ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
في
الجاهلية السياسية فهمي
هويدي لا أعرف
مرحلة في التاريخ العربي
المعاصر اختلطت فيها الأوراق
وانقلبت المعايير مثل ما هو
حاصل الآن، الأمر الذي يسوغ لي
أن أصف أيامنا هذه بأنها زمن
الجاهلية السياسية. (1) الجاهلية
في القاموس المحيط هي عدم إدراك
ما لا بد من معرفته. وعدم
الإدراك هذا له أسباب عدة أزعم
أنها تتراوح بين العبط
والاستعباط. فعندما يصرح الرئيس
“الإسرائيلي” شمعون بيريز
أمام مؤتمر مجلس العلاقات
الأمريكية- “الإسرائيلية” (إيباك)
مثلاً بأن إيران هي الخطر
المشترك الذي يهدد “إسرائيل”
والعرب، فذلك هو الاستعباط حقاً.
أما إذا صدقه أحد من العرب فذلك
هو العبط بعينه. من
الجاهلية السياسية أن نفقد
البوصلة التي تحدد الوجهة
والترتيب الذي يحدد لها “واجب
الوقت”، بما يؤدي إليه من خلل
في ترتيب الأولويات. فقد كان من
الطبيعي والمنطقي بعد العدوان
“الإسرائيلي” على غزة أن ينشغل
العالم العربي عند الحد الأدنى
برفع الحصار وإعمار القطاع بعد
تدميره. ولأن “إسرائيل” تذرعت
في عدوانها بإطلاق الصواريخ
الفلسطينية بعد انتهاء فترة “التهدئة”
المتفق عليها، فإن فصائل
المقاومة ربطت قرار التهدئة
بمصير الحصار، وأعلنت أنه لا
تهدئة مع استمراره. ولكن شيئاً
من ذلك لم يحدث، فلا رفُع الحصار
ولا بدأ الإعمار، واستجابت
المقاومة للضغوط العربية التي
مورست لوقف إطلاق الصواريخ، وتم
فرض التهدئة من جانب واحد. ومن
ثم فازت بها “إسرائيل” من دون
أن تدفع مقابلها شيئاً يذكر. كان
بوسع أي جهد عربي واع أن يستخدم
ورقة العدوان الوحشي الذي انفضح
أمره في العالم بأسره للانتقال
من الدفاع إلى الهجوم، ومن ثم
كسب عدة نقاط للموقف الفلسطيني،
وكانت هناك أكثر من فرصة لتحقيق
تلك المكاسب النسبية، خصوصاً أن
الإدانات الدولية كانت معلنة،
والأجواء الإعلامية كانت
مواتية، وبعض المحاكم
الأوروبية كانت مستعدة للنظر في
دعاوى جرائم الحرب التي تقدم ضد
القادة “الإسرائيليين”، وهو
ما تحسبت له “إسرائيل” حين
تكتمت على أسماء أولئك القادة
الذين ارتكبوا الجرائم،
وحذرتهم من السفر إلى الخارج. لم يحدث
شيء من ذلك أيضاً، حتى تقصي
حقائق ما جرى أثناء العدوان لم
يتم. واستطاعت “إسرائيل” أن
تشغل الدول الغربية والعربية
المعنية آنذاك بملف الأنفاق
وتهريب السلاح إلى غزة، حتى
أصبحت تلك هي المشكلة التي
استدعت عقد اتفاق خاص مع
الولايات المتحدة واستصدار
قرار من مجلس الأمن. ومورس العبط
والاستعباط في هذه المسألة، لأن
أحداً لم يقل إن الاحتلال هو
المشكلة الحقيقية، التي فرضت
الأنفاق وتهريب السلاح. (2) بعد
العدوان على غزة، حدث تطوران
مهمان، أحدهما
أن إدارة أمريكية جديدة جاءت
إلى البيت الأبيض وتبنت خطاباً
تصالحياً حاول أن يمتص أسباب
الغضب والكراهية والسقوط
الأخلاقي الذي لاحق سمعة
الولايات المتحدة خصوصاً في
العالمين العربي والإسلامي. التطور
الثاني أن حكومة أكثر تطرفاً
وشراسة تولت السلطة في “إسرائيل”.
وكان وجود بنيامين نتنياهو على
رأس الحكومة وتعيين افيغدور
ليبرمان نائباً له ووزيراً
للخارجية، كافيين للتدليل على
أننا بصدد حكومة جاءت للتصعيد
واللا حل. الحكومة
“الإسرائيلية” الجديدة جاءت
متبنية مواقف وأطروحات أكثر
فجاجة من مواقف حكومة أولمرت
التي سبقتها. وهي لم تسبب حرجاً
للطرف الفلسطيني المفاوض ولدول
“الاعتدال” فحسب، التي راهنت
على التسوية السلمية وتعلقت
بالمبادرة العربية، وإنما سببت
حرجاً أيضاً للولايات المتحدة
ذاتها، التي رعت مؤتمر أنابوليس
وتبنت حل الدولتين الذي كان “الجزرة”
التي لوحت بها إدارة بوش للعرب. في
الفترة التي تولى فيها نتنياهو
رئاسة الحكومة للمرة الأولى (ما
بين عامي 1996 - و1999) تحدث عن ثلاث
لاءات: لا انسحاب من الجولان- لا
حديث عن القدس- لا محادثات في ظل
أي شروط مسبقة. وحين تولى السلطة
هذه المرة فإنه أضاف “لا”
رابعة رفض فيها حل الدولتين.
وأبدى استعداداً “للتنازل”
النسبي حين اشترط موافقة
الفلسطينيين على الاعتراف ب “إسرائيل”
دولة يهودية (وهو ما يعني طرد
فلسطينيي عام 48) إذا ما أرادوا
فتح ملف الدولة الفلسطينية،
وإلا فليس أمامهم سوى السلام
الاقتصادي مع “إسرائيل”،
علماً بأن إحداث طفرة في
الاستيطان يشكل نصاً صريحاً في
برنامج حكومته. أما
ليبرمان فهو الذي دعا إلى تدمير
السد العالي إذا ما نشبت حرب بين
مصر و”إسرائيل”. وأهان الرئيس
حسني مبارك في جلسة علنية
للكنيست. وتحدث بعد تسلمه
الوزارة عن تقليص عدد الجيش
المصري. كما دعا إلى طرد
فلسطينيي 48 وإلقاء المعتقلين
الفلسطينيين (11 ألفاً) في البحر
الميت للخلاص منهم بإغراقهم فيه.
وهو من الرافضين لفكرة الدولة
الفلسطينية. وفي حديث أدلى به
إلى صحيفة “جيروزاليم بوست”
(28/4) قال إن القضية الفلسطينية
يمكن أن تنتظر، مشيراً إلى أن
الصراع في ايرلندا الشمالية
استمر 800 سنة قبل أن يحل! (3) هذه
الخلفيات بدت كفيلة بأن تضع “إسرائيل”
في موقف سياسي دفاعي، كان يمكن
استثماره لو أن في العالم
العربي من يملك الإرادة والعزم
ويجيد الجمع والطرح، من ثم يدرك
ما ينبغي عمله. ولكن الذي حدث أن
“إسرائيل” قلبت الطاولة
وتحولت من الدفاع إلى الهجوم
واستخدمت تحالفاتها العربية في
ذلك. وكانت الورقة الإيرانية هي
سبيلها لإحداث الانقلاب في
المشهد. ذلك أن
إيران الثورة الإسلامية خرجت من
رحم العداء للشاه وللولايات
المتحدة و”إسرائيل”. وإيران
النووية - لمجرد أنها تملك
المعرفة حتى إذا كانت للأغراض
السلمية- تعني تحدياً إضافياً ل
“إسرائيل” ينازعها في التفرد
بصدارة القوة في منطقة الشرق
الأوسط. وهي من هذه الزاوية
يفترض أن تكون إضافة مرحباً بها
للإرادة العربية الساعية إلى
إنهاء الاحتلال واستعادة
الحقوق المسلوبة. أما إيران
الداعمة للقوى التي انحازت إلى
المقاومة الفلسطينية، فإنها
تعني إيغالاً في التحدي ورفعاً
لسقفه، الأمر الذي اعتبرته “إسرائيل”
تهديداً لنفوذها في المنطقة
ولكل مشروعها. وهي التي تصورت أن
الساحة قد خلت لها، ولم يعد هناك
من ينازعها نفوذها أو يتحداها
منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد
في عام 1979 وأوسلو مع قيادة منظمة
التحرير الفلسطينية عام 1993.
وحين اختبر التحدي أثناء
المواجهة التي تمت في عام 2006 بين
القوات “الإسرائيلية” وبين
عناصر حزب الله، ولقيت فيها تلك
القوات أول هزيمة عربية في
تاريخ الدولة العبرية، فإن هذه
التجربة الفضيحة غدت مفصلاً
مهماً في علاقات العداء بين
الطرفين. ذلك ان “إسرائيل”
اعتبرت أن الدور الإيراني بات
يشكل خطراً وجودياً لمشروعها،
وكان طبيعياً أن يضاعف من قلقها
مدى وحجم هذا الدور إذا ما تحولت
إيران إلى قوة نووية، الأمر
الذي يفسر لنا لماذا اعتبرت أن
إيران تمثل الخطر الاستراتيجي
الأول الذي يهددها؟ ولماذا
استنفر اللوبي الصهيوني في
الولايات المتحدة والمحافظون
الجدد في البيت الأبيض للتضامن
مع تل أبيب في الاحتشاد ضد إيران
إلى حد الدخول في تفاصيل توجيه
ضربة عسكرية تقوّض نظامها؟ وظل
السؤال الذي يشغل هذه الأطراف
وهو توقيت تلك الضربة وتهيئة
الجو المناسب سياسياً
وإقليمياً لتوجيهها؟ إذا جاز
لنا أن نلخص فإننا نفهم أن تعتبر
“إسرائيل” إيران خطراً يهدد
استراتيجيتها، ونفهم أيضاً أن
تتضامن معها الولايات المتحدة
الخاضعة لنفوذ اللوبي الصهيوني
والمحافظين الجدد، في الوقت
ذاته فإنه التناقض الرئيسي بين
“إسرائيل” وإيران يفترض أن
يكون في صالح الموقف العربي
الذي يعتبر أنه في تناقض رئيسي
مع “إسرائيل”. وهي النتيجة
المنطقية التي تعبّر عنها
المقولة الشهيرة “عدو عدوي
صديقي”. والصداقة لا تلغي
الاختلاف، ولكنها في هذه الحالة
تقوم على معيار رشيد يفرق بين
التناقض الرئيسي والتناقض
الثانوي، أو بين ما هو أصلي
وفرعي، ذلك أننا نفهم في فقه
الاختلاف ومذاهبه أن الاتفاق في
الأصول حد كاف، ولا غضاضة بعد
ذلك في أي اختلاف في الفروع. وهو
الحاصل في الدين فما بالك به في
السياسة. (4) لا بد
أن نعطل العقل ونلغي المنطق
لنستوعب الذي جرى في الآونة
الأخيرة. إذ في حين استمرت “إسرائيل”
في استعلائها وحصارها
للفلسطينيين وتهويدها للقدس
وتوسعاتها الاستيطانية ورفضها
للمبادرة العربية، حدث انقلاب
في البوصلة العربية بحيث توارى
الخطر “الإسرائيلي” المدجج
بمائتي رأس نووي، وظهر في
الفضاء العربي عنوان “الخطر
الإيراني” والمخاوف من تطلعاته
النووية المستقبلية. لم يحدث
ذلك فجأة بطبيعة الحال، ولكنه
بدأ بالتصعيد في مسألة الجزر
الثلاث، وبإثارة موضوع التشييع
في البلاد العربية، وتذرع
بالتمدد الإيراني في العراق،
الأمر الذي استصحب حديثاً
مبكراً عن الهلال الشيعي، ثم
امتد إلى التنديد بحزب الله في
لبنان ومحاولة تأجيج الفتنة
الطائفية هناك. وانتهى الأمر
بإثارة مسألة خلية حزب الله،
وقدمت إلى الرأي العام المصري
والعربي بحسبانها تهديداً
للأمن القومي المصري، مرشحاً
للتكرار في أقطار عربية أخرى.
وجاءت هذه الإشارات التي
استقبلت بفرح غامر في “إسرائيل”
دالة على أن التناقضات الثانوية
هيمنت وتحولت إلى رئيسية، الأمر
الذي شجع شمعون بيريز على أن
يسوق المشهد في واشنطن ويتحدث
عن إيران باعتبارها خطراً
مشتركاً يهدد العرب “وإسرائيل”
معاً. لا
يستطيع المرء أن يخفي شعوره
بالخزي والعار وهو يقول إن ما
قاله بيريز لم يكن ادعاء “إسرائيلياً”
صرفاً، ولكنه كان يستند أيضاً
إلى عدد من الشهادات المزورة
التي ظهرت في بعض وسائل الإعلام
العربية، حيث لا يستطيع أي
متابع أن ينكر أن هناك تعبئة
واسعة النطاق للاستنفار
والتحريض ضد ما يسمى الخطر
الإيراني. ولا بد أن يثير
انتباهنا في هذا السياق أن
ندوتين عقدتا في الأسبوع الماضي
أسهمتا بصورة أو أخرى في دق
أجراس التخويف من ذلك “الخطر”. ليست
هذه هي المفاجأة الوحيدة، لأن
المفاجأة الأكثر إدهاشاً ان
الإدارة الأمريكية الجديدة
دخلت مؤخراً في حوار مع إيران في
إطار مسعاها التصالحي
والتفاوضي لتحقيق مصالحها
بالطرق الدبلوماسية. وهو ما بدا
أنه أثار حفيظة بعض العواصم
العربية التي ذهبت بعيداً في
التصعيد والاشتباك مع إيران،
حتى اعتبرتها “الشيطان الأكبر”
الجديد، الأمر الذي دفع واشنطن
إلى إيفاد وزير دفاعها روبرت
جيتس إلى القاهرة والرياض
لتهدئة خواطر المسؤولين فيهما،
وإقناعهم بأن الانفتاح
الأمريكي على طهران لن يكون على
حسابهم. لقد
اعتبرت إيران يوماً ما أن
الولايات المتحدة هي الشيطان
الأكبر، ولكن هذا الشيطان غيّر
من سياسته بعد ثلاثين عاماً،
ووجد أن من مصلحته أن ينفتح على
إيران- وفي تلك اللحظة كان بعض
العرب قد حوّلوا إيران إلى
شيطان أكبر ودخلوا في معركة
سياسية مفتوحة معها، من دون أن
يكون هناك أفق واضح لأي مصلحة
لهم في ذلك، ومن دون أن يدركوا
أن “إسرائيل” المتربصة هي
الفائز الأوحد في تلك المعركة -
أخشى ألا يفي مصطلح “الجاهلية
السياسية” بحق وصف هذا المشهد. ــــــــــ المصدر
: صحيفة الخليج الإماراتية
12/5/2009 ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |