ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 13/01/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الفاتيكان في خدمة رأس المال:

البابا بندكت السادس عشر نموذجاً

مسعد عربيد

"يعتاش الاكليرك، وليس بقدر أقل من الطبقة الراسمالية ذاتها، على أكتاف الشعب وينتفعون من تدهور الاوضاع ومن جهل الشعب وقمعه. فرجال الدين والطفيليون الرأسماليون يكرهون الطبقة العاملة المنظمة، الواعية لحقوقها، والتي تكافح من أجل حرياتها".

روزا لكوسمبرغ - في "الاشتراكية والكنائس" (1905)[1]

(1)

يحظى الفاتيكان، رغم صغر حجمه، بدور كبير في السياسة الدولية، كما يلعب دوراً لا يقل سطوة وتأثيراً على المستوى الشعبي حيث تنفذ سياساته ومواقفه الى عقول وقلوب ووعي الملايين. فتأثيرات الفاتيكان في دوره المزدوج كدولة ومرجعية دينية، لا تتوقف عند شؤون الايمان والعقيدة، بل تتعداها الى شؤون المجتمع والسياسية والاقتصاد. 

نتناول في هذه المقالة الدور السياسي للفاتيكان، كدولة ونظام حكم، إنطلاقاً من أن سياسته واستراتيجيته تقومان على نسق من المصالح المادية تبلورت عبر قرون عديدة وتشابكت مع النظام الرأسمالي منذ نشأته، رغم تلبسها عباءة الدين واللاهوت. وعليه، فان ما نهدف اليه هو وضع مواقف البابا بندكت السادس عشر في دائرة الضوء كنموذج، لإستشراف الوظيفة السياسية للفاتيكان وتجليسها في سياق إستراتيجية الغرب الرأسمالي مع التركيز على أوضاع أميركا اللاتينية. ومن هذا المنظور، فان مواقف البابا التي تتجلى في تصريحاته ومحاضراته وكتاباته، وخصوصاً ما يتعلق بالراسمالية والماركسية واميركا اللاتينية، لا تعبر عن مواقف ذاتيه فحسب، بل تأتي في سياق مصالح الطبقة الحاكمة في الفاتيكان والمؤسسة الدينية الكاثوليكية، دون أن يعني هذا أو يستلزم، التنكر للعوامل والخلفيات الشخصية والذاتية. أما مسائل اللاهوت والايمان والمعتقدات الدينية فتبقى خارج نطاق هذه المقالة، وإن ورد التطرق اليها، فالبقدر الذي تؤثر فيه على قضايا المجتمع.

 

(2)

السياق التاريخي

دون العودة الى تفاصيل تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وهوحافل بالكثير من الوقائع والجرائم، نتوقف في هذه المقالة، لدى ثلاث محطات تاريخية فاصلة:

1) بداية الحقبة الكولونيالية الاوروبية ونشأة "عقيدة الاكتشاف".

2) الفاتيكان الثاني والتحول الكبير.

3) الحقبة الراهنة تحت قيادة البابا السابق يوحنا بولس الثاني والراهن بندكت السادس عشر.

 

الحقبة الكولونيالية: ثيولوجيا الاستعمار و"عقيدة الاكتشاف"

لم يكن كريتستوفر كولومبس في رحلاته "وبطولاته" [2] ، من منظور الكنيسة الكاثوليكية، مجرد مكتشف للاراضي الجديدة أو محتلاً لاراضي شعوب اخرى. كما ان الكنيسة لم تعتبره خارجاً عن القانون أو مجرماً أباد الملايين من السكان الاصليين الذين كانوا يقطنون "العالم الجديد" لآلاف السنين قبل ان "تكتشفه" اوروبا المسيحية. بل كانت فتوحاته وجرائمه تحظى بمباركة بابا الفاتيكان، والأدق أن نقول أنها كانت تنفيذاً لاوامر هذا الأخير ومتناغمة مع استراتيجية ومصالح المؤسسة المسيحية الغربية. ولعل هذا ما قصد كولومبس تجسيده، ولو بشكل رمزي، عندما أقام شعائر تدشين اولى الاراضي التي إستولى عليها وإلان ضمها لأملاك "ملك وملكة إسبانيا" بعد أن حطت أقدامه شواطئ جزيرة جواناهاني Guanahani  عام 1492.

كان كولومبس، من المنظور الكولونيالي، متسقاً  مع تعاليم ومصالح الكنيسة الكاثوليكية، لان الإعداد للحملة الكولونيالية والفتوحات الكنسية، إن جاز التعبير، كان قد بدأ باربعة عقود قبل إبحاره في غزواته.

أصدر البابا نيكولاس الخامس، (الذي حكم الفاتيكان بين عامي 1447 و1455)، عام 1452 وثيقة وجهها الى ملك البرتغال الفونسو الخامس معلناً فيها الحرب على كافة "غير المسيحيين" في العالم وقد فوضت هذه الوثيقة الغزاة بصلاحية إستغلال الشعوب غير المسيحية وشرعنت إستعمار أراضيهم وإستعبادهم والاستيلاء على كافة ممتلكاتهم.[3] كما منح البابا البرتغال الحق في أن "تغزو وتبحث عن وتأسر وتقهر كافة الوثنيين على سواحل أفريقيا الغربية وأن تستعبدهم وتستولي على ممتلكاتهم". هكذا، بكل الصلافة والوحشية والدموية التي تثيرها مثل هذه العبارات. وعليه، فان كولومبس عندما أبحر عبر الاطلسي، أو "بحر الظلام" كما كانوا يسمونه آنذاك، كان يستند الى مرسوم بابوي يمنحه الصلاحية التامة لفتح بلاد "العالم الجديد" وإستعمارها.

أما البابا الكسندر السادس (الذي حكم من عام 1492 الى 1503) فقد أصدر وثيقة انترسيتيرا  Inter Cetera [4] سيئة الصيت في 3 مايو 1493 (بعد عام من غزوة كولومبس الاولى) ومنح بموجبها إسبانيا الحق في إحتلال البلاد التي إكتشفها كولومبس في العام السابق إضافة الى الاراضي التي سيكتشفها مستقبلاً، شريطة ألاّ يكون "أحد الملاّك المسيحيون" قد سبقهم الى ذلك. بعبارة اخرى، تجاهل هذا الفرمان الفاتيكاني وجود شعوب وحضارات قطنت تلك الاراضي لآلاف السنين قبل مجيء المسيحية والحضارة الاوروبية. وعندما إستشاط الملك البرتغالي غضباً من هذا القرار وإعترض لدى البابا على التنازلات التي قدمها هذا الاخير لاسبانيا، قام البابا باصدار فرمان آخر في اليوم  التالي (4 مايو 1493) متراجعاً عن قرار الامس حرّم فيه على إسبانيا السيطرة على الاراضي التي "كانت قد وقعت في أيدي مسيحيين آخرين". وفي قرارٍ هو الاشد وقاحة، حسم الحبر الاعظم، "ممثل المسيح على الارض"، المزاحمة الاستعمارية المحتدمة آنذاك بين البرتغال وإسبانيا المتعطشتين للمزيد من الفتوحات، بجّرة قلم قاسماً "العالم الجديد" من شماله الى القطب الجنوبي الى شطرين: تستولي إسبانيا، بغية "توسيع الحكم المسيحي"، على الاراضي الواقعة الى الغرب من الخط الذي رسمه البابا، أما البرتغال فقد نالت الشطر الشرقي من تلك القارة. وهكذا كان الحال، كما فعلت فرنسا وبريطانيا في وطننا خلال الحرب الامبريالية الاولى بجرة قلم سايكس ـ بيكو (1916)، إذ حسم البابا مستقبل القارة ومصير شعوبها لما ينوف على خمسة قرون. [5] ولعل إرث الفاتيكان وتاريخه في استعمار الشعوب وشرعنة إبادتها والاستيلاء على أراضيها ومواردها، هو العبرة التي "تعلمتها" فرنسا وبريطانيا ونفذتاها في بلادنا وفي الهند وغيرها من البلدان المستعمَرة.

لم تتواني بريطانيا عن اللحاق بالركب الاستعماري، ففي عام 1496 منحت تفويضاً لمكتشفي الاراضي الجديدة بالاستيلاء عليها باسم ملك انكلترا. وحذت الولايات المتحدة حذو بريطانيا الام، حين تبنت المحكمة العليا الاميركية عام 1823 نظرية الاكتشاف المسيحية على أساس ان الولايات المتحدة أصبحت، بعد إستقلالها عن انكلترا عام 1776، الامة الوارثة لحق "الاكتشاف" هذا وإكتسبت حق امتلاك أراضي الشعوب الهندية الاميركية متذرعةً بان هذه الشعوب قد فقدت حقها في السيادة ولم يتبقى لها سوى حق "الاقامة" على أراضيها.

إن الغاية من سرد هذه التفاصيل التاريخية هي التأكيد على:

أ ـ أن الفاتيكان (المؤسسة الكاثوليكية الدينية والسياسية) كان المبادر في شرعنة الاستعمار وإستعباد الشعوب بل وإبادتها.

ب ـ  أن الوثائق الفاتيكانية المذكورة صدرت عام 1452 أي أنها سبقت غزوة كولومبس الاولى (1492) بأربعة عقود.

ت ـ أما العبرة الأهم، فتكمن في نظرة الفاتيكان الى الشعوب الاصلية في "العالم الجديد"، وقياساً عليه الشعوب "غير المسيحية"، تلك النظرة التي أصبحت قانوناً مسيحياُ يعرف ب"قانون الامم" والذي يمنح الشعوب المسيحية حقاً آلهياً مستمداً من الانجيل في الملكية المطلقة للاراضي الجديدة "المكتشفة" والتي تقطنها شعوب غير مسيحية.

ث ـ تزامن هذه الوقائع مع نشأة النظام الراسمالي.

ج ـ مهدت هذه النظرية للحملات للنظريات الاستعمارية وغيرها من النظريات العنصرية الاوروبية البيضاء والمركزانية الاوروبية.

هكذا نشأت "عقيدة الاكتشاف" Doctrine of Discovery   التي إستخدمتها إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا وهولندا وغيرها من البلدان الاوروبية المسيحية لقرون طويلة في إستعمار شعوب آسيا وأفريقيا و"العالم الجديد" في الاميركيتين. فهل لنا ان نتسائل بعد ذلك عن مصدر المفاهيم الاستعمارية في فتح الاسواق الجديدة ونهب المواد الخام وإستعمار الشعوب وإستعبادها؟ وهل لنا ان نتسائل، من أين أتت الايديولوجية الصهيونية التي  نصبت اليهود "شعباً مختاراً" ومنحته حقاً تاريخياً في "أرض الميعاد" في فلسطين على اساس الإدعاءات التوراتية؟ بل هل لنا ألاّ نلحظ ان الفكرة الصهيونية ربما جاءت متلكأة بما يقارب أربعة قرون عن عقيدة الفاتيكان واوروبا المسيحية؟ 

 

المحطة الثانية: المجمع المسكوني الثاني والتحول الكبير

تركت التطورات والتحديات الجسمية التي وسمت القرن العشرين بصماتها العميقة على الفاتيكان، إذ لم تعد الكنيسة الكاثوليكية قادرةً، إزاء هذه التغيرات، على إدارة ظهرها للقضايا الاجتماعية والسياسية كما درجت عليه في الماضي، فاخذت، هي الاخرى، تواجه مع بدايات العقد الخامس من القرن المنصرم، العديد من الإشكاليات والتحديات:

1) معالجة آثار وتداعيات التجربة الانسانية الحديثة، بما فيها من حروب دامية ودمار شامل، على العقيدة المسيحية ومؤسستها الدينية التي ظلت آسنة لقرون طويلة. وقد شملت هذه الآثار كافة جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والحضارية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية.

2) ضرورة السعي نحو فهم متجدد للانجيل بالمقاربة مع الواقع الاجتماعي والانساني الجديد، مما يستدعي تحليلاً أكثر عمقاً وإعادة النظر بدور الكنيسة والكهنوت والشروع في حوار مع العالم حول إشكاليات العصر.

على هذه الخلفية، إلتئم المجمع المسكوني الثاني[6] (المعروف أيضاً بالفاتيكان الثاني) وأقر العديد من الاصلاحات التي أصبحت ركناً أساسياً في سياسات الفاتيكان والعقيدة الكاثوليكية وبشّرت ببزوغ مرحلة جديدة في تاريخه واستراتيجيته. عقد الفاتيكان الثاني دوراته الاربع بين عامي 1962 ـ 1965 من أجل "البحث عن نهج" جديد حسب قول البابا يوحنا الثالث والعشرين الذي أشرف على تأسيس هذا المجلس. 

 

نماذج من الجرائم

لم تتغير إستراتيجية الفاتيكان وسياساته إثر المجمع المسكوني الثاني رغم العديد من الاصلاحات التي وعد بها ولم يحدث أي تغيير جوهري في علاقاته وإرتباطه بالغرب الراسمالي. ودون الخروج عن موضوع المقالة، يكفي أن نذكر ان الفاتيكان قد إصطف تاريخياً مع قوى الثورة المضادة، وناصب الفكر والحركات الثورية والتقدمية العداء. وعلى مدى القرون الوسطى والحديثة، قمع الفاتيكان المحاولات والاجتهادات والحركات الفكرية والعلمية وحرم الكثير من النتاج الفني والثقافي والفكري:

ندد الفاتكان بثورات 1848 التي عمّت اوروبا آنذاك، وحارب الشيوعية منذ صدور "البيان الشيوعي" عام 1848.

تواطئ مع النازية والفاشية خلال الحرب الامبريالية الثانية (1939 ـ 1945) وتآمر على تغطية حروب وجرائم هتلر وأعوانه بل وساعد في تهريب العديد منهم.

منذ إنتصار الثورة البولشفية (1917)، لم يتوقف الفاتيكان عن محاربة الاشتراكية والعمل على تدمير أنظمتها من بولندا الى الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا.

أما النضالات الاجتماعية وبشكل خاص نضال المرأة، فقد تآمر الفاتيكان عليها بما توفر لديه من وسائل.

شكلت السياسة الفاتيكانية في بلدان اميركا اللاتنية ركيزة داعمة للرجعيات السياسية والايديولوجية في تلك القارة وساندت الديكتاتوريات العسكرية الدموية ووقفت ضد الحركات التقدمية والثورية منذ ستينات القرن الماضي.

وفي هذا السياق إصطدم الفاتيكان مع مناضلي حركة لاهوت التحرير في تلك البلدان وقمع المدافعين عن قضايا الفقراء والفلاحين[7] والمناضلين ضد استغلال الاغنياء والاقطاعيين.[8] وكان للبابا الحالي، كما سنرى، دوراً مركزياً في مناهضة هذه الحركة التحريرية ومناضليها.[9]

 

الحقبة الراهنة: إرث السَلَف البابا يوحنا بولس الثاني

لا نحتاج الى التنقيب في التاريخ وأسراره كي نخلص الى أن سياسات البابا السابق يوحنا بولس الثاني كانت سياسات يمينية ورجعية بامتياز ومعادية ومدمرة للانجازات العظيمة التي حققتها الانسانية، بما فيها دوره الذي وسم استراتيجية الفاتيكان لسنوات طويلة (1978 ـ 2005) ومواقفه من التيارات والحركات السياسية والاجتماعية في العالم وخاصة في مجتمعات العالم الثالث والانظمة الاشتراكية السابقة.

وصل البابا يوحنا بولس الثاني الى سدة الحكم في الفاتيكان عام 1978  في سياق سياسي وتاريخي إتسم بصعود القوى اليمينية والاصولية المتشددة والمعادية للاشتراكية والتقدم، وجاء متزامناً مع وصول مرغريت تاتشر الى رئاسة الحكومة البريطانية (1979) ورونالد ريغن الى رئاسة الولايات المتحدة (1980) وصعود الاصوليات الدينية الى مواقع السلطة والتأثير في أجزاء اخرى من العالم مثل إيران والكيان الصهيوني.[10] وفي ظل زعامتة إتسمت مسيرة الفاتيكان بالتوجه بثبات نحو الاصولية والتشدد على مختلف الاصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

إلاّ أن صعود هذا البابا الى منصب الحبر الاعظم لم يكن مصادفة عابرة، بل جاء ملبياً للمصالح الرأسمالية في سياق هجمتها الهادفة الى تدمير الاشتراكية وأنظمتها في الاتحاد السوفييتي  واوروبا الشرقية. فقد عمل  "ثالوث" البابا ـ ريغن ـ تاتشر بشكل منسق ضمن إستراتيجية تسعى الى إعادة الساعة الى الوراء وتدمير الإرث الثوري والانجازات والانتصارات التي حققتها البشرية خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين. وقد قامت هذه الاستراتيجية على عدة مرتكزات أهمها:

أ ـ محاربة الحركات التحررية والثورية والديمقراطية في العالم  أينما كانت، مع توجه خاص للعالم الثالث والانظمة الاشتراكية، وتدمير ما تم تحقيقه من إنجازات الحركات الشعبية والعمالية تعزيزاً لمصالح "السوق الحرة" وإقتصادها.

ب ـ الإعداد، بكل الوسائل المتاحة وبشكل مبرمج، لتدمير الاتحاد السوفييتي والانظمة الاشتراكية.

ت ـ  ضرب الانجازات التي حققتها حركات الدفاع عن الحقوق والحريات المدنية وحقوق الاقليات العرقية في العالم وفي الولايات المتحدة منذ منتصف ستينات القرن الماضي.

ث ـ معاداة وضرب النضالات الاجتماعية وخاصة النضال من أجل حقوق وحريات المرأة وإنجازات الحركات النسوية في العالم.

وبالرغم من إختلاف الخلفيات والدوافع والوسائل لاطراف هذا الثالوث، فقد تحركت قواه اليمينية بجهد منظم ومنسق نحو تنفيذ مخططاتها. وأقام الفاتيكان الروابط الوثيقة، والتي ما زال الكثير منها في عالم "السر"، مع الولايات المتحدة منذ عام 1980 (وصول ريغن الى الحكم) بل وقبل ذلك مع إدارة كارتر، وتحالف مع الغرب في حملة ما سُمي آنذاك ب"حماية حقوق الانسان" الزائفه. وبفضل "الجهود" المشتركة لهذه القوى، فاننا نعيش اليوم مرحلة تصاعد وهيمنة الايديولوجيات الرجعية واليمينية والاصولية التي إنقضّت على النضالات والانجازات السياسية والاجتماعية التي تم تحقيقها خلال حقبة "دولة الرفاه" في الغرب وحقبة البناء الاشتراكي في الدول الاشتراكية، رغم الاختلافات العميقة بين الحالتين.

 (3)

الفاتيكان ورأس المال

الملكية الخاصة: "أساس النظام الاجتماعي السليم"

يُعتبر موقف الكنيسة الكاثوليكية من الملكية الخاصة (وأشكال الملكية الاخرى) الركيزة الاساسية في عقيدتها حول النظام الاجتماعي الذي تدعو اليه. تعتقد الكنيسة أن الملكية الخاصة، وأشكال الملكية الاخرى، تضمن "للفرد مجالاً هاماً جداً لممارسة إستقلاله الشخصي والعائلي، ويجب إعتبارها إمتداداً للحرية الانسانية...وحيث أنها تحث على ممارسة المسؤولية، فانها تشكل واحداً من شروط الحرية المدنية." وقطعاً لأي تأويل يضيف الفاتيكان:"ان الملكية الخاصة عنصر أساسي في السياسة الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية الاصيلة، وهي الضمانة للنظام الاجتماعي السليم." ..و"ان عقيدة الكنيسة الاجتماعية، تستوجب ان تكون ملكية السلع متاحة وسهلة المنال للجميع، كي يصبح الكل، الى حدٍ ما، ملاّكين...".[11]

 

الكنيسة والفقر: تغييب الصراع الطبقي

على الرغم من مضي أكثر من ألفي عام على نشوء الفكر المسيحي، فقد ظل فهم المسيحية لمسألة الفقر والفقراء مجزوءاً وقاصراً ومشوهاً. فعلى مدى قرون من هيمنتها الدينية والسياسية والاجتماعية، ظل الفقر، من منظور الكنيسة الكاثوليكية، "حالة اجتماعية" تواجدت دوماً في المجتمعات البشرية. فقد جانبت الكنيسة ورفضت تحليل الفقر والبؤس الانساني على انه نتيجة للاستغلال كما رفضت إعتبار الفقراء فئة (او طبقة) إجتماعية تعيش تحت وطأة  ظروف إجتماعية ـ إقتصادية معينة ناتجة عن علاقات إنتاجية تحكمها تشكيلات اجتماعية (طبقات) معينة.[12]

لذا، فان غياب (تغييب) الجذور والاسباب الطبقية للفقر والبؤس والاستغلال هو حجر الاساس في موقف الكنيسة من الراسمالية ومرجع التناقض المحتدم بينها وبين الاشتراكية، وهو أيضاً ما يحول دون تحليل بنية وطبيعة النظام الراسمالي. لذا يسهل على الفاتيكان تفسير الفقر والاستغلال وحصرهما في "حالة" اجتماعية تدعو الى الشفقة والاحسان، اي حصرهما في الحيز الانساني والخيري. ومن أجل التخفيف من وطأة الفقر وإسكات البطون الجائعة، وما يشكله هذا القهر من مقدمات مادية وموضوعية لاختمار ونضوج عوامل الثورة، دعت الكنيسة الى أعمال الاحسان والصدقة كواجب ديني، فأنشأت الجمعيات الخيرية هادفة، في نهاية الامر وبغض الطرف عن التبريرات الانسانية والروحانية والثيولوجية، الى "تحييد" الصراع الطبقي وتشويه الطبيعة الطبقية وتفادي المعالجة الامينة للاسباب المادية للاستغلال والفقر. وقد كانت محصلة ذلك قروناً من تدمير الوعي الشعبي والطبقي للجماهير وإجهاض حركات الثورة والتغيير الاجتماعية.

على النقيض من هذا الموقف "اللاطبقي" من الاستغلال الراسمالي، لعب الفاتيكان عبر التاريخ دور الشريك في الصراع الطبقي حيث إصطفت الكنيسة بوضوح مع الاقطاعية والبرجوازية ونسجت، كسلطة دينية وسياسية، شبكة معقدة من العلاقات (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية)، وأقامت تحالفات وثيقة مع الطبقات الغنية والحاكمة متلحفةً بذريعة "الحفاظ على القانون والأمن". كما وفر الفاتيكان لهذه الطبقات الغطاء والتبرير لدى الملايين من  أتباع الكنيسة بحكم هيمنتة وتأثيره البالغ على وعي جماهير العمال والفلاحين والفقراء ما أدّى الى إجهاض النضالات العمالية والفلاحية والشعبية وإضعاف دورها في المجتمعات المسيحية، ناهيك عن زرع الخلافات والانقسامات في صفوفها وتفتيت وحدتها.

خلاصة القول، أنه مقابل موقف الفاتيكان المحابي من رأس المال، نرى انه، ومنذ صدور "البيان الشيوعي" (1848)، شن حرباً لا هوادة فيها على كافة الاطروحات والافكار والتيارات الماركسية والاشتراكية والثورية والتقدمية التي عالجت مسألة الفقر والاستغلال في إطار الصراع الطبقي ولم يتوقف حتى يومنا هذا عن نقد الشيوعية ومحاربتها والتآمر على أنظمتها.

 

نقد الراسمالية: مرواحة بين "الشرق والغرب"؟

كثيراً ما تتوارد على لسان البابا (السابق والحالي) وغيرهما من مسؤولي الفاتيكان، وفي لحظات تاريخية وسياسية فارقة، إنتقادات للرأسمالية والعولمة وقسوتها وتسببها في بؤس الانسانية وفقر العالم الثالث. فقد برع كلاهما في هذه التصريحات ولم يتوانا عن إبداء حرصهما ودعوتهما ل"إنسانية" العلاقات بين الناس. إلا أن هذا النقد، رغم رطانته وإرتفاع وتيرته، يتوقف عند القشور. فالبابا يشكو من قسوة الراسمالية ويتباكى على معاناة العالم الثالث إلا انه لا ينفذ الى معالجة الاسباب الجذرية والبنى الاجتماعية التي يقوم عليها الاستغلال الراسمالي، المسبب الرئيسي لهذه المعاناة. وعليه، يظل نقد الكنيسة للراسمالية شكليا ولفظياً قاصراً عن أن يترجم الى موقف عملي. فيما يلي عينة من  مواقف البابا السايق يوحنا بولس الثاني، أما مواقف البابا الحالي فسوف نعود اليها لاحقاً:

· وصف البابا يوحنا بولس الثاني النظام الراسمالي بانه الاداة "الاكثر نجاعة" في استخدام الموارد وسد حاجات المجتمع والناس.

· هاجم كلاً من الشرق والغرب،  مشيراً الى ان النزاع الايديولوجي بين الراسمالية والشيوعية، شكلَّ، حسب قوله، عائقاً "في معالجة جراح العالم الثالث". وإذا لم تكن المماثلة بين هذه النظامين تعبيراً عن الجهل، وهي ليست كذلك، فهي اسوأ لانها، دون مواربة طعنة لضميرالانسانية وخيانة لقيمها وأخلاقيتها.

· أنحى البابا، وهو ألد أعداء الشيوعية والذي كان يعتد بكونه "الاب الروحي" لتدمير الانظمة الاشتراكية، أنحى باللائمة على النظامين لان كلاً منهما "يتضمن ميلاً نحو الامبريالية" و"خطيئة" البحث عن الثروة وإفقار الشعوب. وكي يصدق المرء مثل هذا الزعم، فعليه ان يكون مصاباً بفقدان الذاكرة وأن ينسى أن هذه الكنيسة "الحاكمة بأمر الله" ما زالت، منذ قرون طويلة، تتحكم باكبر ثروات العالم.

· أما دولة الرفاه، فقد وصفها البابا بانها دولة مكلفة وبيروقراطية وغير منتجة بل معيقة للانتاج وان الاعمال والمؤسسات الخيرية ذات فعالية أفضل.

فاذا كان الفاتيكان، والفكر الكاثوليكي بمجمله، يعتبر حق الملكية الخاصة هو حجر الاساس في موقفه من النظام الاجتماعي ـ الاقتصادي، وأن هذا النظام "يجب أن يؤدي الى توزيع أكثر عدالة ومساواة في السلع" كما أكد البابا يوحنا بولس الثاني، فما هو المقصود، إذن، ب"نقد" الفاتيكان للراسمالية والعولمة؟

إذا أزلنا ما عَلِقَ بنقد الفاتيكان للرأسمالية من لغو ورطانة، فان هذا النقد يفضي، في نهاية التحليل، الى:

أ) الى تلميع صورة هذا النظام الوحشي وإعفائه من مسؤوليته عن بؤس البشرية والحروب الدامية وإبادة الملايين من الابرياء.

ب) ليس خافياً أن مثل هذه التخريجات المبتكرة توحي بان الموقف من الراسمالية يعكس "الارادة الربانية" ويمثل رأي البابا ورغبته، وما لذلك من أثر كبير على جماهير المؤمنين وأتباع الكنيسة.

ت) ربما ما تتوخاه الكنيسة من وراء "نقدها" هذا هو العودة الى ما يخدم مصالح الكنيسة، أي العودة الى الاسوأ: الى تشكيلات اجتماعية أكثر تخلفاً على غرار تلك التي سادت اوروبا وهيمنت فيها مفاهيم الملكية الخاصة المطلقة حين كانت الكنيسة الكاثوليكية أكبر ملاّكي الاراضي وأكبر المنتفعين من النظام القائم، أي أكبر الراسماليين.

 

الماركسية والدين

يجدر بنا، إستفاءً للبحث، الوقوف بشكل عاجل على موقف الماركسية من الدور الاجتماعي للدين. إستندت الاطروحة الماركسية في نقد الدين، من حيث الجوهر، الى تحليل دور الدين في المجتمع وعلى وجه الخصوص موقفه من الاستغلال بكافة أشكاله. وربما كان ماركس الاول الذي إلتفت الى بعض المسائل الاساسية في هذا المجال:

1) أقرّ ماركس بالموقف الاخلاقي الذي إتخذه الدين من معارضة الفقر والظلم.  

2) كما لمس قدرة الدين على التعبير عن معاناة الفقراء وتعاطفه معهم، وقد رأى ماركس في هذا قدرة الدين على إجتذاب الجماهير.

3) إلاّ أن ماركس أدرك أيضا أن الدين، رغم معارضتة للفقر والظلم ورغم تعاطفه وشفقته على الفقراء والمعوزين، فانه يتيح للطبقات المهيمنة (الحاكمة) إستخدامه كدعامة أيديولوجية وأداة سياسية لإحكام هيمنتها على الطبقات المضطَهَدَة، أي تسخير الدين كأداة للهيمنة الطبقية حيث بتحييد الصراع الطبقي وإجهاض قوى التمرد والثورة وإحباط نضالاتها.

ولعل هذا ما حاول ماركس ان يقولة في عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"، وهي العبارة التي كثيراً ما إجتزأت وبترت من مجمل الفقرة التي أتت في سياقها حيث يقول ماركس:"إن الهم الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن هم واقعي واحتجاج على هم واقعي. إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضع بلا روح. انه أفيون الشعب".

خلاصة القول، أن ماركس أدرك الطابع المزدوج للدين ودوره في المجتمع: فهو، من حيث تعاليمه، ناقد للفقر ومعارض للظلم والقهر ومطالب بالرحمة والرأفة بالفقير وبالمساواة بين الناس، ولكنه أيضاً، وفي الطرف النقيض، أداة في أيدي الطبقة الحاكمة تستخدمها كآلية أيديولوجية (تدعمها مؤسسة وأجهزة كنسية عريقة وضخمة) من أجل بسط هيمنتها على الطبقات الاجتماعية المضطَهَدَة.

------------------------------------

 [1] Rosa Luxemburg, Socialism and the Churches. http://www.newyouth.com/archives/classics/

luxemburg/socialismandthechurches.html

[2] قام كولومبس برحلات أربع: الاولى، اغسطس 1492ـ مارس 1493 وكان الهدف منها "جني الثروة"، والثانية، سبتمبر 1493 ـ يونيو 1496 بهدف الاستيطان، والثالثة، مايو 1498ـ نوفمبر 1500 والاخيرة مايو 1502 ـ نوفمبر 1502.

[3] لم تكن هذه "العقيدة" الاولى في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، فقد تكونت البذور الاولى للفتوحات الكولونيالية خلال الحملات الصليبية على بلادنا حيث اعتبرت الشعوب "غير المسيحية" اعداء للعقيدة الكاثوليكية وبالمنطق ذاته، إعتبرتهم في مرتبة أدنى من البشر.

[4] انظر http://www.nativeweb.org/pages/legal/indig-inter-caetera.html

[5] وهو ما يفسر إستخدام اللغة البرتغالية في البرازيل، والاسبانية في بقية دول أميركا اللاتينية.

[6] لعل أكثر ما يعلق بذاكرة القارئ العربي من مقررات هذا المجلس هو القرار باعفاء اليهود المعاصرين من مسؤولية صلب المسيح ورفض إعتبارهم "أكثر مسؤولية" من المسيحيين، وكذلك القرارات التي عالجت مسألة تحديث الليتورجيا (الطقوس الكنسية) وأشهرها السماح باستخدام اللغات المحلية كالعربية في بلادنا إستخداماً محدوداً بدلاً عن اللغة اللاتينية التي ساد إستخدامها قبل ذلك.

[7] تم إغتيال الاسقف السلفادوري اوسكار روميرو (1980) خلال إقامتة الصلاة في العاصمة السلفادورية بستة أسابيع بعد مطالبته العلنية بلقاء البابا والتباحث معه حول العنف الدموي في ذلك البلد الذي تم بدعم وتمويل أجهزة المخابرات الاميركية.

[8] مع ملاحظة أن الفاتيكان يعتبر من أكبر ملاّكي الاراضي والعقار في العالم.

[9] من الامثلة على ذلك: حارب كل من الفاتيكان والامبرياليبة الاميركية، في إطار تلاقي المصالح بينهما، النضالات التحررية لشعوب أميركا اللاتينية (وخصوصاً في السلفادور ونيكاراغوا). كما تواطئ الفاتيكان، وبحسب إعتقاد الكثيرين كان شريكا أيضاً، في الجرائم والمذابح التي عمّت تشيلي بعد الانقلاب على الرئيس الاشتراكي سلفادور اليندي عام 1973 . ودافع البابا يوحنا بولس الثاني عن الديكتاتور التشيلي بينوشيه وتوسل لدى الحكومة البريطانية لإخلاء سبيله وإعفائه من المقاضاة، بل لم يتوانى عن مباركة هذا الديكتاتور شخصياً عام 1988. وكذلك كان الامر في الارجنتين حيث أقام الفاتيكان علاقات وثيقة وداعمة للديكتاتوريات التي حكمت البلاد في سبعينات القرن الماضي. وتذهب الكثير من الوثائف الى أن الفاتيكان قدم للديكتاتورية العسكرية الارجنتينية قوائم مفصلة باسماء المناضلين الذين تم اعتقالهم وإعدامهم، وما زالت هذه الاسماء سراً مكتوماً.

[10] نذكر على سبيل المثال، إنتصار الثورة الاسلامية في إيران عام 1979، تصاعد الاصولية الدينية الهندوسية والاسلامية في الهند، وصول الليكود الصهيوني المتشدد الى الحكم في الكيان الصهيوني، تنامي تأثير حركة الاخوان المسلمين في بعض الدول العربية والاسلامية وخصوصاُ في مصر، وتنامي الحركات والتيارات الدينية الاصولية المتشددة في أجزاء اخرى من العالم، إضافة الى إحراز الاصولية البروتستانتية في الولايات المتحدة نجاحات كبيرة في الاستيلاء على مواقع القوة والتأثير في المجتمع والسياسة.

 [11] Compendium of The Social Doctrine of The Church, by Pontifical Council For Justice And Peace, Vatican,   2004, p. 77.

انظر أيضاً الموقع الالكتروني للفاتيكان:

http://www.vatican.va/roman_curia/secretariat_state/2003

/documents/rc_seg-st_20030913_wto-cancun_en.htmlا 

[12]   لا تنفرد الكنيسة الكاثوليكية في هذا التفسير بل تكاد تجمع عليه، من حيث الجوهر ورغم بعض التباينات، كافة الاديان والتفسيرات المثالية الاخرى.

-----------------------

نشرة كنعان 2008-01-08

-------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ