ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 26/08/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الديمقراطية والعلمانية في التجربتين الأوروبية والإسلامية

محمد سيد رصاص

لم يرتبط مفهوما " الديمقراطية " و "العلمانية " بشكل متزامن أو عضوي في التاريخ الغربي الحديث. بل نجد أن الأشكال الرئيسية لمقاومة كنيسة روما و هيمنتها على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، الممتدة من فترة الحروب الصليبية وحتى القرن السادس عشر، كانت تأتي مع حركات دينية مضادة، مثل البروتستانتية والبيوريتانية الإنكليزية، أو الكلفينية في سويسرا وهولندا، وقبلها من حركة جون ويكليف (1320-1384) الذي ترجم الكتاب المقدس إلى الإنكليزية، وحركة جان هس التشيكي (1369-1415)، اللتين دخلتا في صدام مع الفاتيكان.

 

-1-

لم تخرج السياسات الدولية عن إطار الحروب التي أخذت شكلاًً دينياً، مثل حروب أسبانيا المتحالفة مع الفاتيكان ضد إنكلترا التي انشقت عن روما دينياً في عام1534، إلى أن تم حسم هذا الصراع في معركة الأرمادا عام 1588 بهزيمة الأسبان، كما أن آل هابسبورغ، الحاكمين في فيينا، تدخّلوا في شؤون ألمانيا الداخلية،ضد انتشار البروتستانتية في وسط ألمانيا وشمالها، وقد استطاع اليسوعيون، المدعومون من ملوك فيينا أن يجعلوا بولندا كاثوليكية بعد أن قضوا على الأرثوذوكسية، قاطعين بذلك الجذور الواصلة لبولندا مع روسيا وكافة العالم السلافي، وعلى اللوثرية والكلفينية اللتين انتشرتا بقوة في بولندا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

 

لقد عبّرت تلك الحروب عن بدايات تشكّل الدول القومية تحت زعامة سلطة الملك ضد النبلاء والبرلمانات المحلية، وفي البلدان التي اختارت خطاً مضاداً لروما، كما في إنكلترا، نجد أن قانون السيادة الذي فصل كنيسة إنكلترا عن روما (عام1534) قد جعل الملك هو الرئيس الأعلى للكنيسة الأنجليكانية، فيما عزز الملوك سلطتهم القومية في البلدان الكاثوليكية عبر التحالف السياسي مع البابا، أو عبر المؤسسة اليسوعية التابعة لروما التي سمحوا لها بالسيطرة على التعليم والنواحي المختلفة للحياة الاجتماعية والثقافية في البلد المعنيّ.

 

إن المحاولة التنظيرية الأساسية في فلسفة السياسة لتقديم منظور لادينيّ، أي بعيد عن الإكليروس، في السياسة، قد أتت عبر مكيافللي (1469-1527) الذي أدرك التعارض بين الارتباطات الدولية لكنيسة روما وبين موضوع الوحدة الإيطالية، الأمر الذي جعله يراهن على أن مصير ايطاليا يجب فصله عن البابا لصالح أمير إيطاليّ "مّا" يقود عملية التوحيد الإيطالية. ولا يمكن عزل محاولة مكيافللي عن المناخ الفكري الذي ساد أوروبا الغربية، بين منتصف القرن الخامس عشر وأواسط القرن السادس عشر، والذي عبّر عن تنامي دور الفرد والمجتمع في وجه المؤسسة الكنسية التي احتكرت النشاطات الثقافية وسيطرت على كثيرٍ من جوانب الحياة الاجتماعية، وتدخلت بشكل كثيف في العملية السياسية في القرون القليلة السابقة لعصر مكيا فللي. إن كلمة laity تعني جمهور المؤمنين (أو: سواد الناس) الذين لا ينتسبون إلى رجال الدين، وقد اشتُقت منها كلمة laic التي تعني "مدني" أي غير منتسب إلى فئة الكهنوت ورجال الدين، ومنها أتت كلمة laicism التي تعني "النظام العلمانيّ" الذي لا يوجد فيه نفوذ كهنوتي في جهاز الدولة أو في السياسة، وهذا المصطلح لا يعني العداء للدين مثل المصطلح الآخر se cu larism الذي يعني العلمانية كتنظيم للمجتمع والتعليم، حيث لا يُسمح للدين وللكنيسة بأي دور فيهما، بل يقتصر الدين على مجال الشعور الأخلاقيّ الجوانيّ في الفرد ولا يسمح بإعطائه أبعاداً مؤسساتية أو اجتماعية أبعد من ذاتية الفرد المؤمن.

 

في العالم البروتستانتيّ انتصر مفهوم laicism لأنّ البروتستانتية بكلّ تفرعاتها – من لوثرية وكالفينية وبيوريتانية –لا تتضمن وجود فئة الإكليروس Clergy. فالإصلاح البروتستانتيّ عنى أن لا وسيط بين المؤمن والله، ومن هنا أتت المكانة المتفوقة للإنجيل على القس في البروتستانتية،وحرية المؤمن في التفاعل مع النص الدينيّ بمعزلٍ عن الكنيسة. إلا أن هذا لم يمنع من أن تفرز البروتستانتية اتجاهاتٍ سياسيةً تحاول السيطرة على المقاليد الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما نجد عند كالفن( 1509-1564) الذي أسس دولة جنيف؛ أو عند الكلفينيين الهولنديين الذين انتفضوا ضد السيطرة الأسبانية عام 1598 وأسسوا جمهوريةً كانت عماد النفوذ الهولندي التجاريّ العالميّ ؛ أو عند البيوريتان الإنكليز الذين قادوا ثورة البرلمان ضد الملك (1642-1649) و أقاموا حكمهم (1649-1660) ففرضوا منظورا تهم الفكريةّ والأخلاقيةّ والسلوكيةّ على المجتمع بوصفهم أفراداً متدينين لهم رؤيةٌ في السياسة والمجتمع والثقافة لا من موقعهم كرجال دين جدد بدلاً من الإكليروس الكاثوليكيّ، وحتى في فترة عهد " الإعادة" (restoration )، حيث طغى النفوذ الثقافيّ الفرنسي ّعلى إنكلترا والمجلوب مع الأسرة المالكة العائدة من النفي الفرنسيّ في عهد البيوريتان، نجد أنّ محاولات تشارلز الثاني الخفية لإعادة الكاثوليكية أو محاولات جيمس الثاني الصريحة قد أدت إلى "الثورة المجيدة" عام1688 ضد الأخير، على خلفية التوحد البروتستانتيّ المجتمعيّ ضد الكاثوليكية والملكية المطلقة، ولصالح سلطة البرلمان وجعل الملك يملك ولا يحكم. وأما في فرنسا الكاثوليكية، فإننا نجد أنّ حكم لويس الرابع عشر (1643-1715)- عبر نقضه عام 1685 لمرسوم "نانت" (الذي صدر عام 1598 ليسمح بتعايش الكاثوليك مع البروتستانت في فرنسا) وما أدى إليه من اضطهادات عنيفة للبروتستانت الفرنسيين دفعتهم إلى الهجرة إلى سويسرا وإنكلترا – قد كرّس تحالف حكم الملكية المطلقة مع رجال الإكليروس الكاثوليكيّ في فرنسا. ولذلك فإن علمانيّة مفكّري عصر الأنوار الفرنسيين (فولتير، ديدرو، مونتسكيو، روسو...الخ) قد اجتمع فيها العداء لرجال الإكليروس والكنيسة بعدائهم للدولة القائمة ؛ وغالبيتهم (كديدرو، ودوهلباخ) كانوا يتبنّون الإلحاد، أو اللامبالاة الدينية أو اللاأدرية (كما عند مونتسكيو)، أو النزعة إلى الدين الطبيعي المتجاوزة لإطار ديني محددٍ (كما عند روسو). ورغم أن هؤلاء جميعاً قد كانوا متأثرين بالتجربة الإنكليزية، ولاسيما صيغة الحكم الملكي الدستوريّ، ويريدون نقلها إلى فرنسا، فإنّ خصوصية فرنسة قد جعلت علمانيتهم عدائيةً للدين وفي حالة صدام معه، نتيجةً لتحالف الكنيسة مع الحكم المطلق.

 

لقد أدت الثورة الفرنسية إلى تحطيم الحكم المطلق عام 1789، كما أدّت إصلاحات نابليون (1799-1815) إلى علمنة فرنسا، رغم أن الكنيسة الكاثوليكية أبدت مقاوماتٍ كبيرة، مستندةً إلى جذورها الاجتماعية القوية، واستخدمت كثيراً من نفوذها في عهد الإمبراطورية الثانية (1852-1870)، وخاصةً على صعيد التعليم، لكنّ الثورة الفرنسيّة حسمت الأمر بعدم السماح للكنيسة أو لرجال الدين بممارسة أيّ نفوذٍ أو دورٍ سياسيٍّ. غير أن هذا لم يمنع أن يكون ثمة في الحياة السياسية الفرنسية أفراد مدنيون كاثوليك متدينون، لهم منظوراتٌ ثقافية أو سياسية مستلهمةٌ من الكاثوليكية. وقد أبرزت فترة حكم فيشي (1940-1944) مدى قوة هؤلاء الأفراد التي لا تعود إلى فترة الاحتلال فحسب، بل إلى العشرينيات والثلاثينيات حيث برزت فلسفة " التومائية الجديدة " التي استندت إليها الأحزاب الديمقراطية المسيحية في البلدان الأوروبية والأمريكية اللاتينية.

في فرنسا القرن التاسع عشر، لم نعد نجد ملحدين عظاماَ على طراز ديدرو ودوهلباخ، بل صرنا نجد علمانيين راديكاليين يؤمنون بفصل الكنيسة عن الدولة وإقامة مدارس علمانية، كما في برنامج الحزب الراديكاليّ في انتخابات عام 1881، وكان كليمنصو من أبرز زعمائه. والحقّ أنّ العلمانية التي انتصرت في فرنسا، أخيراً، لم تكن علمانية فولتير وديدرو وعصر الأنوار الفرنسيين، بل العلمانية الأنكو- ساكسونية التي تفصل المدنيّ عن الإكليريكيّ، ولكنها لم تمنع وجود تيارات ثقافية وفكرية وسياسية دينية يتبناها مدنيون في الحياة الاجتماعية للمجتمع الذي تسوده العلمانية laicism لا تلك التي يمثّلها مفهوم se cu larism

 

-2-

من ذلك كله نستخلص أنّ العلمانية الموجهة ضد الكنيسة قد فرضتها حركات دينية منشقة عن الكاثوليكية، ولم تكن هذه العلمانية تعني أكثر من منع تدخل الكنيسة ورجال الدين في شؤون الدولة السياسية.

 

لم تؤدّ العلمنة هنا، بما تعنيه كلمة laicism من نزع سلطة الكنيسة والإكليروس عن الدولة السياسية، إلى الديمقراطية السياسية، بل أدت إلى تقوية سلطة الحكم المطلق. وكان الملك هو من قاد العملية، كما في حالة ملك إنكلترا هنري الثامن الذي قاد انشقاق 1534، كما أنّ كالفن أقام ديكتاتورية سياسية عنيفة في دولة جنيف، وهو ما ينطبق على الفترة التي حكم فيها البيوريتان الإنكليز. وعملياً، فإنّ إنكلترا عندما وصلت إلى الديمقراطية السياسية عام 1688، كانت قد تعلمنت قبل ذلك بفترة طويلة في كافة المناحي الاجتماعية والثقافية، ولم تكن العمليتان العلمانية والديمقراطية متزامنتين أو مرتبطتين بشكل عضويّ، وكان المسؤول عنهما في الحالتين (1534و1688) بنية اجتماعية بروتستانتية متدينة معادية لروما والكاثوليكية، لا معادية للدين أو ملحدة أو لاأدرية. كما أن أول من قام بالعلمنة في فرنسا، وأقصد نابليون، قد كان ديكتاتوراً، وقد تابع تقاليد أسلافه اليعاقبة العنيفة في الحكم السياسيّ وفي نزع سلطة الكنيسة والنبلاء، و عملياً لم تصل فرنسا إلى الديمقراطية السياسية المستقرة إلا بعد فشل الحركة المناصرة لعودة الملكية بقيادة بولانجيه عام1889، بعد تجارب من عودة الملكية (1815-1870)، فحكم الملك لوي فيليب (1830-1848)، فالجمهورية الثانية (1848-1852)، فالإمبراطورية الثانية (1852-1870)، وانتهاءً بالجمهورية الثالثة التي قامت على جثث عمال كومونة باريس عام 1871.

 

-3-

بعد عام 1989، وإثر الانهيار العمليّ للنموذج السوفييتيّ، انتعشت أفكارٌ ليبرالية جديدة في العالم العربيّ (بعد أن ماتت الليبرالية القديمة إثر ظهور الناصرية )، ورفد تلك الأفكار الجديدة، بشكلٍ أساسيّ، بعض من كان في الأحزاب الشيوعية العربية التقليدية التي كانت مواليةً للسوفييت، أوالمختلفة فقط في السياسة مع السوفييت. وقد قامت الطروحات الجديدة على الربط العضويّ بين الديمقراطية والعلمانية، معتبرةً أنه من غير الممكن أن يكون المرء ديمقراطياً إن لم يكن علمانياً و"حداثياً"، كما أنها راحت تخلط في المصطلحات بين laicism و se cu larism  وحين حاولت التأصيل التاريخيّ للعلمانية الغربية، توهمت أنها نابعة من عصر الأنوار الفرنسي في القرن الثامن عشر. لكنّ تجربة العالم الإسلاميّ لا تتضمن ذلك التوازي والارتباط العضويّ بين الديمقراطية والعلمانية. فتجربة الأتاتوركية قد قادها ديكتاتورٌ عنيفٌ علمانيٍ se cu lar معادٍ للدين. كما أن علمانية شاه إيران، الذي قاد التجربة العلمانية الأخرى المهمة بعد أتاتورك، قد كانت موجهةً أساساً ضد فئة رجال الدين الشيعة وتدخّلهم في السياسة وشؤون الدولة، وهم الذين تشبه مؤسستهم في هيكليتها ومراتبيتها تلك الموجودة عند الإكليروس الكنسيّ الكاثوليكيّ. وقد اتبع الشاه وسائل عنيفةً من أجل تحجيم المؤسسة الدينية الشيعية، كما حاول عبر الإصلاح الزراعي ّعام 1963 تحجيم نفوذها الاقتصاديّ، الأمر الذي أدى إلى ثورة الخميني الأولى في ذلك العام وما أعقبها من نفيه إلى خارج إيران. وأما في الفترة الراهنة، فنلاحظ أنّ علمانييّ تركية غير ديمقراطيين، سواءٌ من كان منهم في المؤسسة العسكرية أو في الأحزاب السياسية العلمانية. وقد تحالفت هذه الأحزاب الأخيرة مع الجيش في أوائل صيف1997من أجل إسقاط حكومة "أربكان" الإسلامية، وكان جميع هؤلاء المتحالفين مستعدين لتأييد انقلاب عسكريّ جديدٍ ضد الحكومة الإسلامية التي وصلت إلى الحكم عبر الوسائل الديمقراطية، كما أنّ أساليبهم في قمع المدارس الدينية والنشاط الثقافيّ الإسلاميّ، وفي قمع عملية ارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية، توحي بأنهم في نقطةٍ بعيدةٍ جداً عن موقع اللعبة الديمقراطية. وفي الجزائر نجد أن جنرالات الجيش الذين ألغوا العملية الانتخابية في كانون الثاني 1992 يستلهمون الاتاتوركية في تجربتهم. كما أنّ من أيّدهم في ذلك الانقلاب قد كان إما علمانيّاً بربريّاً متغرّباً يميل إلى الفرانكوفونية (مثل سعيد سعدي "زعيم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية")، أو علمانيّاً يسارياً معادياً للإسلاميين (مثل "حزب التحدي")، أو من رجال الإدارة والتكنوقراط والسياسيين والمثقفين المتغربين(مثل بلعيد عبد السلام، ورضا مالك، ومحمد بو ضياف، الخ...). إنّ معظم العلمانيين العرب المعاصرين هم من خلفياتٍ غير ديمقراطية، وقد أتوا بمعظمهم من أحزاب قامت على مفاهيم "الطليعة الثورية" و"النخبة" أو التفريق بين " الديمقراطية السياسية" و"الديمقراطية الاجتماعية" وبين"الديمقراطية" و" الديمقراطية الشعبية". فهم بعد أن تبنوا "الديمقراطية" الآن عقب طول تضادٍ معها، يحاولون ربطها ب "العلمانية " وهذا ما يؤدي إلى وضع شروطٍ أمام من يدخل في العملية الديمقراطية، والمقصود الرئيسي من ذلك: القوى الإسلامية التي يشعر هؤلاء العلمانيون أنها قد تخرج فائزةً من العملية الديمقراطية الانتخابية، وهم يريدون منعها من الدخول إلى الملعب واستئصالها من العملية السياسية. ومن الواضح أنّ الكثير من هؤلاء مستعدون للمضيّ بعيداً في هذه اللعبة، على نحو ما تبين تجربة تحالفهم مع الأنظمة ضد الإسلاميين (كما في مصر وغيرها) أو مع العسكر (كما في الجزائر).

 

-4-

في الإسلام السنيّ الذي يشكّل غالبية سكان الوطن العربيّ، لا يوجد إكليروس أو مؤسسةٌ دينيةٌ تراتبية هرمية تجمع رجال الدين، بخلاف ما عند الكاثوليك والشيعة؛ وحالة السنّة هنا أقرب إلى البروتستانت. إلا أن الإسلام يختلف عن المسيحية والهندوسية والبوذية، التي هي ديانات تقتصر على الجوانب الروحية والأخلاقية، في أنه يمتد إلى تقديم تصوراتٍ سياسيةٍ للمجتمع والدولة، وقد أقام حضارة وإمبراطوريةً مترامية الأطراف على أساس إيديولوجيته التي لا تفصل الدين عن السياسة.

 

وبخلاف حالة الخميني، فإن من يستمد اتجاهه السياسيّ من تصورٍ معيّن عن الإسلام، هم أساساَ أفراد مدنيّون في العالم العربي. وهؤلاء لا يتمتعون بوضعية المراتبية الدينية، ولا يملكون سلطةَ دينيةًََ أو مراتبية على مؤسسة معينة أو على أبناء الطائفة، مثل بابا الفاتيكان والخميني. ووضعهم لا يختلف عن وضع الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب، أو عن وضع حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسيّ الأصولي في الهند الذي استمد إيديولوجيته من إطار دينيّ رغم الطابع الذاتيّ الفرديّ للديانة الهندوسية.

والمسألة ليست في امتلاك الحق أو في عدم امتلاك الحق في أن تشكل تصوراً سياسياً مستمداً من ينابيع دينية، وخاصة إن كان الدين يحمل مضامين سياسية، ولا في كونك علمانياً أو غير علماني، بل في كونك ديمقراطياً أو غير ديمقراطي. فالديمقراطية ليست عقيدة أو أيديولوجية سياسية، بل هي شكل معين لتنظيم العملية السياسية وقوننتها، سواء من حيث علاقة الثالوث (فرد- مجتمع- دولة)، أو من حيث علاقة السلطة بالتعبيرات السياسية للطبقات والفئات الاجتماعية إحداها بالأخرى، أو من حيث علاقة السلطة بالمعارضة. والموضوع،في الحقيقة، يتركز في مسألة القبول بالتعددية الفكرية السياسية، وفي القبول بمبدأ تداول السلطة وفقاً لحركية "صندوق الاقتراع" الذي هو مرآةٌ للحراك السياسي في المجتمع. ووفقاً لهذين المقياسين يتحدد من هو ديمقراطيّ ومن ليس بديمقراطيّ، لا عبر مقاييس أخرى مثل "الحداثة" و "العلمانية" اللذين هما مصطلحان إشكاليان ولا يوجد إجماعٌ على ماهيتهما ضمن مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية: فالإسلاميّ يقبل "الحداثة" كتقنيةٍ وعلوم، معتبراً إياهما محايدتين عن المناخ الفكريّ والفلسفيّ للمجتمع الذي ولّدهما ؛ وأما "الحداثي" العربيّ فيرفض ذلك معتبراً الأمور متكاملة. وإننا لنجد مزيداً من التخبط و الجهل والأفكار المسبقة في موضوع تحديد ماهية العلمانية، وكيف تولدت في الغرب الأوروبيّ.

 

-5-

لا تدّعي هذه الدراسة محاولة تقديم حلٍّ لهذه الإشكاليات ؛ فهذه مهمة الجميع. إلاّ أنّ هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أدرك الجميع الترابط العضويّ للدينيّ مع السياسيّ في الإسلام، بخلاف المسيحية، رغم أنّ الدين المسيحيّ قد أفرز- بعد الإصلاح البروتستانتيّ والإصلاح الكاثوليكيّ المضادّ (اليسوعية)- اتجاهاتٍ دينيةً سياسيةً من دون فئة الإكليروس. وإذا كان من حق الإسلاميين أن يبنوا اتجاههم السياسيّ على تفسيرٍ معيّنٍ للإسلام، فإن الإسلام ( بوصفه المحدّد الرئيس للهوية الحضارية العربية) هو ملكٌ لجميع العرب، من مسلمين وغير مسلمين، متدينين وغير متدينين، ومن حق الكل أن يستمدوا منه،جزئياً أو كلياً، اتجاهاتهم الفكرية والسياسية. فالإسلام أوسع من حدود التيار الإسلاميّ السياسيّ. كما أنّ من الضروري إدراك الفرق بين دور الإسلام في الحضارة العربية (و كيف أنّ الأول هو الذي أقام صرح الثانية)، ودور المسيحية في الحضارة الغربية (وكيف أن سيادتها في روما قد ترافقت مع أفولها ودخول الغرب في العصور الوسطى، فيما قامت النهضة الأوروبية بالتزامن والترافق مع تحجيم الكنيسة واستدعاء كثير من عناصر وثنية أثينة وروما القديمتين).

 

هذا الوضع في البلدان الإسلامية يخلق إشكاليتين:الأولى هي محاولة عزل دين، تشكل السياسة جزءاً أساسياً من بنيته العضوية، عن السياسة. والثانية هي محاولة تطبيق التجربة العلمانية الغربية، بشكلٍ إتباعي، على البلدان العربية والإسلامية من دون إدراك الفرق بين دور المسيحية في الغرب ودور الإسلام في الحضارة العربية الإسلامية. ومن الواضح أنّ تجربة العلمانية في نصف القرن العشرين الأول عند العرب قد تحطمت على هاتين الصخرتين، والوقائع تدل أنّ الليبرالية العربية الجديدة المعاصرة لا تحاول أثناء طرحها للعلمانية أن تقدم شيئاً جديداً على هذين الصعيدين.

 

-6-

من الممكن أن تشكل عملية فصل الديمقراطية عن العلمانية، أي إدراك عدم الترابط العضويّ ألمفهومي بينهما، حلاً لهذا المأزق الذي يواجهه العلمانيون العرب. إذ من الممكن بعد تشكيل المشهد الديمقراطيّ، وهو الشيء الذي لا يمكن الوصول إليه بدون تعاون التيارات الأربعة الرئيسية في الحياة العربية (الإسلامية والقومية والماركسية والليبرالية )، أن يطرح العلمانيون العرب برنامجهم، أسوةً بغيرهم. إلا أن التجربة الماضية تدل على أنّ العلمانيين العرب لا يمكن أن يلاقوا تجاوباً اجتماعياً إذا لم يستطيعوا تغيير محتوى العلمانية التي قدّموها سابقاً في البلدان العربية، وإعطاءها منحىً جديداً يراعي الخصوصية العربية الإسلامية.

ــــــــــــ

المصدر: جدل، العدد 3 : آب ـ 2008

مجلة فكرية ـ سياسية ـ ثقافية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سوريا (تيم)

-------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ