ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الدائرة بقلم
عبد الكريم الشطي لطالما
آمنت بأن حياة كل منا عبارة عن
دائرة مملة تتكرر عبر الأجيال: ولادة
وصراخ .. طفولة وطلبات ..مراهقة
ولف بالشوارع .. دراسة مع بعض
التجارب الشقية .. وظيفة وفلوس ..
زواج ورزانة .. أطفال ومسؤولية ..
تقاعد وفراغ .. قبر موحش !! ثم
أسلم عصا سباق التتابع لإبني
ليركض في نفس المضمار! ويقول
التاريخ أن هذه الدائرة بدأت من
أبي آدم (والذي هو أبوك أنت
الآخر) وورثها لنا واحداً بعد
الآخر؟ وكل من حاول أن يتخطى هذه
الدائرة ويرسم خطاً مستقيماً،
فالويل لهذا الشاذ المجنون
الأرعن المارق عن العادات
والتقاليد و..و.. تعرفون باقي
الشتائم! وكنت
أعتقد أني أنا الآخر سأتسكع في
هذه الدائرة حتى أسلم عصا
التتابع لمغبون من بعدي .. حتى جاء
ذلك اليوم .. حينما
ألحت على أختي للذهاب إلى
العمرة، وأختي ـ من وجهة نظري ـ
من ذلك النوع المثالي الذي لا
يحب الخروج عن الدائرة نهائياً،
فذهبت مرغماً ثقيل النفس لأؤدي
دوري كمحرم من العيار الثقيل
الظل في هذه الرحلة ذات الأيام
الثلاثة .. ولا أنكر ذلك
الانشراح النفسي الذي غمرني في
بيت الله الحرام، خصوصاً في هذا
الوقت الهادئ من العام. بعد
صلاة العشاء في الحرم المكي،
تلفت وإذا بشاب أشقر، طويل
القامة، عيناه بلون البحر، لا
تخطئ عيناك أوربيته من النظرة
الأولى .. تسربل بذلك الإحرام،
ليعطيه شكلاً لم تألفه عيني، إذ
نادراً ما ترى أوروبياً مسلماً،
فبدا مظهره في الإحرام كأنه
صورة صغيرة ركب عليها برواز
كبير غليظ لا يناسقها بالحجم
ولا بالشكل، ولكن سبحان من
استجاب دعاء إبراهيم: "واجعل
أفئدة من الناس تهوي إليهم.."
ابتسم بوجهي فرددت ابتسامته
بمثلها أو بأحسن، وهممت بسؤاله
بلغة إنجليزية ذات راء أمريكية
أعكس فيها فشخرتي واستعراضي
بثقافتي الأمريكية إلا أنه
فاجأني، بقوله: ـ
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته يا أخي ... كان
يتحدث بعربية فصحى تعرضت حروفها
للكسر والعجمة من لسانه .. ـ
وعليكم السلام يا أخي ... ـ من أي
بلاد الله انت يا أخي؟ ـ أنا
من الكويت وهل تعرفها؟ وأنت من
أين؟ أحسست
بأني في مسلسل مدبلج أو "افتح
يا سمسم" وأنا أتحدث العربية
الفصحى لأول مرة في حياتي، ففي
مشوار حياتي كلها كنت أتحدث
بلهجة خليجية، وقد ألجأ من باب
المداعبة للتحدث بلهجة عراقية،
مصرية، لبنانية .. لكن أن أتحدث
العربية الفصحى، فقد كان غريباً
بعض الشيء.. ـ أنا
من هولندا، ولا أعرف عن الكويت
غير رسمها على الخريطة وإنكم
محظوظون لأنكم بلد عربي ومسلم.. ـ وأنتم
محظوظون في هولندا، لأنكم
تتسممون بالأفيون والحشيش في
مقاهيكم، وتحت أعين الشرطة! ابتسم
وهو يرد على دعابتي بعربيته
الفصحى: ـ وأنتم
محظوظون لاتصالكم بسر الخلود،
وأفيون السعادة الذي يخرجكم عن
الدائرة؟ ـ أي
دائرة تعني؟ ـ
الدائرة التي يعيش فيها
الإنسان، ولادة.. دراسة.. عمل..
زواج ثم فناء ؟؟ سبحان
الله هذا الأشقر الأحمر، الذي
جاء من آخر أقاصي أوروبا يتحدث
بنفس لغة تفكيري! ويعرف
الدائرة، أطرقت قليلاً، وقلت له: ـ ما
الذي سيخرجني عن الدائرة؟ فكلنا
محكومون بها؟ ـ سر
الخروج من الدائرة أنتم من
يملكه؟ وخروجك عن الدائرة يجب
أن يكون ضمن الدائرة؟ ـ لم
أفهم شيئاً من فلسفتك، كيف اخرج
من الدائرة وأنا أمشي فيها؟ ـ الفرق
بيننا وبينكم بأننا نحتاج إلى
أن نبحث ونقرأ ونقارن بين
الفلسفات والديانات حتى نصل إلى
الحقيقة، أما أنتم فمحظوظون
لأنكم ورثتموها جاهزة بك يسر..
ولعل تلك الوارثة هي التي
منعتكم من التفكير فيها .. ـ
حيرتني معك يا هذا .. لم أفهم
شيئاً مما تقول... ـ تخيل
أنك في ممر طويل مظلم، ترى في
آخره بابان... وكل إنسان مجبور
بأن يمشي لآخر الممر، وحينما
يصل سيفتح له أحد البابين
ليدخله.. ـ منظر
غريب... ـ تخيل
أن الناس الماشون في هذا الممر
صنفين، صنف يعلم ما وراء كل باب،
وصنف حيران، لا يدري ولا يمكن له
أن يتخيل ما وراء البابين، ولكن
الجميع يمشي نحو البابين فما هو
الفرق في نظرك بين نفسية
الصنفين؟ ـ أمممم
.. لعل الذي يعلم ما وراء الباب
سيحس بطعم مشيه وسببه... أما
الآخرون فلا مذاق لخطواتهم،
وستكون نفسياتهم مضطربة قلقه
طوال الطريق .. ـ هذا
مثلنا ومثلكم .. فالإسلام قد بين
لكم نهايو رحلة الدنيا، أما نحن
فلا ندري لماذا نقطع هذه الرحلة
أو نعيش في هذه الدائرة، وتحار
عقولنا وقلوبنا في أن تجد
تفسراً لرحلة الحياة... لذا
نحاول أن نتلذذ بكل المتع التي
نراها في الطريق المظلم، ولكن
ينقصنا معرفة النهاية. ـ لكن
المسيحية دلتكم على طريق
النهاية.. ـ عذراً
لعلي أخطأت في التوضيح.. المعرفة
شيء، والإيمان شيء آخر، الكثير
منا يعرف النهاية، لكن قلة هم
الذين يؤمنون بها ويوقنون بما
وراء الباب! وهذا الإيمان
واليقين لا يعرفه إلا من ذاق
اللذة ... ـ وكيف
تذوق اللذة ؟؟ ـ
بالنسبة لي فقد عشت في ظلام
لسنوات طويلة، ولذا حينما رأيت
النور عرفت الفرق.. عرفت اللذة.. ـ شعرت
بأن هذا الأوروبي قد ذاق شيئاً
في الدين لم أذقه من قبل.. وأحس
بحيرتي، فأكمل من تلقاء نفسه: ـ منذ
سبع سنوات، كنت شاباً غضاً في
أول العشرينات من عمري، وذهبت
إلى زيارة للقاهرة، وبالرغم من
كل ما يدهش الأوروبي من أهرامات
وجمال ومتاحف، إلا أنه أكثر ما
سحرني هو تلك الزيارة لأحد
المساجد التاريخية، وكان ذلك
وقت صلاة العصر، ووقفت عند باب
الجامع لأشاهد منظراً يبدو
مألوفاً لديكم، شاهدت الناس
تخرج من الصلاة، فسحرني منظر
تلك الوجوه الناعمة، تعلوها
مسحة الإيمان، وتشع ضياء وراحة
نفسية.. رأيت غير الوجوه التي
أعرفها في حياتي.. رأيتهم
يبتسمون بطيبة ورقة لم أرها من
قبل.. لم أتمالك نفسي فاقتربت من
أحدهم أسأله بالإنجليزية إلا
أنه لم يكن يتحدثها فلم يفهم ما
بي، ولكنه حتماً لمح التشوق
والتلهف في عيني، فقلب في وجوه
الناس، حتى رأى أحدهم
يتحدثالإنجليزية فناداه. وقلت
له أريد ان أفعل مثلكم، أريد أن
أصلي؟ ... فابتسم الرجل وطلب مني
الحضور بعد ساعتين على توقيت
صلاة المغرب، وأفهمني بفكرة
مواقيت صلاة الجماعة. ووقفت
منتظراً، فأخذني ذلك الرجل
البسيط الفقير ودعاني إلى كوب
من الشاي المصري الثقيل، وشرح
لي بإنجليزيته المكسرة شيئاً عن
الصلاة وفكرتها، وظللت أسأله
وهو يجيب بصدر رحب، إلى أن علا
صوت الآذان من تلك القبة
القاهرية المزركشة.. وشعرت
بالآذان ينساب في شرياني ويجري
في عصبي ودمي.. وبالرغم من عدم
فهمي لمعانيه .. إلا أني شعرت
بأنه نداء خاص يأتيني من فوق
الغيوم ومن وراء النجوم.. ثم قمت
للوضوء مع الرجل.. وصليت الجماعة
ولم أفهم منها سوى كلمة آمين! ـ ثم
أعلنت إسلامك؟ ـ لا..
لكن تسربلت روحي براحة داخلية
لم أشعرها من قبل.. شعرت أن الكون
له خالق ورازق.. وأني اتصلت به في
تلك اللحظات.. شعرت بأني معه في
تلك السجيدات والركيعات.. شعرت
لأول مرة أني قريب منه.. وأني
أستطيع أن أطلب منه ما أريد..
ورحلت عن مصر، ولكن تلك
اللحيظات لم تغب عن روحي للحظة،
وظلت تراودني فكرة الصلاة على
الطريقة الإسلامية بين الفينة
والأخرى.. ـ ثم
ماذا ؟؟ ـ بعد
عدة سنوات أرسلتني الشركة التي
أعمل فيها للعمل في قرية صغيرة
في ألمانيا لعدة سنوات، في
القرية رايت منظراً غريباً كان
سبباً في إسلامي! ـ منظر
غريب في ألمانيا! مثل ماذا ؟ ـ رأيت
مسجداً شفافاً! ـ مسجد
شفاف؟ ـ نعم
فحينما أراد بعض المسلمين
المهاجرين في القرية بناء مسجد،
سرت موجة من الاعتراضات بين
أهالي القرية، فقد توضع في
المسجد أسلحة خفية، أو قد تدار
فيه خلايا إرهابية... وغير ذلك من
الكلام الفارغ الموجه للمسلمين!
وكان من بين المسلمين في القرية
مهندس معماري، فاقترح عليهم
بناء مسجد زجاجي شفاف، يرى منه
أهل القرية كل ما يدار في المسجد...
وفعلاً حينما مررت بذلك المسجد
الشفاف ورأيت المسلمين مصطفين
لصلاة المغرب، تقافزت كريات دمي
شوقاً إلى ذلك الشعور الذي زرع
فيني من سنين يوم صليت في
القاهرة.. أوقفت سيارتي وتوضأت
وصليت معهم.. وخطوت خارج المسجد
سابحاً في تلك اللذة التي
تغمرني... ـ ثم
أعلنت إسلامك ؟ ابتسم
وهو يترقب استعجالي، فقال بصوت
حنون: ـ أثناء
خروجي من المسجد لمحت ورقة كتب
عليها أوقات الصلاة، واستقر في
ذهني وقت الفجر، فلما غشاني
الليل لم أنم وأنا أتفكر في تلك
اللذة التي لم أشعر بها من قبل،
وظللت أسمع تلك الهواتف في
داخلي تدعوني إلى الله، ولم
تنقطع تلك الهواتف حتى رأيت
الساعة وقد حان وقت الفجر،
فخرجت من فوري إلى المسجد..
توضأت.. صليت.. وشعرت بقربي من
خالقي.. أحسست بنور يشع في قلبي
ويسبح في دمي.. وأثناء سجودي
بكيت بنشيج.. ودون أن أعرف سبباً
لبكائي.. لكنه كان بكاءً ممتعاً
مريحاً.. وبعد الصلاة أقبل
المصلون إلي.. فأخبرتهم بأني غير
مسلم.. فقام الشيخ ومسح على قلبي
وقرأ سورة طه.. فعدت إلى البكاء..
وبكى من حولي.. وكانت الحياة
علمتني أن البكاء ممنوع على
الرجل.. ولكن الإسلام علمني بأن
البكاء قمة الرجولة!! فهذا عمر
بن الخطاب الشديد القوي..كان
يبكي! وهذا هارون الرشيد الذي
ملك الأرض.. كان يبكي! فأعلنت
إسلامي وسط تكبير الرجال من
حولي! أحسست
بملح عيني يتساقط أنا الآخر،
فسكت من هول قصته وأنا أنظر بهاء
الكعبة، وأسأل نفسي هل بكيت مرة
من لذة طاعة أو ذل دعاء؟ لِمَ
لَمْ أبكِ في حياتي؟ وسكت
الأوروبي لوهلة، ثم أردف: ـ منذ
أسلمت أحسست بروعة الشعور
بالطاعة، والاقتراب من مالك
الملك، أحسست بأن تلك القوة
الرهيبة التي صنعت هذا الكون
بمجراته ونجومه وإنسانه، قد
فتحت بابها لي، وأذن لي بالدخول
إلى بلاطه في أي وقت أشاء.. وكان
شعوراً رهيباً أن يسمح لإنسان
مثلي أن يدخل بلاط ملك الملوك
متى ما احتاج أن يخفف من عبء
الحياة وأثقالها دون وسيط أو
حاجب! ففي الإسلام هناك ارتباط
مع الله في كل شيء... فهناك دعاء
الاستيقاظ وذكر للنوم والخروج
من المنزل وركوب السيارة حتى
العطسة لها ذكر خاص! ـ كلام
جميل... كأني لأول مرة أستشعر هذه
الحقائق.. ـ هذه
مشكلتكم.. ولدتم مع هذه الحقائق!
فلم تتدبروا في أسرارها.. ولو
تدبرت واستشعرت معنى كل دعاء من
هذه الأدعية لما بلغت عمقه
وسره؟ ـ
مممممم.. إذاً هكذا تسير في
الدائرة.. ولكن تعيش مستمتعاً
بها ؟ ـ نعم
لو تدبرت أسرار الأدعية وغصت في
معاني الآيات.. وأقمت علاقة سرية
خاصة بالله.. فستعيش في الدائرة
مع الناس ظاهرياً.. ولكنك في
الحقيقة تعيش مع الله.. ومنذ
ذلك اليوم أعيش في هذه الدائرة..
آكل.. أشرب.. أضحك.. وأخرج.. ولكن
لي علاقة خاصة مع الله، في صلاتي
وليلي وفجري تجعلني سعيداً
راضياً.. متشوقاً إلى لقاءه.. إنها
الحياة مع لذة الطاعة.. جرّبها ــــــــــــــ المصدر
: ركاز 11/9/2008 ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |