ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 30/04/2012


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

الرسم بالكلمات / قطر والملف السوري

وضحة أحمد جاسم المضف

الرأي العام

29-4-2012

قبل سنوات سأل وزير الخارجية الروسي أندريه جروميكو نظيره السوري إلى متى تشترون السلاح وتجمعونه، فمتى تهجمون على إسرائيل؟!... الجواب اليوم يبدو واضحا فجمع السلاح كان لصدر الشعب السوري.

من خلال متابعتي لدور قطر في الملف السوري، لا يسعني إلا أن أقف إجلالا وإكبارا لدولة قطر. وعلى ما يبدو أن الجانب الروسي سيخسر كثيرا خصوصا بعد اللقاء الذي تم في إحدى الردهات الجانبية في مجلس الأمن المخصصة للقاءات الوفود المشاركة بين رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم اللاعب السياسي الفذ في الملف السوري والمندوب الروسي فيتالي تشوركين.. استهل الشيخ حمد حديثه عن أهمية اللحظة التاريخية الحالية للموقف الروسي في ما يخص حق النقض (الفيتو)، وقدم الشيخ حمد عرضا سخيا لروسيا في حال تم تمرير القرار، مفاده إن الدول العربية مستعدة لإعادة النظر في خطط التسلح الخاصة بها والتي تبلغ الميزانية المرصودة لها في الأعوام المقبلة حوالي 100 مليار دولار، منها 10 مليارات جاهزة لشراء سلاح روسي بها، على أن تكون حصة روسيا لا تقل عن الثلث من مجمل مبلغ ال100 مليار دولار، بينما على الجانب الآخر لا تجني روسيا من صفقات الأسلحة مع سورية أكثر من مليار ونصف المليار دولار، ولكن على يبدو أن المندوب الروسي تشوركين أعمى سياسيا ولا يرى سوى حدقة عينه... رد بتشنج مغرور «أنا على ثقة أن تفسيركم للموقف الروسي خاطئ تماماً وأن من أوحى لك باستعداد روسيا لعقد صفقة على حساب علاقتها مع سورية واهم وغير مدرك للأبعاد الجيوسياسية للموضوع وبالتالي فهذه الرشوة الواضحة بالنسبة لنا عرض غير مطلوب ولا يدخل في إطار حساباتنا السياسية...» يبدو من رد السفير الروسي أنه أقفل جزئية غاية في الأهمية وهي أن السياسية لا دين لها والتحالفات السياسية جائزة ولا أحبذ قول الرشوة السياسة، ولكن ماذا نطلق على تحويل أموال الأسد ورامي مخلوف من دبي إلى روسيا ونقل جزء كبير من احتياط النقد السوري والتوصيل كان مجانيا عبر الطائرات؟، كما تواترت الأنباء أن حق النقض (الفيتو) كان مقابل عقود نفط وغاز، بالإضافة إلى تسهيلات عسكرية في ميناء طرطوس السوري لصالح روسيا أليست كلها رشوة سياسية حسب تصنيف المندوب الروسي؟!

أيقن رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد فشل كل المحاولات وأنهى اللقاء بموقف صارم وقوي قائلاً «إذا روسيا مصرة على كسر القرار العربي وإعلان الحرب على العرب فقد قررتم أن تخسروا العرب وستدفعون ثمن هذا الموقف غالياً»... أنهى حينها تشوركين الجلسة واضعاً يده على كتف الشيخ حمد وبغطرسة الروسي قائلا «لدي اجتماع مع الجعفري مندوب سورية لتنسيق المواقف، ولكن أريد أن أذكرك فقط أن دولتكم لم تكن موجودة على الخارطة يوم كانت أساطيل روسيا تجوب الخليج قبل مئتي عام، وتذكروا أن التاريخ يعيد نفسه أحياناً على شكل مهزلة، فلا تكونوا أبطالاً كوميديين لأن لا مجال للضحك في الدراما الجارية حالياً»... وسارت روسيا بخطى واثقة نحو الفيتو الذي «سمم» علاقات روسيا مع العالم العربي الذي ستدفع ثمنه روسيا غاليا في المستقبل، وفي الوقت ذاته أعطى الفيتو إشارة سيئة لبشار الأسد للقتل والتنكيل والنحر وكل يوم يوارى الثرى المئات من الشعب السوري بزفة وزغاريد تغيظ الأسد وتقض مضجعه.

لا أريد أن أدخل في تفاصيل اللقاء الذي دار بين الجانب القطري والروسي الذي يبدو من وجهة نظري خطيرا للغاية... ولكن يبدو أن قطر ممثلة برئيس وزراء خارجيتها لم تتراجع أمام صلابة وحسم الجانب الروسي وردت على الغطرسة الروسية برفع الغطاء العربي عن سورية، كما أعطت درسا لروسيا كيف يعلب السياسيون العرب الكبار؟، حيث قامت قطر بتوقيع اتفاقيات وصفقات مع الصين ستقلب الموازين في المنطقة قريبا جدا، وأولها رحيل بشار الأسد وليس لدي أدنى تصور عن شكل الرحيل، ولكن على أقل تقدير سيكون الرحيل مأسويا للغاية، وبإذن الله على يد المنكوبين أبناء حمص أطيب أهل الشام.

=================

جيلٌ سوري عملاقٌ قادم

أي رقيٍ ٍ بات يميز هؤلاء الشباب؟ والأروع أن يظهر هذا في خضمّ الفعل الثوري. وأن يقترن بمحاولتهم تعميمَ معنى الانتماء الوطني الواحد

د. وائل مرزا

الأحد 29/04/2012

المدينة

(ورِثنا هذه التّرِكة عن أهلنا ولن نورثها لأبنائنا مهما حصل). سمعتُ هذه العبارة بالحرف من أحد ثوار دمشق الشباب في معرض تفسيره للنشاطات التي يقوم بها مع رفاقه على الأرض. أعرف ويعرف الكثيرون شبابَ سورية، والدمشقيين منهم خصوصاً، وأجزم أن روحاً جديدةً تسري اليوم في أجسادهم، لم يسبق لها أن عبّرت عن نفسها بهذه الطريقة في التاريخ المعاصر.

دخل هذا الجيل السوري الجديد في فضاء العمل العام من أوسع أبوابه. فالثورة أكبر عملٍ عام يمكن أن تقوم به الشعوب.

صغُر الخوف لديهم وتقلصت مساحة الأنا الفردية، فكبرت طموحاتهم واهتماماتهم، وصارت الأنا الجماعية، أنا الوطن والشعب، محور تفكيرهم وعملهم..

لهذا، باتت القطيعة النفسية والفكرية والعملية كاملةً بين الغالبية العظمى من هذا الجيل وبين النظام السوري طبيعيةً وبدهية. إذ لم يعد النظام في نهاية المطاف بالنسبة إليهم إلا ميراثاً بغيضاً يجب عمل كل شيءٍ لكيلا يرثه أبناؤهم بأي حال.

لايظهر حجم المفارقة إلا حين نتذكر ماذا فعل النظام على مدى عقود لكي يُشكّل شخصية هؤلاء بحيث تتمحور حول معاني النفاق و الذل و الانتهازية و العبودية و الخوف، أو مزيجاً من كل تلك الصفات. كان تحقيق ذلك الهدف مقصد كل نظام تعليمي وإعلامي وثقافي، وكل منظمةٍ واتحاد، وكل نشاطٍ وفعالية.

وإلى لحظة قيام الثورة السورية، كان النظام يعتقد، ومعه أغلبُنا، بأنه نجح في تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي. وأننا فقدنا في سورية جيلاً أو جيلين في متاهات الضياع والسطحية والتفاهة بكل معانيها. لكن أقدار الله كانت تُخطّطُ شيئاً آخر.

تستعصي على العدّ الشواهدُ والأمثلة إذا أردنا الحديث عن النقلة التي حدثت لدى الشباب السوري. وأكتفي بمثال عن مجموعة (اتحاد شباب دمشق للتغيير). شريحة مفعمةٌ بالنقاء والعنفوان والإبداع والمثابرة والتخطيط. تعمل بفعاليةٍ ونشاط في قلب دمشق.

لفت انتباهي عنصرٌ من عناصر النقلة التي نقول أن شباب الثورة يعيشونها، تتمثل في ذلك المستوى من الرقيّ الذي بات يميّز أعمالها وأقوالها من خلال حادثة صغيرة وضعها الاتحاد على صفحته وسأنقلها كما كُتبت.

«منذ فترة وعندما قام بعض أبطالنا بقطع طريق الشام سنتر أرسل لنا أحد الإخوة هذا الاستفسار وربما الإعتراض :ياشباب ممكن تعطوني فائدة وحدة من اغلاق الطرقات.. والدتي كانت مرة باحدى السيارات اللي تسكر عليه الطريق و اتخيلت انو في تفجير او شي رح يصير.. في ناس كتيير ممكن تكون بها السيارات ما بتتحمل.. ما بعرف؟؟

فقام فريق الادارة بإجابته كما يلي :نسأل الله تعالى لوالدتك ولك تمام الصحة والعافية وطول العمر. ولكن نحن أيضاً لنا أمهات كثر في حمص وإدلب ودرعا،عانين كثيراً من رؤية شياطين الموت تتراقص لهن من بين دخان القصف، فأردنا أن نرعب الأمن العسكري وغيره من فروع الأمن على قدر جهدنا و طاقتنا المتواضعين، فهل هذه الفائدة تكفي؟؟

سلاماتنا للوالدة، وقبِّل لنا يديها نيابة عنا، واطلب منها الدعاء لأبنائها الشباب، وانصحها بعدم التجول كثيراً في دمشق هذه الأيام، فصحيح أننا قد نقطع بعض الطرقات لعدة دقائق، ولكن النظام المجرم يفتعل التفجيرات المجرمة كما تعلم ويعلم الجميع، وعندها أظنك لن تجرؤ على مساءلته لماذا افتعل هذه التفجيرات..

ثمة كمٌ من المعاني الرائعة في هذه الواقعة البسيطة. تأملوا تلك العبارات أي رقيٍ وأي سموٍ بات يميز هؤلاء الشباب؟والأروع أن يظهر هذا في خضمّ الفعل الثوري. وأن يقترن بمحاولتهم تعميمَ معنى الانتماء الوطني الواحد والمصلحة العامة وأهمية إدراكها من قبل الجميع، خاصةً في هذه المرحلة.

ليس غريباً أن تكون هذه ممارسات مجموعة ترفع في مظاهراتها في الجامعة شعاراً قد لايخطر ببال الكثيرين يقول: «ستعود جامعاتنا من أحسن جامعات العالم بعد أن نحررها من أعداء العلم والحضارة»!..

ستعود جامعاتنا ياجيل المستقبل العملاق، ومعها بلدنا الجميل. وستكونون أكبر عاملٍ في بناء سورية الجديدة بعد أن تمحوا مع رفاقكم من تاريخها، وإلى الأبد، كل أثرٍ لأعداء العلم والرقي الإنساني والجمال والحضارة.

waelmerza@hotmail.com

=================

الكتابة تحت إطلاق النار

عمر قدور

المستقبل

29-4-2012

لحظة كتابة هذه السطور قد يحدث مثلاً أن يسمع كاتبها، أيّ كاتب لها، صوت انفجار قريب، تليه رشقات كثيفة ثم متقطعة من الرصاص. وقد تأتي الطلقات متقطعة وباردة الأعصاب ما يدفع إلى الظن بأنها طلقات قناص يلاحق من سطح بناء عالٍ ضحاياه المارين في الشارع. سيكون من حسن حظ هؤلاء الضحايا إن أتيح لهم التظاهر أولاً والهتاف بإسقاط النظام. قد تمر مروحية ويطغى هديرها على الجمل التي تتهيأ في الرأس، فتتداخل الأسئلة فيما بينها: تُرى أين ستقصف الهيلوكبتر؟ أهي ماضية إلى ريف حلب البعيد؟ أم ستفرغ حمولتها من الرصاص على رؤوس الناس في حمص أو حماة؟ أو لعلها لن تبتعد عن دمشق وتتهيأ الآن للانقضاض على واحدة من ضواحيها القريبة؟

في مثل هذه اللحظات سيكون من الترف البحثُ عن جذر مشترك لكلمتيْ "ضحية" و"ضاحية". في الواقع قد لا يُسمع صوت انفجار قريب، وقد تكون الطلقات الآن في مكان ناءٍ بحيث لا يصل صوتها، وقد لا تمر طائرات الهيلوكبتر لأن الدبابات تنجز مهمتها على أكمل وجه. قد يتوقف الأمر عند خبر اعتقال إحدى الصديقات أو الأصدقاء. قد تقرأ الخبر وأنت تتصفح صفحتك على الفيس بوك. سيتناقل الأصدقاء المتبقون الخبرَ، سيضع أصدقاء آخرون "Like" على الخبر؛ مع كل خبر اعتقال تمثُل المفارقة ذاتها. فالمستخدم السوري يضع "Like" التي تدل على الاستحسان بمعنى أنه أخذ علماً بالخبر. بعد قليل سيتم إنشاء صفحة خاصة بالمعتَقل وسيكون اسمها على الأرجح "الحرية للمعتقل...." أو "أعيدوا إلينا...."، وقد لا يتسع الوقت لتعريف وافٍ بمَن أُنشئت الصفحة لأجله؛ ربما في مناسبة أخرى إن انتقل من صفحة "الحرية للمعتقل...." إلى صفحة "كلنا الشهيد...."، ربما عندما ينجز التعذيب مهمته على أكمل وجه. أنت أيضاً لست بمنجى عن هذا المصير، تفكر بذلك دون أن تستبعد الخاطر التعيس من رأسك، وأيضاً دون التفكير بتفاصيله وتبعاته المروعة، تتقبل هذا الاحتمال باستسلام وتضع لنفسك "Like" بمعنى أنك أخذت علماً به!

بعد مضي قليل من الوقت لا يعود مهماً إن كنتَ قد سمعت إطلاق النار حقاً، فمن المؤكد أن الرصاص يُطلق الآن في مكان ما، وأن عدد الشهداء سيرتفع مع كل فقرة في النص الذي تنوي كتابته، وسيوالي ارتفاعه عندما سيقرأه قارئ ما في مكان آخر بعيد. بالطبع ليس هناك سباق بين الكتابة والقتل، فالأخير يمضي قدماً بلا انقطاع. القاتل لا يحتاج فسحة من التأمل، ولن يتوقف عند الجملة الأخيرة ليفكر في القرابة البلاغية بين "فسحة من التأمل" و"فسحة من الأمل". في وقت لاحق، بعدما يتم إيقاف القتلة، قد تُكتب نصوص أدبية عنهم، قد نتخيل واحداً منهم يتأمل ضحيته ملياً قبل قتلها، حينها قد ترتجف عدسة القنص مرات قبل أن تنزل إلى رأسها أو صدرها. لكننا الآن نعلم أن القتلة يطلقون النار على نحو غريزي، وأن المصطلح العسكري "إطلاق النار غريزياً" تعدّى هنا دلالته على الدقة في التصويب بلمح البصر ليأخذ معنى غريزة القتل.

تخجل أحياناً من تسرب ما هو شخصي أو عاطفي إلى النص. تبدو انفعالاتك تجاه الألم ترفاً قياساً إلى الألم نفسه. بصرف النظر عما أنت عليه في الواقع؛ في الكتابة تصبح ضحية من الدرجة الثانية أو الرابعة، وترى من الإنصاف أن تؤجل الكثير مما يعتمل في داخلك إلى أجل آخر. في المحصلة أنت شخص ما يزال يمتلك يدين وعينين ولوحة مفاتيح للكتابة! لكنك تتراجع عن هذه الفكرة، لا لأهمية الكتابة ولكن لأنك تدرك أهمية التشبث بالتفاصيل الصغيرة للحياة. عند ساعة الخطر تختلط المعايير، وما كان سابقاً أدنى قيمة ربما تصبح له قيمة استثنائية. لو أن الشهداء عادوا لكانوا الأجدر بالحديث عن الصور أو الأفكار غير المتوقعة التي داهمتهم لحظة الموت، لكننا من خلال معرفتنا بسيرة البعض منهم قد نُفاجَأ بالحياة الشخصية الاعتيادية التي عاشوها حتى اللحظات الأخيرة، بالتأكيد لم يكونوا يعدّون أنفسهم لتلك اللحظة حتى وهم يتوقعونها.

يصعب القبض على التغيير الذي أحدثته الثورة في الكتابة، فيما بعد يمكن تفحص التغييرات المفترضة وتفنيدها، أما الآن فالثورة تبدو كأنها تكتب نصوصها المتعددة بتعدد كتّابها، ثمة فورة يعيشها السوريون في التعبير عن واقعهم الحالي، هي كحال من أُجبر طويلاً على الصمت واندفع الآن ليقول كل شيء دفعة واحدة. ثمة أيضاً السباق مع الزمن الذي قد لا يسمح لبعضهم بإتمام ما يريدون قوله؛ ليس الزمن بالضبط، هي بالأحرى الخشية التي تتولد من الكتابة تحت إطلاق النار، من هذه الجهة قد يكون هناك سباق بين الكتابة والقتل، فسنستذكر المقولة القديمة عن أن الكتابة فعل مضادّ للموت، ولكن هذه المرة بالمعنى الفظ والمباشر لا بالمعنى الوجودي العميق الذي درج استخدامه.

أكثر من سنة، لا شك في أنها مدة كافية للكتابة عن ثورة، لكن ليس إن كانت الثورة ما تزال مستمرة، فشيطان الثورة لا يكف عن ابتداع التفاصيل التي تجعل كل كتابة غير ناجزة، بل يجعل من بعضها متقادماً بفارق ضئيل من التوقيت. يتقاطع زمن الثورة وزمن الكتابة في أنهما زمنان فنّيان بامتياز، وبهذا يختلفان عن الزمن الاعتيادي الذي يُحتَسب بالأيام والأشهر. ومع ذلك يفترقان من حيث أن نصّ الثورة أكثر كثافة وثقلاً بينما لم يحن الوقت لكي تتخفف الكتابة من ذلك الثقل المعنوي. لم يحن الوقت لتتحرر الكتابة من الثورة. من جهة ثانية يصبح الزمن الشخصي الذي تقتضيه الكتابة عزيزاً، إذ يصعب التمسك بالإيقاع الخاص تحت وقع الهدير العام. الترقب أيضاً أضحى فعلاً يومياً، لذا بات اصطناعه في الكتابة يحتاج حنكة تفوق المعتاد.

إنها الكتابة على مفترق زمنين، وليس افتراضاً أدبياً بحتاً أن المروحيات عبرت في سماء النص، أو أن رشقات الرصاص سُمعت من مكان قريب، ليست هذه حيل فاقعة من كاتب يريد استدراج القارئ أو استدرار تعاطفه. بل على العكس، لقد أخفق النص في وصف الصورة اللامبالية لذلك القناص، فهو متربص الآن هناك على السطح، يدخن سيجارة من النوع الرخيص، ولا يكترث بنوعية الهدف الذي يتحرك في الشارع، ولا يكترث إن أفلت أحدهم من طلقاته ما دامت ستصيب آخرين في المرات القادمة، وسيكون غير مفهوم بالنسبة إليه أن نتحدث عن أبرياء. ولأن الانفجارات التي حدثت في مطلع النص لم تبرح رأسك تفتح التلفزيون على إحدى المحطات في غير موعد نشرة الأخبار. تتابع الشريط الإخباري الذي يورد أخبار الأمس متداخلة مع أخبار اليوم. تتأكد من حدوث الانفجارات الضخمة ولكن في مدينة سورية أخرى. هذه المرة سقطت صواريخ النظام على حي "مشاع الأربعين" في مدينة حماة، فهدمت الكثير من المنازل وأودت بحياة العشرات. في الترجمة المحلية لكلمة "مشاع" أنها تدل على أبنية عشوائية شديدة التواضع، أبنية ربما ينهار بعضها بفعل أصوات الانفجارات وحسب ولا تحتاج إصابات دقيقة بالصواريخ. "مشاع الأربعين"؛ يذكّرك الاسم بعنوان "خلوة الغلبان" للروائي المصري الراحل ابراهيم أصلان، اسم يصلح عنواناً لنص أدبي. ولكن ليس الآن، ليس عندما ما تزال الجثث ممددة أو مقطعة الأوصال تحت أنقاضه.

=================

الجَولان المحتل: صراع إرادات أهلية وسباق تخريب محموم بين العدوّ والنظام!

حسان شمس()

المستقبل

29-4-2012

إنه لمِن سخريات القدر وغاية المرارة، أن يعيش المرء تحت سطوة احتلال إسرائيلي غاشم حالة استقرار تزيد عما يعيشه شعبه داخل الوطن! فعام ويزيد، وماكينة إجرام النظام السوري تُعمِل قتلا وتدميرا وتهجيرا واعتقالا في أربع جهات الوطن؛ فيما عيون الجولانيين، كما هي على الدوام، شاخصة إلى بلدهم وشعبهم منذ وطأت أقدام جنود العدوّ أرضهم.

أهالي الهضبة المحتلة، الذين سطّروا أروع ملاحم البطولة في صراعهم الطويل والمرير مع العدو الإسرائيلي، ولم يتركوا قضية عادلة إلا وقفوا إلى جانبها، مِن فلسطين إلى لبنان فالعراق؛ هم أنفسهم، أو إن استقام القول بعض مَن جيّر لنفسه منهم سلطة لا يملكها؛ ارتأوا تقبيض عذابات الأهل وتضحياتهم ومواقفهم المشرّفة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبالمجّان، إلى غير مستحقيها في وطنهم! وإلا، فكيف يستقيم لِمَن قاوم ظلم الاحتلال وقهره، طيلة تلك السنين، أن يزكّي ظلماً آخر أشدّ مضاضة في وطنه؟

مِن النافل التذكير، أنّ مَن يدعمون الثورة في الجولان المحتل جهارا، نظّموا العديد مِن النشاطات والمظاهرات نصرة لها، وكانوا أول جهة، داخل الوطن وخارجه، تصدر بيانا واضح اللهجة عقب أسبوع على اندلاعها، رسمَ سقوفا مرتفعة وصل إليها الثائرون في وقتنا الراهن. لكن الصحيح أيضا، أنّهم ظلوا شريحة محصورة العدد، مورست عليها كافة أشكال التخوين والمضايقات والاعتداءات مِن قبل تيار أعمّ، تمادى المتطرفون فيه في ابتداع فنون الرقص على دماء شعبهم المذبوح وعذاباته، وتقديم قرابين الطاعة والولاء لنظام لم يكتفِ بالتخلي عن الجولان عام سبعة وستين في ظروف ملتبسة وحسب، ولا ببيع الجولانيين والشعب السوري عموما وعود تحرير مؤجلة مِن غير رصيد لأكثر مِن أربعة عقود؛ بل سجّل إخفاقا بمجمل القضايا التي ظل يتاجر ويقرقع بها، إلا في تصحير كل يا يمتّ إلى الحياة الإنسانية والسياسية في سوريا بصلة وإعدامها؛ ما جعله يمثّل كارثة وطنية، بكل مقياس، في عيون مَن ثاروا عليه وكثيرين غيرهم.

جمعة "بروتوكول الموت" في سوريا، كانون أول المنصرم، والتي كانت مجدل شمس المحتلة إحدى ميادينها، إذ شهدت مظاهرة لمؤيدي الثورة؛ صدحت فيها الحناجر لحرية الوطن وإسقاط النظام؛ شكّلت نقطة تحوّل بالغة على الساحة الجولانية، إن لجهة ترسيخ الانقسام والفرز بين مؤيّدي النظام ومعارضيه، أو لناحية فضح نزق أتباع النظام واحتياط البلطجة الجاهز لديهم للاستخدام بوجه كل رأي مخالف.

مِن "مآثر" نظام دمشق، أنه نجح أخيرا في ما عجزت إسرائيل عن فعله طيلة أربعة وأربعين عاما، لجهة شرخ المجتمع الجولاني، أفقيا وعاموديا! فلم يسبق لأهالي الهضبة المحتلة الذين وقفوا، منذ بداية الاحتلال، صفا متراصّا في وجه مخططاته الرامية إلى سلخهم عن انتمائهم السوري، رغم كل ما عصف بهذه المنطقة مِن تجاذبات وصراعات استقطاب، أن لجأوا إلى العنف لفضّ إشكالاتهم وفرض أجنداتهم على بعضهم البعض. فمحازبو النظام، الذين أقاموا العديد مِن مظاهر التأييد له من دون أي تدخّل مِن أنصار الثورة، لم يكتفوا بالاستهانة بالدم السوري المسفوح، ومحاولة تظهير مواقفهم على أنها المعبّر الحصري عن إرادة الجولانيين، في مسعى سافر لتزوير إرادة الأهالي، بل اعتمدوا كل صنوف التشهير والتهديد والإرهاب ومحاولة إقحام الهيئة الدينية للضغط على المعارضين وكم أفواههم، لمنعهم مِن إبداء أي تعاطف مع الثورة. وأخيرا وليس آخرا، ممارسة العنف الجسدي ضدهم؛ في مظهر "تشبيحي" لم يسبق لقرى الجولان المحتل أن عرفت له مثيلا. هذا عدا حملات التشهير المنظّمة والتحريض التي يشنّها أتباع النظام بحقّ الأسير المحرّر وئام عماشة، والاعتداءات المتكرّرة على منزله، جرّاء مواقفه الداعمة للثورة ورفعه الصوت عاليا بوجه النظام.

قد يجد المراقب للشأن الجولاني مسوّغا مفهوما (رغم لا أخلاقيته) لمن ربطوا مصيرهم، منذ زمن بعيد، بمصير النظام، وهم مقتنعون بالفعل برواياته التي ما انفكوا يلوكونها، وبأحقّية خلوده، واستمروا بالعمل على الساحة الجولانية بما يشبه "تكليفا شرعيا" منه؛ أو لبعض الموالين لاعتبارات نفعية، ممّن خصّص النظام لهم رواتب شهرية لقاء تضرّر مصالحهم تحت الاحتلال، أو لأولئك الذين قرأوا مِنح طلبة الجولان المحتل في جامعة دمشق وتصريف محاصيل التفاح الجولاني في الأسواق السورية على أنها (مكرمات مِن القيادة)، لا على كونها واجبا على دولتهم الأم لدعم صمودهم في أرضهم المحتلة، وأنها في المحصلة تأتي مِن جيوب دافع الضرائب السوري لا مِن جيوب النظام نفسه. وقد يلحظ أيضا تحفظات البعض المستندة إلى التفكير بذهنية أقلّوية وما ينتج عنها مِن مخاوف، مبالغ فيها غالب الأحيان! علاوة على مَن يشكّل الاحتلال لديهم حساسية مفرطة، أدّت إلى ما يمكن تسميته ب "فوضى مشاعر وطنية"، دافعة بهم إلى حصر الانتماء للوطن مِن بوابة الولاء للنظام فيه. أمّا أن تتصدّر بعض الشخصيات الجولانية الموسومة بتعاملها الموصوف مع الاحتلال الإسرائيلي، والمفترض أنها منبوذة اجتماعيا ووطنيا واجهة المهرجانات والمسيرات المؤيّدة للنظام، فذلك مبحث آخر، لن يتّسع له المقام في هذه السطور القليلة.

مِن دون شك، أنّ أميز ما قدّمته الثورة، هو تكثيفها مشهدا تراجيديا سوريا طويلا، يعيشه الشعب منذ خمسين عاما ببضعة أشهر؛ إن لجهة إماطة اللثام عن عذابات السوريين وهول معاناتهم، أو لناحية كشف النظام عن وجهه الحقيقي وفائض الوحشية والإجرام الذي يتصف به. والحال، فأن يخوض نظام دمشق حرب "يا قاتل يا مقتول" داخل الأراضي السورية، رغم لاأحقيّتها ولاأخلاقيتها؛ فذلك لا يبدو بالأمر المستهجَن أو الشاذ عن ثقافته التي انتهجها منذ اليوم الأول لاختطافه الحكم؛ أما أن ينقل إستراتيجيته تلك إلى الساحة الجولانية المحتلة، دون الأخذ بالحسبان خصوصية هذه المنطقة، المتمثلة في خضوعها لاحتلال إسرائيلي منذ ما يقارب نصف قرن؛ فذلك يتجاوز كل مقاسيس الخسّة الأخلاقية والنذالة السياسية والوطنية!

لكن على المقلب الآخر، مَن ذا الذي يعطي نفسه حق الادّعاء أن غالبية أهالي الجولان المحتل يدينون بولائهم المطلق للنظام!؟ ومَن هو الذي يمتلك قدرة على قياس رأي عام لمجموعة ما في أجواء مشحونة بكل صنوف الضغط والإرهاب والتخويف، وفي ظل وجود مئات الأسر الجولانية التي لديها أبناء يدرسون في جامعة دمشق، علاوة على مئات العائلات التي شتّت الاحتلال شملها عام سبعة وستين بين الوطن والجولان المحتل، إضافة إلى تلك المحاذير التي ظلّت، غالب الأحيان، تتحكم بمسارات ما يُعرَف بالأقليات ومصائرها، سيّما أن نظراءهم في السويداء وجبل الشيخ لم يحسموا موقفم لصالح الثورة بعد؛ خلا بعض النخب والنشطاء، وذلك جرّاء ما انتهجه النظام بحقهم لعقود، مِن سياسات التهميش والتفتيت والقهر وشراء ضمائر بعض المتنفذين، ضمانا لإحكام قبضته عليهم، وجرّهم إلى قتال أهلهم واستخدامهم وقودا "لمعارك التحرير" التي يخوضها راهنا ضد شعبه وبلده؛ تماما على نسق ما فعلته إسرائيل بدروز فلسطين تحت يافطة حمايتهم، وأخفقت في تطبيقه على الساحة الجولانية!؟

ما ضاعف حظوظ نجاح العابثين في هذا المضمار وزاد مِن تأثير تلك الحسابات والاعتبارات، أنّ "أشباه الدول" التي ابتُليت بها شعوب المشرق العربي، عبر تسلّط ديكتاتوريات على بعض دوله عجزت عن توفير حد أدنى مِن الشعور بالأمان لشعوبها، سيّما الأقليات منها، الأمر الذي دفعها إلى زيادة الانعزال والتقوقع، واعتماد الخلوة والكنيسة والجامع والحسينية ملاذا أوحد لها وملجأ أخيراً. لكن في السياق عينه، ورغم كل ما سيق، فإن ما لا يمكن تبريره أو التسليم به، هو استفزاز بقية مركبات الشعب وتحديها واستعدائها، أو الاستقواء عليها بأنظمة شمولية مترنحة زائلة، اختارت ألا تحاكي شعوبها إلا بلغة الحديد والنار؛ ما قد يرتّب آثارا سلبية، وربمّا مدمّرة، لن يكون مِن السهل تخطّيها لأجل بعيد.

خطيئة النظام السوري الكبرى وما فاقم الوضع على الساحة الجولانية، أنه لم يوفّر حتى أهالي هذه القرى المحتلة، مِن دائرة عبثه الأمني والطائفي. وذلك تجلّى، على سبيل المثال لا الحصر، بالجهود الجبّارة التي بذلها على صعيد حرق وليد جنبلاط (درزياً) يوم كان صقرا في حركة "14 آذار"، عبر استحضار وئام وهّاب، غير مرّة، إلى تلّة الصيحات على خط وقف النار، شرقي مجدل شمس المحتلة، حيث يتخاطب الأهل في الجزء المحتل والمحرر بواسطة مكبرات الصوت، وإتباع ذلك بزيارات لكل مِن طلال أرسلان وسمير القنطار لذات الغرض؟ زد على ذلك حضور وهّاب الدائم في استقبال مشايخ الجولان المحتل أثناء زياراتهم السنوية إلى مقام النبي هابيل في سوريا، والتخريب المنظَّم الذي يمارسه، راهنا، في جبل العرب وجرّمانا وقرى جبل الشيخ، والذي ارتفع منسوبه، بصورة فضظة، بعد إعلان زعيم المختارة انحيازه المطلق للثورة السورية. ترى، هل كان لجنبلاط أن يُفسِد على النظام مساعيه أو الحد مِن تأثيرها، سواء في الجولان المحتل أو جبل العرب؟ كثيرة هي الأسباب التي تدعو إلى الاقتناع بذلك؛ لولا "انعطافته الدمشقية"، عقب "غزوة أيار"، التي وإن نجحت في تخفيف الاحتقان المذهبي في لبنان، لكنها أفقدته الكثير مِن وزنه ومدى تأثيره في الجوار.

بقي القول، إنّ أهالي الجولان، ورغم سنوات الاحتلال الطويلة والعجاف، ومحاولات الأخير الدؤوبة لفصلهم عن عراهم وأبناء جلدتهم، ظلوا على الدوام مشدوهين لدولتهم الأم ومنغمسين بكل تفاصيلها. فهواجس كثيرة وتساؤلات تدور في خلدهم هذه الأيام، عمّا ستؤول إليه أحوال وطنهم؛ إذ لسوريا في ذمّة إسرائيل ما مجموعه 1250 كم2، واثنين وعشرين ألفا مقيمين تحت الاحتلال، إضافة إلى نصف مليون مهجَّر داخل الوطن. صحيح أن منطق الكثيرين هنا يدفعهم إلى التفاؤل والاستنتاج، أنه بمجرّد زوال كابوس النظام عن صدور السوريين سوف يجعل قضية تحرير الجولان تحصيل حاصل؛ لكن ذلك ربّما يمتد لأجل غير معروف، ريثما يكون الوطن استعاد عافيته. فمخاض الحرية الذي يشهده الوطن، رغم بشاعة ما يرتكبه النظام وهوله، والدم الغزير الذي يُسفَك ظلما، لا يمنع الجولانيين مِن محاكاة همومهم الخاصة والتفكير بطبيعة النظام المقبل، وصورة تعامل الوطن المستقبلية معهم كأبناء أرض محتلة.

() صحافي/ الجولان السوري المحتل

=================

النظام السوري متّجهاً إلى فضائه الافتراضي

دمشق غازي دحمان

المستقبل

29-4-2012

تذهب التصريحات السياسية لنظام الحكم في سورية إلى التأكيد على أن الثورة قد إنتهت، فيما يبدو أنه إعادة إنتاج لمقولة "خلصت" التي لازمت الرواية الرسمية عن واقع الثورة وحالها منذ إنطلاقتها. ويبدو ان "خلصت" في طبعتها الجديدة، تنطلق من الرغبة التي أبداها النظام في أن يكون قويا في الفضاء "الإفتراضي" بما يوازي قوته على الأرض، فيما يبدو أنه محاولة لترسيخ رواية النظام بأن الثورة ليست سوى عالم إفتراضي صنعته الفضائيات وصفحات الفيسبوك .

بالطبع، لا يوضح النظام وأنصاره الإقليميون، كيف ان الثورة إنتهت، فهو يتحدث عن إنهائه لتنظيم عسكري "الجيش الحر" لم تثبت الوقائع الميدانية إنتهاءه، وإن عمل على الإنسحاب من بعض المواقع، بما يتفق وطبيعة الحرب التي يخوضها وطبيعة تجهيزاته القتالية وقدراته اللوجستية. الأمر يجعل من تلك التصريحات المبشرة بإنتهاء االثورة بناء على هذا المعطى المتحرك مجرد تحليلات رغبوية ومتسرعة، ذلك أن الثورة في الواقع الميداني لا تتوافق مع شطحات النظام وأماني حلفائه، كما ان الثورة تملك ديناميتها التي ليست لها علاقة بإجراءات النظام وسياساته والتي تجعلها قادرة على التكيف مع التطورات المحتملة والمتوقعة والمفاجئة منها .

ومن المفيد هنا التذكير بأن صراع الثورة مع النظام إتخذ في مساره شكلاً دائريا تتغذى حلقاته من بعضها البعض، وقد كان واضحاً أن تشكل هذه الحلقات لطالما خضع لقاعدة " التحدي والإستجابة" وهو نمط يعكس مدى تكيف الثورة مع المتغيرات التي تواجهها، وكذا حالة الإنسجام بين قوى الثورة ومحركاتها وكذا الأدوات المتوفرة والمتاحة، بما يساهم في صنع مجال حركة الثورة وتظهير مفاعيلها وبلورة فعالياتها .

من هنا كان من الطبيعي أن تنطلق الثورة من الريف وعشوائيات المدن، حيث شكلت عوامل التهميش والإضطهاد المحركات الأساسية والشرعية، وكانت العشيرة والإنتماء المناطقي هما أدوات الحراك بما يشكلانه من حاضنة وحماية للثورة. أما المجال فقد كان المسجد كحيز مجسد على الأرض ومتوفر في كل مكان، وقد تطلب تأمين مجال أوسع للحراك العمل على قضم مجال السلطة الأمنية الواسع، سواء أكان ذلك عبر إنكفاء شبكة المخبرين او من يسمون ب" العواينية "، إما بسبب تهديدهم أو إنكشافهم، وإما لإضطرارهم الإنحياز إلى عوائلهم، أو قتل العديد منهم، الأمر الذي إنقطعت معه كل قنوات الإتصال مع قيادات الأجهزة التي فقدت بدورها قدرتها على الرؤية ومعرفة ما يحصل على الأرض، وأصبحت عاجزة تالياً عن الفعل. وهذا ما إستدعى تدخل الجيش، وهو التدخل الذي أفرز بدوره ظاهرة الإنشقاق، وهي بدورها إستجاة أفرزتها الثورة في مواجهة القوى الغاشمة .

والحلقة القادمة للثورة ستتشكل من إنخراط الحواضر الكبرى في الحدث، حلب ودمشق، وذلك نتيجة معطيين أفرزتهما حركة الثورة:

المعطى الأول: حركة النزوح الهائلة من االمناطق المشتعلة والتي دفعت بعشرات الالاف من هذه المناطق إلى دمشق وحلب، وقد سكن أغلب هؤلاء في الأحزمة الفقيرة والمشتعلة أصلاً، ونشوء حركة إغاثة واسعة يشارك فيها سكان الاحياء الرئيسية، إما بدوافع دينية أو وطنية أو إنسانية، مما جعل هؤلاء ينخرطون بالثورة بشكل من الأشكال، بل ويتعرفون على الحدث السوري على حقيقته .

المعطى الثاني: الوضع الإقتصادي الذي يزداد سوءاً والذي طاول الطبقة الوسطى في هذه المناطق بدرجات كبيرة، والتي تعتمد على المتاجر والورش والمنشآت ما يجعلها في دائرة الخطر وينذر بإحداث لخبطة كبيرة في تراتبية الطبقة الوسطى، علماً ان الدعم الحكومي لم يكن يطال هذه الفئة ولا منظومتها الإقتصادية، وخاصة في فئاتها الوسطى والعليا .

والحال، فإن من الصعب على النظام ان يطمئن إلى مقولاته، ولا حتى إثبات كيف يمكن رؤية قوته على الأرض أو في الفضاء، في الوقت الذي لايسع المراقب سوى الوقوف على سلسلة متعاقبة من الخيبات في إدارة الأزمة، يمكن إعتبار النصر فيها، بالمعايير والقيم العسكرية والوطنية والأخلاقية، إنتكاسة فادحة وهزيمة لكل هذه المعايير والقيم .

=================

كيف يتوزّع آل الأسد السلطة والثروة؟

بقلم كريستوف اياد

عن "لوموند" (18 نيسان 2012)

المستقبل

29-4-2012

من يقود سوريا البعث؟ رجل بعينه، أم عائلة، طائفة، قبيلة ام طبقة؟ الجواب: جميعهم معا ومنفردون. فاذا اخذنا كل واحدة من هذه العناصر جانبا، لن يكون بمقدورنا ان نفسر مصادرة بشار الأسد لبلده على الرغم من التظاهرات والعقوبات. كل ما فعله بشار انه ورث عام 2000، اثر وفاة والده، جهاز سلطة غير عادي بناه حافظ الأسد بصبر خلال ثلاثة عقود. وهذا الجهاز عبارة عن مصالح عائلية وولاءات قبلية ومصالح اقتصادية وقبضة أمنية وتسلّل حزبي الى مؤسسات الدولة... هذا الجهاز المركّب هو من صنع الأسد الأب وحده، لا أحد غيره. وعندما صعد بشار، اضاف اليه لمسته الشخصية بتهميشه حزب البعث لصالح طبقة جديدة من رجال أعمال ذوي جشع غير عادي وقدرة خيالية على تكديس الثروات.

وقد تكون احدى الحوافز العميقة للانتفاضة التي تشغل سوريا منذ آذار من العام الماضي، هو تحديدا غياب الدور الذي لعبه حزب البعث بصفته الآلية الوحيدة المتوفرة لتحقيق نوع من الترقّي الاجتماعي والاقتصادي. بالاضافة الى الحرية، فان ما لا يتوقف المتظاهرون عن المطالبة به هو الحد الادنى من الكرامة. الكرامة في وجه اجهزة امنية تراقب حياتهم في ادنى تفاصيلها، وايضا كرامة الذين لا يملكون شيئا مقابل الذين يملكون كل شيء ويريدون المزيد.

والنظام الذي يواجه التحدي الأكبر منذ وصول آل الأسد الى السلطة، عاد الى اساسياته، تجنّبا لتفكّكه: هناك اولا العائلة، ومن بعدها الطائفة. العلويون، وهم يشكلون 10% من بين الطوائف السورية الاخرى، ليسوا كلهم بالضروة انصار النظام، ولكنهم بالتأكيد بمثابة رهائنه. ومع ذلك فان تمثيلهم في الاجهزة القمعية يفيض عن نسبتهم. ويعود هذا الخلل الى ايام الانتداب الفرنسي، بين الحربين العالميتين، عندما شجع المسؤولون الفرنسيون ابناء هذه الطائفة الفقيرة المهمشة على الانخراط بأعداد كبيرة في الجيش. لكن ما اضافه حافظ الأسد هو توليد اجهزة استخباراتية بغرض مراقبة بعضها البعض، فضلا عن اختيار علويين مخلصين له، خصوصا اولئك المنتمين الى قبيلة آل الأسد.

ايضا من العبث القول بأن النظام السوري لا يستند الا الى العلويين. فضباط كبار من الطائفة السنية ينشطون بقوة ايضا في قمع المتظاهرين. ولكن النظام يحرص دائما على احاطتهم بضباط علويين. والنظام يجند ابناء هذه الطائفة العلوية للخدمة في مجموعات الشبيحة، وهي الميليشيات المسلحة الشرسة، التي تقوم بال"أعمال القذرة"، مثل الاغتصاب والقتل بالسلاح البيض والتعذيب والسرقة واشعال الحرائق الخ.

وقصة الشبيحة مثيرة للاهتمام: بدأت في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وكانت تجمع لصوصا يعملون لصالح الرجل الفاشل في العائلة، جميل، شقيق حافظ الاسد. وفي تسعينات القرن الماضي، تعرض الشبيحة للتوبيخ، العنيف احيانا... وذلك إعدادا لخلافة الأسد بصورة "نظيفة"، تحجب قمعية النظام. وعندما اندلعت الثورة في آذار من العام الماضي، اعيد تنشيطهم بسرعة، بغية قمع الشارع.

(...) ليس كل افراد عائلة الأسد في مراكز سلطة عليا، والسلطة ليست كلها ملكا آل الأسد. ولكن ما هو مؤكد ان النظام بنى هيكله على منح هذه المراكز العليا لشبكة معقدة من افراد عائلة واحدة، بالاصالة او المصاهرة، تضم مئات من الاشخاص هم من سلالة علي سليمان والد حافظ، وهو وجيه علوي من بلدة القرداحة، الواقعة شرق اللاذقية.

واذا حاولنا رصد مجالات أنشطة هؤلاء الافراد، فان خطوطا عريضة ثابتة تظهر لنا. الاولى ان الابناء العديدين لرفعت الأسد، الشقيق الرهيب لحافظ، الذي اضطر الى العيش في المنفى بعد محاولة فاشلة لانتزاع السلطة عام 1984، هم خارج اللعبة الآن؛ بمن فيهم الانشط من بينهم، وهم يقدمون انفسهم ك"معارضين". اما ابناء جميل الأسد، المذكور أعلاه، فقد تخصصوا في التهريب وأعمال اللصوصية الميليشيوية. بالمقابل، فان آل مخلوف الذين ينتسبون الى ابناء حافظ الأسد عبر والدتهم، أنيسة مخلوف، والتي يصفها الكثيرون على انها صاحب القرار الحقيقي في العائلة، فانهم احتلوا مواقع هامة في اقتصاد البلاد، وان كان من الصعب تحديد حجم ثرواتهم، بسبب لجوئهم الى الاسماء المستعارة في حساباتهم المصرفية.

هذا الغموض في تحديد المواقع ينطبق ايضا على مجال الدفاع، حيث لا تتناسب المراكز الرسمية مع التاثير الفعلي على الارض، وحيث لا يقود ماهر الاسد رسميا الفرقة الرابعة، وهي عبارة عن جيش حقيقي داخل الجيش الرسمي.

هذه القدرة على اخفاء المسؤوليات والاملاك هي من الصعوبات الاضافية التي تواجهها العقوبات الاقتصادية، ضد 120 شخصية من النظام، الهادفة الى إرغامه على وقف مجازره (...).

=================

الدول العربية تواجه مأزقاً في العجز عن توحيد المعارضة .. لا أوهام حول نيّة روسيا ولا في إدارتها لحوار سوري

روزانا بومنصف

2012-04-29

النهار

تواجه الدول العربية في الموضوع السوري مأزقاً لا يقل حراجة عن المأزق الذي تواجهه الدول الغربية من مجموعة اصدقاء سوريا ازاء سبل التعامل مع الازمة التي تعصف بها منذ سنة وأربعة أشهر، وضيق الافق في اعتماد الحلول مع استمرار التعنت الروسي في الدفاع عن النظام حتى في الأيام الاخيرة، وعلى رغم اعلان كوفي انان ان النظام لم يلتزم خطته لوقف العنف. هذا المأزق تقول مصادر معنية متعدد الوجه، لكنه برز على نحو خاص في الاجتماع الاخير لوزراء الخارجية العرب وعبّر عنه بيان الجامعة العربية من خلال نقطتين على الأقل. النقطة الاولى تتصل ولو من باب ابقاء العرب لأنفسهم حضوراً ودوراً في خطة انان بمطالبتهم بعد وقف القتل في سوريا ببدء العملية السياسية، وفقاً لخطة الجامعة الصادرة في 22 كانون الثاني، والتي دعت الرئيس السوري الى تفويض نائبه صلاحيات كاملة فور تشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها السلطة والمعارضة. فهذه العودة الى خطة الجامعة العربية كان يعتقد انه تم الانتقال منها الى خطة انان في حين يستمر البعض في اعتبار ان ما ينفذه انان في شقه السياسي او ما يسعى الى تنفيذه هو ما ورد في المبادرة العربية، إلاّ ان واقع الامور يبرز التباسات حول هذه النقطة ازاء مفهوم الانتقال السلمي، إذ ان بعض الدول الغربية لا تخفي مراجعتها النقدية لتأييدها هذه الخطة العربية من ضمن اعادة النظر بضرورة اشراك النظام في عملية الانتقال السلمي وعدم القدرة على احداث تغيير فعلي سياسي سلمي في سوريا من دون ترك مجال للنظام كي يكون له مقعد على الطاولة، بحيث يساهم في هذا الانتقال. والمراجعة النقدية الغربية في هذا الاطار طاولت جملة امور من بينها تلك التي اعتبرت ان هناك تسرعاً في الاعلان ان الرئيس السوري انتهى او ان ايامه معدودة واطلاق التصريحات في هذا الشأن. فعلى رغم ان هناك اقتناعاً حاسماً بعدم قدرة النظام على الاستمرار او قدرة الرئيس السوري على البقاء في السلطة وممارسة الحكم، كما في السابق، والاقتناع ايضاً ان الدينامية القائمة على الارض في سوريا لن تتوقف قبل احداث التغيير المطلوب على مستوى الرئاسة والنظام على حد سواء ، فان تقويم هذه الدول لأخطائها سمح لها بمراجعة هذه النقطة من زاوية انه لم يكن يجوز دعم الخطة العربية في هذا الاطار، كما ان مسؤولي الدول الذين اطلقوا هذه التصريحات ظهروا اما عاجزين عن معرفة الواقع على الارض او عاجزين عن قراءة طبيعة الامور او انهم غلبوا تمنياتهم في هذا الاطار او ان اداراتهم عجزت عن ممارسة الضغوط الكافية لوقف ما يحصل. وهذا خطأ لم يكن يجوز ان تقع الديبلوماسيات الغربية فيه على الاقل من حيث الموقف العلني وفق اعترافات ديبلوماسية في هذا الاطار. ويتساوى في هذا الاطار ما يمضي في اعلانه الأمين العام لحلف شمال الاطلسي اندرس فوغ راسموسن من عدم وجود أي نية لدى الحلف من اجل التدخل في سوريا. فمع ان الامر مسلم به منذ بداية الازمة في سوريا، فإن هناك من يعتبر على المستوى الديبلوماسي ان اخطاء ارتكبت في الاستمرار في تطمين الرئيس السوري الى عدم المساس به حتى بعد اطلاق النار على النازحين السوريين عبر الحدود مع تركيا العضو في هذا التحالف.

والنقطة الثانية تتعلق بعدم اثبات الدول العربية قدرتها على جمع المعارضة على رغم محاولات عدة للامين العام للجامعة نبيل العربي في هذا الاطار، اذ ينقل معارضون سوريون من الداخل ان جهود العربي جدية وصاحبها يتحلى بالجرأة وهو طلب من مجموعات المعارضة السورية قبل اشهر تقديم الاوراق والافكار والمطالب التي يمكن ان تساعد على جمع المعارضة وتوحيدها من دون ان يلقى جواباً. وفيما دعا وزراء الخارجية العرب الى اجتماع يعقده العربي لمجموع المعارضات السورية في 16 و17 ايار المقبل ، فان العجز العربي عن ابراز جوامع مشتركة قائمة بين هذه المجموعات لا يساعد الدول العربية المعنية بالأزمة السورية ويضعف اداءها من دون ان يعني ذلك تفوقاً لادوار او لدول أخرى، علماً ان هؤلاء لا يكنون وداً لدولة قطر او للمملكة العربية السعودية ويبدون حذراً في مواقفهم المعلنة، كما لا يكنون وداً مماثلاً لتركيا ويفضلون مصر من بين الدول العربية مكاناً للقاءاتهم، كما للتدخل المصري في ما يجري انطلاقاً من اقتناع بأن مصر أقوى مما تظهره في هذا الاطار، ولا يربكها ما يجري فيها باعتبار ان موقفها كان حاسماً في مؤتمر اصدقاء سوريا ومعارضتها هي التي حالت دون الاعتراف بالمجلس الوطني السوري ممثلاً وحيداً للسوريين. كما يعتقدون ان التجربة المصرية ستظهر عدم قدرة الاخوان المسلمين على أخذ السلطة في مصر والحكم مما سيوفر دفعاً لتيارات اخرى غير الاخوان المسلمين في سوريا في المرحلة اللاحقة.

في المقابل لا يقيم هؤلاء المعارضون وهم ممن زاروا دولا اقليمية وغربية وزناً للمبادرة الروسية مثلاً من اجل المساهمة في ايجاد حل لما يحصل في سوريا. وما لم تنجح الدول العربية في جمع المعارضة وتوحيد رؤيتها للازمة في سوريا وللحل سيبقى الوضع أسير ما يحصل الآن. اذ انه على رغم توجه وفود من المعارضة السورية الداخلية الى روسيا اخيراً بدعوة من المسؤولين فيها تحت شعار الاعداد لاحتمالات حوار بين النظام السوري والمعارضة، فانه لا يبدو بالنسبة الى هؤلاء المعارضين الذين هم على اطلاع وتواصل مع هذه المساعي ان روسيا جدية في مسعاها، بل هناك تشكيك من جانبهم بالنيات الروسية في الدرجة الاولى التي لا تختلف في رأيهم عن النيات الاسرائيلية او سواها من النيات الدولية التي تريد لسوريا ان تبقى على هذا الحال من الاستنزاف مدة طويلة قد تستمر سنوات عدة وان روسيا لا تمانع بذلك، بل هي شأنها شأن الدول الاخرى تراهن على ذلك لمصالحها الخاصة. وتالياً فإنه بالنسبة الى هؤلاء لا اوهام في حقيقة نيات روسيا في تخفيف وطأة الازمة والسعي الى ادارة حوار، بل يجزم هؤلاء بأن روسيا هي التي تدعم النظام والجيش بقوة من خلال العتاد والاسلحة والخبرات والخبراء الى حد يجعلها هي القوة الفعلية الداعمة على الأرض للنظام اكثر بكثير مما هي حال ايران في دعمها النظام.

=================

بان كي مون «الإرهابي»

الأحد, 29 أبريل 2012

الياس حرفوش

الحياة

يبدو أن الوقت حان لتفتح دمشق النار على الامين العام للامم المتحدة بان كي مون وعلى المبادرة الدولية التي كلفت المجموعة العربية والامم المتحدة كوفي انان بتطبيقها، وقبلتها الحكومة السورية على مضض، وعلى امل كسب مزيد من الوقت للقضاء على المعارضة. كان السؤال منذ اقرار خطة انان والتصويت بالاجماع على القرارين الدوليين 2042 و2043 اذا كانت الحكومة السورية ستستطيع التكيف مع شروط هذين القرارين. وهي شروط تضع دمشق في مرمى الاتهام من زوايا عدة. فهي تطالبها بالمبادرة الى وقف النار وسحب الاسلحة والقوات من مواقع انتشارها، وبعد ذلك بفتح ابواب المعتقلات لإخراج سجناء الرأي، وفتح الحدود امام المراسلين والسماح لهم بتغطية ما يجري في سورية بحرية، وأخيراً بالموافقة على نقل البلد الى مرحلة اخرى، تتميز بالتعددية الحزبية والعمل السياسي الحر.

خطة انان، مدعومة من الامم المتحدة، قامت على حياد المنظمة الدولية بين طرفي النزاع في سورية. وقد عبرت عن حيادها بتكليف المراقبين متابعة ما يجري على الارض، في اشارة بالغة الدلالات الى عدم تصديق روايات الحكومة السورية. وما أغضب دمشق هو اتخاذ الامم المتحدة موقفاً في الوسط بين الطرفين، وعدم أخذ منطق الحكومة وحده على أنه الصحيح، وهو المنطق القائل ان النظام السوري يواجه «جماعات ارهابية مسلحة»، ولن يستقيم وضع سورية الا بالقضاء على هذه الجماعات. وفي هذا الجانب، لم يتردد المسؤولون في دمشق في مقارنة ما يواجهونه في بلدهم بما تواجهه دول اخرى من اعتداءات «ارهابية» على سيادتها. أي ان دمشق لا ترى معارضة في سورية، باستثناء تلك التي تعيّنها بنفسها، وتقترح «الحوار» معها، ثم ترسلها الى العواصم الحليفة لمناقشتها في خطوات «الاصلاح» المقبلة.

احترام بنود الخطة الدولية من جانب دمشق وتطبيقها بجدية وبنية صادقة كان يفترض ان يشكلا مدخلاً الى حل الازمة السورية بعيداً من التدخل العسكري. غير ان احترام هذه الالتزامات كان سيعني عملياً أن الامم المتحدة باتت تتعامل مع دمشق اخرى، غير تلك التي تخوض المواجهات اليومية وتمارس القتل اليومي بحق مواطنيها، لكي تثبت انها على حق وأنها صاحبة «السيادة» على الارض، وان المواطنين المحتجين مجرد عصابات مسلحة خارجة على القانون.

غير ان دمشق الاخرى التي يسعى العالم الى التعامل معها غير موجودة ولن توجد حتى في الاحلام. ولهذا باتت الامم المتحدة تحت مرمى النيران السورية. فموقف الامين العام للمنظمة الذي يطالب دمشق بتطبيق التزاماتها بموجب الخطة التي وافقت عليها تترجمه الحكومة السورية من خلال وسائل اعلامها بأنه «تشجيع للارهابيين». والارهابيون هؤلاء ليسوا سوى المواطنين الذين يخرجون في الاحتجاجات، ويتعرضون للقتل. وهم المواطنون الذين تستغرب صحيفة «الثورة» وجودهم وتتساءل عمّن «سمحوا لهم بالتسلل الى شوارعنا وبالوجود بيننا».

تستند الحملة الاخيرة التي شنتها دمشق على الامم المتحدة الى تجاهل المنظمة الدولية للتفجيرات الارهابية التي تقع في المدن السورية وعدم تحميل المجموعات المسلحة المسؤولية عنها، بدل تركيز الاتهام على الحكومة وحدها. غير ان هذه الحملة تفتقر، كما عادة الحملات السورية، الى الحد الادنى من الصدق. ذلك ان كل ما فعله بان كي مون هو التأكيد ان دمشق لم تحترم البند الاول من خطة انان، والذي يطالبها بسحب قواتها واسلحتها من الشوارع، كما ان بان طالب المعارضة في الوقت ذاته باحترام وقف النار. غير ان الهدف من مطالبة دمشق بسحب قواتها اولاً هو سحب الفتيل الذي اشعل الازمة السورية من الاساس. فهذه القوات التي مارست القمع والقتل، منذ احداث درعا الى اليوم، هي التي تستدعي تعدد المعارضات وانتشار المواجهات ومن بعدها ولادة «الجماعات الارهابية» وربما التنظيمات المتطرفة، دفاعاً عن نفسها، وهو الحق البديهي والغريزي الذي تمارسه حتى الحيوانات، عندما تتعرض لاعتداء يهدد حياتها.

=================

عن الموقف الأميركي من الثورة السورية!

أكرم البني

الشرق الاوسط

29-4-2012

أربعة أسباب يمكن أن تفسر تردد واشنطن وإحجامها عن الدخول بقوة على خط الثورة السورية، بالمقارنة مع سياستها تجاه الثورات العربية الأخرى.

أولا: حسابات داخلية تتعلق بالرأي العام الأميركي، الذي ذاق مرارة الثمار في العراق وأفغانستان، وانقلب مزاجه ضد تفعيل الدور الخارجي لبلاده ومنحه الأولوية على حساب المشكلات الداخلية، ونضيف: لغايات انتخابية مباشرة، كي يضمن أوباما دخولا آمنا إلى مرحلة التجديد دون التباسات قد يجرها التصعيد، وكأن إدارة البيت الأبيض تعمل اليوم على تمرير الوقت والمهل لطي صفحة الانتخابات، وربما انتظار لحظة أنسب للتدخل الفاعل في سوريا.

ثانيا: مصلحة إسرائيل ووزن قرارها في السياسة الأميركية، وهنا نستطيع القول وللأسف إن لإسرائيل كلمة قوية حول مستقبل الأوضاع في بلد يجاورها وتحتل جزءا من أرضه، وبقيت جبهته آمنة ومستقرة طيلة عقود، والمغزى هو أولوية ما يمكن أن يترتب على أي تغيير في سوريا على أمن إسرائيل بصفته العامل رقم واحد في التأثير على مواقف الغرب، وخاصة على النخبة الأميركية الحاكمة وعلى اتجاهات الرأي العام هناك، وكلنا يتذكر، في أزمات سابقة، وضوح الرغبة الإسرائيلية في عدم إسقاط النظام، كما نتذكر الخبر المثير عن طلب إيهود باراك مؤخرا من الحكومة الأميركية تخفيف الضغط على النظام السوري وتركه لشأنه، وما يعزز هذا السياق إدراك قادة إسرائيل حقيقة أن ميل الثورات العربية هو في محصلته معادٍ لسياساتها في فلسطين والمنطقة، وبالتالي حين يكون موقف إسرائيل ومصلحتها ضد تغيير الحكم السوري، حتى لو أعلن بعض مسؤوليها عكس ذلك، يعني أن هناك موقفا أميركيا لا يمكنه القفز فوق هموم وحسابات حليفته الاستراتيجية!

ثالثا: خصوصية الحالة السورية بموقعها الاستراتيجي وارتباطاتها التحالفية ضمن محور نفوذ في المنطقة مناهض للسياسة الأميركية، فلا طاقة لإدارة البيت الأبيض اليوم بتحمل تبعات معركة مفتوحة مع أطراف هذا المحور قد يطول أمدها وتتعدد مواقعها، كما لا يمكنها أن لا تأخذ على محمل الجد التحذير الذي جاء على لسان المرشد الأعلى، علي خامنئي، بأن إيران ستدافع عن حليفتها الإقليمية، أيا كانت الاعتبارات، ليصح القول إن واشنطن تستطيع ربما تحمل مشاهد القمع والتنكيل في سوريا مهما اشتدت لكنها لا تستطيع تحمل تبعات وتكاليف التدخل الناجع، في قراءة للمسألة من زاوية النتائج والتكلفة وما يمكن أن يترتب عليها من تأثير على مصالحها وخسائر مادية يصعب تعويضها من بلد فقير بثروته النفطية كسوريا!

رابعا: التحسب والقلق من طابع السلطة المقبلة وحدود الاستقرار المرافق في حال كان وزن وتأثير الإسلاميين فيها كبيرا، وخاصة على واقع الأقليات في سوريا، وهذا السبب لا يتعلق فقط بالخوف على ثقافة هذه الأقليات ونمط عيشها من بديل إسلامي، وإنما أيضا من الأعباء التي قد تفرض على الدول الغربية وأميركا في حال ازدياد هجرة أبناء هذه الأقليات، يزيد القلق قلقا والطين بلة السلوك الأناني والاستئثاري للإخوان المسلمين في مصر، بعد أن نكثوا وعودهم؛ سواء في عدم ترشيح أحد قادتهم إلى موقع الرئاسة، أو في موقفهم من الدولة المدنية، وبدأوا تمرير عبارات حول تطبيق الشريعة الإسلامية، الأمر الذي أضر بدور التيارات الدينية السياسية في الثورات العربية، وطعن في مصداقيتها، وربما تحتاج لتخفيف الضرر وبناء الثقة إلى أكثر من وثيقة «العهد والميثاق»، التي أصدرها مؤخرا «إخوان سوريا»، مع ما حملته من نقاط إيجابية ومطمئنة.

صحيح أن الموقف الأميركي بخلاف مواقف الدول الغربية الأخرى هو عامل حاسم من شأنه أن يغير اتجاهات الأحداث في سوريا، وصحيح أيضا أن التدخل الأميركي الفاعل ليس طوع البنان، وأن الولايات المتحدة احتاجت زمنا طويلا كي تتغلب على تحفظاتها في مثال البوسنة، لكن ما هو غير صحيح الادعاء بتسلل «القاعدة» إلى سوريا، والتذكير بالإرهاب كعدو مشترك بين دمشق وواشنطن، كي تبرر هذه الأخيرة مواقفها المترددة، أو الاتكاء على واقع المعارضة السورية وتحويل تنوع أحزابها وتعدد ائتلافاتها وتبايناتها الطبيعية في المواقف والآراء إلى شماعة أو ذريعة لتبرير الإحجام الأميركي وتحرير أهم قوة عالمية وأكثرها تأثيرا من المسؤولية.

ربما هو حظها العاثر أن تضطر الثورة السورية للانتظار ريثما يمر زمن الانتخابات الأميركية كي تختبر مدى جدية وحزم واشنطن، ودور المجتمع الدولي في نصرتها، وربما الأمر يتعلق بوجود رغبة لدى الولايات المتحدة في مد زمن الثورة السورية وتأخير المعالجة السياسية، ليس لصعوبة وتعقيد تدخلها الناجع والرادع، بل لأن لها مصلحة في سياسة استنزاف النظام وحليفه الإيراني أطول مدة ممكنة، لكن ربما يفضي الضغط الأخلاقي من هول وفظاعة ما يجري وتنامي المطالبات العربية لاتخاذ موقف جدي إلى تضييق هامش التردد والمواربة أمام البيت الأبيض، خاصة إن استشعر الديمقراطيون أن موقفهم الضعيف بدأ يلعب دورا عكسيا ويفقدهم بعض الشعبية أمام الانتقادات التي يوجهها مرشحو الرئاسة الجمهوريون لأوباما، بسبب تردده وعدم استثمار الوضع السوري لمصلحة أميركا ولمحاصرة النفوذين؛ الإيراني والروسي!

والحال إن لم تذلل الأسباب السابقة فمن المرجح أن لا يرقى الموقف الأميركي إلى مصاف تحديات الثورة السورية وحجم ما تقدمه من تضحيات، بل سيكتفي بالنوسان بين إعلان المزيد من الضغوط والعقوبات الاقتصادية، التي لن تؤتي أكلها في وقت قريب، والدعم اللفظي للشعب السوري والتغني بشجاعته مصحوبا بتصريحات وإدانات حادة للقمع لا تربك النظام ولا تخيفه، وآخر دليل لاستمرار التردد والتهرب هو مساندة خطة كوفي أنان المتعثرة على قاعدة التسليم بدور مقرر لموسكو في الملف السوري، وما يعنيه ذلك من تجنب الدخول في صدام معها، والرهان، قبل أي شيء، على التفاهم وبناء المشتركات في معالجة هذا الملف!

=================

الكارثة السورية

فايز سارة

الشرق الاوسط

29-4-2012

تبلغ نتائج الأحداث والتطورات التي شهدتها سوريا في الأشهر الأربعة عشر الماضية حدود الكارثة، حيث إن النظرة الأولى تتضمن مقتل ما يزيد على اثني عشر ألفا من أبنائها، يضاف إليهم نحو سبعين ألف مفقود في الأحداث، قسم من هؤلاء هم في عداد القتلى خاصة ممن لم ترشح أي معلومات عنهم منذ بدء الأحداث. وثمة أعداد تقدر بعشرات آلاف الجرحى، أصيبوا في الأحداث، وتحول كثير منهم إلى معاقين. وحسب تقديرات حقوقية، فإن مئات آلاف السوريين دخلوا السجون والمعتقلات، أو هم مطلوبون للأجهزة الأمنية، وهناك مئات آلاف السوريين غادروا إلى خارج البلاد، رغم أن المسجلين بصفتهم لاجئين في دول الجوار لا يتعدى عددهم عشرات الألوف، أكثرهم في الأردن جار سوريا في الجنوب.

وثمة مؤشرات أخرى لما وصلت إليه الحالة السورية من تدهور، منها أن عدد السوريين النازحين عن بيوتهم في المدن والقرى داخل سوريا يقدر بنحو مليوني نسمة، وأن عدد السوريين ممن يحتاجون مساعدات إنسانية عاجلة، تتضمن الغذاء والدواء واللباس والإيواء، يصل إلى مليون شخص، فيما يبلغ عدد أصحاب الحاجة الملحة منهم نصف مليون نسمة، القسم الرئيسي من هؤلاء في منطقة وسط وجنوب البلاد، التي تشكل مناطق كثافة السكان وتمركز قسم رئيسي من الإنتاج السوري المادي.

والمؤشرات السابقة بما تركته من آثار مباشرة على السوريين تمثل جزءا من مؤشرات أخرى، بينها ما أصاب الاقتصاد، وهي لا تقل في آثارها المدمرة عن سابقتها، وبعض ما أصاب الاقتصاد السوري بقطاعاته المختلفة يمكن ملاحظة مؤشراته في قطاع السياحة مثلا، حيث انخفض نشاط هذا القطاع إلى ما دون النصف، وفقد نحو نصف مليون شخص من العاملين في هذا القطاع فرص عملهم، وانخفض عدد السياح الوافدين إلى النصف، وبالتأكيد انخفضت عائدات السياحة، وتوقفت كثير من مشاريعها. وفي الصناعة لم يكن الأمر أفضل حالا، إذ واجهت الشركات والمؤسسات الصناعية تحديات الخسارة والإفلاس إما بالتوقف الكلي أو بخفض العاملين والإنتاج، وسط تحديات ارتفاع أسعار المواد الأولية والمكملة أو نقصها، ونقص السيولة النقدية. وتعرضت الزراعة إلى خسائر كبيرة هي الأخرى، خاصة أن مجريات العمليات العسكرية والأمنية تركزت في أهم المناطق الزراعية من درعا إلى ريف دمشق وحمص وحماه وإدلب، وهي مناطق رئيسية في الإنتاج الزراعي والحيواني، وأدت العمليات ليس إلى خراب المواسم فقط، وإنما إلى تعطيل وتهجير أعداد كبيرة من سكان هذه المناطق بما جعلهم خارج إطار الإنتاج.

لقد أضافت الظروف الجديدة أبعادا جديدة إلى المشاكل البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، التي تعاني منها سوريا والسوريون، والتي كانت بين أسباب ثورة السوريين، والأبرز في تلك المشاكل تجسده البطالة التي تصل إلى حدود ثلث العاملين، والفقر الذي يطحن نحو نصف السكان، والغلاء الذي بلغ مستوى أغلبية السكان، وتردي الأوضاع المعيشية لأغلب الفئات الشعبية بما فيها الطبقة الوسطى، وكلها أضافت أبعادا جديدة لتدهور الأوضاع، مما جعل الأمور تتجه أكثر فأكثر باتجاه كارثة سكانية واقتصادية، لها تداعيات اجتماعية خطيرة.

غير أنه وعلى الرغم مما تمثله المعطيات السابقة من مؤشرات خطيرة، تصل إلى حدود الكارثة، فقد يكون الأهم من المعطيات السابقة هو ما تؤشر له وقائع الانسداد في أفق المعالجة السياسية للوضع القائم في البلاد. ذلك أن السلطات السورية، وعبر الفترة الماضية من عمر الأزمة، مصرة على متابعة الحل الأمني - العسكري، وهذا لا يترتب عليه فقط تصعيد أرقام الخسائر البشرية والاقتصادية وتداعياتهما، بل بما يمكن أن ينجم عن استمرار هذه السياسة من نتائج بين احتمالاتها دخول البلاد في حرب داخلية شاملة سواء كانت حربا بين النظام ومعارضيه، أو - ربما - حربا بين مكونات في الجماعة الوطنية لها طابع عرقي أو ديني - طائفي، أو تعرض البلاد إلى حرب دولية سواء جاءت تحت قرارات مجلس الأمن الدولي والبند السابع، أو من خارج القرارات الدولية، وأي من ذلك إذا حصل فسوف يلحق الضرر الكبير بسوريا والسوريين، وقد تقود مثل تلك التطورات إلى تبدل في صورة سوريا الحالية بتقسيمها أو إلحاق أجزاء منها بكيانات أخرى في المنطقة.

خلاصة الأمر أن ثمة حدين في الكارثة السورية، أحدهما يتصل بما يصيب السكان والاقتصاد والمجتمع من أضرار مباشرة وغير مباشرة نتيجة إصرار السلطات على متابعة الحل الأمني - العسكري للأزمة في البلاد، وهذا أمر يمكن الخروج منه في المستقبل بجهود السوريين ورغبتهم في معالجة أزماتهم ومشاكلهم، والحد الآخر من الكارثة يمثله غياب أي رؤية سياسية لدى السلطات السورية في معالجة الأزمة، وهذا إذا استمر فلن يكون بإمكان أحد معالجة نتائجه، لأنه سوف يدمر سوريا والسوريين في آن معا، وسيضعهم - معا - في كارثة نهائية لا مخرج منها.

=================

منجزات الحل الأمني!

ميشيل كيلو

الشرق الاوسط

29-4-2012

لو أردنا تعداد منجزات الحل الأمني، الذي خص النظام السوري به شعبه ووطنه، لوجدناها متجسدة بوضوح ما بعده وضوح في المآثر التالية:

وضع السلطة في مواجهة عسكرية مع مجتمع يفترض أنها حاميته السياسية والوطنية، حيث يلزمها الدستور بالحفاظ على حياة وممتلكات ومصالح بناته وأبنائه، والحرص على تلبية تطلعاته وتنمية قدرته على تحقيق ما يريد، ما دامت مصالحه متداخلة مع مصالح الدولة العليا، التي تكرس حرية المواطن في المجالين الخاص والعام. هذه المواجهة العسكرية، التي قيل إنها تستهدف عصابات مسلحة، تتحول اليوم إلى اقتتال ينقلب أكثر فأكثر إلى حرب واسعة ليس لأحد على الإطلاق مصلحة فيها، لكونها تقوض دولة ومجتمع سوريا، وتدمرهما بالجملة والمفرق، وتنشر الجيش والأمن في كل شبر من الوطن وتتسبب في قتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وحتى الدواب والمواشي. كم سيلزم من وقت، في حال سلمنا بانتصار النظام على الشعب، قبل أن تعود سوريا إلى وضع طبيعي وتخرج من أجواء الثأر والانتقام والقتل المتبادل، إن كانت ستخرج منها في أي يوم؟ أتمنى أن يفكر أهل النظام في هذه النقطة، وأن يروا بعين المستقبل مصير أطفالهم وأحفادهم، وبيوتهم وممتلكاتهم، ويتأملوا قليلا وضعهم إن هم أمضوا بقية حياتهم وسط شعب معاد لا هم له غير الانتقام منهم، في زمن تنتشر فيه المفخخات والأحزمة الناسفة، ويستطيع أي فرد مهما كان بسيطا ودرويشا أن يستخدم تقنيات القتل ووسائله الحديثة! مع ملاحظة أنه يمكن للعالم أن يتدخل في أي وقت ويبدأ عمليات تسليح وتدخل متصاعدة ستكون نتيجتها قتل مزيد من السوريين والقضاء في نهاية الأمر على البلاد والعباد.

فتح أبواب سوريا أمام جميع ضروب التدخل الخارجي، المؤيد والمعادي، وخروج أقدار الشعب والدولة من يد أبنائهما، وإلا ما معنى أن يقبل النظام مراقبين عربا وأجانب ينتشرون في مدنه وقراه للإشراف على وقف إطلاق النار بينه وبين شعبه، وهو الذي اعتبر نفسه طيلة نيف وأربعين عاما رقم المعادلة الشرق أوسطية الصعب، والجهة التي تتدخل متى شاءت وكيفما شاءت في شؤون غيرها وتكلف نفسها بمهمة الإشراف عليه! ألا يسأل أهل النظام أنفسهم لماذا انقلب القسم الأكبر من دول وشعوب العالم عليهم؟ ولماذا فقدوا أغلبية أصدقائهم الساحقة، وهم الذين كانوا نقطة دولية وإقليمية ومحلية محورية، تلتقي فيها السياسات والمصالح وتتقاطع الخيارات والمواقف؟ ولماذا لم يبق لهم أي حليف حقيقي غير إيران؟ ولماذا تعلن روسيا جهارا نهارا أنها ليست صديقة نظامهم ولا تدافع عنه إلا لكي ترفع ثمن موافقتها على بديله؟ هل صحيح ما يقوله النظام حول تآمر العالم عليه كسبب لتبديل مواقفه منه؟ أم أن العكس هو الصحيح؟ وهو أنه منح فرصا لم تتوفر لغيره من النظم التي سقطت، لكنه ضيعها وأصر على حشر نفسه في فخ الخروج على النظام الدولي ومنظماته، الذي يمكن أن يطبق في أي وقت عليه.

قوض بصورة تكاد تصير تامة الاقتصاد السوري، مع ما تسبب به هذا من إخراج مئات آلاف العمال من سوق العمل إلى سوق البطالة، ومن نقص في مستلزمات وضرورات الحياة، خاصة بالنسبة إلى محدودي الدخل، وهم أغلبية مواطنينا الساحقة، التي شرعت تعاني من جوع لم تألفه من قبل وعلى امتداد تاريخنا الحديث، بينما تتعطل آلة الإنتاج، وتهرب رؤوس الأموال بالجملة والمفرق من البلاد، وتنهار قيمة الليرة السورية، ويعم الفقر، وتختفي الاستثمارات، ولا يبقى من أثر للسياحة، ويدخل القسم الأكبر من الشعب في حالة اكتئاب عميق ممزوجة بقلق مضن على يومه وغده، ويرى المواطن في نفسه مشروعا مشردا أو جائعا أو مقتولا، وفي أولاده وأحفاده مخلوقات لا مستقبل لها، ستكون حياتها أكثر صعوبة بكثير من حياته، التي جعلها النظام حافلة بالهزائم والنكبات والويلات والظلم.

قسم الشعب إلى موالين يرعبهم إحساسهم بالخطر ويدفعهم إلى حمل السلاح والانخراط في العنف، شعورا منهم بأن ظهرهم إلى الحائط أو أنهم أمام هاوية تهدد بابتلاعهم، وأن حياتهم مع أغلبية مواطنيهم لم تعد قابلة للاستمرار وفق معايير المساواة والأخوة والندية والمواطنة والسلام، فلا بد لهم من فرض أنفسهم بالقوة والعنف، وإلا فقبول الموت أو التهجير أو... إلخ. وقسمه بالمقابل إلى معادين هم أغلبية تشعر أنها مستهدفة من عصابات مسلحة تريد إخضاعها بالقوة، ولا ذنب لها غير مطالبتها بما هو من حقها دستوريا وقانونيا ووطنيا، فلا مفر من أن تبادر بدورها إلى حمل السلاح، لقتل عدو انتفت صفة المواطنة عنه، وغابت الجوامع والمشتركات التي كانت تربطها به، بعد أن حول النظام السياسة إلى ساحة عنف يسود فيها الفرز والفصل، وكان يقول حتى الأمس القريب إنها ميدان وصل وتلاق. تبدو سوريا اليوم وكأنه لم يعد فيها شعب واحد متضامن ومترابط، بل جماعات متعادية لم تعد تملك أي لغة تتخاطب من خلالها غير لغة العنف والسلاح! هل سيكون بمستطاع نظام يرجح أن يخرج مهشما من معركته ضد شعبه جبر هذا الشرخ المرعب، الذي يقوض دولة ومجتمع سوريا من الداخل، بينما تسعى قوى دولية وإقليمية كثيرة، أهمها إسرائيل، إلى تقويضهما من الخارج؟ وما الذي سيبقى من سوريا إن كان شعبها يحترب احتراب أعداء، وكانت قطاعات واسعة منه تهجر وتتحول إلى مشردين جياع ومرضى وتائهين في الأقطار المجاورة وداخل وطنها، بعد أن كانوا بالأمس القريب هم الذين يستقبلون المهجرين والمشردين ويكرمون وفادتهم ويقومون بواجبهم، دون فضل أو منة؟

ترى، أي تنمية ستتم بعد المعركة، وأي تحرير، وأي دولة ستبنى، وأي تقدم علمي وتربوي سينجز، وأي بحث سيطور وأي اقتصاد سينمو؟ إن معركة بحجم المعركة السورية الحالية ضد المجتمع والشعب لن تترك فيهما أو في النظام الذي سيدير أمورهما أي قدرة على فعل أي شيء، ولن تكون سوريا عندئذ غير بلد مستضعف ومستعمرة إسرائيلية.

هذه بعض ثمار الحل الأمني، الذي تتسع دوائره وتتصاعد حدته بدل أن يتوقف ويقع التخلي عنه، بعد أن بان فشله منذ أيام تطبيقه الأولى، وبات جليا أن بلدة أو قرية يتم احتلالها واقتحامها عشرات المرات لن تخضع بالقوة، وأن السبيل الوحيد إلى تهدئتها يكمن في تلبية مطالب أهلها. هل فات أهل النظام هذا الجانب؟ وهل فاتهم أن من يهجم بالدبابات على القصير والرستن والمعضمية وكناكر وتلبيسة والحراك والقورية وقلعة المضيق وكفرنبل وحماه وحمص ومئات وآلاف المدن والبلدات والقرى يقدم بنفسه دليل عجزه عن إخضاعها بالقوة، وأن التخلي عن العنف لا يصير في هذه الحالة واجبا وطنيا وإنسانيا فقط، بل الطريقة الوحيدة لإنقاذ أهل النظام أنفسهم وإتاحة فرصة العيش الآمن في وطن أخوة وحب أمام أبنائهم وأحفادهم؟ ألم يفهم هؤلاء بعد هذا الدرس البسيط؟ ألم يدركوا أن طلقات مدافعهم تقتلهم هم بالذات، وأن شعبهم لن يموت؟

=================

من البلقان ولبنان إلى سوريا

عبد الرحمن الراشد

الشرق الاوسط

29-4-2012

أخيرا، الذي اختير رئيسا لبعثة المراقبين الدوليين ليس إيرانيا ولا روسيا ولا محسوبا عليهما، بل نرويجي يعرف تضاريس المنطقة الجغرافية والسياسية. الجنرال روبرت مود كُلف بأهم مهمة «سياسية عسكرية» في أخطر أزمة سياسية تعصف الآن بمنطقة الشرق الأوسط. مهمته مختلطة الأهداف؛ من تقصي الحقائق إلى وقف إطلاق النار. وجاء اختياره بهدف طمأنة المتشككين من تكليف كوفي أنان وسيطا أمميا، بعد أن أثار أنان تساؤلات حول نفسه عندما سارع في أول يوم عُين فيه، وتحدث عن مخرج سياسي مناسب للنظام السوري! أيضا، اختيار الجنرال مود يشير إلى أن مهمة بعثة المراقبين الدولية ليست مسرحية هزلية، مثل بعثة الجامعة العربية التي كلف بقيادتها ميكي ماوس؛ جنرال في جيش نظام البشير السوداني اسمه الدابي، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. الجنرال مود عمل في بعثات السلام في البوسنة ولبنان ويعرف كيف ملموس، ل ، سوريا. أما الجنرال الدابي فقد عمل قائدا عسكريا في دارفور حيث قامت قواته بذبح عشرات الآلاف من العزّل، وحرقت قرى بأكملها. لهذا لم يكن تقرير الدابي مفاجئا عندما كتبه لصالح النظام السوري.

لا نتوقع من الوسيط الدولي، ولا من القوات الدولية، نتيجة حاسمة مثل التدخل الدولي وحماية المدنيين من المجازر المستمرة، مع أن هذا الذي كنا نرجوه منذ الصيف الماضي، إنما نعتقد أن الوساطة والرقابة خطوتان ضروريتان لتكونا الأخيرتين، بغض النظر عن النتيجة. الأمور ستتجه بعدها نحو نهاية ما؛ تدخل دولي أو تدخلات مستقلة. وسواء سجل الجنرال مود في تقريره أن النظام هو من يرتكب الجرائم، وبناء عليه يوصي أنان الأمم المتحدة بالتدخل عسكريا، أو جاءت النتيجة باقتراحات سياسية خائبة تنقذ النظام، مثل التفاوض بين النظام والمعارضة، كالمعارضة التي اخترعها النظام السوري، وتدعمها روسيا وإيران.. حتى مع هذا الاحتمال السيئ، تكون الأزمة السورية قد نضجت، والثوار سيستمرون في محاصرة النظام. وأنا واثق أن الجميع سيقتنع أن دعم الشعب السوري ضرورة؛ ليس لإسقاط النظام فقط، بل أيضا من أجل احتواء المعارضة وتجنيب البلاد السقوط في دوامة عنف متعددة الأزمات. وواثق أيضا أن سقوط النظام أمر حتمي، حتى لو نجا هذا العام، فستمتد الانتفاضة إلى العام المقبل. ومع تقادم الوقت، سيكتشف المجتمع الدولي أن ترك الساحة السورية في فوضى يفتح بابها لدخول جماعات معارضة مسلحة موجهة من أطراف خارجية، أو أن تتحول المعارضة السورية الوطنية إلى جهادية بسبب تلكؤ دول العالم في ردع النظام المستمر في ارتكاب المذابح المروعة.

بسبب تخلي المجتمع الدولي، والدول المجاورة عنه، سيقبل الشعب السوري بمساعدة الجماعات الجهادية التي تبحث لنفسها عن قضية وأرض وشعب لقيادة المعارك. والغريب أنه أمر يناسب النظام أيضا حتى يضع العالم بين خيارين فقط؛ إما هو أو جماعات جهادية متطرفة تعيد ذكرى الصومال وأفغانستان. النظام مع هذا سيسقط حتما حتى بدعم إيران والعراق له، ودفاع الروس والصينيين عنه في مجلس الأمن. السؤال هو متى وكيف.. وأي نظام سيخلفه في دمشق؟

كان متوقعا له أن يسقط العام الماضي، إنما الذي أطال عمره جملة أحداث. دول الجوار، مثل تركيا والأردن، ترددت طويلا في انتظار غطاء دولي. والدول العربية المؤيدة للثورة، مثل السعودية وقطر، خسرت معركتها الدبلوماسية بعد تعيين نبيل العربي أمينا عاما للجامعة العربية، الذي ساهم كثيرا في حماية النظام السوري بوأد مشاريع سياسية كان يمكن أن تمنح حق التدخل إقليميا ودوليا. ثم خسرت بتولي العراق رئاسة قمة الجامعة العربية المتحالف فعليا مع إيران لدعم النظام السوري. وبالتالي نحن أمام آخر فرصة، حيث يرجى من مهمة المراقبين الدوليين أن تدفع باتجاه التدخل الدولي لحماية الشعب السوري الذي يسقط النظام أو حل سلمي ينهي النظام على الطريقة اليمنية. وإن فشلت يكون دور الأمم المتحدة انتهى، وستأخذ القضية منعطفا مختلفا تماما. ستتحول الساحة إلى حرب شعبية ضد قوات احتلال، كما وصفها الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي.

========================

حمزة الخطيب في ذكراه الأولى

عيسى الشعيبي

الغد الاردنية

29-4-2012

في مثل هذا اليوم من العام الماضي، وكان يوم جمعة، استجاب الفتى حمزة الخطيب مع آلاف من أترابه في قرى محافظة درعا، تلبية لنداء الاستغاثة "فزعة يا حوران" الذي أطلقه أبناء المدينة الجنوبية السورية المحاصرة منذ عدة أيام سابقة. حيث حمل الشباب الحوارنة من سائر بلدات السهل الفسيح ربطات الخبز وعلب الحليب، وكل ما يستطيعون حمله من مواد غذائية، وتوجهوا راجلين إلى ما صار يعرف لاحقاً بمهد الثورة وعاصمتها الأولى. كان حمزة واحداً من هؤلاء المدفوعين بالنخوة الحورانية المشهود لها، المدفوعين بروح التضامن العفوية مع أبناء وبنات المدينة المطوقة بأرتال دبابات الفرقة الرابعة، يحمل بكلتا يديه ربطتين من الخبز، ويسير مع الجموع الهاتفة "سلمية سلمية" نحو مبتغاه النبيل في المدينة الثائرة طلباً للكرامة والحرية. وما هي إلا لحظات حتى انهمر الرصاص من الحواجز المقامة على التخوم، فقتل نحو خمسين إنساناً، وخطفت أعداد كبيرة من الناس، كان من بينهم حمزة.

لم يعرف الوالدان في حينه، ولا الرأي العام، ماذا حدث لحمزة وغيره من الرجال والفتية الذين سيقوا إلى أقبية الأمن ومسالخها البشرية، إلا بعد أكثر من أسبوعين حين تلقت الأسرة المفزوعة على مصير ابنها أمراً باستلام الجثة، على أن يتم دفنها بصمت وسرية. فما كان من أحد النشطاء إلا أن بادر، بهاتفه الجوال وفي اللحظة الأخيرة، بتصوير ما تبدى على الجسد الصغير من آثار تعذيب مروعة تقشعر لها الأبدان، ثم جرى بعد ذلك تعميم هذه الصورة التي أراد الجلاوزة من ورائها ترهيب السوريين وإعادتهم إلى قفص الخوف الذي انكسر بغتة.

كان لانكشاف هذه الصورة التي ملأت شاشات التلفزة العربية والأجنبية ردة فعل مدوية، نقلت النظام المذعور إلى قفص الخوف ذاته، فراح يروج الأكاذيب عن فتى عمره ثلاثة عشر عاماً كان يداهم مساكن الضباط لاغتصاب النساء، ثم قام الأمن باستنطاق طبيب شرعي شهد، وهو يتصبب عرقاً، أن ميتة حمزة كانت عادية، وأن ما ظهر على جسده الطري كان جراء التحلل وطول المدة. غير أن بشاعة القتل تحت التعذيب، التي تكررت بصورة منهجية فيما بعد، كانت أكبر من كل نفي، وأشد هولاً من كل تسويغ متهافت.

والحق، أنني كنت واحداً من بين الملايين الذين هزتهم من الأعماق مظاهر الفتك والتنكيل بجسد حمزة، غير أن ما شدد من تضامني أكثر فأكثر، وعزز من انحيازي للثورة، كان مشهداً رأيت الجزء الأخير منه على الفضائية السورية، يتلو فيه والد حمزة بيان اعتذار شفوي عن فعلة ابنه الشقي، وهو خارج من لقاء رُتب له على عجل مع وارث الجمهورية عن أبيه، وينثر الأب المكلوم بشفتين مرتجفتين مزامير المديح ونشيد الإعجاب بالرئيس الإنسان، الأمر الذي صعق وجداني بقسوة، وأقعدني عن فهم بواعث مثل هذه العقلية السادية.

لقد كانت صورة حمزة المشوهة بفظاظة تترفع عن مثلها الوحوش الضارية في الغابة، بمثابة نقطة تحول فارقة في مسار الثورة السورية، أججت مشاعر الناس، وأدت إلى عكس ما أراد النظام الاستبدادي فعله لاستعادة قانون الخوف مجدداً، حيث بدا المتظاهرون منذ ذلك اليوم أكثر جسارة، وعمت الاحتجاجات بعدئذ معظم المدن والأرياف، وبات حمزة أيقونة الثورة، حيث أطلق عليه الكثيرون اسم محمد الدرة السوري، في إشارة إلى ما صنعته صورة مقتل الفتى الغزي بين أحضان أبيه في مطلع الانتفاضة الثانية. في الذكرى السنوية الأولى لاختطاف حمزة وقتله بسادية مفرطة، ندرك سلفاً أن آلافا من أقرانه، وبعضهم أصغر سناً، قضوا نحبهم في الأقبية السرية متأوهين باكين، دون أن تحظى سوى قلة القلة منهم بصورة هاتف مهزوزة صادمة لرأي عام عربي ودولي، يكاد يعتاد الآن على مشاهدة مثل هذه الصور المروعة. وفي هذه الذكرى التي عصفت بي عصفاً شديداً، وملأت قلبي وعقلي بالجزع والغضب والحزن الممض، أجدد القول أن المسألة السورية باتت بالنسبة لي منذ ذلك اليوم مسألة ضميرية أخلاقية، أكثر من كونها موضوعا سياسيا خلافيا.

=====================

علي فرزات: رسومي صدمت النظام السوري والناس رفعوها في المظاهرات

تحدث عن علاقته ببشار الأسد وانتقد الفنانين المعادين للثورة

التقاه: حسام الدين محمد

لندن 'القدس العربي' 27/4/2012:

في مناجاة قديمة بين رسامي الكاريكاتير الشهيرين، قال ناجي العلي لعلي فرزات: 'يبدو يا عزيزي اننا الوحيدان الحاملان السلّم بالعرض!'. بسبب هذا التشبيه الذي يعني في بلاد الشام معاكسة الاتجاه العام للأشياء دفع الرسام الفلسطيني حياته ثمناً لعناده، بينما قدّر لعلي فرزات ان ينجو أكثر من مرة، كان آخرها هجوم رجال مخابرات النظام السوري عليه وتكسير اصابعه قبل اشهر.

ورغم شهرة علي فرزات الكبيرة عربيا وعالميا فان هذه الحادثة الأخيرة حوّلته، مثل الشيخ احمد الصياصنة وابراهيم القاشوش وقرية كفرنبل وحمزة الخطيب، الى واحد من رموز الثورة السورية.

هذه الحالة الايقونية لا يرتفع اليها شخص في عيون شعبه الا بمكابدة طويلة لخصها تاريخ البشرية دائما في صراع اسطوري بين طرفين غير متعادلين في تجسدات تعبّر عن شوق الناس الى نيل أنبل ما سعى اليه البشر: الحرية!

عندما صعد فرزات منصّة مسرح قاعة بلدية كنسنغتون في حفل مخصص لدعم الثورة السورية مع سميح شقير، صنوه في امتشاق الكرامة ضد الرصاصة، حرّك يديه بطريقة فصيحة تقول: لن يستطيعوا منعي من الرسم، فضجّ الجمهور بضحكة الفرح، وحين قال كلمة السرّ: الشعب السوري انتصر حين خلع خوفه، امتدّ خيط من الكبرياء الهب ارواح الحاضرين.

التقيته في نادي 'فرونت لاين' (الخط الأمامي) بلندن المخصص للصحافيين والمبدعين المناضلين الذين كانوا على خطوط النار والمواجهات. بعينين زرقاوين مفتوحتين على التأمل والدهشة نظر كأنه يتعرف عليّ للمرة الأولى وفتح كفّيه اللذين حاول القتلة تكسيرهما.

'حدثني عن ثلاث نقاط تحوّل في حياتك. ثلاث رموز او صور لو أحببت' قلت وانا أفتّش عن مفاتيح شخصية فرزات.

عاد الفنان برأسه الى الوراء وقال: 'كان عمري 12 عاما عندما نشرت جريدة 'الأيام' اول كاريكاتور لي على صفحتها الأولى'.

'الأيام' كانت الصحيفة الشهيرة لواحد من آباء الصحافة السورية الحديثة نصوح بابيل. النقطة الثانية التي اختارها فرزات هي اولاده الاربعة، وكان عليّ ان أحزر نقطة التحوّل الثالثة: 'الثورة السورية'.

 

الشاعر الذي يكره العصافير

 

فرزات مشغول بمفهوم الفنان الحقيقي الذي تم الافتئات عليه، ففي هذا المفهوم تكمن نقاط التحوّل كلها: 'الرسام ليس هو ما يتفق عليه المفهوم العام انه الشخص الذي يعرف كيف يرسم' يقول فرزات. 'الفنان الحقيقي هو خلاصة تجربة حياتية مر بها من خلال مسيرته ويضاف لها موقفه ومبادئه'.

الحراك في سورية فرز بين المبدعين، وواضح ان فرزات يقوم بانتقاد هذا الانفصال بين الابداع والسلوك 'الفنان لا بد ان يكون متطابقا بين ما يفعله وبين ما يفكر به ويرسمه'. فيما فرزات يتحدث تذكّرت بعض انماط المثقفين السوريين الذين كانت لهم مواقف مخزية من الثورة ولابد ان هذه الفكرة طافت بذهن فرزات ايضا: 'لا استطيع قبول او فهم شاعر يصف السماء الزرقاء والطيور الملونة ويمدح الطفولة ويقدسها ثم يقوم بصفع اولاده او يكون صياداً يصطاد الطيور الملونة'! تضاحكت عندما قال ذلك وقلت له: 'نعرف انا وانت شخصا ينطبق عليه هذا الوصف'.

يستعيد فرزات ذكريات طفولته التي تشكل خلفية لكل ما يأتي بعد ذلك من مكتسبات واعية. 'احن الى الذكريات التي تعطيني دفقا من الحب والحنان خصوصا عندما يقف الانسان على مفترق طرق'.

لا يستطيع، على ما يبدو، فرزات ان يبتعد عن الموضوع الحار الذي يجري في بلاده. 'ما نراه من احداث تحصل فجأة امامك فتفاجئك. لا تستطيع كفنان استيعاب الاشياء او فهمها مباشرة لكنك تجد نفسك مأخوذا من خلال انتمائك الى المكان الذي هو جزء منك'.

يتألم فرزات من وجود فنانين او مبدعين لم يتمكنوا من حسم موقفهم من الثورة السورية. 'رغم مضيّ الصدمة الاولى واكثر من عام على الثورة هناك اشخاص لم يستطيعوا العثور على انفسهم بعد'.

 

العلاقة مع بشار الاسد

 

من المعروف ان فرزات كان لفترة على علاقة جيدة مع بشار الأسد. أحببت ان استكنه سبب هذه العلاقة بين فنان متمرد وسلطة كان ديدنها ان تروضه. 'لم تكن هناك علاقة شخصية بالمعنى الشخصي' يردّ فرزات. 'كان (الرئيس) يزور المعارض التي اقيمها في صالات دمشق ومن هناك بدأ حوار بيننا حول البلد واوضاعه والشارع والفساد وما الى ذلك'.

'كان يتابع حسب ما شرح لي رسوماتي بالصحف'، يقول فرزات وهو يحرّك رأسه. 'علم حين زارني انني اعرض رسوما ممنوعة من النشر'. ويشرح فرزات سبب ذلك: 'كان صعبا ان تنشر رسوما عن المخابرات او العسكر او الجنس او الدين او السياسة في الصحافة، الا ان المعارض كانت تؤمن لي وسيلة للنشر، وكان الجمهور يذهب الى اي صالة اعرض بها ليرى ما مُنع من مشاهدته'.

بدا لي فرزات غير متحمس كثيرا للتعرض لتلك العلاقة لكنني تابعت المحاولة، قلت: 'اخبرني عن انطباعك عنه كشخص' فقال: 'العلاقة استمرت من 1996 حتى عام 2000 قبل صدور جريدة 'الدومري'، وانطباعي العام كان ان لدى بشار قبولا بالحوار بكل اشكاله التي كانت ممنوعة لأربعين عاما من حكم حزب البعث. طلبت وقتها السماح لي باصدار 'الدومري' ووضعت شروطا لمدى حريتها وهي ان تنتهج اسلوبا مغايرا لاسلوب الصحف الرسمية من حيث الجرأة والنقد'.

'وهل تجاوب معك في هذا الطرح؟'

'نعم. سألني الى ماذا ستتعرض فقلت: سنقوم بانتقاد سياسات الحكومة وكذلك المخابرات وطرق تعاملها مع الناس كما سنتعرض للعقليات اليابسة في حزب البعث وفساد القضاء.' سألت فرزات: 'وهل وافق؟' فقال: 'يمكن ان اقول انه حصل بيننا اتفاق جنتلمان'.

اتفاق 'الجنتلمان' هذا لم يصمد طويلا. 'ما ان مرّت 4 اسابيع على صدور الجريدة حتى فتحت عليّ بوابات جهنم ولم اعد اجد أحداً معي'.

سألت علي: 'وماذا كان موقف الأسد؟'

'التقيت به احدى المرات واشتكيت من الهجوم العنيف علي وعلى الجريدة من قبل المافيات المتنفذة في سورية، مما ادى لارباك الصحيفة من خلال منع التوزيع والاعلانات وحذف المواضيع والمقالات.'

'وبماذا ردّ عليك؟' قلت وانا أبتسم.

'قال: عليك ان تقلع شوكك بيدك'!

 

اغلاق الدومري

 

لا يعتبر فرزات ما حصل معه خسارة فالطبيعي ان يختلف مع اي سلطة وان لا يقبل رسوماته وانتقاداته الساخرة المتنفذون 'انا فنان' يقول علي، 'هذه طبيعة عملي. انا خلقت لاختلف مع السابقين ومع الموجودين حاليا ومع من سيأتوا. انا انفذ افكاري على الورق وارسلها رسائل الى الشارع ولا اتأثر بمواقف وآراء وايديولوجيات مختلفة. انا انتمي لهذا الوطن فقط والى هؤلاء الناس. لم افكر في يوم من الايام ان اكون حزبياً او انتمي لأية مؤسسة'.

صدر من جريدة الدومري 105 اعداد وحققت الجريدة رقما قياسيا بطباعة اعدادها واختفائها من الاسواق 'لكن هذا الربيع لم يدم طويلا فتلبدت السماء بالغيوم'، على حد قول فرزات. 'اغلقت الجريدة بأمر حكومي بعد ان نفد صبرهم'.

وفي بلد يدفع الانسان حياته ثمنا لخروجه في مظاهرة اخترعت السلطات مظاهرة صاخبة اتجهت الى مكاتب الدومري لتحطيمها.

'كانوا حوالي 100 عنصر مخابرات'، قال فرزات ضاحكا. 'للمصادفة كانت محطة بي بي سي موجودة في مكاتب الصحيفة ذلك اليوم ووصل العناصر الى باب المكتب، وكان هناك صحافي بريطاني ومديرة مكتب بيروت كيم غطاس الذي سأل زعيم المظاهرة سؤالا احرجه. قال له: في سورية قانون طوارئ يمنع التظاهر فكيف تتظاهر، هل انت ضد النظام؟ الأمر الذي دفعه للاعتراف بانه خرج بتوجيه أمني!'.

رفعت عشرات الدعاوى لاقفال الصحيفة وقامت مؤسسة التوزيع بحجبها وعدم توزيعها كما طلبت السلطات من المطابع عدم طباعتها من خلال خطابات رسمية كما تم اعلام جميع التجار والمؤسسات بعدم الاعلان في الجريدة، وكان القصد من ذلك دفع فرزات لاغلاق الصحيفة 'كي لا يقال ان الحكومة هي التي اغلقتها'.

لكن فرزات، ورئيس تحرير الصحيفة، حكم البابا، اتخذا قرارا دفع السلطات الى اقفالها من خلال عدد سمياه 'العدد الانتحاري'.

يتذكر فرزات الحادثة قائلا: 'قمنا بترتيب العدد انا وحكم، هذا الصديق الذي قدم معروفا كبيرا من خلال علاقته بالمثقفين والكتاب والصحافيين وانقذني من خلال ذلك العدد من كل الممارسات الحكومية التي جرى التعتيم عليها من خلال اذاعتهم وتلفزيونهم، وخرج العدد الى النور مما سبب صدمة لوزير الاعلام ورئيس الوزراء فتم ارسال عدد كبير من دوريات الأمن للاسواق لجمعه'.

في اليوم نفسه صدر قرار من مجلس الوزراء باغلاق الجريدة وسحب الرخصة من علي فرزات ثم جرى ما جرى من ملاحقات للناشطين بعد ما سمي بربيع دمشق.

'انا ما كان بدي اغلقها كي لا يقال ان علي فشل رغم اختصارها الى 12 صفحة. كانت المعركة هي اغلاقها مني او اغلاقها منهم'.

كنت سمعت من الصديق حكم البابا ان الدومري في طريقها للعودة وذكرت ذلك لفرزات فقال: 'انا ما رح احكي عن المشروع لأن شروطه ما اكتملت. انا افضل ان تصدر من الداخل. هذا صعب لكن الشروط المناسبة في الخارج لاصدارها لم تكتمل، خاصة موضوع تمويل الجريدة. الصحيفة يجب ان تكون قادرة على تمويل نفسها'.

 

المترددون في تأييد الثورة

 

موضوع المثقفين والفنانين المترددين بمناصرة الثورة السورية موضوع مثير للجدل والنقاش وبالنسبة لعلي فرزات فان هؤلاء المحتارين قاموا بالتشكيك بقيمتهم الفنية من خلال ترددهم 'انا اقيم الانسان اخلاقيا. الفنان قيمة اخلاقية فكرية وهو مثل بوصلة. هذه القيم هي التي تحدد الاتجاهات او المنفعة او المصلحة، ومن يغالط هذا الموضوع هو كمن يذر الرماد في العين'.

يحتج فرزات حتى على اطلاق صفة فنان على أي كان 'ليس كل من يمارس الفن هو فنان' يؤكد فرزات. 'الفنان هو من تنطبق عليه المواصفات التي ذكرتها وهي مواصفات اخلاقية وجمالية. الفنان ملتزم بهذه القيم دون الزام من احد. الفنان ليس كندرجيا يصنع الاحذية والوطن ليس مؤسسات انتاجية ومزارع ومصالح'.

يرى فرزات ان بعض الفنانين 'يتلطون وراء ادعاءات وطنية تتمثل بعبادة الاشخاص، ومن كان يعبد الاشخاص فالاشخاص تموت اما من يعبد الله والوطن فهما لا يموتان'.

يتذكر فرزات كيف شق طريق الحرية لنفسه 'انا منذ البداية وانا احتك بطوق العزلة الصلب الذي يقيد الحرية، وعلى مدى 35 سنة من الممارسة اكتسبت هامشا فتحته بنفسي حتى ان الناس كانوا يشترون الصحف الرسمية المكروهة بسبب الكاريكاتير الذي ارسمه، وكانت مبيعات الجريدة ترتفع بسبب رسومي والعكس صحيح. هذه الحالة خلقت لدي حماسة وشجاعة اضاف لاعمالي نكهة الحرية التي كنت اهرّبها عبر الصحيفة من خلال الرموز والرسائل المضمنة متحايلا على الرقابة'.

هذه الاحابيل والالاعيب التي اضطر اليها الفنان جعلته يحس ان على رسام الكاريكاتير في بلدان الطغيان ان يشبه لاعب السيرك ليخدع الرقابة غير ان ذلك لم يخل من مساءلات واستدعاءات امنية بسبب بعض الرسوم التي يجهل المسؤولون تفسيرها!

قبل بدء الثورة السورية بأشهر بدأ فرزات يشعر بما سماه 'همهمة' و'حماسا' دفعاه الى الحماس ايضا والانتقال من الرمزية الى تناول اشخاص بعينهم كرئيس الوزراء وكرامي مخلوف واشخاص سلطويين ونواب. يقول فرزات: 'انتهى الامر برسم الرئيس وتناوله بالكاريكاتير وهذا عمل صدمة كبيرة لدى النظام، وظن الناس انني خارج سورية لكون هذا الامر ضرب من المستحيل ان يتم بعد 50 عاما من التأليه'.

كانت تلك نقلة نوعية كبيرة في فن وحياة الفنان السوري وقد شبّه فرزات الأمر بأنه البس الكاريكاتير لباسا ميدانيا ونزل به الى الشارع بعيدا عن الرمزية التي تحتاج لفترة من التأمل، وكان ذلك تماشيا مع حراك وقياس نبض الشارع.

يتذكر فرزات هذه اللحظة بفرح قائلا: 'عرفت كم كان تأثير الكاريكاتور في كسر حاجز الخوف حين رأيت رسوماتي يرفعها متظاهرون في الشارع وكان ما كان من دفعي ثمن ذلك والجميع يعرف القصة التي حصلت'.

أحببت معرفة رأي الفنان في الاتجاه الذي تتخذه الثورة فرد: 'انا اقول باختصار شديد، الثورة انتصرت عندما انكسر حاجز الخوف، وما نراه على الارض هو مجرد ترتيبات فقط للمستقبل'.

بالنسبة لفرزات فان الثورة السورية سحبت البساط من تحت كل المافيات في العالم عربيا ودوليا 'ولو كانت ثورة حزب معارض فقط لكانت انتهت بعد شهر من بدايتها. هي ثورة مظلومين خرجوا الى الشارع بعد خمسين سنة من القمع والاقصاء'.

السخرية التي تنبع من داخل فرزات وفنه كانت سلاح المتظاهرين السوريين العظيم في كل مكان وبالنسبة له فان الفن الساخر ادى دورا اساسيا في مسيرة الثورة 'عليك فقط ان تنظر ما قام به الحماصنة رغم الامهم والمجازر ضدهم. ليس هناك اروع من ابتسامة الامل التي تولد من الألم'.

قلت لفرزات: 'هناك منافسة بينك وبين الشارع في الكاريكاتير واللقطات الساخرة فكيف تستطيع مواكبة هذه المنافسة؟'

قال: 'شرف المنافسة هو بمواكبة الشارع. انا لست خلفه الأمر الذي ادى الى تفاعل وثيق بين الشارع الذي انا جزء منه وبين الافكار التي هي جزء من الشارع وانعكست هذه العلاقة على الشارع حين ترى رسوماتي ترفع كلوحات ولافتات في انحاء سورية. انا جزء من الشارع وهو جزء مني. نحن نكمل بعضنا فكريا وكممارسة على الارض'.

يحس فرزات بالالم الكبير من تآمر المجتمع الدولي على السوريين وتأخرهم في نجدتهم وهو يقول ببساطة انه لا يؤمن بدور الفيتو ويدعو لاعادة النظر في استخدامه لأنه يستخدم 'مثل فيزا كارد في جهاز صرف المصالح العالمية على حساب شلالات الدم الذي سيغرقهم ويغرق كل المنظمات التي تدعي الانسانية'.

يرى فرزات ان الثورة السورية ستصحح مسارات الثورات العربية وانها ستخلق شيئا ستقتدي به كل الثورات السابقة واللاحقة 'هناك ثورتان حصلتا في سورية: ثورة الابجدية الاولى وهذه الثورة'.

 

ناجي العلي وحمل السلم بالعرض

سألت فرزات اخيرا عن صديقه نجيّه ناجي العلي فقال متذكرا: 'قلت للعلي مرة ان هذا قدرنا ولا يمكن ان نسلخ جلد وجوهنا ونلبس اخرى.'

وتذكر ايضا يوم سرحته صحيفة في ابوظبي من عمله نتيجة كاريكاتير ناقد 'كلّمني على الهاتف مازحا وهو يضحك: يا شماتتي فيك. قلت له: لا تشمت كثير نحن السابقون وانتم اللاحقون. كان وقتها في الكويت وفي اليوم الثاني حصل توقيفه وابعاده عن الكويت وما حصل بعد ذلك جعلني اكثر أسفا وحزنا على وطن عربي يلتهم ادمغته من المثقفين والفنانين والمبدعين. كان ناجي العلي انسانا لا يرسم بل كان ينزف رسماً لذلك كنت ترى حياته متطابقة مع رسومه'.

يقول فرزات ان ناجي العلي اخرج الكثير من الانظمة العربية وقادتها عن طورهم ولم يكن ياسر عرفات آخرهم. 'كان جمهوره في كل العالم العربي وكان تأثيره كبيرا على الفلسطينيين وغير الفلسطينيين الأمر الذي اشعر الجميع بخطورته فكان ان قرروا اسكاته.

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ