتلة، ووقف هذه المحنة الأسطورية!

تتقزم الكلمات أمام هذه الكارثة، ولا تجد ما تقول، غير الترجيع والحوقلة، وتعجب من وقوف أمة الثلاثمئة مليون بني آدم عاجزة أمام مجازر سوريا، ومن قبلها جرائم الصهاينة في غزة وفلسطين، ويخرج عليك بين الحين والآخر من يتحدث عن مؤامرة على سوريا، ونظامها «الممانع المقاوم»!!

نعم هي ممانعة ومقاومة، ولكن بمفهوم مقلوب، ممانعة لأي مشاعر إنسانية ومقاومة لأي حس بشري، وتعجب من «ثورة» إيرانية هبت في وجه سفاح كشاه إيران، لتأتي وتدعم شاه آخر أشد وحشية ودموية، يذبح شعبه ذبح الشياه، وتمده بأسباب الحياة؟ وتعجب أيضا من حزب يحمل اسم الله جلت قدرته، ما فتىء يتشدق بدعم النظام القاتل، ويستمر بالدفاع عنه، دونما خجل او رادع!!

يا الله...!

من يرفع هذا البلاء العظيم عن أبناء الشام.. شامة الأرض، وبوابة السماء؟

=================

ثقافة التخوين والمعارضة السورية

رأي القدس

2012-03-13

القدس العربي

تتعالى الاصوات داخل الوطن العربي وخارجه التي تطالب المعارضة السورية الى توحيد صفوفها ووضع حد لانقساماتها المتفاقمة حتى تحظى بتمثيل الشعب السوري بكل اطيافه، ولكن التجاوب مع هذه النداءات ما زال محدودا.

السيد احمد داوود اوغلو وزير خارجية تركيا اعلن بالامس عن تحدد موعد الثاني من شهر نيسان/ابريل المقبل من اجل انعقاد مؤتمر اصدقاء سورية الثاني في مدينة اسطنبول، الامر الذي ربما يوفر فرصة لفصائل المعارضة وشخصياتها للمشاركة بصورة افضل من تلك التي شاركت فيها في مؤتمر تونس، حيث طفت الخلافات على السطح بصورة ازعجت حلفاءها المقربين.

فاذا كانت فصائل المعارضة وشخصياتها لا تستطيع القبول بمبدأ التعايش فيما بينها، والاتفاق على برنامج سياسي موحد يضبط ايقاعها فكيف يمكن ان تتعايش مع اطياف الشعب السوري المتعددة في الداخل والخارج، وتؤسس لنظام ديمقراطي تعددي يحترم الراي العام.

نذهب الى ما هو ابعد من ذلك وهو الاشارة الى لغة التخاطب بين بعض شخصيات هذه المعارضة، وهي لغة تهيمن عليها مفردات 'العمالة' و'التخوين'، ونشر قوائم 'العار' لكل من اختلف مع هذا الطرف او ذاك ولو بصورة هامشية.

معارضة التدخل الاجنبي التي يتمسك بها بعض المعارضين حق مشروع، ووجهة نظر يجب ان تحترم، فما هي الديمقراطية اذا كان اقل تهمة يمكن ان تلصق بالمخالفين هي التخوي، او العمالة للنظام، خاصة اذا كان من يتعرض لهذه التهمة هو من قضى سنوات تحت التعذيب في سجون النظام القمعي الديكتاتوري، او تشرد في المنافي؟

النظام السوري الذي تتوحد المعارضات السوري على معارضته وحلوله الامنية الدموية، هو المستفيد الاكبر من هذه الانقسامات والخلافاتن خاصة في مثل هذا الوقت الذي بدأ يلتقط انفساه بفضل الدعم الروسي والصيني المزدوج، وترهل التحرك العربي بعد فشل جهود التدويل من خلال اصدار قرارات من مجلس الامن الدولي تتبنى مشروع الحل العربي الذي يطالب برحيل رأس النظام.

كوفي عنان مبعوث الامم المتحدة بنى مبادرته التي رفضتها بعض شخصيات المعارضة السورية على اساس 'الحل السياسي' والحوار بين النظام والمعارضة كأقصر الطرق للوصول اليه، وقد رحب الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري بهذا الطرح، او بشق الحل السياسي الذي يعتبر عماده الاساسي، الامر الذي يتطلب وجود جبهة موحدة للتعاطي مع الحل السايسي في حال جرى التفاوض حوله.

نشر بالاسى عندما تتعرض شخصيات من المعارضة السورية معروفة بمواقفها الوطنية المشرفة لاتهامات بالعمالة والتخوين ومن قبل زملائها، في تبن لمكارثية جديدة ادانها هؤلاء جميعا في ادبياتهم طوال سنواتهم النضالية السابقة.

قبل الحديث عن المصالحة الوطنية داخل سورية مطلوب مصالحة وطنية بين الشخصيات والفصائل السورية المعارضة في الخارج، ثم بينها وبين المنتفضين في الداخل الذين يواجهون الموت يوميا بصدورهم العارية، من اجل التغيير الديمقراطي المأمول.

=================

حصة الصين وروسيا!

عماد الدين أديب

الشرق الاوسط

14-3-2012

الذي يحدث في مجلس الأمن من صراع سياسي علني ليس صراعا بين الكبار حول سوريا، لكنه اختلاف جذري بين الكبار حول ترتيب العالم الجديد، أحد موضوعاته هي سوريا.

باختصار، الخلاف الصيني - الروسي من ناحية، والأميركي - الأوروبي من ناحية أخرى، ليس بسبب سوريا، بل هو خلاف حول الشروط الجديدة لإدارة العالم.

لا يمكن للصين أن ترضى بأن تكون صاحبة حصة خجولة في القرار العالمي وهي مرشحة كي تكون القاطرة المؤثرة في الاقتصاد العالمي عام 2030، وكونها الدولة الأكثر استثمارا في سندات الحكومة الأميركية (قرابة التريليون دولار).

ولا يمكن لروسيا الاتحادية، بعد النمو الاقتصادي المستدام خلال السنوات ال7 الماضية، وتطور مبيعات السلاح العالمية وارتفاع فرص الاكتشافات النفطية الروسية وإمكانيات الغاز الكامنة في البلاد، ثم بعد فوز بوتين وإدارته بنسبة مريحة للغاية، أن تقبل بدور «الكومبارس» في فيلم أميركي طويل!

العالم الآن يصوغ ميزان القوى، بعدما دفعت أوروبا فاتورة باهظة لتجنب انهيار اقتصادات إسبانيا واليونان والبرتغال وأيسلندا، مما أثر على «الحلم الوردي باتحاد أوروبي قوي اقتصاديا». العالم يصوغ هذه العلاقات، وهناك قوى صاعدة مثل البرازيل وكوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا وبولندا.

هذه الصياغة الجديدة لترتيب القوى وشروط ومعايير العلاقات الجديدة، بناء على آخر المعطيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، تتم في عالم مضطرب: فيه أزمات مالية على جانبي الأطلنطي، وثورات ربيع في العالم العربي المشرقي الغني باحتياطي النفط، وتتم في زمن فيه إشكالية كبرى لاستخدام القوة المسلحة في فض المنازعات الداخلية بين الحاكم وشعبه.

في الماضي القريب كانت التدخلات لمنع غزو، إلا أننا لو لاحظنا كل التدخلات العسكرية الأميركية عقب الحرب العالمية الثانية أدركنا أنها كانت تحت شعار إنقاذ الشعب من ديكتاتورية حاكمه مثل: كوريا، فيتنام، البوسنة، أفغانستان، العراق، هايتي، وليبيا.

من هنا لا بد أن يتفق الكبار: من هو النظام الذي نتدخل معه، ومن هو النظام الذي نتدخل ضده.

روسيا والصين تلعبان دور «المفسد» لرغبات التدخل الأميركية الأوروبية، ليس لأنهما تؤمنان بنظام مثل نظام الأسد، ولكن لأنهما لم تحصلا بعد على الاتفاق المطلوب لتقسيم العالم بناء على معطيات القوى الجديدة الصاعدة.

=================

سورية بين حسابات السياسة ومنطق الثورة

الاربعاء, 14 مارس 2012

أحمد عجاج *

الحياة

قد ينتاب مطالع الصحف، ومشاهد التلفزة، الهلع، ويصاب بالغثيان، وقد يكون مصيباً، إن اعتقد، أن مأساة سورية لن تتوقف، وأن القادم سيكون أعظم. لقد اقتنع المواطن السوري، ومعه المواطن العربي، أن النظام لن يتراجع قيد أنملة عن مواقفه، وعن قناعاته بأن وجوده مصيري لهذا البلد، وأنه بالفعل قادر على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل انتفاضة الشعب السوري. هناك، بالفعل، أدلة تؤكد أن النظام يحمل بقوة هذه القناعة، وآخرها، ما قاله الرئيس بشار الأسد، بأنه قابض على مجريات الأمور على الأرض، وأنه سيقبض على مجريات الأمور في الفضاء. هذه القناعة، ليست وهمية، بل لها ما يبررها، بعدما تبين انه قادر على تجاهل الصرخات الدولية، الطنانة، والمملوءة بالمعاني الأخلاقية، لكنها في حقيقتها فارغة، لا تقدم ولا تؤخر شيئاً على الأرض. وقد يتساءل كثيرون، لماذا كل هذا التساهل مع هذه الأزمة الإنسانية، المتزايدة في الاستفحال، والمؤلمة لأقصى الحدود، والتي نشاهدها يومياً أمام أعيننا، ولماذا يقف العالم مكتوفاً؟ وقد يتساءل: لماذا هذا الإصرار من النظام السوري على البقاء، ورفضه المساومة، والتسويات، في سبيل ضمان ليس فقط مستقبله بل مستقبل سورية؟

ثمة أجوبة سهلة يمكن استحضارها، وثمة أجوبة صعبة يمكن التعريج عليها، لتبيان حقائق السياسة الدولية، وحساباتها الجامدة. إن الأجوبة السهلة لا تحملنا على التفكير كثيراً، بل تحيلنا دائماً على يافطات اعتدنا عليها، مثل أن النظام تدعمه إسرائيل، وأن الغرب لا يريد أن يقف في وجه المصالح الإسرائيلية، أو أن الغرب يخشى من الأصولية، ولا يقدر على دعم معارضي النظام السوري، خشية أن يكرر السيناريو الأفغاني، أو أن الغرب يخشى الأكثرية السنية، وما قد تشكل من خطر على الأقليات، وعلى إسرائيل، وبالتالي يترك النظام السوري يدافع عن نفسه، وهو مدرك في قناعته بأن النظام قادر على البقاء بما يملك من أدوات القوة والدعم من بعض الدول الإقليمية والكبرى. هذه الأجوبة، اعتاد عليها الناس، وأصبحت، من شدة تكرارها، حقائق لا يمكن نقدها. أما الأجوبة الصعبة فهي التي تخترق الأجوبة السهلة، وتذهب إلى ما هو ابعد لتؤسس شرحاً أكثر جدية، وموضوعية لهذا التساؤل حول أسباب بقاء هذا النظام، ويمكن تلخيصها بخمسة أسباب:

أولاً: إن النظام السوري، يمثل نقطة ارتكاز في السياسة الدولية، وقد أصبحت سياسته، على مدى عقود طويلة، متوقعة وتعرفها الدول الكبرى والإقليمية وترسم على أساسها حساباتها وسياساتها. وكمثال على ذلك، فإن النظام ليس متفقاً، بالمعنى الحرفي، مع إسرائيل، ولا متعاقداً معها، كما توحي الأجوبة السهلة، لكن سياساته تسمح لإسرائيل، عبر التحليل، بتوقع خطواته، والبناء عليها، ووضع سياسة مضادة تضمن أمنها، وتحفظ تفوقها المستقبلي. لقد حذر النظام السوري إسرائيل من أن امن حدود اسرائيل من أمنه، لكن تحذيره، على رغم لهجة التهديد، لم يقرع ناقوس الخطر في إسرائيل ولا في العالم، ذلك لأن قناعة قد تكونت، ولا يمكن العبث بها، بتصريحات عابرة من مسؤولين أو محسوبين على النظام. هذه القناعة تعطي الدول الكبرى نوعاً من الطمأنينة، في منطقة على فوهة بركان.

حتى ينضج الربيع

ثانياً: لقد أربك الربيع العربي، العالم الغربي، والدول الكبرى، بما فيها الصين وروسيا، لا سيما بعدما وصل الى السلطة إسلاميون، كانوا لسنين طويلة معارضين للغرب، وعدائيين من الدرجة الأولى لإسرائيل، ولا تعرف عنهم تلك الدول الكثير لترسم ملامح التعامل معهم، لا سيما في المرحلة الحساسة والقصيرة. واختارت تلك الدول الكبرى سياسة الجري مع التيار، فأيدت حق الشعوب بترشيح من تراه، لكنها، بدأت تدرس جدياً، سياسة التعامل مع القادمين الجدد، وتحتاج الى وقت كاف، للتوصل إلى قناعة جازمة، وسياسة متلائمة. هذا الإرباك، جعل الدول الكبرى، وبالذات الدول الغربية، تحرص على التباطؤ في الرد على الربيع السوري، بانتظار ما سيفرز ربيع مصر وليبيا وتونس، وما يمكن عقده من صفقات مع القادمين الجدد. وما لم يتمكن هؤلاء من عقد صفقات مع تلك الدول التي اجتازت ربيعها، فإن الغرب، لن يحرك إصبعاً ضد النظام السوري لأنه بذلك سيجعله يضحي بما هو معروف في سبيل ما هو مجهول.

ثالثاً: المعارضة السورية التي لا تزال تعتبر، بقدر ما هي ضرورة، مشكلة كبرى، لصناع القرار في الغرب. هذه المعارضة التي استطاعت أن تلم شملها تحت مظلة المجلس الوطني السوري، وتمكنت بفضل التأييد الجماهيري من الحصول على الشرعية، لا تزال في نظر الغرب، غير قادرة على تسلم القيادة المستقبلية لسورية. هذه القناعة ليس مردها، عدم قدرة المعارضة، على رغم الأخطاء الكبرى التي وقع بها رئيسها ومجلسها التنفيذي، بل سببها أن تلك المعارضة لا تسيطر على مسلحي الأرض، ولا تستطيع ضبط حركة الشارع. فالغرب لا يريد أن يتعامل مع جسم سياسي تنقصه القدرة العسكرية، بل يريد التعامل مع جهة قادرة، ومعروفة، يمكنه التوصل معها إلى قناعات وسياسات قابلة للتطبيق مستقبلاً. هذا ليس متوافراً في المجلس الوطني السوري، ولا في جماعة أخرى، لذلك تجنح دول الغرب، بدلاً من الكشف عن قناعها الحقيقي، إلى جلد المجلس الوطني المسكين، وتحميله ما لا يمكنه حمله.

رابعاً: تداخل الملف النووي الإيراني مع الملف السوري، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. هذا التداخل والتضارب كانا بمثابة قوتين تشدان بعضهما بعضاً في اتجاه معاكس، مما رشح ضرورة الانتظار وعدم اتخاذ قرار بالحسم. فالموقف العربي، ولنقل بدقة الخليجي، يرى أن انهيار الأسد يفتح الباب أمام بروز سد عربي قادر على مواجهة التمدد الإيراني بأبعاده السياسية والدينية. ويرى الموقف الغربي، أن دفع دول إقليمية باتجاه إسقاط النظام، وأخرى باتجاه حمايته سيؤدي حتماً إلى وقوع سورية في فخ الحرب الباردة، وتحول أرضها إلى حرب شرسة لا تخدم المصالح الغربية، ولا الروسية أو الصينية. فالغرب لا يريد حرباً بين دول إقليمية، ولا روسيا تريد حرباً تحرمها من مصالحها، ولا الصين تريد ذلك مخافة أن يؤثر ذلك في نموها الاقتصادي، طالما أن نفطها في معظمه يأتي من تلك المنطقة. في هذا السيناريو ليس غريباً أن نرى دولاً تطالب بتسليح المعارضة، وأخرى تدعم النظام، ودولاً ترى الانتظار؛ لكن هذا كله محسوب بدقة، ومرهون بقرار الدول الكبرى التي تفضل، حتى الآن، سياسة الانتظار.

لا ضغوط في الغرب

خامساً: غياب المؤثرات الضاغطة على صناع القرار في الغرب وفي عواصم الدول الكبرى. ففي روسيا والصين لا يمكن الحديث عن هذا العنصر، لأنهما دولتان مركزيتان، صناعة القرار فيهما مستقلة تماماً عن تأثير الرأي العام، بينما في دول الغرب، فإن العكس هو الصحيح. إن صناع القرار في الدول الغربية لم يجدوا الى الآن ضغطاً شعبياً، ولا يرون إمكانية حدوث ذلك، على رغم فظاعة ما يحدث. لقد اقتربت الثورة السورية من عامها الأول، ولا توجد تحركات جماهيرية، ولا مؤسسات المجتمع المدني، ولا حملة صحافية من النوع المهم، على رغم مقتل صحافيين، وجرح عدد آخر. هذا الواقع يسمح للقادة الغربيين بأن يمارسوا سياسة خارجية محسوبة بلغة الأرقام، ومبنية على مبدأ المكاسب والخسائر، وبعيداً جداً من عنصر الأخلاق وحقوق الإنسان. وقد يرى متابع هؤلاء القادة كيف يركزون دوماً على صعوبة التدخل العسكري، ويصرون على مبدأ حماية المدنيين ليس من خلال التهديد العسكري بل من خلال التهديد بمحاكمة الضالعين بجرائم ضد الإنسانية، ومن دون سقف زمني، بل وفق عبارة يرددها دائماً، رئيس وزراء بريطانيا، دافيد كامرون: «يوماً ما». هذا اليوم قد يأتي غداً، وقد لا يأتي، لأن المعيار هنا المصلحة وليس شيئاً آخر.

ماذا يعني هذا كله؟ هل يعني أن الثورة السورية محكوم عليها بالفشل، وأن النظام السوري سيبقى بالقوة؟ بالطبع لا، أولاً: لأن تلك العوامل قد تتغير، بفعل عوامل غير متوقعة، أو بفعل معارضة واعية تحرك الأمور لمصلحتها، وثانياً، لأن الثورة، كما يعرف متابعو التاريخ، لا تخضع لمعايير ثابتة، ولا تسير وفق ضوابط، بل هي كالبركان تندلع، ولا يمكن إخمادها إلا عندما تستنفد طاقتها كلها. وكما يعرف كثيرون، فإن القمع، مهما كان وحشياً، يفقد مع مرور الزمن، كما يقول الفيلسوف البريطاني، برتراند رسل، تأثيره، ويصبح بحكم الممارسة، معتاداً لدى الناس، ولا يشعرون أمامه بالفزع ولا الخوف؛ وعندما يسقط حاجز الخوف، لا توجد قوة على الأرض تستطيع أن تقف في وجه الشعب، وسيستطيع هذا الشعب، مهما كانت قيادته عاجزة، أن يصنع قيادة جديدة، مجبولة بالألم، ومعصورة بمرارة التجارب، قادرة على حمل الرسالة وتحقيق النصر. إن للأمم حساباتها، وللشعوب حسابها، والتاريخ يعلمنا، أن الشعوب دائماً منتصرة وأن غدها سيكون مشرقاً.

* كاتب لبناني مقيم في لندن

=================

أين يقف ميزان المصالح الروسية عربياً؟

الاربعاء, 14 مارس 2012

بهاء أبو كروم *

الحياة

لم تصل روسيا بعد إلى حد المفاضلة بين مصالحها مع سورية من جهة ومع باقي العرب من جهة ثانية، ولو كان الواقع يشير إلى أن مصلحتها الآنية مع سورية توازي مصالحها مع باقي العرب، في الأفضلية الأمنية بالدرجة الأولى، وذلك من حيث الامتيازات التي يقدمها النظام السوري لروسيا، وأهمها مرفأ طرطوس، وطموح سورية في تقديم عروض ذات طابع عسكري تتيح لروسيا معادلة الدرع الصاروخية في تركيا، مع تردد، أو بالأحرى عدم رغبة روسية في الانخراط بمعادلات من هذا النوع، وتأكيد بوتين لإمكانية استمرار الحوار مع الغرب حول الدرع الصاروخية.

ويأتي ثانياً الشق الاقتصادي، من حيث حجم الاستثمارات في مجال استخراج الطاقة ومبيعات الأسلحة. وكانت روسيا قد شطبت أكثر من 10 مليارات دولار من قيمة الديون السورية المتراكمة من أيام الاتحاد السوفياتي، وذلك تأسيساً لتعاون اقتصادي تكون سورية مدخله إلى العالم العربي. وفي موازاة ذلك، ورغم التوتر الحالي مع دول الخليج، فإن المصالح الاقتصادية موجودة، والتعاون قائم في عدد من القطاعات، خاصة وأن هناك اتفاقيات للتعاون موقعة بين الجانبين السعودي والروسي خلال زيارة الملك عبدالله (ولي العهد السعودي آنذاك) لموسكو في أيلول (سبتمبر) 2003، إضافة إلى زيارة الرئيس الروسي بوتين للسعودية في شباط (فبراير) 2007، وتمّ خلالها التوقيع على عدد من الاتفاقيات بين الجانبين، إحداها تتضمّن التعاون في مجال إطلاق أقمار اصطناعية للاتصالات، وكانت الصواريخ الروسية نقلت 13 قمراً صناعياً سعودياً منذ 2002 إلى الفضاء الخارجي تُستخدم في مجال الاتصالات، إضافة إلى التعاون في المجال الديني، ففي 2007 بلغ عدد الحجاج الروس 26.5 الف شخص، وخلال زيارة بوتين إلى قطر في شباط 2007، تم التطرق إلى فكرة إنشاء منظمة للدول المصدرة للغاز على غرار منظمة الأوبك.

ففي قياس روسيا لمصالحها في الشرق الأوسط يتصدر الهاجس الإسلامي، الذي يعادل، أو حتى يفوق النظر إلى المنطقة على أنها المصدّر الرئيسي للطاقة في العالم، وتكمن الحلول لهذا الهاجس (الإسلامي) ومقتضياته في علاقة لا يشوبها العداء مع الخليج، والسعودية بشكل خاص. ولا ينسى الروس حجم الزخم الذي استثمرته دول الخليج في أفغانستان والدول المحيطة بالاتحاد الروسي أيام الحرب الباردة، والتسبب في تصاعد الحركات الإسلامية، ما أدى إلى الانسحاب من أفغانستان. وروسيا طلبت الانضمام لعضوية منظمة المؤتمر الإسلامي (فيها أكثر من 20 مليون مسلم، وهو عدد يفوق كثيراً من الدول الإسلامية الأعضاء في هذه المنظمة)، وحصلت على عضوية مراقب عام 2005. وهي تعتمد سياسة احتواء الأقلية الإسلامية التي تشكل 14 % من سكانها.

لا ترغب روسيا في دخول حرب باردة جديدة، هي التي خسرت الحرب الباردة الأولى، رغم كونها كانت تسيطر على نصف الكرة الأرضية، وإمكانيات لا تقارن بإمكانياتها اليوم. وروسيا لا تَغفُل أيضاً عن دور العرب المركزي في الحيازة على مصادر النفط وفي السيطرة على أسعاره، وكانت الاستراتيجية الروسية لعام 2008 حددت أولويات السياسة الخارجية الروسية حين أشارت الى «المخاطر المرتبطة باشتداد حدة التنافس على موارد الطاقة في الشرق الأوسط ومنطقة القطب الشمالي وحوض بحر قزوين وآسيا الوسطى».

لا شك في أن روسيا تتوجس من إعادة الولايات المتحدة خلط النظام الدولي برمته انطلاقاً من التدخل في ليبيا، لجهة تشريع مبدأ تغيير الأنظمة انطلاقاً من واجب المجتمع الدولي في حماية المدنيين، خاصة وأن الربيع العربي فتح احتمالات التشكيك بالشرعيات المحلية على قاعدة التماهي مع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام».

يبقى أن يُستنتج من كل ذلك، أن بضعة مليارات مستثمرة في سورية، أو صفقات أسلحة تقليدية جداً، ومرفأ «يمكن الاستغناء عنه» في طرطوس... لا تشكل الدافع الأساسي لموقف روسيا من التغيير في سورية، إضافة إلى أن السؤال والهاجس ممّن سيحكم سورية بعد الأسد لا يقتصر على الجانب الروسي فقط. لكن في المقابل، فإن الانخراط في مشروع «تأمين مخرج» للأسد وحماية المدنيين في سورية، هو المدخل الروسي إلى إعادة ترتيب علاقتها مع باقي العرب، وإلى تقديم صورة مقبولة تُبقي على المكتسبات التي حققتها روسيا في التقارب مع العالمين العربي والإسلامي.

* كاتب لبناني

=================

الثورة التي أيقظت الإنسان

الاربعاء, 14 مارس 2012

جاد الكريم الجباعي *

الحياة

ما لم يلاحظه كثير من الباحثين والمحللين عندنا، أن الثورة السورية، كنظيراتها في تونس ومصر واليمن وليبيا، أيقظت الفرد، وأيقظت الإنسان فيه، وفتحت أفقاً لنمو الفردية، بما هي استقلال وحرية مرتبطة بالمواطَنة وفكرة المواطن ارتباطَها بالفلسفة الإنسانية والأخلاقية، على نحو لا يقبل انفكاكاً. وليس أدل على ذلك من احتلال مفهوم المواطنة موقعاً مركزياً في خطاب الثورة، على الرغم مما لا يزال يشوبه من التباسات.

فتَحْتَ مفهوم المواطنة تماماً تقع الفردية أساساً مكيناً للمواطنة بركنيها الرئيسين: المساواة والحرية، وهاتان هما ركنا الفردية كما أنضجها الفكر الإنساني الحديث، والتجارب العملية في كنف الدولة الديموقراطية الحديثة. والفردية هنا -ودوماً- نقيض الأنانية والانغلاق على الذات، فالفرد الإنساني الذي تُنسب الفردية له، تواصليٌّ وتبادلي، أو حامل لإمكانية التواصل والتبادل في مختلف مجالات الحياة، ويمتاز بالمعرفة والعمل والحب، وهي حدود وجوده الإنساني.

في الواقع السوري الصاخب اليوم جذلاً، على الرغم من جميع آلام الولادة، تتجلى الفردية بالإيجاب والسلب، تتجلى بالإيجاب لدى الثوار من الشابات والشباب المشاركات والمشاركين في الثورة، من غير المتحزبين وعبدة الأوثان، ومن غير التابعين. هؤلاء يشاركون في الثورة بإرادتهم الحرة، هذه المرة، لا بإرادة غيرهم. فلا يفوت المرء أن يرى مظاهر الفردية والاختلاف في الأقوال والأفعال، التي يغلب عليها طابع الابتكار والإبداع، بدءاً من تعدد اللافتات والصور والشعارات والرموز والأصوات، وتعدد الآراء واختلاف وجهات النظر واختلاف المواقع واختلاف الدوافع واختلاف الميول والتوجهات... إلى وحدة الاتجاه نحو المجهول وغواياته، بغية استكشافه واستكشافها، وارتياد آفاق جيدة لتجاوز حدود الحاضر، وحدة هي أقرب ما تكون إلى سيمفونية متموجة على لحن الحرية والانطلاق.

فلم يخطئ من وصف هذه الثورة بأنها «ثورة الحرية» لا ثورة تنشد الحرية، فتحولها إلى شعار أو هدف أو غاية، في حين أن الحرية غايةُ ذاتها لأنها جوهر الحياة الإنسانية وماهيتها، جوهرُ حياة الفرد الإنساني وماهيتُها، والإنسان غايةُ ذاته، لا وسيلة لأي غاية مهما بدت نبيلة.

الاختلاف يثأر لنفسه من تطرف السلطة/ السلطات التي حاولت السيطرة عليه، بل حاولت إلغاءه، بتحويل المواطنين رعايا تابعين ومسلوبي الإرادة، جوفاً وبلا ملامح، وجعلهم متساوين بأنهم لا شيء. الاختلاف هو العلامة الفارقة للفردية، والأثر الكاشف للحرية، انتعاشه يفتح الطريق إلى صيرورة المواطنين الأحرار كل شيء. نحن أحرار لأننا مختلفون، لا لأننا متشابهون. ركنا المواطنة هما المساواة والحرية، الأولى مؤسسة في التشابه والتماثل، والثانية -أي الحرية- مؤسسة في الاختلاف والتفاوت. هكذا هي الأمور، ومن هنا تأتي العلاقة الوثيقة بين المواطنة والفردية.

وتتجلى الفردية بالسلب في ما تبقّى من المظاهر «الجماهيرية»، أو القطيعية، لدى محازبي السلطة ومواليها وأتباعها، وفي الخوف الرجيم من الحرية، والخوف من المجهول، مثلما تتجلى في ارتباك الأحزاب العقائدية المتفسخة، كحزب البعث والأحزاب التابعة له في ما كان يسمى الجبهة الوطنية، أو المتكلسة، كالأحزاب العقائدية المعارضة، التي تلهث خلف الثورة محاوِلة الإمساك بزمامها وقيادتها، بغية احتوائها والتلاعب بها أو الالتفاف عليها. هذا الحكم لا ينطبق بالطبع على أعضاء هذه الأحزاب الذين انعتقوا من ربقتها كلياً أو جزئياً، إذ غدت بناها الفكرية والسياسية والتنظيمية قيداً يشل حركتهم ويهدر طاقاتهم. الاستقالات الفردية والجماعية من هذه الأحزاب، ولا سيما من حزب البعث، والانشقاقات الفردية والجماعية من الجيش العقائدي «جيش البعث»، خير شاهد على ذلك.

يدّعي الكاتب أن يقظة الفردية المرتبطة بالمواطنة، كما سبقت الإشارة، هي العلامة الأبرز على العمق الإنساني للثورة وطابعها الوطني الديموقراطي، وعلى سلميتها (المغدورة، وسيعيد السوريون إنتاجها) بصورة أساسية، وهي الدليل الأكثر سطوعاً على انبثاقها من القاع الوجودي للسوريين، الذين انتهك الاستبدادُ (القوميُّ الاشتراكي الإسلامي) المُحْدَث وجودَهم الإنساني، فجعل حياتهم قفراً وقاعاً صفصفاً، وحرمهم من أن تكون لهم حياة اجتماعية واقتصادية وثقافية وأخلاقية عامة، غير حياة حزب البعث وطغمة من الفاسدين الذين تكشفوا عن مجرد لصوص ومجرمين بجرائم موصوفة. كما حرمهم من مجال وطني عام هو الدولة، التي صارت «دولة البعث»، مثلما حرمهم سائر الفضاءات العامة، حتى أرصفة الشوارع.

ما كان للثورة السورية أن توقظ الفردية من نومها لو لم تكن ثورة الشابات السوريات اللواتي لم يتصالحن مع الاستبداد، والشباب السوريين الذين لم يرضخوا له. لذلك لا يزال الرهان معقوداً على أنها ثورة على الاستبداد بجميع أشكاله ومظاهره وصوره، ولا سيما الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، المتضامنين تاريخياً في كل زمان ومكان، وثورة على البنى البطريركية وما تعيِّنه من علاقات تبعية وولاء، وما تفرضه من طاعة وامتثال.

لعل ما تشكو منه الأحزاب التقليدية الهرمة في ثورة الشباب، أعني كثرة التنسيقيات والمجموعات والهيئات والائتلافات على الأرض، أو كثرة المدونات والصفحات الفردية والجماعية على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي... لعل ما تشكو منه الأحزاب التقليدية هو من أهم ميزات الثورة السورية وعوامل حيويتها وديناميتها، ومما يحول دون هيمنة هذه الأحزاب عليها. أجل، إنها «فوضى»! ولكن من قال إن الفوضى ليست شقيقة الحرية وأساس النظام؟

من هذا المنظور، الذي يبدو ثانوياً في الظاهر فلا يعبأ به كثيرون، يعتقد الكاتب أن الثورة السورية افتتحت مرحلة جديدة كلياً في تاريخنا الوطني، لن تنتهي بسقوط السلطة، بل تبدأ بعد ذلك، إذ ينفتح التناقض والصراع هذه المرة بين الحداثة والتقليد، وبين الديموقراطية والاستبداد، وبين العلمانية وسلطة «وزراء الله» على عقول الأفراد وضمائرهم.

يقظة الفردية هي يقظة الإنسان في الفرد، ويقظة خصائصه الرئيسة: المعرفة والعمل والحب، فلا يتوقعنَّ أحد أن تعود شابات سورية وأن يعود شبابها إلى «حظيرة الحيوان»، التي وصفها جورج أورويل، سواء حظيرة المجتمع البطريركي أو حظيرة السلطة الشمولية.

* كاتب سوري

==========================

النصر لسورية

عبد الحليم قنديل

القدس العربي 012-03-11

انخلع قلبي لصورة الصبي الباسل الناطقة بالهول العظيم الذي يجري في سورية الآن، باكيا حزينا، في ذروة انفعاله ولوعته على استشهاد أبيه وأسرته برصاص قوات النظام السوري، ومصمما على الأخذ بالثأر لأهله من بشار شخصيا .

إنها دائرة الدم والنار التي يشعلها نظام آيل للسقوط، ومصمم على حرق سورية كلها، وتدميرها بشرا وحجرا، معتقدا أنه ينجو بنفسه، ومتوهما أنه يحقق النصر في ميادين الدم، بينما يلحق بنفسه الهزيمة الكاسحة، ويخرج من التاريخ مجللا بالعار الذي يستحقه .

تصور النظام السوري لفرط غباوته أنه ينتصر بتدمير 'حمص' قلعة الثورة، وجرد حملة أخرى لتدمير 'إدلب'، وعلى ظن أن التدمير الوحشي المنهجي، وقتل الآلاف، وجرح عشرات الألوف، وإشاعة الفزع، على ظن أن الهجوم العسكري سوف يقتل الثورة، ويطفئ شعلتها، ويضمن لحكم العائلة الناهبة طول البقاء، بينما هو يحفر قبره بيديه، ويعجل بإجراءات ومراسم الدفن .

وليست القصة في معارضات الخارج أو الداخل، ولا في الجيش الحر، ولا في المجلس الأعلى، ولا في التعبئة العربية والدولية ضد نظام بشار، فهذه كلها مشاهد مختلطة، فيها الصالح والطالح، وفيها الطيب والخبيث، ولا تريد كلها بالضرورة خيرا لسورية، وما من تدخل دولي عسكري بالذات يمكن أن يكون مفيدا لقضية الثورة، وبقدر ما يحمل الفائدة الأكبر للنظام المتداعي، ويعطيه الفرصة للإيغال في دم السوريين، وتغطية جرائمه بإدعاء الدفاع عن سورية ووحدتها وترابها المقدس، خاصة أن السابقة القريبة في ليبيا تبدو مفزعة بنتائجها، وفتحت الباب لتقسيم ليبيا وإفناء دولتها ونهب ثرواتها، وبأبشع مما فعل المقبور معمر القذافي .

ليس هذا كله هو الموضوع، بل مايجري على الأرض هو أصل القصة، و'حمص' البطلة التي اعتقد النظام أنه دمرها، حمص ذاتها هي التي تقود الثورة، و'حي بابا عمرو' الذي استحال أنقاضا هو أيقونة الثورة، ودم 'حمص' السيال هو فتيل الثورة، والتي تنتقل شعلتها الآن من ضيعة إلى ضيعة، ومن مدينة إلى مدينة، ومن الشمال والجنوب إلى القلب السوري، ومن 'درعا' إلى ريف دمشق، ومن 'دوما' إلى 'حي المزة'، ومن المدن الصغيرة إلى دمشق الكبرى، دمشق التي بدت صامته شهورا طويلة ثقيلة حزينة، وبدأت في التململ قرب نهاية العام الأول للثورة، بدأت تخرج عن نص الصمت، وإن كانت تحركاتها إلى الآن في حكم البشائر الأولى، فغدا تنهض بعنفوانها الكاسح المزلزل، وتنهض معها حلب، فقد نجحت مدن الشمال والجنوب في إنهاك النظام الطاغي، وكسبت حرب الثورة بالنقاط، وتنتظر الفوز الأكيد بالضربة القاضية حين تثور حلب ودمشق .

فقضية سورية ليست محض مأساة إنسانية، وقتلى السوريين ليسوا مجرد ضحايا، انهم شهداء عند الرب وعند الشعب، ودمهم الزكي هو الذي يحرر سورية من أغلالها، ويطلقها من أصفادها، ويعيد النجوم إلى مداراتها، ويؤكد الطبيعة الوطنية الذاتية للثورة، والتي تجمع كرامة الوطن إلى كرامة إنسانه في قبضة يد الثائرين، والذين لا يزيدهم القمع إلا ثباتا، ولا يخيفهم الموت الذي هو أفضل من المذلة، ولا ترعبهم دبابات النظام، ولا قواته، ولا حقده الأعمى الهمجي المدمر للأخضر واليابس، ولا جنونه الدموي الذي يفوق طبع مصاصي الدماء، فسورية اليوم ليست هي التي كانت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وقتها كان بوسع نظام الأسد الأب أن يدمر حماة في مذبحة تقشعر لذكرها الأبدان، وأن يخيف السوريين بما جرى في حماة، وأن يروع رغبة الثورة عليه، وكان التعتيم وفرض الصمت وسيلته وغايته، وهو مالم يعد ممكنا اليوم، وحتى لو ارتكب نظام الأسد الإبن ألف مذبحة مماثلة، فالثورة السورية تنهض اليوم في سياق وزمن مختلف تماما، وتتصل بالنسب القومي لثورات جماهير الربيع العربي، وبالثورة الهائلة في وسائل الاتصال، والتي جعلت الثورات كما الحروب على الهواء، وجعلت مشاهد القتل منقولة بالصوت والصورة، تماما كمشاهد الصمود، وقوافل المتظاهرين الثائرين المتحدية للخطر، ومشاهد الدراما المتدافعة، وبكل عناصر الأسى والنبل والحماسة فيها، هذه المشاهد في مجموعها، وفي تدفقها اليومي، تخترق حواجز العين والقلب، وتزيد الجرأة والتصميم، وتضاعف موجات الثورة، ولا تدفعها لتراجع كما يظن الذين فاتهم قطار الزمن، وسكنوا في أزمنة خوف انقضت عهودها .

ولا يشك أحد في أن النظام السوري سوف يواصل غباوته، ووحشيته، واعتماده على نظرية الحل الأمني والعسكري، وهو بذلك لايحل مشكلته التي لا حل لها، بل يحل نفسه، ويختصر في بقية عمره، ويستعجل نهايته، ولا تبدو أمامه سوى فرص نهاية أكيدة، يستبعد منها بحكم الطبع الغلاب صور النهايات الأقل بؤسا، ويمضي في ثبات إلى أسوأ النهايات، وحيث لن ينفعه دعم أصدقاء من خارج سورية، ولا حتى نصير في الداخل، ولا حتى الحروب الطائفية التي يندفع إليها، فسوف تكون جماعة بشار الأسد عبئا على الجميع، وضحية مفضلة للكافة، وبمن فيهم طائفة العلويين ذاتها، فسورية ليست كحال العراق بتركيبه الطائفي الإثني بالغ التعقيد، وفي التكوين السوري عناصر استقرار هائلة، ففيه عمود فقري تمثله الأغلبية المسلمة السنية، والتي تصوغ الإيقاع الأساسي في لحن الامتزاج الوطني السوري، وأي مخاطرة بالصدام معها تعني خسارة مؤكدة للآخرين، وتيارات التفكير والعمل فيها لها طبيعة وطنية غلابة، وطبعها العروبي يجعلها بمثابة صمام الأمان للوحدة الوطنية السورية .

وربما لا يكون ممكنا الآن افتعال حديث عن حوار مع النظام، فلم تعد جماعة بشار تمثل نظاما سياسيا، ولا حتى دعوى حزبية، بل جماعة من اللصوص والقتلة المحترفين، وعصابة من المجرمين، تستعين بالتدخل الأجنبي لكفالة اغتصابها للحكم، وتريد أن تدمر سورية وتقتل السوريين جميعا، ولن يفلح القتلة حتى في استمرار سيطرتهم على الجيش النظامي، وسوف تتوالى انشقاقات السياسة والسلاح، وتحقق الثورة نصرها النهائي.

' كاتب مصري

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ