ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 24/09/2012


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

سوريا وصعوبة السلام

تاريخ النشر: الأحد 23 سبتمبر 2012

د. شملان يوسف العيسى

الاتحاد

نعى الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي الحلول العربية والدولية، وأكد أن الجامعة العربية والمجتمع الدولي فشلا في إنقاذ الشعب السوري، وأعلن عن إحالة القضية إلى مجلس الأمن، وهذا أمر حتمي لأنها وصلت إلى طريق مسدود.

وزير خارجية إيران علي أكبر صالحي، صرّح في دمشق بأن دعم إيران لسوريا غير محدود حتى تستعيد الأمن والاستقرار، وسوف تدعم إيران سوريا طالما أن ثمة قوى إقليمية وعربية تحاول هدم النظام والاستقرار في سوريا.

الدكتور أحمد رمضان، المتحدث باسم "المجلس الوطني السوري"، صرح بأن اللقاء السوري الإيراني، هو جزء من الدعم المستمر الذي تقدمه السلطات الإيرانية لنظام الأسد، بعد أن أقر قائد "فيلق القدس" قبل أيام، بوجود حرس ثوري إيراني داخل سوريا ولبنان.

تقارير الاستخبارات الغربية في العراق أشارت إلى تزويد العراق للنظام السوري بالسلاح والعتاد، بضغط من إيران.

ورغم الاجتماعات المنفردة التي عقدها المبعوث الأممي العربي المشترك إلى سوريا، الأخضر الإبراهيمي، بالرئيس الأسد والمعارضة، لم يحدث أي انفراج في الأزمة، لذلك ذهب إلى مجلس الأمن ولالتقاء بأمين عام الأمم المتحدة.

كل هذه المؤشرات تدل على تعقد الأمور أكثر في سوريا، فالثورة السورية التي بدأت سلميةً، تحولت اليوم بعد عام ونصف العام إلى ثورة مسلحة ساهمت فيها عدة جهات، منها "الجيش السوري الحر"، وفئات متطوعة من السوريين في الخارج، وبعض المتطوعين العرب، وغيرهم من الحركات الجهادية.

عاصم عبدالماجد، عضو مجلس الشورى المصري، صرح بأن هنالك مؤامرة على الشعب السوري، تساهم فيها إيران و"حزب الله" والصين، ضد الشعب السوري الأعزل، ودعا المسلمين للانخراط في العمل الجهادي لنصرة إخوتهم في سوريا.

دخول الجهاديين العرب وغيرهم ووجود "فيلق القدس" الإيراني في سوريا، يجعل من الصعب جداً الوصول إلى حلول سلمية، لأن كل طرف مع الأطراف المتصارعة في سوريا لديه مصالحه الخاصة في هذا البلد المنكوب.

والسؤال: إلى أين تسير سوريا إذا استمرت الحرب الأهلية الطاحنة لمدة طويلة؟ ما هو مستقبل سوريا بعد الحرب؟ هل تصبح سوريا صومالاً آخر، حيث تتصارع القوى الإقليمية فيها على حساب الشعب السوري؟

الأمر المؤكد بالنسبة لنا هو أنه لا توجد حلول سريعة للمشكلة، خصوصاً أن مجلس الأمن لم يتخذ خطوات عملية وفعلية لوقف سيل الدم... بسبب "الفيتو" الروسي والصيني.. ليس من مصلحة أحد استمرار القتل والتشريد والإبادة الجماعية، من قبل النظام ضد شعبه، كذلك ليس من مصلحة المقاومة إدخال المجاهدين من كل بقاع المعمورة للجهاد في سوريا لتحريرها من النظام الاستبدادي.

ما نتخوف منه في دول الخليج هو أن تتحول سوريا إلى عراق جديد يتقاتل فيها أبناء الوطن الواحد تنفيذاً لأجندات خارجية. دخول المجاهدين العرب والمسلمين إلى سوريا لمحاربة جيش النظام والكتائب الثورية الإيرانية، سيحول سوريا إلى مستنقع لحروب بالوكالة.

مطلوب من دول الخليج أن تحمي وحدتها الداخلية بتعزيز الوحدة الوطنية حتى لا نعطي إيران ذريعةً للتدخل، والاستقرار في علاقتنا الطبيعية مع الولايات المتحدة والغرب، لحماية أنفسنا من ويلات الحروب القادمة.

=================

المناطق المحررة تدير أمورها المحلية

المدن السورية وتجربة الحكم الذاتي

تاريخ النشر: الأحد 23 سبتمبر 2012

الاتحاد

بورزو داراجاهي

صوران - سوريا

قرر قادة المجلس الذي يحكم "صوران" وهي مدينة تقع في إحدى المناطق السورية التي تسيطر عليها قوات المعارضة، عقد اجتماع طارئ على أحد ممرات المشاة الممتدة على طول الطريق الرئيسي لتلك المدينة، في خطوة تدل على نظام الحكومة المفتوحة الذي تدار به البلدة المحررة، والذي يمكن أن يكون محلاً لإعجاب دول عريقة في الديمقراطية مثل السويد وكندا.

ويجمع القائمون على الاجتماع عدداً من الكراسي البلاستيكية وطاولة، ويبدأون في صب الشاي، ومناقشة أعمال الحكومة التي أقاموها لكي تحل محل مسؤولي حزب "البعث"، والجهاز الأمني التابعين لنظام بشار الأسد ، اللذين حكما المنطقة بيد من حديد لعقود طويلة.

ويقول "فايز حماشو" رجل الأعمال، وأحد أعضاء مجلس المدينة الأحد عشر: "هذا شيء جديد بالنسبة لنا، ولكننا اضطررنا إليه عندما فر رجال بشار هاربين، ولم يعد هناك أحد كي يحل المشكلات اليومية في المنطقة".

وفجأة يسود الاضطراب الجلسة، بعد أن تسربت أخبار بأن صاروخاً أطلقته إحدى مقاتلات الأسد القاذفة النفاثة قد أصاب قرية مجاورة ما أدى إلى إصابة العديد من الأشخاص.

وعقب ذلك بدقائق شوهدت أعداد كبيرة من الدراجات البخارية والسيارات المكتظة بالأطفال والمحملة بالحقائب وهي تمر أمام مكان الاجتماع، هرباً من القصف.

وفي أثناء ذلك كان يمكن سماع أصوات الطائرات وهي تحوم في السماء ما أثار موجة من الفزع بين الجميع.

وهكذا لم يكن أمام تلك التجربة في الديمقراطية المفتوحة سوى أن تعلق أعمالها ويهرع القائمون بها إلى داخل المباني طلباً للحماية.

وفي الوقت الذي تحتدم فيه نيران حرب ضروس بين الثوار السوريين ونظام الأسد، بدأت تجربة الحكم الذاتي ترسخ وجودها في تلك الأجزاء من سوريا الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وخصوصاً المناطق الشمالية من البلاد.

وعلى رغم أن النظام ما زال يسيطر على العاصمة دمشق، إلا أن مناطق واسعة أخرى عديدة تحولت إلى بؤر للمقاومة.

وتحت تهديد مقاتلات الأسد، والقصف، والمروحيات، يقوم النشطاء الثوار، بإدارة الشؤون المحلية مثل جمع القمامة، وتوزيع الطعام، وإيواء المدنيين العزل ممن شردتهم الحرب، بالإضافة إلى أعمال عديدة أخرى مثل تحقيق العدالة، وحل الخلافات بين العشائر المختلفة التي يمكن أن تتطور إلى كوارث، وذلك قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة.

ومن المعروف أن تجربة السوريين في الديمقراطية محدودة للغاية، وذلك بعد أن عاشوا لعقود تحت حكم نظام بشار، ووالده حافظ الأسد، المفرط في قمعيته ومركزيته. كما يشار كذلك إلى أن العديدين ممن يقودون المجتمعات المحلية الآن في أجزاء مختلفة من سوريا، قد شاركوا من قبل في الاحتجاجات السلمية العام الماضي التي يعتبرها كثيرون منهم فترة من التوعية السياسية، والحوار الحر المفعم بالروح الديمقراطية التي أطلقتها الثورات في بلدان مثل تونس ومصر.

ولكن عندما تدهور الموقف الأمني، اضطر العديدون من هؤلاء لحمل السلاح استعداداً لخوض المعركة ضد قوات الأسد، ولكن البعض منهم بدأ أيضاً في إعداد الخطط لتشكيل حكومات محلية، إذا ما تداعت سلطة الدولة.

وجميع أعضاء تلك المجالس -أو الغالبية العظمى منهم على الأقل- من الرجال. وهم يقولون إنهم يعملون بموجب تعاليم "الشريعة الإسلامية"، غير أن الحقيقة هي أن إلمام بعض منهم بتعاليم الدين محدود نسبياً، وهم عندما يشيرون إلى الشريعة فإنما يشيرون إليها كمصطلح شامل للتمييز بين حكمهم، وبين الحكم القسري، الوحشي، والفاسد لنظام "البعث".

ويشير "حماشو" إلى الكيفية التي كانت تدار بها الأمور تحت حكم حزب "البعث" فيقول: "في السابق كانت القيادة القطرية لحزب البعث تتحكم في كل شيء، وإذا ما كنت تعرف مسؤولاً في تلك القيادة فإن كل الأبواب المغلقة كانت تفتح أمامك، وتصير أمورك كلها على ما يرام... أما إذا لم تكن تعرف أحداً فإنك كنت تتعرض للتجاهل أو إلى ما هو أسوأ من ذلك".

وقد تكاثرت أعداد المجالس المحلية خلال الشهور القليلة الماضية في المناطق السورية المحررة الخاضعة لحكم المعارضة، واختصت في المقام الأول، كما سبقت الإشارة، بمعالجة الشؤون المحلية مثل توزيع المياه، والطعام ، وتوفير المأوى للنازحين عن ديارهم.

وأعضاء تلك المجالس ذوو خلفيات أيديولوجية متعددة، والبعض منهم أكثر تديناً من غيره. وفي بعض المناسبات يعترض المدنيون على سلوك مقاتلي المعارضة. ومن الأمثلة على ذلك أنه منذ عدة شهور، وفي مدينة "مارع" التابعة لحلب، طالب سكان المدينة المدعومين من قبل المجلس المحلي مقاتلي المعارضة بإيقاف ما يقومون به من إعدامات لأعوان نظام الأسد، والاكتفاء بحبسهم انتظاراً لمحاكمتهم فيما بعد.

ولم يجد مقاتلو المعارضة طريقاً آخر سوى الاستجابة لطلب السكان. وفي الوقت الراهن يتم توزيع قانون بقواعد السلوك التي يتعين على رجال المقاومة الاهتداء بها، ويتم وضعه موضع التنفيذ -اسمياً على الأقل- خصوصاً بعد أن نشرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" تقريراً اتهمت فيه رجال المقاومة بتنفيذ عمليات إعدام والقيام بعمليات تعذيب خارج نطاق القانون.

ويعترف الناشطون والزعماء المحليون بدرجات -تختلف اختلافاً بيناً- بالسلطة المدنية على المقاتلين المسلحين في الخطوط الأمامية من المعركة ضد نظام الأسد.

ويقول "عمر بريمو" عضو مجلس مدينة صوران في معرض إشارته للتوتر الذي يحدث في كثير من الأحيان بين المقاتلين وبين السلطات المدنية: "ما نريده هو التفرقة بين ما هو عسكري وبين ما هو مدني". ويضيف بريمو: "لقد كافحنا كفاحاً مريراً كي نبعد العسكريين عن ظهورنا، ومن ثم فنحن لا نريد حكومات عسكرية مرة أخرى".

يشار في هذا السياق إلى أن المجالس المحلية في حلب تتبع للمجلس الثوري في مدينة "تل رفعت" غير أن الملفت للنظر أن التنسيق بين المجالس المختلفة يمضي أحياناً على نحو سيئ، وهو ما يمثل عرضاً من أعراض ظاهرة التشظي التي ابتليت بها الانتفاضة السورية. فبسبب ضعف التنسيق هذا يمكن لناشط، أو صحفي، أو عامل في مجال الإغاثة يعمل بحرية في قرية معينة أن يتعرض لاتهامات بالجاسوسية إذا ما نقل نشاطه إلى قرية مجاورة.

وكذلك تواجه عملية عقد الاجتماعات ذاتها صعوبات مختلفة بسبب الضربات الجوية، إذ يخشى المجتمعون أن ترصد طائرات الأسد أو مروحياته تجمع عدد كبير من السيارات في منطقة واحدة فتقوم بقصفها. وعلى رغم التهديد الذي تمثله تلك الطائرات، وتواجدها بشكل كثيف، إلا أن المجالس المحلية المكونة حديثاً عادة ما تنجح في عقد اجتماعاتها على نحو ما لمناقشة أدق تفاصيل المشكلات التي تعاني منها منطقة من المناطق.

ففي يوم الخميس الماضي، استمعت اللجنة القضائية لمجلس "مارع" لقضية "راجية طبشو" التي هجرها زوجها إلى امرأة أخرى من دون أن يترك لها ما يمكن أن تواجه به أعباء حياتها. ولعدة أسابيع ظل الزوج يتجاهل دعوات اللجنة للحضور -كما قالت أم الزوجة- قبل أن تقوم اللجنة بإرسال بعض المسلحين لضبطة وإحضاره.

ويقول إبراهيم النجار (وهو محامٍ) تعليقاً على ذلك: "تحت النظام القديم كان الأمر يستغرق شهرين حتى يتم إحضار شخص ما للمحكمة أما الآن فيتم إحضاره خلال يومين فقط".

ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس"

=================

سوريا على مذبح انحطاط السياسة

المستقبل - الاحد 23 أيلول 2012 - العدد 4468 - نوافذ - صفحة 11

دمشق ـ غازي دحمان

ليس في سوريا شيء يجعلها تتميز عن غيرها من دول العالم، ثمة بلدان كثيرة تفوقها درجات بمزاياها، الطبيعية والتقنية ودرجة ومستوى تحضر شعوبها، حتى السوريين أنفسهم من أقل الشعوب إحساساً بالنرجسية.

أكثر من ذلك، فالسوريون مشهورون بلا وطنيتهم، بعكس أقرانهم في المنطقة، ذلك أنهم طالما تخلوا عن هذه الهوية الوطنية لصالح الإندماج في هويات أكثر إتساعاً وشمولاً ( كالهوية العربية )، وهو الأمر الذي عاق على الدوام تجذر السورنة، وبقيت قضية الإنتماء أكثر المسائل مرونة وسهولة، فالسوري يكتشف انتماءه لحظة يئن الوجع في الديار الأهلية له. فيصير عز الدين القسام فلسطينياً وجول جمال مصرياً ... وهكذا.

ليس ثمة ما يميز سوريا غير قدرة هذه الجغرافيا على إنتاج صيرورة حياة لا إنقطاع فيها، ونمط حياة انسيابي خال من التعقيد. تلك حقيقة لا تحتاج إلى عمليات بحث أركيولوجية لإكتشافها، ذلك أن هذا الأمر يكشف عن نفسه فور قراءة بسيطة لسيرة هذه المنطقة، ولا يحتاج الأمر إلى التوغل في بطون هذه السيرة، فعند حوافها سيجد الراغب ما يريد .

بالطبع ليس المقصود من وراء هذه المقدمة تخليق مجال نرجسي لشعب يعف عن هذا المقام، وليس المقصود أيضا المزايدة وإظهار مزايا متفردة لشعب لم يدّعها، وبخاصة أن السوري يعيش هذه اللحظة نكبة تطال روحه وإحساسه بالكرامة، فوق الموت الذي يلاحقه في مدنه وقراه، وتنبري العصابة الحاكمة لتصفه بأقذع الأوصاف، من التطرف إلى التخلف، بحيث تصبح القضية موتا وفضيحة.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه بأن تتناوله أقلام وألسنة اللئام من العرب الموالين للنظام، في الجرائد والفضائيات، فذلك من يصف الثورة بالمؤامرة. موت السوريين مؤامرة، وعلى من؟ وذلك الذي يطاردهم في لجوئهم كما يفعل حزب الله، والآخر الذي يلفق التهم لنسائهم وبناتهم، ويصور اللاجئين السوريين وكأنهم ذاهبون إلى سوق لتزويج بناتهم. ولا ينقص إلا تصميم واجهات لعرضهن على كل راغب زواج، وتصبح القضية وكأنها هي المشكلة، لدرجة أنها تحتل إفتتاحيات بعض الصحف العربية، فيما الواقع أن القضية جرى صناعتها في مخابر النظام المخابراتية والإعلامية.

ميزة سوريا إذاً هي قدرة أبنائها على الصبر والتحمل والفاعلية في آن واحد، فرغم كل ظروف الإستبداد والفقر التي أحاطت بالسوريين إلا أنها لم تدفعهم إلى الإنغلاق على همومهم ومشاكلهم، التي قد تبدأ من تأمين لقمة العيش في ظروف صعبة ولا تنتهي عند الاستبداد بكل مستوياته وأشكاله والكفيل بتصحير الروح والعقل، بل إمتاز السوري على الدوام، بإبدائه صبراً عجيباً على تحمل المصاعب والقدرة على تحملها ومحاولة تطويع الظروف لصالحه، وتمتزج مع هذه الميزة قدرته على التفاعل الخلاق مع محيطه وجدانياً ومسلكياً، وهو ما أظهرته مناسبات عديدة.

وثمة ميزة أخرى أنتجتها الجغرافيا السورية وهي تلك المسحة الهائلة من التسامح، التي يمكن وصفها بأنها وليدة بيئتها الطبيعية، وليست نتاج إتفاقيات وتفاهمات سياسية مكتوبة أو ضمنية، وبناءً على ذلك ليس من المستغرب أن تجد سلطان باشا الاطرش أكثر زعيم وطني حوله إجماع، فيما يتحول صالح العلي إلى رمز للوحدة الوطنية، ويصبح فارس الخوري زعيماً وطنياً ويوسف العظمة بطلاً تاريخياً، ترى كم واحد في سوريا توقف عند طائفة أو ديانة أو قومية أي من هؤلاء الرموز!

ومن أسف أن جملة هذه المزايا افتقدت لحامل سياسي ينميها ويطور ممكناتها، أو على الأقل يستفيد مما توفره لتطوير صيغ لحياة وطنية مستقرة ومنتجة، كان من الممكن أن تغير وجه سوريا وتنقلها من واقعها المادي الصعب إلى ظروف أكثر رخاءً، وبخاصة أن هذه البيئة تريحه من مجهود سياسي لازم لدمج مكونات المجتمع، بما يتطلبه من موارد موازية لإنجاز مثل هذه الوظيفة.

السياسة ضيعت المجتمع في سوريا، وقد اعتاشت السلطة على هذه الوظيفة عقوداً طويلة، تلك على كل حال طبيعة إستبدادية حيث السلطة لا تنتعش إلا بمقدار استحواذها على المجال المجتمعي بكامله. وفي الشرق عموماً، وفي سورا على وجه الخصوص، لم تنتعش السياسة إلا على جثة المجتمع، وفي إطار تخريب أسس العيش وتدمير نسيجه ووحدته، وذلك بقصد ضمان إنهاك المجتمع وإخراجه من أمكانية إنتاج طبقة سياسية بديلة، وكأن حافظ الأسد كان يحلم بحكم سلالي يمتد لقرون من الزمن. ذلك الديكتاتور الذي يصفه أتباعه بالعبقري والحكيم، وكأن الشرور وتعميم الفساد والخداع والبطش غدت مؤشرات للعبقرية والإبداع.

اليوم تمارس السياسة "الأسدية" لعبتها ذاتها، بل وتعيد تزخيمها وترشيقها، بما توفره لها تقنيات الإتصال، عبر تشويه صورة الشعب السوري والاستعلاء عليه ومحاولة إظهاره كشعب متخلف. ووصل الأمر إلى حد استئجار قناة فضائية سورية بعضَ المنحرفات، وهن لم يزرن تركيا يوما، للقول إنهن من إدلب وذهبن إلى معسكرات اللاجئين وتم اغتصابهن؟!

سوريا ضحية السياسة التي أظهرت كل الأشياء السيئة، وحاولت أن تجعل منها مركبا يشكل عنوان الشخصية السورية وواجهتها، مقابل القضاء على كل الميزات الخيرة والنبيلة لشعبها. واليوم تحاول هذه السياسة صناعة وحوش فاتكة في كل جنبات سوريا وأركانها، لتخرج نفسها من الورطة التاريخية التي وضعت البلاد بها، وتدعي أنها تواجه إرهاباً، ولا ضير في استدعاء جيوش العالم لمساعدتها على ترويض الشعب السوري.

=================

سيرة الناشط رودي عثمان من التظاهرة الأولى إلى السجون.. إلى جبهات القتال

وجوه الثورة السورية المتعددة والباهرة

عمان ـ جولان حاجي

المستقبل - الاحد 23 أيلول 2012 - العدد 4468 - نوافذ - صفحة 10

هذا النص هو ثمرة لقاءات مطوّلة مع الشاب والطالب الجامعي رودي عثمان، الذي كان من أوائل الذين شاركوا في انطلاقة الثورة السورية، والذي عانى الاعتقالات والتعذيب، وشهد على الأحداث الأولى التي أفضت الى اندلاع الانتفاضة الشعبية الشاملة في كل أنحاء سوريا منذ آذار 2011.

الخروج إلى الأردن

جاء اعتقاله الثالث خلال أقل من سنة قاصماً. متردداً في خروج لا مناص منه، ملتحقاً بأصدقاء آخرين مهددين مثله سبقوه إلى الأردن، ظل رودي عثمان مترقّباً في استراحة النخيل على أوتوستراد درعا، لأن الشخص الذي سيأخذه لا يرد على الهاتف الجوال، قبل أن تأتي دراجة نارية لتقلّه إلى أحد منازل قرية نصيب الحدودية. هناك، انتظر طويلاً حلول المساء، وهتف في ساحة مدرسة في آخر تظاهرة يحضرها في سوريا.

كان المنزل الذي استضافه قد طبخ أرزاً وبازلاء، الوجبة نفسها في مطابخ السجون التي اعتقل فيها. أثنى على الطعام أمام الأم وابنها، وأسكت جوعه بلقم قليلة ازدردها على مضض: "إن شاء الله بالنصر وسقوط النظام". باقتراب الليل، انتبه إلى تجمع القادمين أمام سيارات فان وسوزوكي، وقد خرجوا على دفعات من ثلاثة أو خمسة أشخاص نزلوا في منازل متفرقة من القرية. كانت السيارات تذهب بالنازحين إلى أبعد نقطة ممكنة على الحدود ثم تعود لتحمل المزيد منهم. سار رودي 40 دقيقة مشياً ريثما وصل بصحبة 200 آخرين إلى عساكر الحدود الأردنيين. نقطة تل شهاب الأقرب أمست خطرة، بعد تمركز دورية للأمن الجوي فيها، وعناصر الهجانة السورية يطالبون أحياناً بمبالغ صغيرة لقاء السماح للاجئين بالعبور فيتعاون المفلسون على تسديدها. كانت القاعدة النصيحة هي: "حذار القناصة. اركضوا واركضوا دائماً، ولا تنظروا إلى الخلف مهما كانت الأسباب. لا تردوا إذا استوقفكم أحد وإذا نُوديتم فلا تجيبوا". أحد المهربين يقود المجموعة، وكلٌّ يركض مثل الراكض أمامه، والمجموعة بأكملها تسير كجسد واحد.

كان رودي، الذي غادر المعتقل منذ يومين مبرَّحاً بضربات أخمص الرشاش والهراوات، آخر السائرين. حمل طفلة باكية ما عادت أمها المريضة تقوى على حملها، فغفت على كتفه ثم أرخى عجوز بدين بكل ثقله عليه، لاهثاً وعاجزاً عن الكلام، وسار على هذا النحو عشر دقائق مهرولاً تقريباً على حصى البرية المظلمة، بينما حقيبته تضرب كخنجرٍ ركبته المرضوضة. بقلب تسارعت دقاته، لم يتمكن من كتم رجائه للعجوز: "أرجوك يا عم، سيغمى عليّ من شدة الألم. أترى العسكري الأردني هناك؟ لقد وصلنا، فأكمل وحدك والحمد لله على السلامة". عند وصولهم إلى المخفر الحدودي جاءت الأم بحثاً عن ابنتها التي حسبتها مفقودة. استلقى منهكاً لاهثاً، ثم سقاهم العساكر الأردنيون شاياً وماء، قبل أن تتبدل النبرة شيئاً فشيئاً ويضطر النازحون إلى انتظار وصول الباصات حتى الثانية ليلاً. في ذاك البرد الجاف الرهيب، برد ليالي نيسان، كانت هناك خيمة مفتوحة التمّت تحتها النساء والأطفال، بينما الرجال أوقدوا ناراً صغيرة في العراء، ورضّع كثيرون يبكون، اقترب رودي من الخيمة، وعاد وبين ذراعيه رضيع مزرق الشفتين خافت البكاء، بعد طمأنة الأم والتملص من توبيخ الحارس الذي اعتبر تصرفه خرقاً للأعراف. بوجه كالثلج غفا الرضيع أمام النار، وظل هناك إلى أن نودي باسم أمه فأخذته وانصرفت على عجل.

الاعتصامات والتظاهرات الأولى في دمشق، شتاء وربيع 2011

كانت لرودي في غرفته التي هجرها، بالمنطقة ذات الأغلبية الكردية على تخوم دُمّر وادي المشاريع، خريطة كبيرة لسوريا، يرسم على تضاريسها دوائر خضراء حول نقاط التظاهر ويحلم باخضرار البلد كلها. ترك بيت والديه المراقب، متنقلاً ومتخفياً، منذ مشاركته في أولى تظاهرات الثورة السورية.

انفضّ الاعتصام الأول أمام السفارة التونسية في المزة فيلات، وتفرقت قلة لبوا دعوة على الفيسبوك. ثم كان اعتصام ثانٍ التقى فيه قرابة المئة شخص أمام السفارة المصرية في كفرسوسة، أشعلوا الشموع وتناقلوا كاريكاتيراً ليوسف عبدلكي، ورددوا أغنية استفزت الأمن "هبّي يا رياح التغيير هبي". وفي اعتصام آخر بساحة باب توما، تأخر رودي قليلاً فشاهد سهير أتاسي تُضرب قبل أن تُسحب إلى المخفر. ومع الاعتصام أمام السفارة الليبية ليومين متواليين تأكد الإحساس بوصول الثورة إلى سوريا. في ثاني أيامه أمام الكنتاكي في حديقة المدفع ضربت ريم الغزي واعتقل العديد قبل أن يفرج عنهم في المساء نفسه. وفي التظاهرة الأولى 15 آذار 2011 أمام الجامع الأموي، وكانت الدعوة موجودة على صفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد"، تعرف خمسون شاباً إلى بعضهم البعض من أيام الاعتصامات، وتبيّن لاحقاً أن نصفهم جاؤوا من الزبداني. بعد دقائق من الترقب والقلق، علا آذان الظهر، ثم انطلق الهتاف الأول "الله أكبر عالظالم"، وأجساد المتظاهرين المرتبكة تتنمل فرحاً وخوفاً، "حرية حرية، الشعب السوري ما بينذل". كان رودي في نهاية التظاهرة يصورها بقلق، بعد أن ترك، مثلما ترك مرات عديدة لاحقاً، رسالة اعتذار وحب لأهله تحسباً لاختفائه المفاجئ، ويرى الواقفين يتطلعون إلى المتظاهرين كأنهم يتفرجون على المجانين. قبل الوصول إلى ساحة الحريقة لاحت باصات المرسلين إلى الضرب، وأخفقت محاولة الشبان للالتقاء مجدداً عصر اليوم نفسه. عاد ببوظة بكداش ليجلس وسط حمام الساحة، غيرَ مصدِّقٍ روعةَ ما شاهده وسمعه. في اليوم التالي، كان هناك اعتصام أمام وزارة الداخلية في المرجة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وقد ساهم شبان عديدون بالإعداد له. ضُرب المعتصمون وجرجر الطيب تيزيني على الرصيف ليُخبط رأسه بعمود إنارة، واعتقل عديدون، من بينهم كمال شيخو الخارج للتو من السجن ونارت عبد الكريم وناهد بدوية. لاذ عامر مطر ورودي بمكتب طيران فطردهما مدير المكان الذي اشتبه فيهما، فأوقفا سيارة تاكسي وأنزلا راكبها وذهبا إلى شارع العابد ليذاع الخبر على صفحات الفيسبوك ومن ثم في وكالات الأنباء. في جمعة 18 آذار الأولى، حين بدأ القتل في درعا، كان في الجامع الأموي، وقام بتصوير الهتافات على جواله. وحين أغلقت البوابات وبدأ الأمن بضرب المتظاهرين، تسلل رودي هارباً وحذاؤه في يده. حدّث المخابرات بالإنكليزية، وشعره الطويل آنذاك أسبغ عليه سحنةَ أجنبي أنقذته. ذهب إلى الحديقة البيئية، وما إن جلس حتى شبك "الثري جي" وقام بتنزيل المقطع المسجل لتتناقله الفضائيات لاحقاً. أما الجمعة التي تلتها فكان الضرب همجياً إلى حد تعذر معه فتح أي كاميرا مهما صغرت. وفي جامع الرفاعي بكفرسوسة، الذي عُلقت إليه لاحقاً لافتة "مغلق للصيانة"، حوصر المكان وبين الشبيحة طلبة كثيرون تعرف رودي إلى أحدهم ساعده في الهروب، زميل من أيام الدراسة في كلية الحقوق التي درس فيها مثل أبيه، ثم أوصله ذاك الزميل إلى مقربة من ملعب تشرين حيث تم تنزيل مقطع آخر وإرساله إلى رفاقه من مقهى إنترنت. ثم توالت التظاهرات في جامعي الحسن والدقاق في الميدان.

حبة البندورة

اعتقل رودي للمرة الأولى إثر إحدى تظاهرات الميدان، بعد أن أوصل ولداً مذعوراً إلى المنزل. فضحته عيناه المحمرتان جراء القنابل المسيلة للدموع، لكنه استطاع أن يتخلص من الكاميرا وقلم الكاميرا، وضُرب معه عنصران لم يتعرف إليهما عناصر أمن الدولة لأنهما من فرع آخر. حُشر 26 شاباً في المهجع، حيث يشقُّ النوم والتنفس، وكل بضع دقائق يفتح السجان الباب وينهال بالضرب على من تطاله يده أو يعمل المقص في شعورهم. كانت حصة رودي من الطعام حبة بندورة خضراء لم يأكلها، وراح يدفئها بكفيه وأنفاسه آملاً أن يُفرج عن الجميع حين تحمرّ. بعد إطلاق سراحه، كان في شارع الحمرا حين وضع شخص يده على كتفه وسأله على الفور: "أنت ناشط بالثورة؟"، فأكمل الرجل عند سماعه الإنكار: "كان معنا في السجن شاب يشبهك ومعه حبة بندورة حفظناها، ثم أكلتها أنا لمّا احمرت تماماً، لأنني كنت آخر المفرجين عنهم". كان هذا الشاب الثلاثيني متهماً بقتل شرطي، وقد تعاون مع شبان التنسيقيات في تنظيم تظاهرات الميدان.

اقتحام المدينة الجامعية

في دمشق، حزيران 2011

تلقى رئيس الاتحاد الوطني لطلبة سوريا عمار ساعاتي الأوامر بتوزيع هراوات كهربائية على الطلبة الموالين، بعد أن جرت عدة اعتصامات قصيرة ومحاولات اعتصام في جامعة دمشق. كانت التظاهرة الطلابية الأولى في كلية العلوم صغيرة، بعد التمويه بالإعلان عنها في كلية الآداب. تنقّلُ الأمن بين الكليتين يقتضي عشر دقائق على الأقل كانت كافية للقيام بالتظاهرة. أغلقت البوابات على الفور، وهجم الطلبة البعثيون والموالون على المعتصمين، وتكالبوا بالضرب على زملائهم ورفاقهم. وعند وصول الأمن اعتقلوا الشاب ف. ح وأجبر على الظهور في مقابلة على قناة الدنيا. اختفت كدماته تحت المكياج، بينما عنصر الأمن واقف إلى جوار الكاميرا يتوعده ما لم يعترف بأن العصابات المسلحة قد اعتدت عليه.

كان رودي بصحبة صديقته التي سيوصلها إلى الوحدة السكنية التي تقطنها قبل أن تُغلق في العاشرة ليلاً، حين فاجأتهما أعداد عناصر الأمن الكبيرة. كانوا قد اعتقلوا طالبات درعاويات هتفن "الله أكبر" في الوحدة الثانية، وشبان درعاويون معتصمون في الساحة بين تمثال حافظ الأسد الضخم ومكتب مدير المدينة للإفراج عنهن. هاجم الطلبة الموالون والشبيحة زملاءهم الذين هربوا إلى الوحدة 13 حيث حوصروا وهم يكبّرون، وضُربوا واعتُقلوا بعد قطع الكهرباء. ظل رودي إلى الواحدة والنصف ليلاً خارج سور المدينة الجامعية ينقل الخبر، يرى وصول باصات الشبيحة من المزة ويسمع إطلاق النار والقنابل الصوتية وهتافات "بالروح بالدم نفديك يا بشار" والهاتفون يطوفون حول تمثال حافظ الأسد بعصي اقتلعوها من مقاعد الساحة. في ذاك الصخب والخوف، اقتطع بعض الطلبة صوراً لبشار الأسد من الصفحات الأولى للجرائد وعلقوها إلى الشبابيك، لكنها ما أجدَتْ نفعاً أمام ضربات الشبيحة الذين خلعوا أبواب بعض الغرف بقبضاتهم وأكتافهم ليضربوا ويعتقلوا عشوائياً. حاولت إحدى الفتيات أن تنتحر حين سمعت بمقتل أخيها في الوحدة13. وحال الشاب مدير المدينة الجامعية الجديد وبعض عناصر الأمن الجامعي دون اقتحام الشبيحة لسكن الطالبات. في النهار التالي، كانت المدينة شبه مهجورة بعد نزوح قاطنيها في فترة امتحاناتهم إلى منازل شتى. أبواب مكسورة وكتب على الأرض وأطباق وكؤوس مهشمة في الغرف والممرات.

كان هناك نشاط ملحوظ في كليتي الطب وهندسة العمارة. نثرت قصاصات شعارات الثورة في حدائق الجامعة، وألصقت صور حافظ الأسد إلى المراحيض، والمنفذون يتحايلون على الكاميرات بتغطية وجوههم وتنفيذ المهمة على عجل ثم تغيير ملابسهم. كتبت الشعارات على ألواح قاعات المحاضرات، وأسقط جهاز عرض الشرائح على الحائط "يلعن روحك يا حافظ"، قبل أن ينتبه الدكتور وتعم البلبلة القاعة. بعد اعتصام كلية الطب، حيث ضرب الطلبة القادمون من مدن مختلفة وكسِّرت بالهراوات عظام بعضهم على يد زملائهم الموالين، وكذلك الاعتصام الذي أخفق في ساحة كلية الاقتصاد، لم يفصل اتحاد الطلبة أحداً لكيلا يستفيدوا من منح دراسية قد يحصلون عليها خارج سوريا، وإنما منعوهم من تقديم الامتحانات إلى أن يستنفدوا فرص الرسوب.

الثورة السورية ثورة بنفسج

أثناء اعتقاله الثاني، كان رودي في منفردة الأمن السياسي يتحايل على الوقت بممارسة الراكي واليوغا. يمارس تمارين الضغط فالسجناء يخشون السمنة ويتوقون إلى الجنس. ويوم خروجه إلى الزنزانة الجماعية، كتب بأحرف عريضة بقالب صابون بنفسجي على حائط المنفردة وسقفها: "رودي عثمان مر من هنا، حرية، آزادي". احتال على الضابط ليكلم أمه التي نحلت وجفاها النوم، مستفيداً من خبرة قديمة أيام تمثيله الهاوي في مسرح الشبيبة، حدثها بالكردية وطمأنها ثم ذرف دموع سعادته الحبيسة في المرحاض. كان يطيل ما استطاع ثواني الاستحمام المتاحة، ويتمارض لعله يصادف أصدقاءه في الممرات ويطمئن، والأطباء عادة يفحصون السجناء وقوفاً وعن بُعد. في المهجع نفسه كان قد سُجن بعد انتفاضة القامشلي في آذار 2004، وهو في السابعة عشرة من عمره. آنذاك كانت تهمته رفع إعلان لمرتديلا "هنا" يحمل صورة فروج، وهتافه على طريق الربوة: "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، وظل بعدها بعامين يخشى تباطؤ السيارات بالقرب منه. آنذاك، كان قد حفر في حائط المهجع بمسكة سحاب بنطلونه الحرفَ الأول من اسمه وكلمتي "تحيا كردستان"، قبل أن تُقتلع أظافر يديه بالكماشات. وباعتقاله هنا خلال الثورة، صُعق بالكهرباء ورُكلت خصيتاه، وباعد له شاب جفونه المتورّمة المسودّة ليتأكد من أنه لا يزال يرى، لأن جسده كله كان مرضوضاً ومجرد الذهاب إلى الحمام والاضطرار إلى رفع القدمين عذاب إضافي.

سجن عدرا

وجبات هذا السجن، مثل سائر السجون، لا تُؤكل. يتشارك السجناء شراء المواد، وأسعارها عادة أرخص من السوق. تقاسم رودي الطعام مع شبان أكراد من حزب العمال الكردستاني، اعتقلوا في ذكرى اعتقال عبد الله أوجلان لإحراقهم سيارتين من سيارات الأمن في جبل الرز بدمر. بعض سجناء صيدنايا القدماء الإسلاميون كانوا في المهجع نفسه، وفيه فسحة لصلاة الجماعة، وفرن مجهز من سلك سخان وبلاطات مقتلعة من باحة السجن، وصاحب الفرن يؤجر اختراعه. السكاكين ممنوعة، فيشقون غطاء علبة السردين إلى نصفين ويستخدمونهما. كان بعضهم ينامون على الأرض، وما من تدفئة، والشبابيك مكسورة. كان كبيرهم الشيخ صالح، الأربعيني الحموي، يكافئ رودي بطبق رز وحليب أو عرنوس ذرة إذا أدى صلاة الفجر، فوق منشفته الممدودة على السرير. كانت مرآة المهجع فوق سريره، السفلي في الزاوية، فيتنقط على رأسه كل صباح ماء الوجوه المغتسلة للتو، وهم يواسون أنفسهم في السر بجمال ملامحهم.

من الجناح الثاني كانت تتسرب أخبار السياسة شفوياً أو عبر قصاصات تكور وترمى عبر النوافذ، فالمحتجزون هناك يستطيعون أن يتابعوا البي بي سي والمونتيكارلو. أما في الجناح الأول المخصص للمتظاهرين، فجريدة الوطن متاحة، ويتفرج المعتقلون على قناة الدنيا، ويسهرون أمام مسلسل (وادي الذئاب) كطقس يومي، يرفعون صوت التلفزيون إلى الحد الأقصى ويستغرقون في متابعة مراد علمدار ويتفرجون على ثلاث حلقات متتابعة. كان رودي غالباً ما يغفو في الحلقة الثالثة. يستيقظ في الخامسة صباحاً ويكتب مثله مثل صديقه عامر مطر. في المهجع تعارف شبان التنسيقيات من كثب، وكانت قد جمعت معظمهم قبل الثورة أنشطة عديدة: حملة تنظيف نهر بردى ومشروع مسار ومشروع إغاثة نازحي الجزيرة السورية والجمعية السورية للبيئة والهلال الأحمر وإعانة النازحين اللبنانيين إثر حرب تموز2006. استفادوا كذلك من دورات التنظيم المجتمعي في الأمانة السورية للتنمية لتنظيم التظاهرات وتحديد شعاراتها واختيار أماكنها المناسبة، وعاونتهم في هذا المجال ريما دالي، "ذات الرداء الأحمر" التي رفعت شعار "أوقفوا القتل" أمام البرلمان. كان شادي أبو فخر قد سبقهم إلى هناك، بعد كمين أوقع به في وكالة سايكو للساعات مقابل البرلمان، واعتقل من تبقى منهم في كمين في الرابع من آب، وبينهم غيفار وعاصم حمشو، ليعقبهم تالياً أحمد ناجي الذي سدد شعاع ليزر قوياً على القصر الجمهوري فوق قاسيون، بواسطة جهاز أرسله شاب عضو في المجلس الوطني، ليستنفر الحرس وكأن هجوماً حقيقياً قد وقع. كان رودي عائداً من تصوير فيلم "آزادي" في القامشلي، وجالساً بصحبة رفاقه في مقهى بجرمانا حين وشى بهم صحافي يعمل في إحدى الجرائد المحلية، اعتُقل معهم إتماماً للمسرحية. كان ثمن جواب رودي على رائد التحقيق تعذيباً باهظا، حين قال: "لو قصصت لسان هذا الحقير وعضوه لكيلا يشي بأحد مرة أخرى ولا ينجب أمثاله إلى هذا العالم".

في سجن عدرا كان شبان تنسيقية دمشق يخططون لإنشاء حركة بديلة للتنسيقية الموقوفة، بعد فشل عقد مؤتمر التنسيقيات في 10 آب 2011 وفشل إطلاق قناة تلفزيونية، ولم تتوحد كذلك لجان التنسيق المحلية واتحاد تنسيقيات الثورة السورية. كثرت التنسيقيات لتوجد أكثر من تنسيقية للحي الواحد، وعمت الخلافات والانشقاقات بعضاً منها، إذ بعد اعتقال الكثير من الناشطين وتعذيبهم وتصفيتهم أحياناً، تنكيلاً وذبحاً في حالة غياث مطر، انتقلت قيادة التظاهرات إلى الوجوه الشعبية في بعض المناطق الثائرة، ولا سيما بعد الشهر العاشر من العام الماضي، وكان أحد المطالب المتواترة منذ بدء الثورة هو بث تظاهراتهم على شاشات التلفزيون. وحدث مثلاً أن الناصريين رفضوا مشاركة الإخوان المسلمين في التظاهرات التي ينظمونها.

عمر الأسعد، الشاب الصحافي، يعزف على العود. كان يغني في المهجع "يا حيف"، ويغنون معه "يا ظلام السجن خيم"، الأغنية نفسها التي رددوها وهم ملتحون أمام باب القصر العدلي قبل الدخول إلى قاعة المحكمة، حيث ألصقت بهم اثنتا عشرة تهمة معروفة سلفاً كالنيل من هيبة الدولة وتأسيس جمعية سرية والاتصال بالعدو الإسرائيلي. كان يساور المعتقلين أمل يومي تغذيه شائعات عفو جديد وشيك، والموقوف يحتمي بالقسوة والصبر والكتمان، ولا يدع شيئاً أو أحداً يعيق مشاعره أو يستحوذها لأن الفقدان يأتي رهيباً.

الجيش الحر في الزبداني

أفرج عن معظم ناشطي تنسيقية دمشق بعد أربعة شهور من الاعتقال، ليجدوا أنفسهم أمام واقع مختلف برز فيه الجيش الحر والمجلس الوطني الذي كان لهم فيه ثلاثة مقاعد ظلت شاغرة. حمل رودي كاميرته ومضى ليرى بعينيه ويشهد ما يسمع عنه. التقى مسلحي الجيش الحر في دوما، ولم يصادف بينهم جهاديين أو سلفيين. التقى في كفرنبل بمصممي لافتاتها الثلاثة، وسحرته طبيعتها. أخذ معه إلى الرستن جهاز بث مباشر، وشهد تظاهرة أنهاها صاروخ قتل 13 شخصاً وبعثر أشلاء أطفال في الأرجاء. ذهب إلى حمص بالأدوية والمعونات، ولم يجد في باب الدريب والخالدية والبياضة جنوداً منشقين كثراً. قابل بعضاً من عناصر كتيبة الفاروق، الأسلحة خفيفة في أيدي المدنيين المتطوعين للدفاع عن أحيائهم وذويهم، زنود بعضهم موشومة بأسماء حبيباتهم وقد متّنت الثورة الأواصر بين جميعهم وغيّرتهم. مراراً سمع شاباً يطلق رصاصة في الهواء كإشارة إلى بدء هجوم الأمن، لأن الاتصالات مقطوعة، فيهرب المدنيون المتظاهرون ويتوارون. في القرى المحيطة بحمص وبعض أحيائها، نجح النظام إلى حد بعيد في ربط مصير العلويين بمصيره، فدخلوا معركة وجود لم يتراجع معظمهم عنها، ووقعت حالات خطف متبادل كثيرة. مرات عديدة، أطلق سراح المعتقلين في الأحياء ذات الأغلبية العلوية الفقيرة عموماً، فيُضربون على يد الأهالي ويُرسلون إلى منازلهم حفاةً مذلَّين ممزَّقي الثياب. بدأت أولى ردات الفعل الطائفية بالظهور بعد مجزرة ساحة الساعة، وقتلاها المجهول عددهم الدقيق من سائر الملل والطوائف. وضعت الجرافات جثامينهم في شاحنات كبيرة وغسلت الإطفائيات برك دمائهم عن الإسفلت. للأسف، يتحسر رودي، هناك قرى كاملة قد يبيدها الثأر إذا انهار النظام.

ولكن تبقى تجربة رودي الأكثر زخماً في الزبداني، حيث أمضى عشرين يوماً على ثلاث فترات، وحرر الجيش الحر أصدقاءه الذين رافقوه بعد أن أوقفهم حاجز أمني عند العودة إلى دمشق. اطمأن إليه مقاتلو الجيش الحر بعد إرساله تقريراً عنهم إلى رويترز، فعاش معهم أياماً في غياب تام لأي مظهر من مظاهر النظام. ينام عند طلوع الصبح في منزل أمسى مكتباً إعلامياً، غير مكشوف وآمن نسبياً ومحاطا بالعديد من البنايات، وبعد ساعتين أو أقل يوقظه وصول جريح إلى مستشفى ميداني زوده رجال الجيش الحر بالأجهزة التي أخذوها من مستشفى الجرجاني قبل بدء القصف، استعداداً للحصار، ويعمل فيه أطباء متطوعون من الزبداني، جراح وطبيب تخدير وطبيب أشعة وطبيب أسنان. يشتهون فطوراً عادياً غير الجبن والمعلبات والمربى، ويتغدون ما تطبخه زوجة للأطباء والفريق الإعلامي، ويتابعون على عجل إذا تسنى لهم الوقت نشرة أخبار، فيضايقهم أن يقرؤوا النبأ الخاص بهم مكتوباً فقط في الشريط الإخباري، لكنهم ظلوا يعتبرون المجلس الوطني يمثلهم كواجهة سياسية، وإن كانوا منهمكين دائماً بمشاغل أخرى، وأحياناً يتواصل معهم كمال اللبواني ويمدهم حين تتوافر الفرص بأجهزة الاتصال والبث والمال والسلاح. اعتادوا القصف وصاروا يقدرون نوع القذيفة ومكان سقوطها، وأصوات الانفجارات تتخلل غفواتهم الوجيزة القلقة. كان الصحافيون الأجانب مثل مراسل السي. إن. إن مربكين، إذ تلزمهم مرافقة تحميهم وتترجم لهم، هذا إن كانوا موثوقين ولن يفشوا بأي معلومات سرية.

كان المارة يوقفون رودي الذي تآلفوا معه، وبعضهم تلاميذ مدرسة ابتدائية متظاهرون، فيطلبون منه أن يصور رسائلهم الخاصة إلى بشار الأسد، رسائل الغضب والإصرار والشتائم. صوّر كذلك نساء الزبداني، الثائرات المتعلمات اللواتي خضعن لدورات في فن التمريض ويرفضن تسميتهن بالحرائر، وما من سافرات بينهن، وكذلك لا علائم على التشدد في الدين. صوّرهنّ وهنّ يصنعن قنابل مولوتوف بزجاجات البيرة والحليب، ويصنعن الأقنعة والأوشحة ويرسمن الكاريكاتير ويكتبن الشعارات، منافسات الخطاط نفسه، وينظمن تظاهرات صغيرة تخصهن، يهتفن ويسرن في برنامج محدد، ولا يقبلن بمشاركة الرجال لهن فيها. كل ذلك قبل أن يشوب التظاهر فتور ملحوظ، فالتظاهرة المسائية التي كان قد يحتشد فيها 10 آلاف شخص، تقلص تعدادها إلى ألف متظاهر أو أقل.

في 3 شباط 2012، ذكرى مجزرة حماة، بدأ القصف على الزبداني التي ظلت محررة قرابة الشهرين، فأنهى كل التظاهرات التي بدأت هناك منذ 25 آذار 2011، ولكنه لم يخلف دماراً مهولاً كما في مدن أخرى، ولم تنجُ الكنيسة. كانت القذائف تأتي من جهة التكية في آية الكرسي، النقطة الأعلى المشرفة على البلدة بأكملها، حيث استقرت الثكنات في معسكر طلائع البعث الذي تحول إلى قاعدة عسكرية. ما إن يبدأ القصف ويشتد، وازداد وحشية مع دخول الفرقة الرابعة إلى العمليات، تتعالى أصوات التكبير والدعاء. كانت كلمة خطيب جامع الجسر مسموعة، يختتم خطبته بالدعاء لنصر الثورة والتعجيل بسقوط الأسد، ثم يعظ الجيش الحر ويوصي بالتكافل الاجتماعي الذي تبناه الأهالي عفوياً، فتوزعوا السكر والطحين ولم يدخروا شيئاً مخصوصاً لأنفسهم.

في بداية شهري الحرية عاد المعلمون المؤيدون إلى قراهم في الداخل، فتطوع عدة أطباء لتعليم التلاميذ. أزيلت صور الأب الأسد وابنه من المدارس وكافة الدوائر الحكومية التي تخلو حين يُشيَّع شهيد أو تقوم تظاهرة، ويشاركهم الخوري ورجال الدين المسيحيون. كانت إحدى الجنائز لرجل اعتقل أربعة شهور وقاسى تعذيباً مريعاً. يوم الإفراج عنه، على عتبه منزله تقريباً، والجيران يرحبون به مهنئين من على الشرفات وزوجته تزغرد، كان يلوح لأولاده حين أردته طلقة قناص من أمن الدولة. كان مركز أمن الدولة في مدخل الزبداني تتعذر مهاجمته، وفيه حوالى 500 مسلح مع دبابة وقناصين، بينهم وبين الجيش الحر ما يشبه الهدنة إلى ما قبل الاقتحام. أزالت الثورة الخلافات بين أهالي الزبداني ومضايا التي استسلمت في اليوم السابع للقصف. دام سقوط القذائف اثني عشر يوماً، دون أن يهدأ إلا ساعات معدودة في الليل، فيتسنى للمقاتلين تبادل المؤن والذخائر القليلة، ويحفرون الخنادق ويزرعون عبوات ناسفة استشهد مصممها خالد الكويفي بطلقة قناص أثناء تصويره تفجير دبابة (وهو مهندس كهرباء استفاد أحياناً من أرشيف القاعدة على الإنترنت)، ويكادون لا ينامون وهم يغيرون مناوباتهم ويتراسلون عبر اللاسلكي على ترددات خاصة بأسماء حركية مثل التوأم و25، وأحياناً، استفزازاً للأمن الذي يترصد موجات تواصلهم، يضعون ضاحكين أغنياتٍ ألّفوها، مثل "هبّي يا رياح الجنة هبي"، وفي استعجالهم للحاق بمهماتهم يأكلون في السيارة سمكة سردين معلبة، ويناول السائق رودي تفاحة يتردد في قضمها، إذ لم ينسَ الجثامين المسجاة بين صناديق التفاح في ثلاجات الفاكهة. ولإجراء أي اتصال بالثريا، وتفادياً للراشدات، كانت السيارة تتوقف أقلَّ من عشرين ثانية ثم تنطلق بأقصى سرعتها، وبعد ثوانٍ تهبط قذيفة في موضعها.

نزح قرابة ثلثي أهالي الزبداني ذات الثلاثين ألف نسمة، المرفهين عموماً ونسبة التعليم الجامعي عالية بينهم، إلى بلودان الهادئة ذات الأغلبية المسيحية وبلدات أخرى. نزحوا عن ديارهم المهملة خدماتياً، المحاصرة والمحرومة من الطحين والكهرباء والمحروقات والاتصالات، ومن تبقى في البلدة التي تستضيء بالمولدات كانوا يتقاسمون الطعام مجاناً، إحدى سيارات الجيش الحر تدور على المنازل وتوزع ربطات الخبز أو تنظم أرتال الذين ينتظرون المازوت. لم تُنهب منازل المصطافين والمغتربين ومنازل أهل الشام والخليج، المغلقة عموماً، إلا بعد هجوم الشبيحة ليغنموا كل ما يصادفونه ويمكنهم أن يحملوها حتى شاشات البلازما وأجهزة الريسفير.

كان في الزبداني مجلسان صغيران عسكري ومدني، من أهالي البلدة، ولا يزال المدني منهما قائماً. ترأس "الريّس" سيف الدين المجلس العسكري، قبل أن يستشهد في كمين لينوب عنه شقيقه الذي جاء من لبنان. شهد رودي عقاباً نفذه الريس. كان أحد شبان الجيش الحر قد ساق سيارة شخص وابتعد بها، بذريعة أنه مخبر "عوايني"، ثم تبين الخطأ. أطلق الريس عدة طلقات رشاش بين ساقي الشاب، ورمى على وجهه رزمة من النقود، وتوعده: "إذا فعلت الشيء نفسه مرة أخرى، فسأفرغ هذه الطلقات في رأسك". حضر رودي جلسات التحقيق مع المخبرين الذين لم يُقتلوا كما حدث في مدن أخرى مثل حمص وحماة. خُصص منزل لسجن المخبرين، وكان عددهم آنذاك حوالى 17 مخبراً ومعظمهم زبدانيون، وبينهم كردي ومسيحيان ودرعاويان وديريّ. قد يصدف أن يكون في العائلة نفسها مخبر وأكثرُ من مقاتل التحق بالجيش الحر. كان المخبرون في سجنهم يأكلون أكل المقاتلين ويتابعون التلفزيون. عُذّب أحدهم، كان يشي بدقة فظيعة بنقاط تجمع المقاتلين. يأتي بحجة تأمين الخبز والماء، ومعه لاسلكي خاص بأمن الدولة، وبعد ذهابه بدقائق تنهمر القذائف. كان يُطلق سراح جنود النظام أو المخبرين خلال بضعة أيام في تبادل أسرى، ويفرح المقاتلون إذا أمسكوا بضابط علوي لأن عشرة شبان يُحررون مقابله في عملية التبادل.

لم يكن عدد مقاتلي الجيش يتجاوز الـ500، الجنود المنشقون بينهم 15 أو أقل، والباقي مدنيون متطوعون تراوح أعمارهم بين الـ18 والـ60، بدأوا بعد قمع التظاهرات الشديد مسلحين بالمسدسات والرشاشات، فالأسلحة الخفيفة متوافرة، حتى قبل الثورة، تهرَّب من لبنان وبعض تجارها عناصر من حزب الله غشوا المقاتلين في إحدى المرات، فوصلت شحنة من القذائف الفاسدة. انتظموا في مجموعات مثل شميزر وكردستان التي تضم شباناً أكراداً يعملون في الزبداني منذ سنين ومجموعة انتحارية سلفية صغيرة، وبينهم قناصون غير مدربين جيداً، وطلقات القناصة باهظة وقليلة. يتزعمهم الريس الذي يعرف بما يدور، وتصله آخر المعلومات. وبعد الهجوم على الحواجز كانوا يغنمون البنادق الروسية والجعبات وأمشاط الرصاصات فيتقاسمونها فيما بينهم، وحين يغنمون دبابة يفرغونها من القذائف ويأخذون ما فيها من أسلحة ومازوت، ويفككون قنابلها ليُستعمَل في العبوات الناسفة، وإذا لم يبادلوها بفدية مع جيش النظام نسفوها. حاصرهم حوالى 30 ألف جندي تؤازرهم 300 دبابة ومصفحة. أعطبت عشرات الآليات وقتل مئات الجنود، و باقي الضحايا الذين لم يتجاوزوا الأربعين كانوا مدنيين ليس بينهم سوى ستة من صفوف الجيش الحر. باقي المقاتلين هربوا إلى الجبال حيث تساقط ثلج غزير، فتدثروا بالمعاطف العسكرية ودفأوا أطرافهم بالقفازات والجزمات الطويلة، ولا زاد معهم إلا الخبز، ولا يستطيعون أن يشعلوا ناراً في جحيم ذاك الليل. بعد انسحابهم، ذهب رئيس المجلس المدني أبو مأمون الضرساني لمفاوضة آصف شوكت، مدير العمليات الذي اشترط تسليم مقاتلي الجيش الحر لأنفسهم مع الأسلحة التي غنموها. بعد انقضاء أسبوع تخلى النظام عن التزامه النسبي بالاتفاق الذي قضى بتفتيش عدد محدد من المنازل، بحضور وجهاء البلد ومن دون خلع الأبواب.

خلسة صور رودي جوانب من حياة المقاتلين اليومية، كيف يغضبون ويتبادلون الانتقادات والشتائم والاتهامات الصغيرة، كيف يكفر بعضهم ويشرب النبيذ ويسكر ويدخن، ويصلي بعضهم الآخر ولا يكف عن ذكر الله. كان يسخرون بعد الاقتحام قائلين: "كل الحق عليك يا داوود أوغلو، خربت بيتنا. لِمَ قلت: إذا عجز بشار عن الحسم في الزبداني، فكيف يهدد تركيا؟" وفي إحدى المرات أتى رودي بثلاث قناني نبيذ ليشربوها قبل زرع العبوات الناسفة في زمهرير الليل. كانوا ثملين يضحكون وهم يزرعونها في منطقة آية الكرسي، ولم يتذكروا في النهار التالي أين زرعوها بالضبط. لم يسمح رودي لأحد بالاقتراب من كاميرته. "إنها امرأتي، ويستحيل أن أعطيها لأحد". نقل التسجيلات إلى كمبيوتره المحمول وغادر المكان، وقبل أن ينسحب المقاتلون دفنوا الكاميرا إلى جوار أسلحتهم.

=================

الحرب والدبلوماسية في سوريا * المحرر- « مجلة الإيكونومست»

الدستور

23-9-2012

الاخضر الابراهيمي، الجزائري وصانع السلام ذو الخبرة، الذي حل محل كوفي عنان بوصفه المبعوث الخاص للأمم المتحدة في سوريا، يصف مهوته الجديدة على اعتبارها «مستحيلة تقريباً». يبدو ذلك حُكماً سليماً. فنظام سوريا المحاصر، لكنه الذي لا يرحم، يرفض التحدث إلى معارضيه حتى يلقوا أسلحتهم. من جانبهم، فإن المتمردين المتفوقين، والمنقسمين لكنهم مرنون، لن يتحدثوا إلى النظام حتى يرحل بشار الأسد. بقية العالم تراقب بفزع أو إنها تغذي الصراء بهدوء، بينما البؤس يتعاظم. ففي شهر آب وحده، تضاعف عدد اللاجئين السوريين الذين يطلبون حق اللجوء السياسيّ في الخارج إلى 200,000.

لقد حاول السيد الأسد تكتيكات مختلفة للقضاء على الانتفاضة، التي تدخل الآن شهرها الثامن عشر. فقد وعد، أولاً، بالإصلاح بينما أطلقت قواته الأمنية النار على المتظاهرين السلميين. ثم زعم النظام أن كل شيء كان جيداً إلا بالنسبة لقلة من «الإرهابيين» المارقين. الآن، بعدما اعترف أنه يخوض حرباً حقيقية، يطرح السيد الأسد خياراً: إمّا أن يُقبَلَ نظامه أو إنه سيميد الأرض بمَنْ يعارضونه.

محافظ المنطقة المسؤول في داريا، وهي ضاحية للطبقة العاملة المتمردة من العاصمة دمشق، التي دُمِّرت من قبَل قوات الأسد في آب [الفائت]، زارها ـ حديثاً ـ وهو يحمل الخبز. وقد أعقب كلمة التكريم حول إعادة تموين البلدة المنكوبة تحذير صارخ مفاده، كما يقول أحد السكان: آووا المتمردين مرة أخرى وسوف سوف تُهَدَّم داريا كلياً.

مثل هذه التحذيرات تؤخذ على محمل الجد. فقناصة الجيش، والمدرعات والطائرات الحربية تضرب بلا توقف المناطق المشتبه بتعاطفها مع المتمردين. بوتيرة متزايدة أصبحت مجموعات الجثث، وهي عادة لشباب بأيد مربوطة، توجد ملقاة على الطريق في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. ففي الخامس من شهر أيلول [الحالي]، قيل إنّ 45 جثة من هذا القبيل تمَّ استرجاعها في حادثة واحدة. وإنّ الاعتداءات الوحشية للموالين أبقت، بشكل حازمٍ، على وسط دمشق تحت سيطرة الحكومة. وقد استردت قوات الموالين رُقعاً من الأراضي في حلب، وهي ثاني المدن المتنازع عليها بشدة.

ومع ذلك، فثمة هنالك أمارات على انحسار قوة الحكومة. القيام بدفع براميل النفط المملوءة بالمتفجرات من المرحيات تشير إلى أنّ القوات الجوية نفدت منها القنابل. وقد بدأ النظام كذلك بتجنيد الاجتياطيين في الجيش، الذي استنزف من قوته القتالية، على الورق، 280 ألف رجل على شكل خسائر، وانشقاقات، وتراجع بالروح بالروح المعنوية. «لا نعرف إن كانوا في حاجة لنا أو إنهم يريدوننا بحيث لا نقاتل ضدهم»، كما يقول رجل بلغ 30 عاماً من عمره وغادر إلى لبنان بمجرد حضور البوليس ليطرق الباب في طلبه.

لكن تهديدات النظام وإصراره على التماسك قد ينجحان في بعض المناطق. وروايته حول إسلاميين مسلحين وتمرد طائفيّ أصبحت تحقق الذات، الفضل يعود بشكل كبير إلى العنف الذي يلحق على نحو كاسح بالأغلبية السورية السنية. بلعبها على مخاوف من انتقام السُّنيين، راحت الزمرة الحاكمة، الآن، توفر الأسلحة لميلشيات محلية مدافعة عن نفسها، من الأقليات الأخرى غير طائفة النظام العلوية، التي تشكل عشر السكان لكنها تسيطر على قوات الأمن. وكانت موجة غامضة من الاعتداءات التي نُسِبت من قبَل النظام إلى «إرهابيين» قد أثارت القلق في جرمانا، وهي واحدة من ضواحي دمشق مترامية الأطراف التي تضم كثيراً من المسيحيين والدروز. «بعض الناس يريدون أن يقذفوا أيديهم إلى أعلى ويقولوا: حسنٌ، أياً كان [هو الذي فعل ذلك]، نحن نريد [لهذا الأمر] أن يتوقف»، كما يقول أحد السكان المحليين.

ربما يكون السيد الأسد يشير إلى رغبته في انتشار النيران إلى الخارج، أيضاً. ففي لبنان، تشير نسخة مزعومة من استجواب الشرطة اللبنانية لميشال سماحة، وهو وزير حكومة سابق مقرب من السيد الأسد، وكان اعتُقِلَ في آب الفائت، إلى أنّضباط أمن سوريين كباراً زودوه بالقنابل بغية قتل شخصيات لبنانية سنية ومسيحية متعددة.

يتوقع مسؤولون أتراك أنّ نظام السيد الأسد سلَّم المناطق الشمالية الشرقية الكردية إلى ميليشيت مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وهو مجموعة من العصابات التي ظلت تقاتل القوات التركية لأكثر من ثلاثين سنة. وكان حزب العمال الكردستاني قد أنحيَ باللائمة عليه لهجوم في جنوب تركيا، في الثالث من أيلول [الحالي] ذهب ضحيته تسعة أنفار من الشرطة التركية.

مثل هذه التكتيكات المسببة للخلاف ظلت، طويلاً، سمة مميِّزة لحكم عائلة الأسد. وبرغم أنّ مقاتلي المعارضة قد نفَّروا بعض سكان المدن من المالكين، فإنهم حافظوا على دعم الكثير من سكان الريف واستمرواباستنزاف قوات الأسد. الهجمات على قوافل الإمدادات الحكومية حصرت وحدات الجيش البعيدة، والهجمات الأرضية على القواعد الجوية بدأت تدمر قوات الأسد الجوية: ثلاث من بين 27 قاعدة جوية قد لا تعود قابلة للتشغيل. المروحيات، الآن، قلّما تُشاهَد في الشمال الغربي من سوريا، الذي يسيطر عليه المتمردون؛ لأن المقاتلين لديهم الطراز من الأسلحة الذي يسقطها.

مشيرين إلى نجاحاتهم، يقول قادة المتمردين إنهم سيواصلون الضغط، بوجود المساعدة الخارجية أو من دونها. الإدارة الأميركية رخصت فريق الدعم السوري، وهو جماعة من المنفيين، لتجاهل الحظر المفرزض على الأسلحة الأميركية وتمويل مقاتلي المعارضة. أمّا القادة الغربيون فمضوا أقل تحفظاً بشأن إطلاق المساعدات. «نحن متأخرون في رؤية ذلك على اعتباره صراعاً عسكرياً فيما اللاعبون الإقليميون الآخرون يكثفون ما يفعلونه»، كما يعترف دبلوماسي غربي، مستذكراً تقارير عن شحنات تعزيز بالأسلحة للنظام من إيران. التحركات من قبَل الميليشيات المتمردة المختلفة من أجل توحيد بنية القيادة تك تشجيعها بهدوء، في إشارة على نفاذ صبر الغرب من المعارضة السياسية السورية المتنازعة.

بدلاً من الضغط في سبيل المفاوضات، قد يركز السيد الابراهيمي ـ ببساطة ـ على الحفاظ على موطئ قدم الأمم المتحدة في المستنقع السوري، بغية التوسط في وقت أكثر ملاءمة. ليس من المرجح أن تنتج تلك اللحظة من مبادرة دبلوماسية جريئة لمدة طويلة. فلا توجد إشارة من أي طرف إلى الرغبة في وقف القتال. وربما يهز تصاعد العنف حكومات خارجية فيؤدي بها إلى اتخاذ إجراءات دبلوماسية أو حتى عسكرية عاجلة. «آمل يوماً أن أرى وطني مرة ثانية»، يقول كاتب شاب مغتمٌّ في المنفى، ثم يضيف: «لكن مَنْ يعلم إذا كنتُ سأدرك ذلك».

التاريخ : 23-09-2012

=================

استنزاف سوريا والعرب!

ميشيل كيلو

الشرق الاوسط

23-9-2012

من ينظر بعين تاريخية ويتتبع تسلسل الأحداث والوقائع في منطقتنا العربية، سيلاحظ ظاهرة فريدة هي وقوع صراعات استنزافية تستمر لفترة طويلة في بلدان بعينها، يعني انفجارها جر بيئتها القومية والإقليمية والدولية إليها، وتحول صراع محلي صغير بالأصل إلى جرح مفتوح يمتص قدرات وطاقات البلدان التي يدور فيها وطاقات وقدرات محيطه الواسع، القريب منها والبعيد، ويعرضه لنزف لا يتوقف يستهلك قواه ويكبده هو أيضا خسائر فادحة في حرب هو طرف فيها لكنه لا يخوضها بصورة مباشرة.

هذا النوع من الأزمات الاستنزافية لا يحتاج لبدئه واستمراره إلى قوى كبيرة، لأنه يرتكز على عاملين هما: الاستمرار، والقابلية للتغذية الدائمة بقوى وعناصر جديدة تزج بنفسها، أو يزج بها، فيه.

أما الاستمرار، فهو يعني بقاء أبواب الصراع مفتوحة أمام جهات متنوعة هي أحزاب داخلية وهيئات ودول وأحلاف خارجية راغبة في أن تروض أو تحتوي أو تستهلك بواسطته قدرات جهات معادية أو منافسة لها، وأن تركعها أو تشغلها بمعارك لا تستطيع كسبها، لكنها تجد نفسها مجبرة على المشاركة فيها وعاجزة أكثر فأكثر عن الخروج منها، فكأنها طرف رئيسي فيها، مع أنها قد لا ترسل عسكريا واحدا لخوض غمارها.

في حين تعني التغذية الدائمة إمكانية دخول هذه القوى دخولا مفتوحا إلى الصراع، بالقدرات والإمكانات التي تكفل استمراريته، علما بأن دخولها إليه يعقده ويجعله عصيا أكثر فأكثر على التوحيد والإدارة. لا مراء في أن شَرْطي الاستمرارية والتغذية المفتوحة يتطلبان من جانبهما وجود بيئة تضم جهات متعادية إلى درجة تغريها بضرورة الدخول في الصراع، وتوسيعه وتعميقه ووضع قدرات متزايدة فيه، بصورة مباشرة وغير مباشرة، لأن مصالح مهمة تخصها، وأحيانا مصيرها ذاته، يتوقفان على نتائجه، رغم أنه قد لا يدور فوق أراضيها، ولا يستهدف في أحيان كثيرة غير استنزافها.

كانت الحرب الأهلية اللبنانية أحد أبرز هذه الصراعات، التي تخطت نتائجها العامة الأهداف الخاصة بالمنخرطين المباشرين فيها، وفاقت القوى الداعمة لهم قدراتهم المباشرة، بما غلب عليها من طابع محلي، وجعلها حربا منفتحة على معضلات إقليمية ودولية كانت خافية أو تعتبر ثانوية عند انفجارها. بدت الأزمة اللبنانية أول الأمر داخلية بحتة، وبدا أن أطرافا داخلية هي التي تتصارع على أدوار وتوازنات تحدد نمط النظام السياسي وحصة كل واحد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين فيه، باعتبارهم ممثلي طوائف تنضوي مطالبهم وصراعاتهم في إطار مطالبها وصراعاتها. لكن تطور الصراع لم يلبث أن كشف عن طبقات متراكمة من المعضلات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية الشديدة التعقيد المتنوعة المآلات، التي تداخلت وتراكبت مع مشاكل وتحالفات محلية أو تجلت من خلالها. لذلك أخذت الحرب في ظاهرها صورة صراع أو اقتتال بين قوى محلية أو جهوية محدودة القدرات، لكن أدوارها التي تمت بدلالات وسياسات ومصالح خارجية كشفت التعقيد والتشابك الكامنين وراء كل فعل من أفعال الصراع والقتال، مهما بدا بسيطا ومغرقا في المحلية. هذه الحرب، التي دارت بصورة مباشرة بين أحزاب وقوى لبنانية وبدت لبنانية بحتة، كان من أهداف قواها الخارجية غير المعلنة طي صفحة الصراع العربي - الإسرائيلي وفتح صفحة الصراعات العربية - العربية، التي تولى نظام حافظ الأسد رعايتها وإدارتها بموافقة أميركية - إسرائيلية، ونزع الورقة الفلسطينية من يد منظمة التحرير، وهيمنة النظام السوري على المشرق وعزل مصر والعراق وإخراجهما من المجال العربي، وفرض خطوط حمراء أميركية - إسرائيلية التزم الأسد ونظامه بالتقيد بها لفترة طويلة، من ضمن التزامه بالعمل لإعادة هيكلة موازين القوى داخل المجال العربي للإفادة من غياب أو تغييب مصر أميركيا وإسرائيليا والعراق إيرانيا وسوريا، واستنزاف طاقات الدول العربية إلى الحد الذي يمنعها من العودة في أي وقت إلى مصارعة إسرائيل أو التأثير إيجابيا في الصراع الدائر بين منظمة التحرير وبينها على فلسطين، ووضع مقدرات العالم العربي بين أميركا، التي ستستغل فرصة الصراع كي توطد تغلغلها إليها وتخترقها، لتعزيز مراكزها فيها وتصفية حساباتها مع الآخرين.

لا تختلف الأزمة السورية عن هذه الصورة إلا في نقطة رئيسية هي أن الأزمة السورية والحراك في سبيل الحرية لم يحدثا في حاضنة طائفية أو بدوافع طائفية، ولم يكونا نتاج تدخل خارجي أو مؤامرة مدبرة، كما ادعى قادة النظام. بدأت المسألة السورية بثورة شعبية تريد الحرية والإصلاح، رد النظام عليها بحرب شعواء استخدم فيها كل ما يملك من أسلحة حديثة اشتراها الشعب كي يسترد بواسطتها الجولان المحتل، فإذا بحكامه يوجهونها إلى صدره، بينما بقي العدو المحتل بمنأى عنها طيلة قرابة أربعين عاما.

تتقاطع في الأزمة السورية إرادات داخلية وعربية وإقليمية ودولية متناقضة، تخضع الشعب السوري لصراع إقليمي ودولي لا مصلحة أو يد له فيه، يدمر بلاده من جهة ويستنزف المنطقة العربية ومحيطها غير الإسرائيلي من جهة أخرى، ويستهدف بين ما يستهدف كبح التطور الديمقراطي في العالم العربي بعد إيقافه في سوريا بصورة خاصة، حيث يراد للفوضى أن تحل محل الحرية المنشودة، وشطب دولة عربية مهمة من معادلات القوة والصراع في المنطقة عموما، وضد إسرائيل خصوصا. المشكلة أن تدمير البلد يتم على أيدي النظام الحاكم، الذي يشن حربا فائقة الضراوة والتنظيم على شعب يفترض أنه مسؤول عنه، ووطن أقسم رئيسه يمين الولاء له وتعهد بحمايته، لاعتقاده أن أحدا لن يتدخل لوقفه، ولن يمنع القوى الإقليمية من التعارك فيه وعليه، قبل اكتمال تدمير البلاد بيد حكامها، وأنه بدأ يستنزف بالفعل قدرات قوى إقليمية وعربية كثيرة، مع تحوله إلى ساحة تجتذبها وتحتوي طاقاتها، وما يترتب على ذلك من خيارات تتراوح بين إطالة أمده إلى زمن غير محدود، وإنهائه لصالح فوضى سيكون لها النتائج ذاتها بالنسبة لعملية الاحتواء والتقويض الجارية على قدم وساق. هل يفسر هذا وقوف «المجتمع الدولي» متفرجا على صراع يدور بين أطرافه، التي تحل على ظهر الشعب السوري مشكلات لا علاقة له بها وليست من مشكلاته، وتجعل من الصعب، بل والمحال، إيجاد تسوية سياسية داخلية تتم بقدرات السوريين الخاصة، وتضع أقدار سوريا كبلد مستقل تحت رحمة خصوم وأعداء لا يهمهم من أمره غير استغلال مأزقه لتحقيق مآرب ومصالح تلحق به أفدح الأذى.

لم تعد مشكلة سوريا خاصة بها. إنها اليوم مشكلة عربية - إقليمية - دولية من طراز فريد، بما تضمره من مخاطر طويلة الأمد على بلادنا وبيئتها العربية، التي تمر في طور تحول تؤكد جميع علاماته أنه سيكون شديد الخطورة بالنسبة للجميع. والآن: هل يجوز أن تتعامى هذه البيئة عن مخاطر ما يجري، وأن تحجم عن حماية نفسها منه، بالعمل على وقفه بتصميم وحزم وسرعة، ما دام وقفه البديل الوحيد، قبل أن تجد نفسها في قبضة عواصف عاتية تذهب بعافيتها وتورطها في صراعات تقوض حريتها ومصالحها ووجودها، وتدفع بها إلى حيث تدفع بسوريا: إلى الفوضى والخراب.

هل تبدأ بيئة سوريا العربية بالعمل على إنقاذ نفسها من خلال عمل منظم وجماعي، يبدأ بإنقاذ سوريا من نظامها القاتل، وصولا إلى إخراجها من تواطؤ دولي يسهم بفاعلية في قتل شعبها ويهدد وجودها؟

=================

انتقال قيادة الجيش الحر لسوريا!

طارق الحميد

الشرق الاوسط

23-9-2012

أعلن الجيش السوري الحر المعارض للنظام الأسدي نقل قيادته المركزية من تركيا إلى «المناطق المحررة» داخل الأراضي السورية، حيث قال قائد مجموعة الجيش السوري الحر رياض الأسعد في رسالة موجهة للشعب السوري: «نزف لكم خبر دخول قيادة الجيش الحر إلى المناطق المحررة بعد أن نجحت الترتيبات في تأمين المناطق المحررة لبدء خطة تحرير دمشق قريبا».

وبالطبع فإن لهذه الخطوة دلالات كثيرة، عسكريا وسياسيا، وكذلك معنويا، خصوصا على مستوى الثوار السوريين، لكن من غير المعلوم ما إذا كانت هذه الخطوة تأتي بتنسيق دولي من قبل أصدقاء سوريا، خصوصا وقد تحدث الفرنسيون صراحة عن دعم المناطق المحررة في الأراضي السورية، وتحديدا المناطق المتاخمة للحدود التركية التي باتت مناطق تماس حساسة وخطرة مع سوريا اليوم، خصوصا في حال ما حاول نظام الأسد ارتكاب حماقة جديدة ضد الأتراك. انتقال قيادة الجيش السوري الحر للأراضي السورية المحررة، استعدادا لمعركة تحرير دمشق، كما أعلن العقيد رياض الأسعد، يعني أننا سنشهد أياما عصيبة في سوريا؛ حيث سيسعى النظام الأسدي إلى تصعيد حدة العنف بالأراضي التي يعتقد أن قيادات الجيش الحر موجودة فيها، وتدير المعارك ضد نظامه، لأن وجود تلك القيادات بسوريا من شأنه هز الروح المعنوية لقوات الأسد الإجرامية.

ومن هنا فإن الأمر غير المعروف هو هل جاء انتقال القيادة المركزية للجيش الحر إلى الأراضي السورية المحررة نتيجة تخطيط معد له، وبتنسيق تركي دولي، من قبل أصدقاء سوريا، أم أنها خطوة متسرعة، أم أن الهدف منها تسجيل نقاط داخلية ضمن التنافس المحموم في صفوف المعارضة السورية؟!

تساؤلات مستحقة بالطبع، وإلا كيف ستكون عملية التواصل بين قيادات الجيش الحر والفرق التابعة لها بكل سوريا، خصوصا في حال تعذر التواصل بسبب وسائل التواصل التكنولوجية، وكيف سيكون التنسيق من أجل إدخال السلاح، وخلافه؟ فإن بدت الأسئلة بسيطة فإنها تساعد على فهم هذه الخطوة، فإما أنها تفعيل حقيقي للخطة الفرنسية القاضية بتحويل الأراضي السورية المحررة إلى أراض آمنة، وعلى غرار بنغازي، وهذا يعد أمرا جيدا، ويدعو للتفاؤل، وإما أنها خطوة غير محسوبة وستكون عواقبها وخيمة.

وعندما نقول إن العواقب ستكون وخيمة فلسبب بسيط؛ فمنذ التفجير الذي استهدف قيادات أمنية كبيرة بمقر الأمن الوطني في دمشق كان النظام الأسدي يتداعى بشكل مذهل، حيث سقط جل حلب، وسقطت المنافذ الحدودية الواحدة تلو الأخرى، وانتقلت المعركة لدمشق، وكان الحديث حينها منصبا على مكان وجود الأسد وعائلته، اليوم بات من الواضح أن التدخل الإيراني قد ساعد على تمديد حياة الأسد فترة أخرى، ولكنها غير مضمونة، وقد لا تصل إلى مدة العام بأفضل تقدير، وبوجود القيادة المركزية للجيش الحر داخل الأراضي السورية المحررة فإن النظام الأسدي، وبمساعدة إيرانية أكيدة، سيقوم بإحراق الأخضر واليابس من أجل استهداف تلك القيادات.

ولذلك فإن تلك الخطوة كبيرة، ويمكن اعتبارها مؤشرا مهما على سير الأحداث بالثورة السورية الآن، ودليلا على ورطة الأسد وحلفائه، وأبرزهم إيران؛ حيث إن الدائرة بدأت تضيق على الأسد.

=================

«براءة المسلمين» وثورة السوريين!

أكرم البني

الشرق الاوسط

23-9-2012

يقف المرء حائرا ومندهشا وهو يرى صور الاحتجاجات العنيفة التي طوقت السفارات الغربية في ليبيا ومصر وتونس واليمن ضد «فيلم» مغرض ومشين، وقد طغت على مشاهد العنف والتدمير المروعة التي استباحت أرواح السوريين وممتلكاتهم.

وإذا نحينا جانبا فكرة المؤامرة، دون أن نبخسها حقها، وتجاوزنا الأسئلة المشككة عن توقيت إنتاج الفيلم وسرعة تعميمه ومن المستفيد من إثارة الغرائز وتشجيع هذا النوع من الغضب الشعبي وردود الأفعال الحادة ضد الغرب التي وصلت إلى أوجها في بنغازي بحرق القنصلية الأميركية وقتل السفير وبعض مساعديه، فإن ما شهدناه يعتبر عمليا أشبه بمؤامرة لتشويه سمعة الثورات العربية عموما، إذ شهدت مدنها أوسع الاحتجاجات وأكثرها عنفا، ولإيقاع أشد الأضرار بالثورة السورية على وجه الخصوص ومن زاويا متعددة.

اولا: إن تأجيج المشاعر والغرائز ضد فيلم قصير جدا تم تصويره على عجل يتوهم الإساءة للرسول، لأن لا أحد يستطيع الإساءة والتطاول على هذا المقام الكريم، كان غرضه إيقاع الشعوب العربية والإسلامية ضحية خداع من يضمر لهم شرا، وشحن انفعالات بعض المتزمتين ليعيثوا فسادا في الأرض، وما ترتب على ذلك من تحويل الانتباه عما يجري في سوريا من قمع وتنكيل مروعين لم يشهد القرن الحادي والعشرين لهما مثيلا، وزادت الأمر تعقيدا عبارة «إلا رسول الله»، التي تشي بإمكانية التغاضي عن غير ذلك من الموبقات والتجاوزات، واستسهال فظائع وأهوال يندى لها جبين الإنسانية!

ثانيا: تعزيز مخاوف الأقليات الدينية من التغيير والثورة، وهو الوتر الذي طالما عزف عليه النظام السوري، بأنه حامي الأقليات والتعددية في مواجهة طوفان إسلامي أكثري سوف يأكل الأخضر واليابس ويفرض مظاهر التضييق والتنميط على أسلوب حياة الناس وطرائق عيشها، والأهم أن العمل على إزالة هذه المخاوف يحظى بأهمية راهنة، جراء صعوبة تحقيق انتصار حاسم للثورة في مجتمع تعددي كسوريا، إذا لم تنجح في كسب الأقليات الدينية والعرقية وفك ارتباطها بالنظام وفضح ادعاءاته بأنه الضامن لحقوق هذه الأقليات وأن ما يواجهه هو عصابات سلفية وإرهابية تريد إعادة البلاد عشرات السنين إلى الوراء.

صحيح أن مطلب الدولة المدنية التعددية والديمقراطية هو مطلب مشترك لكل الشعوب الثائرة، وأن الجماعات الإسلامية التي نصبت من نفسها وكيلا عن شؤون الأكثرية لا تمل من تقديم الوعود والضمانات للأقليات وطمأنتها على حقوقها واحترام خصوصياتها، لكن الصحيح أيضا أن ثمة شكوكا بصدقية هذه الجماعات وارتيابا بأنها تضمر غير ما تظهر ولن تفي بما تعد به، خاصة أنها ليست قليلة التجارب التي يمكن أن يستند إليها للطعن بوفائها، ويزيد الطين بلة مظاهر استشراء العنف والثأر والتعصب لدى بعض أطرافها فيما تعتبره دفاعا عن دينها ومقدساتها.

ثالثا: إحياء مخاوف الدول الغربية من الإسلاميين وإثارة مزيد من شكوكهم بالثورات العربية وقدرتها على إنتاج الأفضل، الأمر الذي سينعكس في الحالة السورية بإطالة مخاض الثورة وآلامها، حين تترك وحيدة في مواجهة تحالف حربي، دولي وإقليمي، لا هدف له سوى محاصرتها وسحقها، في حال استندت بعض الدوائر الغربية إلى ما جرى لتمكين موقفها وتبرير تلكئها في دعم الحراك الشعبي والتدخل الحاسم لوقف العنف السلطوي، الأمر الذي ظهرت بوادره في تعليق الوزيرة هيلاري كلينتون على أحداث بنغازي، بتساؤلها عن دوافع وجدوى ما حصل «في بلد ساعدناه على التحرر، وفي مدينة ساعدنا على إنقاذها من الدمار».

«غضبكم كاذب» و«كرامة النبي في اتباع أخلاقه» هما عبارتان في لافتات رفعها السوريون إلى جانب تسمية يوم الجمعة المنصرم بجمعة «أحباب رسول الله في سوريا يذبحون». ربما كإشارة إلى نبذ صور العنف والثأر الجاهليين وإلى سلوك الرسول المترفع تجاه إساءات تعرض لها في حياته، وهو القائل «رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر». وربما كإدانة لصمت استمر عاما ونصف العام ولا يزال، تعرض خلاله الشعب السوري المؤمن والثائر، بأديانه ومذاهبه المختلفة، إلى شتى صنوف القهر والتعذيب دون أن تتحرك الشعوب العربية لنصرته أو تتظاهر وتطالب بوقف هذا العنف الأعمى، وتاليا كاستغراب وعتب على من غض الطرف عن إساءات واضحة طالت الله والأنبياء، وتكررت في سياق قمع المتظاهرين والمحتجين السوريين، فأهينت الأديان ودنست المقدسات بطرق أكثر استفزازا من صور الفيلم المفبركة، وربما ردا على من رفع صوته عاليا، وشجع العنف، وبدأ بالمزايدة في نصرة الأديان والأنبياء لكسب عواطف المسلمين، وربما دحضا لمحاولات توظيف هذه الإساءة لتأجيج المناخات والصراعات الطائفية المتوترة أصلا، إما لفائدة سياسية وإما لمنفعة شخصيات دينية، وأخيرا ربما لأن قدر الثورة السورية هو تسخير تضحياتها ودمائها الثمينة لنشر العقلانية في طرائق التفكير ورفض منطق الانتقام والغرائز العدوانية، والأهم لمحاربة زعامات دينية أدمنت الجمود والتقليد وتسعى لتجيير ما يحصل لتسعير صراعات هامشية وتحويل العالم إلى ساحة للتطرف والتعصب كي تكرس حضورها وامتيازاتها، فمصالحها تستدعي قتل الساسة وشعارات الحرية وشروط التعايش المشترك، وإلهاء الناس، تحت ادعاء وصايتها على كرامة الرسول والمقدسات، عن ممارسة دورهم الحقيقي في مقارعة المستغلين والمتسلطين وبناء مجتمع معافى يتشارك القيم الأخلاقية والإنسانية التي تجمع عليها كل الأديان.

يثير المتطرفون الإسلاميون مسألة الكرامة لرفض قيم الربيع العربي التي تضحي الشعوب من أجلها، ولسان حالهم يقول: لا نريد حرية وديمقراطية يهان بها رسولنا الكريم وتتعدى على مقدساتنا، وفي المقابل تقول الثورة السورية إن الحرية والكرامة ورفض العنف والقتل هي من جنس واحد في القيم الدينية، فلا كرامة بلا حرية، ولا حرية من دون رفض الاستبداد ولغة الثأر والقهر.

=================

سوريا وتركيا والأكراد!

فايز سارة

الشرق الاوسط

23-9-2012

هدفان يتطلع إليهما النظام السوري من سحب قواته ومظاهر سلطته من أهم المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال وشرق البلاد، وترك إدارتها للعشائر والقوى السياسية الكردية وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي الكردي، المتشكل من بقايا حليف النظام العتيق، حزب العمال الكردستاني..

هدف داخلي، وهو تحييد الحراك الكردي وعزله عن الثورة السورية، وتاليا تخفيف الأعباء عن قواته كي تتفرغ لمعارك ومواجهات في ميادين أكثر أهمية مع تراجع قدرتها، بعد تواتر الانشقاقات العسكرية، على فتح جبهة جديدة مع المكون الكردي وما قد يجره ذلك من تبعات لا تحمد، من دون أن نغفل رهانه على تفجر صراع داخلي كردي على خلفية الانقسام والاستقطاب الحاصلين حول الموقف من الثورة واختلاف ارتباطات القوى الكردية السورية بباقي أجزاء كردستان، أو رهانه على شحن الانفعالات الشوفينية لإثارة مزيد من الارتياب بين المعارضين العرب والأكراد، وتاليا على صراع محتمل بين بعض القوى الكردية ذات التطلعات الانفصالية والمعارضة والجيش السوري الحر اللذين يستندان إلى معنى للوطنية يرفض التقسيم أو التجزئة، وفي الطريق الترويج لفكرة الكانتونات في سوريا، إذ يعزز فتح الباب أمام الكرد للمطالبة بتمفصل سياسي في الحالة السورية ومغازلة حلمهم في سلطة ذات طابع قومي ما يثار حول التقسيم وإنشاء إقطاعات سياسية منسجمة قوميا أو طائفيا..

وهدف خارجي، هو استخدام الحدث كورقة ضغط على حكومة أنقرة، لإشغالها وإرباك دعمها للثورة السورية والذي بدأ يأخذ اليوم أشكالا أكثر عملية بعد اكتفائها في الماضي بالدعم اللفظي واستقبال اللاجئين والمعارضين، فجعل المناطق الكردية المتاخمة للحدود مع تركية خارج سيطرة السلطة يعزز دور حزب العمال الكردستاني وهو صاحب النفوذ الأكبر هناك، ويمكنه من تحقيق حلمه في تحويل شمال سوريا إلى قاعدة ارتكاز وانطلاق لعملياته بدلا من القواعد الموجودة في شمال العراق، والتي تحكمها اشتراطات القيادات الكردية في أربيل.

في المقابل لا نبالغ عند القول بأن حكومة أنقرة تواجه مأزقا في موقفها من الوضع السوري، فهي غير متحمسة لتجاوز سياسة «القوة الناعمة» أو «صفر مشاكل» التي اتبعتها، أو لا تستطيع إن رغبت، وتحاول تدارك حرجها وترددها بزيادة الدعم اللوجيستي للمعارضة السورية على اختلاف تياراتها ومكوناتها، ربطا بتصعيد النشاط الدبلوماسي خاصة مع القيادة الكردية في العراق لملاحقة الملف الكردي في سوريا وحصره في أضيق الحدود، وتشديد دعوتها لإقامة منطقة عازلة على الحدود المشتركة لإيواء اللاجئين وحمايتهم من البطش والتنكيل، كمدخل أيضا لمعالجة مستجدات المشكلة الكردية السورية والحد من تأثيراتها السلبية.

ثمة مخاوف وحسابات مصالح تلجم دخول أردوغان في صراع عسكري مفتوح مع النظام السوري حتى لو كانت الذريعة مواجهة العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني إن انطلقت من الأراضي السورية، فهو يتحسب من أن يفضي توغله في هذا الملف إلى خسائر لا تعوض، في حال اتسعت مساحة الاشتباك وشملت حلفاء للنظام، وما يستتبع ذلك من تداعيات ربما تستنزف قواه وتهدد موقعه ومستقبله في السلطة، وتحديدا إن طال زمن المعركة واتخذت مسارات غير محمودة، مما ينعكس سلبا على شعبيته وعلى وضع الثورة السورية، فالدخول العسكري الصريح سيفضي إلى تأليب الوضع الكردي عموما ضد أنقرة ويعزز العصبية القومية المتطرفة في مواجهتها، كما يضر بالثورة، بسبب الانقسام المحتمل بين معارضين يتعاملون مع تركيا كصديقة للشعب السوري ومن ستصبح عندهم أنقرة أشبه بعدو خارجي، وما يخلفه ذلك من شروخ على مستقبل العلاقات بين الشعبين السوري والتركي.

وبالطبع ليس من ضامن لأن تحافظ حكومة حزب العدالة والتنمية على ضبط أعصابها في حال هز الأكراد استقرار أوضاعها، وهي الخاضعة لضغط الشارع والمعارضة الداخلية المتحمسين لعمل رادع ضد الحزب الكردستاني في حال تصاعدت هجماته، مما يفسر الحشود العسكرية الواسعة التي امتدت على طول الحدود مع سوريا، وأيضا ما رشح عن وجود خيارات أمنية وسياسية ذكية قد تساعد أنقرة على تجنب خيار الحرب، أحد وجوهها ملاحقة مركزة وحازمة للمقاتلين الكرد داخل الأراضي السورية مستندة إلى اتفاقية أضنة الموقعة بين الجانبين السوري والتركي عام 1998.

والحال أنه يفترض أن يعي الأكراد السوريون التجاذبات القائمة وما ينتظرهم وما هي الفرص المتاحة أمامهم، وتاليا دورهم في الحفاظ على وحدة الموقف الداعم للثورة، لما له من أهمية خاصة، في ضمان وحدة الموقف الوطني الكفيل بإنجاح التغيير الديمقراطي الملح في البلاد.

إن القضية الكردية في سوريا لم تطرح يوما بمعزل عن الحالة الوطنية السائدة، كما لم يطرح حلها بمنأى عن المعاناة المشتركة لعموم السوريين، بل ظلت مرتبطة ارتباطا وثيقا بمجمل المعضلات السياسية العامة لدرجة أنها أصبحت قضية وطنية بامتياز. ولعل الأكراد يدركون أكثر من غيرهم دروس هزائمهم المريرة والتجارب التاريخية التي مروا بها، ليكونوا أشد المدافعين عن أولوية الانتصار للديمقراطية في أماكن وجودهم كمدخل لا غنى عنه لحل معضلتهم القومية ولمواجهة مختلف التحديات في عالم لا وزن فيه أو دور إلا للشعوب المتكاتفة والمتحدة، مما يوفر مناخا جديدا وصحيا يضع الجميع، عربا وكردا، على قدم المساواة في الحرص والمسؤولية الوطنية ويقطع الطريق، مرة وإلى الأبد، على مختلف الأنظمة لاستخدام المسألة الكردية كوسيلة أو ورقة ضغط في صراعاتها وتسوياتها الإقليمية.

ولكن للأسف، يبدو أن المعادلة الكردية هي أكثر وضوحا عند كلا الطرفين؛ نظام دمشق وحكومة أنقرة، فكما يبرر أنصار النظام انسحابه من المناطق الكردية بسهولة استعادتها بالتنسيق مع حلفائه هناك فور انتهاء معاركه في المدن الأخرى، يدرك أردوغان جيدا أن انتصار الثورة السورية يسهل مهمته في التعاطي مع التمرد الكردي، ولعل الجميع سيخفقون إذا لم تتصدر المشهد حلول سياسية جريئة ترضي خصوصية الأكراد، وتمنحهم كقومية ثانية ما يستحقونه من حقوق.

=======================

يسحقون الأكثريات ويشفقون على الأقليات

فيصل القاسم

الشرق القطرية 23/9/2012

من أكثر المفارقات إثارة للقرف والسخرية في مجريات بعض الثورات العربية أن الكثيرين في الداخل والخارج لا هم لهم إلا إبداء القلق والتباكي على مستقبل الأقليات في العالم العربي على ضوء وصول الإسلاميين إلى السلطة في بعض البلدان العربية. ويتزعم بعض "العلمانجيين" و"الليبرالجيين" الحملة المنادية بالحفاظ على حقوق الأقليات وأنماط عيشها، لا بل يطلقون صرخات ذعر سخيفة من أن مستقبل الأقليات في خطر شديد بسبب استلام أحزاب إسلامية مقاليد الحكم في هذا البلد أو ذاك. وكم سمعنا بعضهم يحذر من أن أقليات دينية وعرقية عديدة ستغادر أوطانها العربية إلى الخارج خوفاً من الاضطهاد والمضايقات. وكم شعرت بحنق شديد عندما سمعت أحد "المتعلمجين" وهو يحيك الأكاذيب عن وضع بعض المسيحيين في بعض الدول العربية، وكيف أنهم يتعرضون للقتل على الهوية، مع العلم، لو أن ذلك حصل فعلاً، فلن يكون عدد الذين لاقوا حتفهم من هذه الأقلية أو تلك أصابع اليد الواحدة، ناهيك عن أن الذي قتلهم ربما تكون بعض السلطات الحاكمة المحاصرة بثورات شعبية وذلك لتأليب الطوائف وضربها ببعضها البعض على مبدأ "فرق تسد" الذي أتقنه الطواغيت العرب القومجيون أكثر من المستعمر الغربي بمرات ومرات، فهم يتشدقون بالشعارات القومجية العريضة، ثم يحكمون على أسس طائفية وعشائرية وقبلية بائدة. وفيما لو كان هناك بعض المتطرفين من الأكثريات، فلا شك أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، وأن الأكثرية الساحقة من الأكثريات تتبرأ منهم ومن أفعالهم.

 

لا أدري لماذا صدّع بعض "العلمانجيين" رؤوسنا وهم يبدون قلقهم على مستقبل الأقليات بعد الربيع العربي، بينما لم يرف لهم جفن، ولم ينبسوا ببنت شفة عن المجازر التي تعرضت وتتعرض لها الأكثريات في بعض دول الربيع العربي. لم نر هؤلاء المنافقين الأفاقين يذرفون دمعة واحدة على الملايين الذين تشردوا في الداخل والخارج على أيدي العصابات الحاكمة هنا وهناك. هل يعقل أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها لمجرد تعرض واحد من هذه الأقلية أو تلك للمضايقة، بينما يموت المئات يومياً من الأكثريات في طول البلاد وعرضها، ناهيك عن الجرائم الفاشية والنازية التي تعرضت لها مدن بأكملها في بعض الدول العربية. لماذا مقتل واحد من هذه الأقلية أو تلك يحظى بتغطية وتباك منقطع النظير، بينما يقضي عشرات الألوف من الأكثريات نحبهم بطرق وحشية بالدبابات والطائرات وراجمات الصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً، وكأنهم مجرد أسراب من الذباب، ولا بواكي لهم لدى عصابات العلمانجيين والليبرالجيين ولاعقي أحذية الطواغيت؟ لماذا يخافون على مستقبل اثنين أو ثلاثة من مجموع هذا الشعب أو ذاك، ولا يعيرون أي اهتمام لمستقبل الأكثريات التي تشكل أكثر من ثمانين بالمائة في بعض الدول العربية، والتي عانت وتعاني الأمرين قتلاً وسحقاً وتشريداً لمجرد أنها طالبت باسترجاع أبسط حقوقها الإنسانية.

 

لماذا نسي بعض المتباكين على مستقبل الأقليات أن الأكثريات تعاني من ظلم واضطهاد وبطش الأقليات منذ عشرات السنين في العديد من الدول العربية؟ ألا يعلم هؤلاء السخفاء أن الأكثريات هي التي يجب أن تحكم في البلدان الديمقراطية عملاً بجوهر الديمقراطية القائم على حكم الأكثرية، وأن الأقليات في الغرب الديمقراطي لا تحلم أن تصل إلى البرلمانات، فما بالك أن تتسيد على الأكثريات لعشرات السنين؟ صحيح أنه من الواجب على الأكثرية في أي بلد أن تحفظ حقوق الأقليات، وأن تكون الأخيرة متمتعة بكل حقوق المواطنة دون أي تعرض للمضايقة أو الاضطهاد، لكن طبيعة الديمقراطية الغربية ذاتها لم تحمل زعيماً من طائفة دينية صغيرة تاريخياً إلى السلطة إلا من رحم ربي. ولنتذكر أن الرئيس الكاثوليكي الوحيد الذي وصل إلى سدة الحكم في أمريكا كان جون كندي، لكنه مات قتلاً. ولنتذكر أيضاً أن الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما فعل المستحيل كي يثبت للشعب الأمريكي أنه مسيحي مثل غالبية الأمريكيين، وليس مسلماً.

 

متى يعلم المتباكون على حقوق ومستقبل الأقليات في العالم العربي بعد الثورات أن الأكثريات لم تكن طائفية في تاريخها، وأن الطائفيين الحقيقيين في عالمنا التعيس هم أبناء الأقليات الذين ما إن يصلوا إلى السلطة حتى يصبح شعارهم سحق الأكثريات وترويعها بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو فكرت يوماً باسترداد حقها الطبيعي في الحكم بموجب الديمقراطية؟ ألم نر ماذا فعلت بعض الأقليات بالأكثريات في بعض البلدان؟ ألا يهدد إرهابيو الأقليات بسحق الملايين من هذه الأكثرية أو تلك كي يبقوا في السلطة؟ أليست كل التخويفات من أن الإسلاميين سيسحقون أبناء الأقليات بعد الثورات كذب بكذب لتبرير بقاء هذه الأقلية أو تلك في الحكم في هذا البلد العربي أو ذاك، بحجة أنها تحفظ حقوق الأقليات الأخرى؟ متى كان الطواغيت المنتمون للأقليات أو الأكثريات يحفظون حقوق أحد أصلاً؟ ألا يستخدمون الجميع كأحذية لتحقيق أهدافهم الفئوية حتى لو داسوا على القاصي والداني؟

 

متى تدرك الأقليات في العالم العربي أنه لا أحد يحميها ويصون حقوقها ومستقبلها إلا الأكثريات التي تترفع عن الطائفية بحكم أنها الأغلبية؟ متى يعلمون أن الأغلبية لا تخشى الأقليات بحكم الكثرة؟ متى تصطف الأقليات إلى جانب الأكثريات وتتوقف عن مساندة الطواغيت الذين لن يجلبوا لها سوى الدمار والخراب؟ هل يعقل أن نضحي بحق السواد الأعظم من الشعب كي نحمي حقوق خمسة أو ستة بالمائة من أفراده من الأقليات؟ أليس من حق الأكثريات أن يجن جنونها من هذا المنطق الأعوج؟ متى تتوقف بعض الأقليات قصيرة النظر عن استعداء الأكثريات في الدول العربية؟ ماذا استفاد ذلك المصري الأحمق عندما أنتج فلمه المسيء للرسول عليه الصلاة والسلام سوى دق مزيد من الأسافين بين أهله الأقباط الأقلية والمسلمين الأكثرية في مصر؟

 

لنحتكم جميعاً إلى صناديق الاقتراع كما تفعل كل الديمقراطيات المحترمة في العالم. وليس هناك شك بأن الأكثريات العربية، على عكس الغربية التي لم تنتخب يوماً سوى أبناء الأكثرية إلا ما ندر، لن تمانع في وصول أبناء الأقليات العربية إلى سدة الحكم هنا وهناك فيما لو حصلت على الأصوات المطلوبة في صناديق الاقتراع. ولنتذكر أن السوريين اختاروا يوماً رئيس وزراء مسيحياً بكامل إرادتهم ورضاهم، مع العلم أن أغلبيتهم مسلمون. كم كان المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش رائعاً عندما سألوه إذا كان يوافق على تولي رئيس وزراء مسيحي مقاليد الحكم في سوريا، فسألهم:" وهل سيحكم بالإنجيل أو الدستور؟"، فأجابوا "بالدستور طبعاً"، فقال: "على الرحب والسعة".

 

وكي لا يظن البعض أنني أدعو إلى المحاصصة الطائفية. معاذ الله! فما أجمل أن نبني أوطاننا الجديدة على أساس المواطنة، وليس على أساس طائفي أو قومي، أو على أساس الأكثرية والأقلية، مع العلم أن معظم دساتير الغرب تؤكد على أن تكون مقاليد الحكم بيد الأكثرية الدينية. هل يمكن أن تكون ملكة بريطانيا من خارج الكنيسة الإنجليكانية؟ بالمشمش!

=======================

سوريا.. توثيق لجثث مجهولي الهوية

لارا حسن

2012/09/22

سكاي نيوز عربية

عدة شعرات وقطعة من الملابس الملوثة بالدماء، هذا كل ما يحفظ من الجثة مجهولة الهوية قبل دفنها ليتمكن أهل الضحية في يوم ما من معرفة مصيره.

يستيقظ سكان بعض المناطق بمدن سورية مختلفة كل يوم على جثث مجهولة الهوية مرمية في الأزقة الضيقة أو على قارعة الطريق.

لا تحمل الجثة أي دليل على خلفية صاحبها، أو انتمائه. والقاسم المشترك الوحيد الموجود هو أنه قد يكون أبا لأطفال ينتظرونه، أو أخا أو ابنا لأم تسأل عنه كل يوم.

يقوم سكان الحي بدفن الجثث إكراما للميت، ومع الدفن يدفن سر صاحبها وهويته دون أن يعلم أهله مصيره أو مكان دفنه، فيبقون في حالة من عدم تصديق موت ابنهم، خاصة مع وجود حالات الاعتقال طويلة الأمد لدى أفرع الأمن السورية، وبسبب حالات الاختطاف التي تنتشر بكثافة غير مسبوقة في البلاد.

وكبادرة لتوثيق القتلى المجهولين أطلق ناشطون صفحة على فيسبوك حملت اسم “توثيق جثث الشهداء مجهولي الهوية”، وتساءلوا على صفحتهم “هل تخيلتم معاناة ذويهم”.

ووفقا للنشطاء فإن الهدف من عملهم هو توثيق الجثث والاحتفاظ بعينات يستفاد منها لاحقا من خلال تحليل الحمض النووي (DNA) ومن ثم معرفة هوية القتيل وبالتالي شطبه من ملف المفقودين.

ويعتبر المشرفون على الصفحة أن “الأمر لن يتطلب إلا مجهودا ضئيلا، إلا أن أثره سيكون كبيرا جدا على حياة أهلهم خصوصا في غياهب حرب لا ندري متى تنتهي”.

ومن ضمن خطوات التوثيق اقتلاع من 10 إلى 15 شعرة جافة مع جذرها من رأس القتيل ولحيته، ومن ثم قص قطعة من ملابسه الملوثة بدمائه وحفظها بعد التأكد من جفافها الكامل.

وفي حال تعرض الجثة للحرق فيجب قلع 4 أسنان على الأقل، و يفضل أن تكون من الأضراس الخلفية، وفي حال تعذر ذلك يمكن الاستفادة من قطعة من عظام القتيل كعظم العضد مع التأكد من تجريد العظم من أي نسيج آخر عالق به كالعضلات قبل حفظه.

وبعد الحصول على العينات يجب حفظ كل منها في كيس ورقي منفصل، وإغلاقه جيدا بالشريط اللاصق، ثم حفظ الأكياس في مكان جاف و بدرجة حرارة الغرفة.

ومن بعدها يجب التقاط صورتين أمامية وجانبية لوجه القتيل، ثم يتم التسجيل على الكيس الورقي عمر القتيل التقريبي، والجنس، ولون الشعر، والبشرة، كما يفضل تسجيل أي من العلامات الولادية المميزة كالوحمات ومكان تواجدها.

ويؤكد الناشطون على ضرورة حفظ العينات والوثائق الخاصة بكل قتيل في مكان واحد، والاحتفاظ بها لحين الإعلان عن تسليمها لأحد أعضاء هيئة “توثيق الشهداء المجهولين في منطقتك”.

ويقتدي المشرفون على الصفحة بالتجربة البوسنية، فبعد انتهاء الحرب كان ثمة ما يقارب 40 ألف مفقود، وقد ساهم تحليل الـ (DNA) للتعرف على هويات الجثث المجهولة.

وبهذه الطريقة تمكنت الحكومة منذ عام 2001 من التعرف على هوية أكثر من 15 ألف جثة من ضحايا مجزرة سربرينتسا.

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ