ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 01/09/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد:

اللاعنف لا يعني إبطال الجهاد

وحيد تاجا*

أكد المفكر الإسلامي السوري المعروف جودت سعيد أن من أهم مشاكل العالم الإسلامي هو 'القابلية للاستعمار'، لافتا إلى قول مالك بن نبي: حينما يكون كلامنا أقل عن الاستعمار وأكثر عن القابلية للاستعمار نكون قد بدأنا السير في الطريق الصحيح

وقال المفكر الإسلامي في حديث مع 'إسلام أون لاين.نت': إنّ القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد  في التاريخ البشري الذي يرد المشكلات إلى الذات، لا إلى الآخر، فعندما يصيبنا شيء يقول القرآن الكريم: )قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ( [آل عمران:165].

وتطرق الحديث إلى دور المثقف الإسلامي في هذه المرحلة، وإلى تأثر بعض المفكرين الإسلاميين بالغرب، وكذلك الحديث عن اللاعنف، مؤكدا أنّ للعنف شروطا ومحددات، وأنّ اللاعنف سلاح للتحرر السياسي

وأرجع المفكر جودت سعيد جزءا من مشكلات العنف في العالم إلى أصولها الأولى مع بدء الخلق، مؤكدا أننا ننتمي لـ'قابيل' ابن آدم القاتل بيولوجيا، بينما ننتمي لأخيه 'هابيل' المقتول ثقافيا القابلية للاستعمار

 

* بداية.. إذا أردنا إعادة ترتيب أوراق البيت الإسلامي في ظل الوضع الدولي، فأي القضايا تحظى بجل اهتمامكم؟ وكيف ترتبون الأولويات؟

 

- ما تطرحونه هو سؤال كبير موجَّه إلى حضارة تستعيد حيويتها، وأمر بالغ الأهمية أن تكون ثمة طروحات يطرحها العالم الإسلامي، وبما أنني صحوت على أفكار المفكر الإسلامي مالك بن نبي، وتتلمذت على يديه فقد فتحت عيني -بواسطة فكره- على مشكلات العالم الإسلامي، التي هي في مقدمة الأولويات، مما جعلني أتمسك بأفكاره، وأعض عليها بالنواجذ؛ نظرا للفكرة الهامة التي جاء بها، وهي 'القابلية للاستعمار'.

 

ثمة مشكلة كبرى جرَت الويلات علينا نحن المسلمين وجعلتنا عبيدا، وهي أننا لم نصلح ذات بيننا، ينما يقول القرآن: )فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ( [الأنفال:1]، فنحن إلى الآن لسنا قادرين على إصلاح ذات بيننا، لكننا نتهافت لكي نصلح بيننا وبين أمريكا، وبيننا وبين إسرائيل، وهذا أمر مرفوض.

 

خذ قرارات الأمم المتحدة، ما الذي تحقق منها لصالح القضية الفلسطينية؟! هم يضحكون علينا فيما العالم الإسلامي مكبل قاعد لا يقوى على شيء، وهو ينظر إلى ما يجري من مذابح ضد أبنائه هنا وهناك.

 

إن مشكلتنا ليست أمريكا ولا إسرائيل ولا حتى الشيطان، مشكلة المسلمين أنهم 'لا يعقلون'.. ما معنى يعقلون؟ أنه يعني ربط الأسباب بالنتائج، إن المسلمين مطالبون بفهم رسالة الله التي جاءت إليهم والتي تهدف إلى صنع الإنسان السوي الذي يقبل كلمة السواء.

 

*وأين تكمن أهمية فكرة 'القابلية للاستعمار'؟

 

العالم الإسلامي يتكلم كثيرا عن الاستعمار وأثره على أوضاعه ومعاناته وتطوره، ولكن ابن نبي يقول: حينما يكون كلامنا أقل عن الاستعمار وأكثر عن القابلية للاستعمار نكون قد بدأنا السير في الطريق الصحيح.

 

ومما يؤكد عليه أيضا: أنّ القابلية للاستعمار لم تُصنع في واشنطن وموسكو وباريس، بل هي موجودة في كيان العالم الإسلامي وتحت قباب جوامعه من بخارى وسمرقند، حتى دلهي وطهران.. إلى دمشق والقاهرة والقيروان.

 

* كيف كانت معايشتكم لهذا الفكر؟

 

- لقد عشت مع أفكار هذا المفكر، وقرأت كتبه عن مشكلات الحضارة مرارا وتكرارا، وتعمقت في فهم الفكرة الآنفة الذكر، لكنني لم أقف عند حد تلقيها كما هي فحسب، بل رحت أقلبها وأجد لها السند الإسلامي والأساس القرآني، وأكثر ما يهمني مصطلحا 'الاستعمار' و'القابلية للاستعمار' اللذان يبدوان غريبين عن أفهامنا.. رحت أهتم بآلية هذا الموضوع بنظر عميق في القرآن الكريم وتعاليم الإسلام، إضافة إلى النظرة الحضارية والتاريخية.

 

* وهل اقتصرتم في هذا الشأن على فكر مالك بن نبي؟

 

- لا.. لقد استفدت من الدراسات التي كتبها توينبي، وفاوست، وجوته، وغيرهم، إنّ قصة الحوار الذي يعرضه القرآن الكريم، والذي دار بين الله عز وجل وآدم وبينه سبحانه وبين إبليس يوضح كثيرا من غموض هذا الموضوع.

 

لقد وجه الله سبحانه أمرا لإبليس فعصاه، ووجه نهيه إلى آدم فأتاه.. كلاهما وقع في المخالفة في المعصية، كرمز للمشكلة الإنسانية، ويعنيني هذا الرمز كمشكلة حضارية، فعندما واجه الخالق سبحانه الطرفين اختلفت الردود؛ إبليس وقف موقف التبرير، وتسويغ وقوعه في المعصية ومخالفة أمر الله عز وجل، قال: )لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ( [الحجر:33]، إنه يجعل من الأصل المادي مبررا للرفض: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12]، والدلالة الفلسفية الأعمق كانت بكلمة إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:16]، كأنه يقول لخالقه: إن لك في الأمر مشيئة وإرادة وقدرة، وقد تم بأمرك، أنت القضاء الذي يدفعني إلى ذلك، لقد أغويتني!

 

بينما نجد موقف آدم مختلفا؛ إذ لم يحاول تبرير المعصية ولم يقل إنّ الشيطان قد مارس عليه إغراءً قويا بقوله: )مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ( [الأعراف:20]، إنه إغراء شديد.. {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} [طه:120]، رغم كل هذه الإغراءات لم يقل آدم: لقد خدعني الشيطان وأغراني، بل قال بكل صدق وتحمل للمسئولية: لقد ظلمت نفسي.. أنا المخطئ، وأنا السبب، ولعل آدم استأهل أن يُستخلف في الأرض؛ لأنه قادر على تحمل التبعات، وعلى رد المشكلات إلى أسبابها الحقيقية، وقادر على تحمل مسئولية خطئه.

 

الذات والمشكلات

 

* كيف نضع هذه الدلالات العميقة في سياق الموضوع الذي نتحدث عنه؟

 

- إنّ هذه الصفة الآدمية حتى الآن ليست موجودة في البشرية، فالعالم كله على طريق إبليس..فأمريكا تفرح بزوال الاتحاد السوفييتي، وتعتبر العالم الإسلامي عقبة أمامها، إنهم يصرحون بذلك، ونحن نعتبر الغرب عقبة أمامنا، بينما آدم لم يقل ذلك، وحين يعترف الإنسان بأنه لا أحد يغريه أو يعوقه يستطيع تحقيق الكثير، إننا مفوضون بأن نقول أخطأنا حينما نخطئ، أما الأعداء فليست لديهم القدرة على أن يفعلوا بنا ما نظنهم يفعلون.

 

هذا الحوار الذي جرى بين الله عز وجل وآدم من جهة، وبين الله سبحانه وبين إبليس من جهة أخرى يعد حوارا 'قبليا'، لكن القرآن الكريم يخبرنا بحوار 'بعدي'؛ ففي اليوم الآخر يرد إبليس على متهميه بالقول: )وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( [إبراهيم:22]، إنه لشيء رائع واضح وجلي.

 

* يتضح من حديثكم أنكم تؤسسون على فكرة ردّ المشكلات إلى الذات، فإلى أي حد يتعامل العالم الإسلامي مع هذه الفكرة حسبما ترون؟

 

- إنّ القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في التاريخ البشري الذي يرد المشكلات إلى الذات، لا إلى الآخر، عندما يصيبنا شيء يقول القرآن الكريم: )قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ( [آل عمران:165]، وليس من خبث أعدائكم، حتى في غزوة أحد عندما هُزم المسلمون وقالوا: أنى هذا؟ لم يقل لهم خدعكم خالد بن الوليد، بل قال: هو من عند أنفسكم.. والآن على المسلمين أن يتعلموا هذا الحس وأن يستعيدوه.

 

لقد كان مالك بن نبي يقول إننا في مؤتمراتنا نجعل مشكلة فلسطين هي المشكلة الجوهرية بينما هي نتيجة من نتائج المشكلة الإسلامية، ومثلها مشكلة العراق، وقبلها إريتريا، والبوسنة والهرسك، وكل ما سيأتي لاحقا.

 

'الشيطان لن يصبح صديقا لنا' حسب قول ابن نبي، وعليه ينبغي ألا ننتظر حتى يتغير، وكذلك سيبقى الاستعمار فينا ما دامت القابلية موجودة، فالاستعمار والقابلية للاستعمار عملية جدل ومشاركة.

 

* هل هذه إشارة إلى أنّ العالم الإسلامي ما زال يحمل نظرة التفاؤل والنهوض وبذور الخير للعالمين؟

 

- أجل إننا نحمل في أعماقنا فكرة قد لا نعبر عنها وهي أنّ هذا الكون يمكن أن يُصنع صنعا آخر، وأن تحل حضارة مكان حضارة، وأن تستبدل العلاقات الإنسانية السائدة بأفضل منها.

 

هذا الحس العميق الذي ورثناه ربما ما زال موجودا في أعماقنا، ولذلك لم نتقبل الحضارة الغربية في أعماقنا، هذا أمر إيجابي، ولو تأخر أداء المسلمين لرسالتهم العالمية، إنّ لنا رسالتنا، ولنا مواقفنا وهذا بحد ذاته أمر مهم جدا.

 

إنّ الغرب اليوم يطالب بالديمقراطية، لكنه يصاب بالرعب إذا ما صارت الديمقراطية عندنا لأن هذا يحمل موته، لذلك تراه يحارب أية إرادة للديمقراطية فينا وبشكل شرس، وكحرب الأفيون في الصين سوف يحاربنا.. لماذا؟ لأننا حينئذ سنملك الاستعداد لأن نبيت عراة جياعا وأن نقطع عنهم كل شيء، ولا نأخذ منهم شيئا، إنني لا أقول هذا للسياسيين، بل للمثقفين الذين لا يعرفون شعوبهم ولا يحسون بآلامهم.

 

المثقف.. محامي الأمة

 

* ما دام أنكم تشيرون إلى المثقفين، فهل لكم أن ترسموا ملامح دور المثقف وأدائه لرسالته؟

 

- من المثقف؟ إنه المحامي عن هذه الأمة، المحامي عن هذا المسكين الذي لا يستطيع أن يتكلم وقلبه مليء بالتطلعات، المثقف هو من يجب أن يعبر عن أشواق المسلم البسيط وتصوراته، ويؤدي دوره الهام والمؤثر في صناعة الواقع الذي ينشده العالم الإسلامي، هذا أيضا من الأولويات التي ينبغي أن نفكر بها.

 

حين كان الناس يموتون بالجدري والكوليرا والطاعون كان 'باستور' في مخبره يتأمل ذباب الخل في الأنابيب ويعد لكشوفاته، ولكنه لو ذهب يبكي على الأموات كما فعل الباقون لما ساهم في إنقاذ العالم

 

وأنا اليوم لو انشغلت بمشكلات جزئية أو سطحية، ورحت أبكي القتلى والجرحى من المسلمين ما استطعت أن أعكف على البحث عن المرض وعن علاجه، وستتكرر المآسي.

 

لا أبالي بما يردده الغرب من أنشودة الديمقراطية، أو السلام، أو نزع العنف، أريد أن نسترد كياننا الإنساني وتفكيرنا السليم، بعد ذلك سنعرف متى نستخدم العنف ومتى لا نستخدمه، ونعرف متى نسكت ومتى نضرب، إننا لجهلنا الآن نضرب حيث لا ينبغي لنا ذلك، ونسكت حيث يجب ألا نسكت.. هذه هي المأساة التي تكاد تفقد الإنسان عقله

 

* المفكر الإسلامي، والمثقف الإسلامي.. إلى أي حد يمكن القول بأنه قد تورط في إشكالية التغريب بشكل أو بآخر؟

 

- يبدو لي أن العالم الإسلامي لم يتورط بإشكالية التغريب أو سواها لكنه تورط بالتوقف وإغلاق عقله، تورط بالقابلية للاستعمار لما ظن أنّ الدنيا تسير إلى الأسوأ وإلى الزوال، وما من يوم إلا والذي يليه شر منه، هذا ما سيطر على عقلنا، ويا ليتنا تغربنا جيدا إذن لكنا حاضرين في العالم بشكل جيد، ولكن عندنا متغربون هزيلون يلجئون إلى الأفكار الميتة في الغرب، أو الأفكار القاتلة، وأنا أقول لو أننا تغربنا بشكل جيد لما وقعنا في إشكالية التغريب، أما الآن فاختيارنا مثل اختيار إبليس دائما الأسوأ، حتى فكرة القومية والاشتراكية لم تستطع خرق قلب العالم الإسلامي فلم يستجب لها، وكلها مرت كشيء عابر ميت ثم سقطت.

 

وفي مقابل هذا نجد أننا أيضا لم نستطع أن نكتشف إسلامنا، لماذا؟ لأننا لم نقرأ تاريخنا الذي يشكوه محمد أركون، ويقول عن المسلمين بأنهم يعيشون قطيعتين: قطيعة عما حدث في تاريخنا، وقطيعة عما حدث ويحدث في الغرب وعن فلسفة الغرب، بينما يقول الله عز وجل في القرآن لنا انظروا التاريخ، إلى الأقوام البائدة، إلى ديارهم، واكتشفوا سنة التاريخ، فهذا يخرجكم مما تعانون، على أنه ليس بالضرورة لمن يقرأ الغرب وتاريخه أن يتغرب، ولكننا أصبحنا كما يقول الفيلسوف والشاعر الإسلامي محمد إقبال:

 

إنّ إبراهيم فينا هُجرا  وبعدتم أنتم عن آزرا

 

أي لا آزر ولا إبراهيم.

 

الإرهاب واللاعنف

 

* تتردد الآن في الغرب نغمة 'الإرهاب الإسلامي'.. كيف يمكن الرد على هذه النغمة من خلال نظرتكم إلى 'اللاعنف'؟

 

- هذا موضوع كبير ذو جذور تاريخية عميقة، لكنني أعيد إلى الأذهان ما بدأت به حديثي حول موضوع آدم وإبليس وتحمل المسئولية.

 

جذور المشكلة تبدأ منذ أن تقابل ابنا آدم، وكان هناك قاتل، وكانت هناك ضحية، إننا بيولوجيا أبناء وأحفاد الذي بقي حيا، لكننا ثقافيا أبناء الذي قُتل؛ لأن الله عز وجل عندما يقص علينا هذه القصة كرمز ويزكي طريقة )لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ( [المائدة:28]، يريد منا أن ننظر في العبرة فلا نقع في الخطأ الذي وقع فيه القاتل.

 

وكما تخلص البشر من أكل لحوم البشر سيتخلصون من العنف، وسوف تتقزز منه النفوس في المستقبل، ومهما كان الغرب يتهمنا بذلك فلا حرج أن نحمل فكرة اللاعنف.

 

ينقل توينبي تشبيها يشبّه به أحد الغربيين المستضعفين أو المسلمين أو الشرقيين بالحيوانات، فيقول: هؤلاء الشرقيون الذين نحتلهم حيوانات مؤذية؛ لأنهم يخرمشوننا إذا أردنا أن نذبحهم، وهكذا أصبحنا إرهابيين؛ لأننا نخرمش الذين يهمون بذبحنا.

 

رغم هذا فنحن الذين نعرف السلام، وكيف نحققه، ونعرف العنف وويلاته، لقد حققوا السلام بفعل الرعب النووي المتبادل فيما بينهم، حققوه 'رهبا'، ونحن نحققه رغبا وإيمانا، فلا نسابقهم بالتسلح، إن السلاح ليس هو عامل النصر أو الهزيمة، نحن لم نهزم لقلة أسلحتنا، بل اشترينا سلاحا كثيرا، لكنه لم ينفعنا، ولم تنصرنا دباباتهم ولا طائراتهم؛ لأن السلاح لن ينصر مشتريه، بل ينصر صانعيه.

 

* أود أن أؤكد على طلب إجابة واضحة حول دعوتكم إلى اللاعنف، ومرتكزاتكم في ذلك، وأين مفهوم الجهاد في الإسلام من ذلك؟

 

- لعله شيء جديد أن أقول إنّ اللاعنف لا يعني إبطال الجهاد أو تعطيل  )انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً([التوبة:41]، أنا لا ألغي ذلك، بل أحاول توضيح شروطه.. إنّ المجتمع الذي سيمارس هذا الجهاد ينبغي أن يصنع صنعا مثلما فعل رسول الله وأصحابه، والملاحظ أنّ مشكلات العالم اليوم تنحصر في مشكلتين جوهريتين:

 

1- مشكلات حكم الشعوب.

 

 2- مشكلات شن الحروب.

 

أي الحكم والحرب، وبالنسبة إلى القضية الأولى تدلنا سنة رسول الله، وتاريخ الدعوة الإسلامية على أنّ الوصول إلى الحكم يتم بالصبر حتى يقبلنا الناس، وبأسلوب 'طلع البدر علينا'.. أي بلا حرب ولا عنف.

 

وبعد الوصول إلى الحكم يكون شن الحروب، نقرأ في سورة الممتحنة: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [الممتحنة:8]، إن الحرب تشن على من يمارس هذا العدوان بشقيه، هذه هي الحرب الموجودة في القرآن الكريم، وإن الذي لا يشارك بذلك إما بماله، وإما بدمه فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.

 

أرجو الانتباه لهذه النقطة، لا تقاتلوهم بسبب عقيدتهم واعتقاداتهم، بل بسبب ممارساتهم العنيفة المحرمة، فليعتقدوا ما يشاءون، وكذلك ليعتقد الناس اليوم ما يشاءون: الإسلام- المسيحية- البوذية- الإلحاد، كل ذلك لا يبرر قتالهم )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [الممتحنة:8]، إذن مبرر القتال محدود جدا، ومحدد جدا حتى في آيات سورة التوبة والأنفال وآل عمران.

 

* لما تبدأ الدولة الإسلامية بالفساد.. كيف نواجهها؟

 

- لقد دلنا رسول الله كيف نقابل هؤلاء بكلمة الحق، حتى ولو جاء الآخر ليقتلنا، ولو كان الحاكم المسلم ظالما، حيث قال لنا اكسروا سيوفكم.. رغم أنّ (الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر إلى الجنة: صانعه، وحامله، والرامي به)، هذا القتال المشروع بعد إنشاء الدولة بهذه الشروط.

 

أما إذا كان الحاكم الإسلامي بدأ يغير نظام الحكم من الشورى إلى الديكتاتورية فينبغي أن تقابله وتنكر عليه، مهما كانت ردود فعله ولو وصلت إلى قتل المعترض، والتضحية بماله ودمه.. أنت تطيعه في المعروف وتعصيه في المنكر، وحتى لو جاء يقتلك لا ينبغي لك أن تلجأ للسلاح، في الوقت الذي يقول فيه الرسول الكريم إن الذي يربي فرسا حتى بوله وروثه يوضع يوم القيامة في الميزان.. هذه أحاديث واردة، ولكن في الوقت نفسه يأمرنا أن يكون مجتمعنا نظيفا من العنف.

 

إنّ للعنف شروطا ومحددات، وأنا أشبه العنف بالكهرباء، فإذا اتصل قطباها عند جهاز كالمروحة أو الثلاجة أو المصباح، فإنها تعطي نتائج إيجابية، أما إن اتصلا بلا مبرر أو في غير المكان المخصص لهما فسيحدث ذلك حريقا.

 

ينبغي علينا أن ننقذ الجهاد من الخرافة، وأن نعرف شروطه، وينبغي أن يعود المسلم إلى أن يثق به عدوه أكثر مما يثق هذا العدو بأبنائه؛ لأن المسلم يعرف متى وأين وكيف يستخدم السلاح.

 

اللاعنف.. سلاح للتحرر

 

* دعوتكم إلى اللاعنف أين تلتقي مع دعوة غاندي وأين تفترق؟ وبرأيكم ألا يرحب الغرب بهذه الدعوة الآن؟

 

- إنني أفترق مع دعوة غاندي في فهمي للعنف حسب ما أفهمه من الإسلام، فالإسلام يجيز استخدام العنف إذا توافر شرطان ضروريان:

 

الشرط الأول: أن يتم الوصول إلى الحكم وقيادة الناس برضاهم، كما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صبر طويل استغرق نصف عمر الدعوة الإسلامية في حياة الرسول، فاستقبله أهل المدينة وهم ينشدون: 'طلع البدر علينا' هذا هو شرط المجاهِد، بكسر الهاء.

 

والشرط الثاني: شرط المجاهَد -بفتح الهاء- ضده، وهو الذي يمارس الإكراه في الدين، ولا يعطي للناس حرية اختيار الدين الذي يرتضونه ويختارونه طوعا وبإرادتهم، هذا ما يجب منعه عن ممارسة الإكراه بالعنف عندما يتعذر منعه بطريقة أخرى.

 

إنّ هذين الشرطين إذا نظرنا إليهما جيدا وجدناهما مطلبين إنسانيين عالميين، فالشرط الأول لا شك في أنه مطلب عالمي بأن تختار الشعوب حكامها، وأن تمتلك حق عزلهم أيضا، والشرط الثاني حرية التدين، وهو مطلب عالمي إنساني كذلك، وإن سقوط الاتحاد السوفييتي لدليل تاريخي على أن من لا يوفر هذين الشرطين مآله الانحلال، وبذلك تطابقت آيات الكتاب مع آيات الآفاق والأنفس.

 

وأظن أن اللاعنف عند غاندي لا يتسع لمثل هذا الذي عرضته، ورغم ذلك فأنا أحترمه؛ لأنه قام ونبّه الناس إلى أنّ اللاعنف سلاح للتحرر السياسي.

 

لم تكن كراهية غاندي للإنجليز عرقية، أو لأنهم غرباء عن الهند، ولكن لأنهم لا يحترمون الإنسان، ومثل هذه النظرات جديرة بالاحترام، وبعد استقلال الهند لم يحاول غاندي أن يتسلق منصبا سياسيا، بل بقي مع الشعب يسعى لتخليصه من اضطهاد الهندي للهندي، واتفق مع الشعب على ممارسة اللاعنف للوصول إلى حكم الشعوب باختيارهم ورضاهم، لقد حرّر غاندي الطاقة السلمية المغروسة في أعماق الإنسان، وهذا ما فعله الرسول مع المسلمين حين وصل إلى الحكم باللاعنف، وهو الذي قال: «ما كان العنف في شيء إلا شانه، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وإن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».

 

إني أتفق مع غاندي، وأراه أحيا فكرة إسلامية مهمة 'لا طاعة في معصية'، وعلّم الناس من جديد كيف يقاومون القوانين الظالمة بخرقها، كما فعل في قيادة الناس إلى البحر للحصول على الملح خارقا قانون 'حظر حيازة الملح عن غير طريق الدولة'، كيف نعصي القانون الظالم؟ لا بقتله والاعتداء عليه، بل بعدم تنفيذ أوامره، وعدم الخضوع له.

 

مثلا حرية الرأي التي يبكي عليها المسلمون، ويتمنون أن يشموا رائحتها ولا يجدونها، لم يكن الرسول يطالب الآخرين بأن يسمحوا له بممارسة حرية الرأي، وإنما مارسها وعاشها علنا، وقال للآخرين افعلوا ما شئتم.

 

إن كان للديمقراطية أصل فهذا هو أصل الديمقراطية؛ لأنها ليست هبة تعطى من المستعبِد، وإنما هي واجب يمارسه عبد الله، وإذا كان الغربيون يطلقون مصطلح 'الاستبداد الشرقي' على حضارات الشرق، لكنهم يغفلون المقاومة الشرقية قبل أن تكون لليونان حضارة.

 

يقص القرآن الكريم علينا عن المقاومين السلميين الشرقيين 'الأنبياء' الذين قاوموا الاستبداد الشرقي بـ'الدين الشرقي' الذي رمى بالسيف بعيدا، ورفع كلمة الحق عاليا، متحديا، وذلك من عهد نوح عليه السلام الذي قال تعالى عنه: )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ( [يونس:71].

 

ينبغي أن نرفع كلمة ود ووفاء لسقراط الذي مارس اللاعنف، ومارس عدم التراجع عن قول الحق، وإن لم يستطع أن يحرك الجماهير الغربية، لكن أنبياء الشرق قادوا الجماهير باللاعنف بينما الثورات الغربية كلها دموية.

 

كنت مرة أتحدث إلى الشباب عن اللاعنف فقال بعضهم: كيف تدعو إلى اللاعنف وما من ثورة إلا وقامت على العنف؟! فقلت لهم: إنكم لا تعرفون إلا عن الثورات الغربية، أما الثورات الشرقية فهي لا عنفية، وأعظمها وأكملها ثورة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم التي قامت على اللاعنف، وقامت على السلم والشرعية.

 

قال أحدهم متسائلا: لمَ لمْ يظهر نبي في الغرب، أو لمَ يظهر دعاة اللاعنف في الغرب؟! فأجابه آخر: إنّ الحضارة حديثة العهد في الغرب، أما في الشرق فالحضارة قديمة وعريقة، من هناك كان دعاة اللاعنف من الشرق.

 

يذكر توينبي الحوار بين الشمال والجنوب حتى قبل المسيح عليه السلام، والحوار الذي يعرضه توينبي حوار ثقافي، إنّ الإسكندر حين عبر الدردنيل وداهم الجنوب بالصدام العسكري كان رد الجنوب عليه لا عنفيا، كان المسيح هو الرد على الاحتلال 'الهيلينستي'، ولم يكن أحد من الرومان في عهد المسيح عليه السلام يتصور أن يخرج من الشرق فكر يغزوهم بدون عنف، أما الذي حدث فهو أن هذا الحوار المختلف بين العنف واللاعنف استغرق سبعة قرون من عبور الإسكندر إلى أن أعلن قسطنطين قبوله المسيحية مضطرا، وبدون عنف.

 

المؤرخ توينبي يقلّب بصره في أنحاء الأرض: كيف سيكون الرد على عبور أحفاد الإسكندر للأطلنطي؟ هل سيأتي الرد من حضارات أمريكا التي كادت أن تنقرض أمام حضارة كولومبوس؟ أم سيأتي من السود الذين جلبوا إلى أمريكا من الجنوب؟ أم سيكون الرد من مواطن الحضارات القديمة؟

 

لا شك في أن الحضارة الغربية حضارة جذبية كما يصفها بحق مالك بن نبي، إنهم لا قدرة لهم على أن يتكيفوا على المساواة بين الناس، فهل من طاقة للمسلمين الآن لكي يعيدوا للناس ثقة الإنسان بالإنسان، أم يؤخرون هذا الدور؟!

 

إنّ على المسلم ألاّ تختلط عليه كراهية المرض مع كراهية المريض، وأن يفرق بين المريض الذي هو أحوج ما يكون إلى الرفق والشفقة، وبين المرض الذي ينبغي أن نكرهه، ونسعى إلى إزالته من الوجود.

 

هذا التصور واضح على مستوى المرض الجسدي، لكنه مختلط جدا على مستوى المرض الأخلاقي، إننا مصابون بعدم التمييز بين المرض والمريض في المستوى الأخلاقي، وعلى المسلمين أن يهيئوا أنفسهم للحوار الإنساني الجديد، وأن يتعلموا من جديد الحوار العنيد بين بني آدم في العصر النووي.

 

إن نيلزبور حين نصح ترومان وتشرشل أن يدعا الروس ويضعا هذا الكشف أمام سيطرة عالمية تعميقا للديمقراطية، لم يكن من تشرشل إلا أن أمر بتحديد إقامة نيلزبور حتى لا يتسرب علم النواة إلى الروس، ولا يزال الغرب يمارس هذه اللعبة، لعبة مقاومة أن يثق الإنسان بالإنسان، فهل في إمكان المسلمين أن يعلموا العالم من جديد أن هذا الإنسان جدير بالثقة به.

 

وفي رأيي أن الغرب لا يرحب بهذه الدعوة إلى اللاعنف، بل يرتعب منها ويتمنى ألا نهتدي إليها، كذلك لن يرحب باللاعنف كل من يستفيد من تخلف المسلمين؛ لأن العالم الإسلامي مسحور بالجهل والعنف.

ـــــــ

*كاتب سوري

المصدر : إسلام أون لاين 2/8/2008

-------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ