ـ

ـ

ـ

الخميس  12/02/2009

الانتخابات الإسرائيلية.. غول الاحتلال يلتهم صاحبه

بقلم: د. صالح عبد الجواد

*تعاظم غير مسبوق نحو التطرف، إسرائيل معسكر يمين كبير ولكن متشرذم..

مع انطلاق الانتخابات الإسرائيلية، فإن السؤال الرئيس لا يتمثل في التنبؤ حول توزيع المقاعد في الكنيست الثامنة عشرة فهذه تكفلت بالإجابة عنها وإلى حد كبير من الدقة مؤسسات استطلاع الرأي، وإنما لماذا يصوت المجتمع الإسرائيلي على هذا النحو وإلى أين يسير وما هي طبيعة التحولات في المجتمع الإسرائيلي التي تعكسها نتائج التصويت. نتائج الانتخابات الإسرائيلية مهمة فهي ستعمل "صورة طبقية" لهذا المجتمع كما ستحدد، مثلما جرى بالماضي، مسار السياسات والبرامج حتى موعد الانتخابات التالية، فالأحزاب السياسية في إسرائيل ومؤسساتها التمثيلية هي مؤسسات قديمة راسخة سبقت قيام الدولة ولعبت دورا بارزاً في تأسيسها وفي تسييرها.

هذه الانتخابات التي تعتمد كما هو الحال دائماً على مبدأ التمثيل النسبي ستعزز وتعمق بالتأكيد التحول المهم الذي برز في دورة الكنيست السابعة عشرة (17اذار/ مارس2006) من نشوء نظام حزبي متعدد الأقطاب بدلاً من نظام الحزبين القطبين. ففي حينه أفرزت تلك الانتخابات 5 أحزاب بارزة  "كاديما"، "العمل"، "شاس"، "إسرائيل بيتنا"، "الليكود" بدل من القطبين التقليديين: "الليكود" + "العمل" والذين  حصلوا في انتخابات عام 2006 على 31 مقعداً فقط!! نظام التعددية القطبية الخماسية وضعف الحزبين الرئيسيين شكل ظاهرة غير مسبوقة أكان ذلك في عهد الييشوف (بن غوريون في مواجهة جابوتنسكي وبيغن) أم بعد قيام الدولة العبرية، وللمقارنة ففي إحدى دورات الكنيست السابقة نال الحزبين معاً أكثر من 90 صوت في دلالة حاسمة على نظام القطبين.

مؤسسات استطلاعات الرأي في إسرائيل، والتي تتمتع إلى حد كبير بخبرة ومصداقية- رسمت معالم الخطوط العامة للخارطة السياسية في إسرائيل بعد إقفال صناديق الاقتراع.  نظام القطبية الخماسية سيعود من جديد، ولكن مع إعادة الترتيب بين الخمسة الكبار، أولاً لصالح حزب "الليكود". هذا الحزب يشهد عودة أنصاره التقليديين من اليهود الشرقيين بعد أن هجروه في انتخابات 2006 إذ أن جزء مهم منهم لم يصوت لحزب "الليكود" في حينه ليعاقب بنيامين نتنياهو على سياسته الاقتصادية التي تضررت منها الفئات الاجتماعية الفقيرة واغلبها من الطوائف الشرقية و"مدن التطوير".  وثانياً لصالح حزب "إسرائيل بيتنا" الذي استطاع بفضل ديماغوجية وتطرف زعيمه "افيغدور ليبرمان" ونصب نفسه كحامي مصالح اليهود الروس من تجيير كتلة أصوات يهود الاتحاد السوفييتي لصالحه واجتذاب قسم من اليهود الشرقيين الذي صوتوا في المرة السابقة لحزبي "كاديما" و"العمل". أما الخاسر الأكبر فسيكون حزب "العمل" بقيادة "ايهود براك"، الذي لن تشفع له هذه المرة، جرائم العدوان الأخير على غزة ولا سجله الحافل وأياديه الملطخة بدماء القادة والمناضلين والمدنيين الفلسطينيين الأبرياء من تغيير جذري في نتيجة الانتخابات. إذ أدرك الجمهور الإسرائيلي، رغم أن غالبيته لا تريد الاعتراف بذلك علنا،ً أن ما سمي بـ"عملية الرصاص المسكوب" مجرد فياسكو (مهزلة) كبيرة، وأن خلف البطش اللامحدود تختفي هزيمة سياسية وأخلاقية وحتى أمنية كبيرة.

هذا لا يعني أن صناديق الاقتراع لن تشهد مفاجآت صغيرة فحتى صبيحة هذا اليوم هناك أكثر من 20% من الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم بعد رغم أننا على بعد 24 ساعة من فتح صناديق الاقتراع (فتحت للجيش والمؤسسات الأمنية قبل يومين). هذا التردد غير المسبوق في نسبته وفي استمراره حتى اللحظة الأخيرة يعكس حيرة وتردد قطاع كبير نسبياً من الجمهور الإسرائيلي، وهذا التردد يعكس إلى حد كبير أزمة قيادة عميقة في المجتمع الإسرائيلي، حيث من الواضح أن الجمهور الإسرائيلي لا يرى في أي من قادة الأحزاب الحاليين زعيمأ كاريزماتيا أثير (كما هو الحال تجاه بن جوريون، اسحاق رابين، مناحم بيجن أو شارون).

معسكر اليمين سيزداد قوة وبشكل كبير، ليس فقط بمعنى كمي يترجم من خلال عدد ونسبة المقاعد في الكنيست وإنما بمعنى أننا نشهد في هذه الأيام تسجيل تحول نوعي كبير تصبح من خلاله دولة إسرائيل ومجتمعها مجرد معسكر يميني كبير يتجه أكثر فأكثر تجاه التطرف والعنف.

هذا التحول العميق له ثلاثة أسباب رئيسية وهي أسباب ستحسم انتخابات 2009:

- أن المجتمع الإسرائيلي اليوم يحركه الخوف من المستقبل وفقدان الثقة بالنفس الناجم عن خيبة الأمل والمرارة بعد فشل الإسرائيليين في غزة 2009 وفي جنوب لبنان 2006 من النجاح في إحراز اثنين من أهم مبادئ وأهداف العقيدة العسكرية الإسرائيلية: أولهما حسم المعركة من خلال انتصار واضح لا شائبة فيه، انتصار يستبطنه العدو ويردعه لعقود قادمة؛ وثانيهما نقل المعركة لأرض العدو دون أي مس بالجبهة الداخلية. في الانتخابات السابقة صوت الكثيرون لـ"كاديما" بقيادة شارون لأنهم  شعروا بأن شارون أحضر لهم الآمان الشخصي. فالغالبية العظمى من الجمهور الإسرائيلي لا تؤمن بعملية السلام، ما دامت إسرائيل تعربد بفضل الدعم الأمريكي غير المحدود والانقسام الفلسطيني وتفسخ النظام العربي و"التفوق" العسكري والاقتصادي.  إنهم يؤمنون بضمان أمنهم فقط من خلال زعيم قوي يفرض الأمن ويحطم العرب وليس مهما عندهم بتاتاً كيف تصبح حياة الفلسطينيين غير طبيعية وكيف يُدمرون.   

- تواصل لعملية عميقة تدفع بالمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين منذ عام 1967، بدأت تتجسد  منذ أن  فاز وبرز اليمين بقيادة مناحيم بيغن وحزبه "الليكود" كقوة سياسية أولى لأول مرة في انتخابات أيار 1977، وهو فوز سماه في حينه "اليسار"، تارة  "بالانزلاق نحو اليمين" وتارة بـ"الانقلاب" (هامهباخ) وكلا التعبيرين مضللين فالأول حاول الإيحاء بأن انتصار اليمين عام 1977 مجرد انزلاق عابر ناجم عن تقصير القيادة السياسية الإسرائيلية الممثلة بحزب العمل في مواجهة  حرب أكتوبر. أما الثاني فقد غفل عن التأثير الصامت للديناميات التي بدأ  يفرزها الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية عام 1967 وخاصة في مجال القيم (النزعة نحو التطرف، الصلف، الغرور، الاستخفاف بالعرب والنظر لهم بدونية، تعاظم النزعة الدينية). قبل أربعون عاما بالضبط وبعد أشهر قليلة من احتلال الأراضي العربية المحتلة عام 1967 تنبأ الفيلسوف والحكيم وعالم الدين اليهودي البروفيسور "يشعياهو ليبوفتـش" بآثار الاحتلال المدمرة على المجتمع الإسرائيلي ونبه منذ وقت مبكر جداً إلى أن الاحتلال سيلتهم أبناءه.

-  قبل خمسة وعشرين عاماً وفي محاضرة في جمعية الدراسات العربية في القدس تنبأ عزمي بشارة أن يأتي اليوم الذي تطفو فيه الإفرازات الفوقية للمجتمع الإسرائيلي  (الايدولوجية، القيم) لتستبدل منظومة القيم والأفكار التي جاءت بها من أوروبا القيادات الأوائل أو ما يطلق عليهم في إسرائيل "جيل الرواد" أو "الآباء المؤسسين". فبدايات الأحزاب الإسرائيلية (سواء العمالية أو اليمينية أو الدينية) كانت أوروبية المنشأ والثقافة والتجربة، لكنها أصبحت إسرائيلية/صهيونية المآل بعد أن طال بها العهد عن تجربة الديمقراطيات الغربية. من المعروف أن الفكر وليد الإطار الذي ينبثق فيه زمانا ومكانا،  وفي حين تتخلى، استحياء أو نفاقا، الحركات والأحزاب والنظم  السياسية الأوروبية شرقا وغربا وحتى في الولايات المتحدة التي انتخبت الأسود اوباما كرئيس لها عن أفكار التعصب القومي والعنصرية وفكرة صهر الجميع وتجاهر بتبني احترام الآخر والتعددية الثقافية ومبادئ حقوق الإنسان راوحت الأحزاب الإسرائيلية بفعل استمرار مشروعها الكولونيالي في مناخ نهاية القرن التاسع  عشر (القومية الرومانسية، التعصب القومي، الاستعلاء) وأضافت إليه مزيجاً من تجربتها العنصرية البغيضة التي قامت وتقوم على فكرة تدمير المجتمع الفلسطيني (سوسيو سايد) وليس مجرد كيانه السياسي.

النمر الإسرائيلي، مجتمعاً ونخباً وقيادات، جريح. وإذا كان هذا الجرح بداية نهاية الاحتلال فإن الصياد الماهر يعرف أن النمر الجريح هو أشد خطورة، حتى "تحييده"، من النمر العفي.

ـــــــــــ

المصدر : امين للاعلام   10/2/2009

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ