ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
غزة
2009: ثقافة المقاومة في مـواجهة
الهزيمة حيدر
عيد * لقد خلق
شلال الدم المتدفق في قطاع غزة
والقدرة المبدعة للشعب
الفلسطيني على المقاومة
والتصدي لرابع أقوى جيوش
العالم، جدلاً محتدماً في
الأوساط السياسية الفلسطينية
المختلفة، حيث أدت حرب الإبادة
تلك، التي استخدمت فيها إسرائيل
العنصرية، طائرات الـ أف 16
والأباتشي والميركافا وكل
أنواع الأسلحة التقليدية منها،
وغير التقليدية، إلى ظهور
العديد من التساؤلات المهمّة عن
مفهوم المقاومة، وعما إذا كان
من الممكن أو من غير الممكن
اعتبار محصّلة الحرب نصراً
للشعب الفلسطيني أم لا، وهي
التساؤلات ذاتها التي ظهرت في
تموز 2006 عندما شنت إسرائيل
العنصرية حربها الوحشية على
الشعب اللبناني، وقتلت من
أبنائه أكثر من ألف ومئتي شخص. وفي
بداية الحرب الوحشية على قطاع
غزة، قيل لنا على لسان بعض
القطاعات السياسية الفلسطينية
إن اللوم يجب أن يقع على عاتق
الطرفين المعنيّين، «حماس»
وإسرائيل، وإن على «حماس» وقف
إطلاق الصواريخ على إسرائيل
نهائياً، كما رأى هذا الفريق
ذاته أنّ جميع أشكال المقاومة
العنفية واللاعنفية عبثية
الهدف. والآن،
وبما أن القليل من القنابل
تنهمر على غزة، يشتد الجدل بشأن
ما إذا كانت نتائج الحرب نصراً
للفلسطينيين أو هزيمة لهم. أما
بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة في
إسرائيل فقد كانت الإجابة واضحة
بالرغم من الحقيقة الجلية، التي
تفيد أن أياً من الأهداف
المعلنة مع بداية الحرب لم
يتحقّق، فهذا واضح تماماً لأن
هؤلاء كأمثالهم في المعسكر
الفلسطيني الانهزامي، ينظرون
إلى عدد الشهداء والمشرّدين
والجرحى كمعيار لتحديد نتيجة
الحرب، سواء بالنصر أو الهزيمة.
ويفشل هذا المنظور في أن يقرّ
بأن أياً من «أهداف الحرب» لم
يتحقّق، فـ«حماس» لا تزال في
موقع قوة، والصواريخ لا تزال
تطلق من قطاع غزة في اتجاه
إسرائيل، ولم تعد أي من القوى
الموالية لأوسلو إلى قطاع غزة.
والتساؤل الذي يطرحه في الوقت
الحاضر بعض المثقفين
والسياسيين الفلسطينيين بعد
الوحشية الدموية المتوقعة من
جانب قوات الاحتلال
الإسرائيلية: «هل كان الأمر
يستحق كل ذلك؟»، وتبقى «ذلك»
غامضة ومرتكزة على رد فعل
المتلقّي. والمهم هنا هو التغير
الجذري الذي طرأ على مواقف بعض
القوى الوطنية الفلسطينية،
وبالذات اليسارية منها، وآليات
تفكيرهم المعارضة للتأويل
الجدلي للتاريخ، ودورهم فيه
وبالتالي صناعته. لقد
ظهرت الحرب الوحشية على قطاع
غزة كـ«تسونامي» سياسي لم يضع
فقط حدّاً لتصور الحل القائم
على أساس الدولتين، ويعد
الاعتبار لمفهوم التحرير بدلاً
من الاستقلال في الأجندات
المطروحة، بل خلق أيضاً خريطة
سياسية فلسطينية جديدة. لقد أدى
هذا التصنيف الجديد للمثقفين
الفلسطينيين والفئات الحاكمة
إلى انضمام بعض اليساريين
السابقين إلى اليمين الفلسطيني
الموالي لأوسلو بثقافتها
الانهزامية، إذ يمكن وصف هؤلاء
اليساريين النفعيّين الجدد على
غرار «متثقفي» اليمين
بالوصولية الانهزامية ومحدودية
الرؤية، حيث لا يظهِر هؤلاء
المثقفون البازغون من منظمات
غير حكومية يموّلها الغرب أي
نوع من الالتزام تجاه
مسؤولياتهم الوطنية والقومية
والتاريخية. ربما تساعدنا مقولة
ميشال فوكو الشهيرة «أينما توجد
القوة، توجد المقاومة» على وضع
نظرية للمقاومة السياسية،
وبالتالي الثقافية الممثلة في
لغة الحرب وما بعد الحرب. وربما
يجدر بنا ضمن سياق المقاومة،
ذكر تعريف الفيلسوف الشهير
فرانتز فانون لدور المثقف
المحلي خلال مرحلة النضال على
أنه الذي، بعد أن يحاول أن يصهر
نفسه في الناس ومع الناس، فهو
الذي سوف يهز الناس ويتحول إلى
ميقظ للشعب. وهنا يأتي الأدب
المقاوم والأدب الوطني. وعلى
صعيد آخر، نجد المثقفين
الآخرين، الذين طبقاً لنظرية
فانون، يقدمون الدليل على أنهم
قد استوعبوا ثقافة القوة
المحتلة، وتتماشى كتاباتهم
نقطة بنقطة مع تلك المقابلة لها
في الوطن الأم، حيث يكون
إلهامهم أوروبياً (أو غربياً)،
ومن هنا يأتي تبني الرواية
الإسرائيلية من جانب بعض قطاعات
المثقفين المتأنجزين حيث تبرّأ
إسرائيل من جرائمها: «نحن
الملومون على ما حصل»، «حماس لم
تستشرنا عندما أشعلت فتيل
الحرب»، «إن الشعب هو الوحيد
الذي يدفع الثمن، لا المقاومة».
«كان ينبغي على حماس تجديد
الهدنة مع إسرائيل». «ليس
بمقدورنا تحمل المزيد من
الخسائر في الأرواح»، «كان على
حماس فهم ذلك جيداً». «لم يكن
هناك أي معالم للمقاومة في
شوارع غزة، لقد فر رجال
المقاومة عندما رأوا أول دبابة». وبذات
المنطق، نستطيع استنكار
المقاومة الجزائرية والجنوب
أفريقية، واللبنانية والمصرية
والفيتنامية، حيث استخدم رؤساء
البانتوستانات في جنوب أفريقيا
المنطق نفسه ضد الحركة المناهضة
للعنصرية، وحكومة فيشي في فرنسا
وحكومة جنوب فيتنام، والقوى
الرجعية المصرية ضد القيادة
التقدمية لنظام جمال عبد الناصر
عام 1956، بل أيضاً تحالف قوى
الرابع عشر من آذار الممثّلة في
فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط
وسعد الحريري وسمير جعجع في
لبنان. من
الجلي أن اندماج هؤلاء المثقفين
في العقلية الغربية من خلال
عملية أنجزة، وبالتالي «أسلوة»
انتمائهم وانصهارهم في ثقافة
أوسلو، يجعلهم ينظرون إلى
المقاومة كعبثية عديمة النفع،
ولا رجاء يذكر منها. وعموماً فإن
المقاومة لا تتمثل فقط في
القدرة على محاربة جيش عدو أكثر
قوة، بل هي أيضاً القدرة
الخلّاقة على مقاومة المحتل
للأرض، حيث فشل انهزاميو أوسلو
واليساريون الجدد في استغلال
القوة الهائلة للشعب بل حتى في
إدراك أنها موجودة وفاعلة. إنهم
انهزاميون، لأنهم يريدون أن
يخوضوا المعركة على الطريقة
الإسرائيلية، أي من خلال تبني
ثنائية إسرائيل ــ حماس، بدلاً
من إسرائيل العنصرية في مقابل
الشعب الفلسطيني، وبدلاً من
النظر إلى مصدر قوتهم المتمثلة
في قوة الشعب على أنه صاحب الأرض
الأصلي، وأن هناك قانوناً
دولياً يدعم حقه، وأن لديهم
قاعدة أخلاقية عليا تتمثل في
دعم المجتمع الدولي... هناك
درس رائع نتعلمه من تجربة
النضال الجنوب أفريقية، يكمن في
الطريقة التي حاولت بها تعريف
المقاومة من خلال توضيحها لما
يسمى «دعائم النضال الأربع»
المتمثلة في: النضال المسلح،
التعبئة الداخلية للجماهير،
التضامن الدولي، النضال
السياسي السري، ولكن يبدو للأسف
الشديد أن أياً من هذه الدعائم
لا تتفق مع مصالح «اليساريين
الجدد». لم يعد
الميراث الأدبي النقدي لأمثال
غسان كنفاني وإدوارد سعيد
وفرانتز فانون الشعلة المنيرة
لأولئك اليساريين المتأنجزين،
فالمثقف الديموقراطي ينبغي أن
يكون ــ كما يطرح ادوارد سعيد ــ
«الشخص الذي لا يمكن تجنيده من
جانب الحكومات أو الشركات (الممولين
أو المتبرعين) بسهولة، والذي
همه الأساسي هو التحدث بلسان
أولئك المنسيين تحت الركام»،
كذلك يشير الفيلسوف الهنغاري
الرائع جورج لوكاش في سياق آخر
عن دور المثقف إلى الطريقة التي
ينبغي أن يتحدث بها أولئك
اليساريون الجدد، موضحاً أنه
«عندما يصل مجتمع المثقف إلى
مفترق طرق في درب كفاحه ونضاله
من أجل تعريف واضح لهويته، فعلى
المثقف أن ينصهر تماماً في
العملية الاجتماعية السياسية
وأن يترجل من برجه العاجي». إن
ثقافة المقاومة تصر على الحق في
طرح التاريخ الفلسطيني كوحدة
واحدة، متماسكة وأساسية. كما
أنها تعكس وعياً وطنياً
وتاريخياً مفاده أن بإمكان
الفلسطينيين أن يكونوا عناصر
فاعلة للتغيير في حاضرهم
ومستقبلهم بغض النظر عن أجندات
المتبرعين الغربيين والرباعية
الدولية ولجانها الدولية
الرسمية. ومع
هذا، فإننا نرى أن
«الديموقراطيين الجدد» عاجزون
عن الاعتراف بالشعب لأنهم
يرفضون احترام إرادته التي عبر
عنها عبر صناديق الاقتراع. إن
المقصود من موقفهم هذا هو أن
يتوافق مع مواقف المتبرعين لهم
من الأطراف الدولية التي تعمل
جاهدة منذ سنين على تهميش الشعب
الفلسطيني من خلال عدم الاعتراف
بشرعية خياراته، ويتعارض هذا
القصور في الوعي السياسي والبحث
عن الحلول الفردية كصفات رئيسية
للعقلية الانهزامية تماماً مع
الواقع الوطني للشعب الفلسطيني
المناضل، إذ لا بد أن يبدأ الوعي
بالرفض التام للشروط المفروضة
من جانب الاحتلال الإسرائيلي
والرباعية الدولية على الشعب
الفلسطيني. والأكثر
أهمية هو رفض التفاهات المقدمة
على أنها جائزة لحسن السيرة
لسلوك أقلية مختارة من
الفلسطينيين، وبالفعل يرتبط
الوعي الطبقي أساساً بالنضال من
أجل التحرير. ما يبرز هذه الأيام
هو مصالح بعض الجماعات
المتأنجزة واليساريين السابقين
والليبراليين الجدد الذين ذاع
موقفهم الانهزامي من الحرب على
غزة من خلال وسائل إعلامية
مختلفة سُخّرت لذلك، لا مصلحة
الشعب الفلسطيني الذي اكتسب من
خلال مقاومته الصامدة في وجه
آلة الحرب الإسرائيلية شرعية
أكبر. ولا
يزال أولئك «الأوسلويون
المتأنجزون» يجادلون في أنّ
الحل الوحيد للصراع الفلسطيني
الإسرائيلي يكمن في الحل القائم
على أساس الدولتين، مما يعني
أساساً قيام دولة فلسطينية
مستقلة على 22% فقط من أرض فلسطين
التاريخية، معتقدين بذلك أن
الطريق الوحيدة للوصول إلى
الاستقلال هي عبر المفاوضات على
الرغم من أن 15 عاماً كاملة منها
لم تزحزح الموقف الإسرائيلي على
الإطلاق، فمسألة قيام دولة
فلسطينية غير مذكورة بتاتاً في
أي من بنود اتفاقية أوسلو، بل
تُرك تحديد هذه القضية لتوازن
القوى في المنطقة. وبالطبع فإنّ
هذا التوازن يصب في مصلحة
إسرائيل، التي ترفض تماماً قيام
دولة فلسطينية ذات سيادة،
بالرغم من اعترافها بحركته
القومية المتمثلة في منظمة
التحرير الفلسطينية. ما من
حزب إسرائيلي، لا «العمل» ولا
«كاديما» ولا «الليكود»، مستعد
لقبول دولة فلسطينية، ولا حتى
لقبول تعبير «حق تقرير المصير»،
فالطريق المسدود المتمثل في
المفاوضات قد أثبت صواب رأي
المعسكر المعارض لهذه
الاتفاقيات المهينة. لقد
فوجئ الليبراليون واليساريون
الجدد بنتائج انتخابات 2006
الصادمة منذ لحظة ظهورها، والتي
فازت فيها «حماس» بغالبية
المقاعد في المجلس التشريعي
الفلسطيني، ومنذ ذلك الحين وهم
يكيلون الاتهامات للشعب (بالصبيانية
والتخلف) فيما لم نسمع شيئاً
يذكر عن فشل «عملية السلام» ولا
عن فشل حلّ الدولتين. وبالتالي
تظهر هنا الضرورة والحاجة
الملحة إلى برنامج وطني جديد
يستطيع تحريك الجموع
الجماهيرية وتعبئتها، برنامج
ديموقراطي بالضرورة، يحترم
المقاومة على اختلاف أشكالها
ويضمن السلام والعدالة بدون
فصلهما. إن ما
يسمح بالالتواءات التي تقوم بها
الفئات «الأوسلوية» هو القصور
في الرؤية السياسية، وهو ذاته
القصور الذي يسمح لتلك الفئات
بالقبول بالاعتراف بدولة
يهودية إلى جانب الدولة
الفلسطينية، بما يتضمنه ذلك من
قبول الممارسات العنصرية
التمييزية الممارسة من جانب
إسرائيل ضد غير اليهود، وخصوصاً
فلسطينيي 48، إضافة إلى اغتيال
حق العودة لأكثر من ستة ملايين
لاجئ فلسطيني. وما لا
ننفك نسمعه هو إما أن نقبل
بالاحتلال الإسرائيلي بأقبح
أشكاله بدءاً بجدار الفصل
العنصري مروراً بالمستوطنات
والحواجز والطرق الملتوية
وإزالة المباني والتنسيق
الأمني تحت إشراف جنرال أميركي
متقاعد، أو أن نقبل بالحصار
الخانق المفروض علينا على أن
نموت بكرامتنا، يبدو أن الخيار
الأول هو المفضل لدى أولئك
المتأنجزين. على أية
حال، ينبغي للبرنامج السياسي
الجديد، الذي نحتاج إليه بشدة
أن يخلق صلة ربط بين نضال كل
الفلسطينيين، سواء كان نضالهم
ضد احتلال غزة والضفة الغربية،
أو ضد الانتهاكات الإسرائيلية
لحقوق الفلسطينيين القائمة على
التمييز العرقي ضد أكثر من
مليون مواطن فلسطيني، فضلاً عن
لاجئي 1948 المشردين في الشتات. إن
غزة 2009 لم تكن هزيمة بل كانت
نصراً حققته دماء الأطفال
والنساء والرجال، الذين ضحوا
بأرواحهم لكي نعيش نحن، ونستمر
في المقاومة، لا أن نستسلم. إنّ
أولئك الفلسطينيين الذين
يتباكون على «حل السجنين» فقدوا
صلتهم بحقائق جديدة على الأرض،
أهمها أنه لا يمكن الرجوع الآن
لفبركة حلول وهمية ومفاوضات
عبثية، وأنه قد حان الوقت لنضال
جدي حاسم من أجل الحرية
والديموقراطية والعدالة. بإمكانهم
الآن الانضمام إلى باقي
الفلسطينيين الذين يناضلون،
مدعومين من جانب متضامنين
أحرار، من أجل دولة ديموقراطية
واحدة على أرض فلسطين
التاريخية، تضمن المساواة
للجميع، أو أن يندحروا إلى
مزبلة التاريخ. ----------- * محلل
سياسي مستقل مقيم في
غزة ــ ترجمة حنان حمد ـــــــــــ المصدر
: الأخبار - عدد الجمعة ١٧
نيسان ٢٠٠٩ http://www.al-akhbar.com/ar/node/130274 ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |