ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء  04/02/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الغيتو الصهيوني والهزيمة الأخلاقية

عبد الاله بلقزيز

أطلقت "إسرائيل" حربها العدوانية على المقاومة في غزة وفي ظنها أنها ستحصد نصراً عسكرياً وسياسياً خاطفاً وسهلاً، فانتهت إلى حصاد هزيمة معنوية من دون أن تحرز شيئاً ذا بال مما رامته من العدوان. إن شئنا تسمية حصيلة ما جرى ونتائجه بدقة، وتعيينه بالمفردات المناسبة والمطابقة، قلنا إن "إسرائيل" تلقَّت هزيمة أخلاقية فاقت في الخطب والفداحة والافتضاح سائر الهزائم الأخلاقية التي تلقّتها سابقاً في حروبها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني منذ سرقت أرضه واغتصبت حقوقه وبددت بالاقتلاع الوحشي أبناءه في الآفاق. فلقد أتتْ من أفعال الإبادة ما تنوء بحمله مُضمرات اللغة من معان أو دلالات، وما تتواضع أمام فجائِعِه سيرُ الإبادات التي شهدها التاريخ المعاصر. فعلت ذلك بدم بارد وكأنها تؤدّي طقساً دينياً في صميم الواجبات، وما رفَّ لقادتها وجنودها جفن أمام شلالات الدم وأكوام الخراب.

 

الهزيمة الأخلاقية، أية هزيمة أخلاقية، تبدأ من نقطة بداية معلومة: انقلاب الباطل على الحق، وانقضاض القوة العمياء على المبدأ (الأخلاقي والديني والإنساني)، وتحرير القوة من أي قيد أخلاقي أو مبدأ. حين تتحول القوة إلى مبدأ في ذاته، إلى غاية عليا، إلى أخلاقية مؤسسة أو تأسيسية، تفقد السياسة (والحرب حالة من حالاتها العليا) كل خلقية تبررها، وتتجرّد من أية شرعية أو مشروعية لتتحوّل إلى عدوان وقتْل واغتيال. وماذا فعلت "إسرائيل" غير ذلك في غزة؟

 

في غزة، خرج الوحش الضاري، الجائع إلى اللحم ورائحة الدم والافتراس، من القفص وأطلق نزعاته العدوانية في المدنيين العزل. ما كان يملك الجرأة على أن يدخل إلى المدن، حيث المقاومة تنتظره وتدعوه إلى حرب شوارع لا يستطيعها ولا له فيها بأس. وبدلاً من ذلك، أشبع نَهَمَهُ المرضي للقتل، لمجرد القتل والإفناء الذي لا يأتي منه هدفٌ سياسيٌ أو عسكري سوى إطفاء غليل الانتقام. هنا فقط تُصرف القوة إلى إشباع الغرائز الافتراسية، إلى تحويل الحقد والكراهية إلى برنامج عمل سياسي. على الفلسطيني أن يموت، أن يُقتل بلا رحمة، كي يطمئن اليهودي "الإسرائيلي" إلى بقائه. وما همَّ إن كان القتيل طفلاً أو رضيعاً، فهذا سيحمل السلاح غداً ويقاوم "إسرائيل" بعد أن يُجري تمريناً على قتالها بالحجارة. وما همَّ إن كان القتيل امرأة، فهذه تلدُ مقاتلين جدداً وتحفظ بقاء شعب من الانقراض. وما همَّ إن كان القتيل شيخاً، فهذا نقل إلى الأبناء والأحفاد جرثومة المقاومة. ما همَّ إن لم يكن القتيل مقاتلاً الآن، المهم أن يُقتل الفلسطيني كي تبقى دولة "إسرائيل" على أرضه.

 

في لغة السياسة الدولية عبارة "الإفراط في استعمال القوة"، وهي اسم حركي مهذَّب لفقدان القوة أية شرعية تبررها. هل كانت صواريخ "حماس" قبل الحرب تزهق أرواح مئات المستوطنين وتجرح الآلاف وتدمّر مدن فلسطين المحتلة (عام 48)، وتقوّض البنى التحتية، وتخرّب الاقتصاد الصهيوني وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وتدمر المستشفيات والمدارس والكُنُس، كي تردَّ عليها "إسرائيل" بمثل ما ردَّت في العدوان على غزة؟ لسنا نريد أن نقول إن قوة العدوّ المفرطة ليست تتناسب مع قوة "حماس" اللينة والرمزية، فهذا قول يترك مجالاً فسيحاً أمام اعتراف صريح بحق "إسرائيل" في "الدفاع عن نفسها كما يقول حماتُها، وأن كل ما عليها وهي تمارس هذا "الحق" ألا تمارسه بإفراط، وإنما مُرادنا القول إن ما تفعله ليس شيئاً آخر سوى التعبير عن عقيدة القوة لديها. وهي عقيدة لا تلتفت إلى أي وازع أخلاقي من شأن الانتباه إليه أن يطوِّق نزعة التعبير الحر والمطلق عن عقيدة القتل.

 

على هذه العقيدة قامت "إسرائيل"، وعلى قيمها شبَّت أجيالها ونخبها وعساكرها وتشرَّبت ثقافتها ونظرتها ل"الغوييم" (الآخر) الفلسطيني والعربي، وبها مارست السياسة والحرب، وفي كهفها المظلم تعيش، وهي -لا محالة- العقيدة التي ستأخذ "إسرائيل" إلى حتفها. من ينتظرون منها الخروج عن هذه العقيدة واعتناق السلام كمن يطلبون منها الخروج من اليهودية واعتناق الإسلام! واهِمُون هُمْ وعاجزون عن إدراك معنى المشروع الصهيوني كمشروع اقتلاعي إحلالي لا يستقيم له أمرٌ من غير إفناء الآخر بالقوة العمياء وسفك الدّم.

 

ما زال اليهودي حتى إشعار آخر -بقياسات الزمن الضوئي- يعيش أسير فكرة "الغيتو". وهي فكرة تاريخية سابقة في الزمان للمحرقة: بوقائعها وأزعوماتها. ولعلها سببٌ يفسِّر الضمور البشري للفكرة اليهودية وقلة معتنقيها في العالم على الرغم من أنها من أقدم الديانات في التاريخ وأولى الديانات التوحيدية ظهوراً. وكما كانت فكرة "الغيتو" في التاريخ اليهودي مصدراً للانكماش والانعزال والتقوقع على الذات، وإعادة إنتاج الكيانية الذاتية من طريق التمسّك بالتقليد والتمايز عن الجوار والآخر لحفظ "النقاء اليهودي" من اختلاط يقود إلى الانحلال والذوبان في المحيط، فإن فكرة "إسرائيل" (كدولة) أعادت إنتاج عقيدة الغيتو اليهودي في الزمن المعاصر. لا يستطيع الغيتو اليهودي الجديد (أي "إسرائيل") إلا أن يعيش منعزلاً عن المحيط وفي حالة عداء مديدة معه. الفلسطيني هو ذلك الآخر المباشر لليهودي الذي تذكّره عقيدته -كمسلم وكمسيحي- بيهوديته، أي بتمايزه وماهيته. وبمقدار ما يشكل ذلك سبباً للتوجّس الدائم من بقاء ذلك الآخر إلى جانبه، ودافعاً إلى "الدفاع عن الوجود" من طريق محو وجود ذلك الآخر، بمقدار ما تُغذّي فكرة "التفوّق اليهودي" -ذات الجذور التوراتية- الشعور لديه بشرعية إفناء "الأقل قيمة وصلاحاً" من أجل بقاء "الأصلح". إن عدم إدراك هذه الداروينية الدينية في المخيال الجماعي اليهودي هو ما يمنع من فهم مضمون عقيدة القوة والقتل في السياسات الصهيونية، وهو ما يدفع الجهلة منّا إلى ثرثرة سخيفة عن "السلام" مع "إسرائيل" وحسبانه في "عقيدتنا" السياسية "خياراً استراتيجياً".

 

دفعتْ فكرة الغيتو اليهودي ثمناً إنسانياً فادحاً في الحقبة النازية، ونجحت الحركة الصهيونية في استثمار صورة الضحية استثماراً سياسياً فعالاً. ثم لم تلبث أن تقمصت صورة القاتل النازي وتفوقت عليه في نازيته حين حوَّلت شعب فلسطين إلى ضحية. وعلى الرغم من افتضاح سر "إسرائيل" بجرائمها التي وخزت الضمير الإنساني منذ ستين عاماً، لم تتوقف عن محاولة احتكار صورة الضحية. الضحية الخائفة على نفسها من عدوّ يتربّص بها ويبْغي محوها من الوجود. الخوف من آخر متعدد الأسماء ولكنه واحد: بالأمس من جيش عبد الناصر ثم مقاتلي ياسر عرفات، واليوم من صواريخ المقاومة اللبنانية وحركة "حماس" وربما غداً من بنادق الصيد المرخّص باستعمالها في البلاد العربية.

 

خسرت "إسرائيل" اليوم صورة الضحية في نظر الرأي العام العالمي. تشهد بذلك آلاف المظاهرات التي خرجت في الكرة الأرضية تندد بجرائمها في غزة، وحناجر وأصوات مئات الملايين التي انتفضت احتجاجاً على المذبحة، وقد كان أكثر من خرجوا احتجاجاً -من غير العرب والمسلمين- في عداد من كانوا صدّقوا "إسرائيل" في أزعومتها عن الضحية.

 

في مكان ما من العالم، ثمة من يتذكر جرائم النازية ويبتسم للفارق بين بداياتها السيئة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية ومآلاتها الجنونية والأشد سوءاً في حقبتها الصهيونية المعاصرة.

ـــــــــــــ

المصدر : صحيفة الخليج الإماراتية  2/2/2009

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ