ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء  15/04/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


القدس.. باقية بعد جيل راحل فرّط بنفسه وبها

عاصمة الثقافة العربية 2009م

نبيل شبيب

تجاوز بعض الحكام في الدول العربية والإسلامية الثمانين من عمره، ومنهم من لم يبلغ من العمر عتيا إنما لا يختلف اختلافا يستحق الذكر عمن ورث عنه من أسلافهم كرسي سلطته، فجميعهم من الجيل الذي كان اغتصاب بيت المقدس شرقا وغربا، واغتصاب فلسطين (وسواها) برا وجوا وبحرا، على يديه، طائعا أو مرغما، وفي الحالتين هو مسؤول أمام الله وأمام التاريخ، عن سياسات تضيع المقدسات ولا تستعيدها، وتفرط بها ولا تدافع عنها، بل بات كثيرون لا يمارسون سياسة التضييع والتفريط فقط، بل يعضّون عليها كما يعضون على كراسي السلطة بالنواجذ والأنياب والقبضة القمعية، بل ويتبجحون بالدفاع عن تلك السياسات كما لو كانت سياسة انتصارات وإنجازات، في أي ميدان من الميادين وليس في ميدان العجز عن الحفاظ على الأوطان فحسب.

وكثير من شيوخ الأدب والثقافة واللهو والعبث من نخبنا ومن صانعي مؤتمراتنا واحتفالاتنا، ومهارجنا ومهرجاناتنا، ومسرحياتنا وقصائدنا، وجميع أدبياتنا وفنوننا، هم من الجيل ذاته، وإنّ ما لا يصنعونه عبر قرار سياسي يصنعونه عبر قرار فكري أو أدبي أو فني أو عبر ما يسمونه إبداعا، ولَعمرك أيّ إبداع هذا الذي يقطر من ثناياه ومن سحنته التشبث بمسيرة منحرفة على امتداد عقود وعقود، ولم تصنع جيل النهوض أو التحرير، بل لم يشق طريق المقاومة نحو التحرير والنهوض سوى من تمرد عليها وعلى السائرين بها، فشق عصا الطاعة على المثبطين وعلى التائهين فيها، فحتى متى يبدع هؤلاء ما يبدعون على طريق بات الحليم حيران في معالم "خارطتها" ورؤى "أعدائها" ونزاعات المتفرقين على سبلها المتشعبة!..

لقد مضى زهاء ثلث عام 2009م الذي أعلنوه لتكون القدس عاصمة الثقافة العربية فيه، وكان إعلانهم على أعلى مستويات "المسؤولية السياسية الثقافية" من جانب وزراء ثقافة أكثر من عشرين دولة ودويلة، فما الذي صنعه هؤلاء بقضّهم وقضيضهم ووزاراتهم وأجهزتهم وبياناتهم وتمويلهم، وما الذي يُنتظر أن يصنعوه في الشهور المقبلة، لتنفيذ قرار أصدروه هم أنفسهم.. أم أنهم لا يحملون مسؤولية التعامل مع احتفالية بيت المقدس تعاملا مختلفا عن تعاملهم مع عواصم أخرى، وهم يعلمون باختلافها عنها، ويعلمون بما آل إليه وضعها، وما يهدد مستقبلها، وما رسف من القيود والأغلال، باتفاقيات باطلة ودون اتفاقيات، على أحجارها وأحيائها، وعلى أهلها من سكانها ومن سائر أهل فلسطين، تحت الاحتلال وفي الشتات؟..

إن المطلوب في احتفالية بيت المقدس لا يقارن إطلاقا بما كان أو يمكن أن يكون مع سواها، وإن المسؤولية عن الاحتفالية لا يمكن حصرها فيمن يبذلون (مشكورين.. ووفقهم الله للمزيد) أقصى الجهود للنهوض ببعض المستطاع من قلب فلسطين المغتصبة!..

المسؤولية جليلة كبيرة ولها ما بعدها في فلسطين وخارج حدودها، ولن ينهض بهذه المسؤولية جيل عايش التفريط ببيت المقدس ولم يستطع خلال العقود الماضية أن يوجد بصيص ضوء على طريق تحريرها، أرضا وتاريخا وثقافة ومقدسات وبشرا وحجرا. بل حتى المتمردون على مسيرة التفريط في عهده، الماضون على درب المقاومة، يتلقون في عام القدس ومن قبله ما يتلقون من ضربات، في الظهور لا الصدور فقط، ويُعانون منظماتٍ وشعبا، رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، أبشعَ وسائل الحصار التي عرفتها البشرية حتى الآن.

 

 

• • •

 

بيت المقدس، عاصمة مهد الديانات السماوية، وعاصمة العرب والمسلمين حضارة وتاريخا وثقافة، وعاصمة أجيال العرب والمسلمين جيلا بعد جيل، وعاصمة الإنسان بكل ما تحمله إنسانية الإنسان من قيم ومثل ومبادئ على مرّ العصور، وإن أداء الحدّ الأدنى المطلوب تجاه بيت المقدس عام 2009م، ومن قبل ومن بعد، هو مسؤولية جيل جديد، يثور من أعمق أعماقه على التفريط والتضييع والانحراف والتضليل، ويثور على جميع المقولات والأساليب والوسائل التي ساهمت في ذلك كله، ويثور على القيود والأغلال التي تمنع من تغيير واقع الفساد والتخلف والهزائم.

ولن يصنع جيل المستقبل شيئا من ذلك دون أن يثور على نفسه أولا، ليرتفع إلى مستوى الأمانة التاريخية والمصيرية الملقاة على عاتقه، بعد أن شبّ كثيرون على دروب التفريط وشابوا عليها، وليكون بثورته وارتفاعه إلى مستوى أهدافه الجليلة، أهلا لأداء المسؤولية الكبيرة في كل ميدان من الميادين، ومن ذلك ما يرمز إليه عنوان القدس عاصمة الثقافة العربية.

يجب أن يصل اسم القدس، والتعريف بها وبتاريخها وبواقعها وبجدرانها وحقولها وحاراتها ومساجدها وكنائسها، وبمآسيها وأحزانها وأنينها، وبقضيتها العادلة وشموخها وإبائها وجهادها وصبرها وعطائها وتضحياتها.. يجب أن يصل ذلك كله ومزيد عليه، وبمختلف أشكال التعبير والعرض والتأثير، إلى كل إنسان.. قد يتحرك وجدانه فيدعم التحرك من أجل القدس وتحريرها، في أنحاء الأرض، وليس في أرض العرب والمسلمين فقط

لن يتحقق شيء من ذلك إلا بإبداع جديد، يتفجر من الصدور والعقول والسواعد من صفوف جيل جديد، لا يترك وسيلة من الوسائل البسيطة والمعقدة، القديمة والحديثة، إلا ويوظفها لأداء الأمانة وحمل المسؤولية.

• • •

يجب أن يتحرك الأفراد المبدعون ويجب أن تتحرك المنظمات الطلابية والشبابية، الثقافية والفنية والأدبية، تحركا لا تقيده انتماءات حزبية متوارثة، ولا تيارات متنازعة، ولا مواقع جغرافية متباعدة، كما لا يقيده موروث ما يسمّى عقبات "البيروقراطية" في أوضاعنا، وهي في الأصل "التضخم في التنظيم" بينما نعاني من غياب التخطيط والتنظيم والتنفيذ أصلا، ونفتقر إلى جهود حقيقية ودماء جديدة لتعوّض هذا النقص الخطير في طريق نهوضنا من جديد، وآنذاك تتلاقى الجهود على العمل الدائب، في كل وقت من الأوقات وليس مع كل مناسبة من المناسبات فقط، من أجل سائر حقوقنا وفي مقدمتها حقوقنا في مقدساتنا، وعلى رأسها أولى القبلتين المغتصبة، مع أقصى درجات الإصرار على أن بيت المقدس قبلة للعرب والمسلمين جميعا، حضاريا وثقافيا وتاريخيا، وذاك في صلب ما تعنيه كلمة "أولى القبلتين" فتجمَعَ عليها المسلمين وغير المسلمين، من العرب وغير العرب، ويجب أن نتعامل معها قبلة لكل من يريد الإسهام بجهده وإنجازاته في تحديد معالم المستقبل والمصير المشترك.. يجب أن نتعامل معها قبلة لكل إنسان حر عزيز كريم في عالمنا المعاصر.

• • •

قد تبرز بعض الفعاليات التي يقوم على تنظيمها -مشكورين على ما يبذلونه في أصعب الظروف- مَن نذروا أنفسهم لهذه المهمة، وقد يكون فيها بعض ما يغطي جانبا من الجوانب فيما تعنيه احتفالية عاصمة الثقافة العربية 2009م، ولكن لن تجد القدس ما هي جديرة به عاصمة للقضية المصيرية الكبرى والمحورية المشتركة، ما لم ينتشر هذا المعنى بالذات حول موقع القدس المشترك بين الجميع، على أوسع نطاق جماهيري، فلا يقف عند حدود فعاليات تقليدية، كما لا يقف عند حدود فلسطين ولا الحدود العربية ولا الحدود الإسلامية، فالقدس ليست كأي عاصمة تقليدية، و"الثقافة المقدسية" ليست كأي ثقافة تقليدية، ولا ينبغي أن يكون الاحتفاء بهذا العام الثقافي تقليديا كسواه، دون الغفلة إطلاقا عن مركزية التعريف بفلسطين وبأهل فلسطين وبثقافتهم الشعبية والتاريخية والمعاصرة وسائر ما يتميزون به في معتقل الاحتلال وفي معتقلات التشريد، ككل شعب له خصوصياته الثقافية.

القدس لا تنتظر ألعابا نارية ومسرحيات في الهواء الطلق وندوات ثقافية وعروضا فنية، كما كان مثلا في احتفالية عام 2008م بدمشق، بل تنتظر -إلى جانب ذلك كله وما يماثله ويزيد عليه- ما يحطّم القيود التي أقيمت بين فلسطينيين وسواهم، وبين عرب وعرب، وبين أقطار وأخرى بين المحيطات الثلاث.

- إننا لا نشهد ما نشهد من جولات تحطيم قضية فلسطين من الداخل بانقسامات تريد أن تجعل من المقاومة كبش فداء لمزيد من التسليم..

- ولا نشهد ما نشهد من جهود لا يستحيي باذلوها من أنفسهم وشعوبهم ولا من القدس وفلسطين ولا من العرب والمسلمين ولا من إنسانية الإنسان، فيما يخوضونه من جولات لتعزيز الحصار حول شعب فلسطين..

- ولا نشهد ما نشهد من مساومات على فلسطين ومستقبلها تحت عنوان مصالحات عربية-عربية، أو عربية-غربية..

ى نشهد ذلك كله وسواه إلا لأن جيل التفريط والتسليم صنع تلك القيود بنفسه، ورسخها في واقعه، وأعطاها مكانة قدسية متقدمة على الوطن المشترك والتاريخ المشترك والمستقبل المصيري المشترك.

فمن أراد أن يساهم في تحطيم القيود وفي تغيير مجرى التاريخ فليعلم أن القدس تنتظر هذا العام وكل عام، جيلا جديدا، يتحرك ولا يتردد، يعطي ولا يمنع، يبذل ولا ينتظر، ويحدوه في ثورته ومسيرته وعطائه أملٌ كبير، لا يمكن أن تخبو شعلته إلى ما بعد يوم التحرير، وتحركه عزيمة راسخة، ترفع هامته إلى العلياء فوق كل من قصرت قاماتهم عن جليل الأهداف وتبعات الأمانة الكبرى.

القدس تنتظر هذا العام وكل عام، كل ما يمكن أن يقدمه الشبيبة بحكم أعمارهم وطاقاتهم، وأولئك الذين ما يزالون من الشبيبة إخلاصا وعطاء وبذلا رغم أثقال السنين وأعبائها.. تنتظر ما يقدمه كلّ فرد دون استثناء، كل شاب وشابة، كل صغير وكبير، من عصارة وجدانه الحي، ويقظة نشاطه الصادق، ممن ينتمون إلى القدس دما ولحما ونسبا أو ينتمون إليها روحا وأملا ومصيرا، وسواء في ذلك ما يكون عليه شكل العطاء ما دامت القدس جوهره، رسالة تذكر ، أو مشهدا يؤثر، أو أبيات شعر تحمّس، أو حوار يوضح، أو ندوة تشرح، أو ترجمة معلومة تُنشر.. وكل فرد أعلم بنفسه وبظروفه وبقدراته وبمواهبه وبإمكاناته من أي إنسان سواه، ولا يوجد شيء أقل شأنا من أن يستحق بذل الجهد لتقديمه، ولا يوجد أي عذر يسوّغ لأي فرد أن يقول: لا أستطيع صنع شيء.

القدس التي تحدّت عبر التاريخ كل غازٍ استعمرها بقوة غاشمة، وكل مستوطن اغتصبها بإثم باطل، وكل جبروت عبث بوجهها وأرضها.. فغابوا جميعا وبقيت القدس، تتحدى هؤلاء جميعها وورثتهم، بثباتِ موقعِها درّةً في جبهة التاريخ، تتحدى من قضت جرائمهم الوحشية على انتمائهم للإنسان والإنسانية، وتتحدى بندائها المتواصل عبر العصور المتشاغلين عنها، وتتحدى بجيل المستقبل اليأسَ واليائسين والقنوط والقانطين..

قدسنا هذه تأبى القبول بقول أحد من الصادقين المخلصين: لا أستطيع أن أفعل للقدس شيئا!..

بل تستطيع.. فافعل ما تستطيع، ولا تنتظرن من يقول لك ماذا تفعل فأنت الاعلم به، ولا تتركنّ القدس لِمن يتحركون ويعملون.. ولكن على طريق خيانة أمانة القدس وفلسطين وطريق الطعن بتاريخها وحاضرها ومستقبلها.

ـــــــــ

المصدر : مداد القلم

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ