ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
عن
مصر المكان والمكانة فهمى
هويدى حين
يختار الرئيس باراك اوباما
القاهرة لكي يوجه منها رسالة
الى العالم العربي والاسلامي،
فان احد الاسئلة التي ينبغي ان
نفكر في الاجابة عليها هو ما اذا
كان قد قصد المكان ام المكانة؟ (1) ما
دعاني الى طرح السؤال انه منذ
اعلن النبأ في واشنطن فان صداه
في مصر كان مبالغاً فيه، حتى ذهب
سيل التحليلات التي نشرت في
الصحف القومية بوجه اخص الى ان
القرار بمنزلة شهادة جدارة
للوضع القائم في مصر ووسام رصع
جبينها . ولم يفت الذين كتبوا
ذلك الكلام ان يشددوا على ان
اختيار الرئيس الامريكي يرد على
المتشككين ويقطع السنة
المتقولين الذين يتحدثون عن
تراجع مكانة مصر ودورها في
محيطها العربي والإسلامى . ولم
تكن تلك هي المبالغة الوحيدة ،
لانني احد الذين يزعمون ان
الآمال المعلقة على الادارة
الامريكية الجديدة لا تخلو
بدورها من مبالغة . وقد
قصدت استخدام مصطلح الادارة
الاميركية ، لان السياسة هناك
ليست محكومة بنوايا الرئيس
ورغباته الشخصية ، ولكنها تمر
بقنوات مؤسسية كثيرة تؤثر في
قرار الرئيس وموقفه ، بحيث قد
تجعل من السياسة شيئا آخر
مختلفا عما يردده السياسي
الجالس على مقعد الرئيس . وهكذا
شق في المسالة تصدى له عدد غير
قليل من المعلقين الذين دعوا
الى عدم التسرع والاستباق في
الحكم على سياسة الرجل ، ومن ثم
التعامل مع مقولاته بخليط من
الترقب والحذر ، انتظارا
للمرحلة التي تترجم فيها رسائله
المطمئنة والمريحة الى افعال
ومواقف تتبناها ادارته وحكومته
. وحين يتعلق الامر بالشرق
الاوسط وبالعلاقة مع الاسلام
والمسلمين بوجه اخص ، فان الحذر
يصبح اوجب ، لأن لأي رئيس امريكي
كوابح وحدودا في التعامل معها
لا يستطيع ان يتجاوزها ، حتى لو
اراد لست في
صدد تقييم موقف الادارة
الامريكية الجديدة ، ولكني معني
بمحاولة الاجابة على السؤال
الذي طرحته في البداية ،
المتعلق بالمكان والمكانة في
مصر الراهنة . وهوما يدعوني الى
استطراد بسيط يسلط الضوء على
خلفيات زيارة الـ14 ساعة التي
سيقوم بها الرئيس اوباما الى
مصر في الرابع من شهر
يونيوالقادم - ذلك ان الباحث لا
تفوته ملاحظة ان الرئيس
الامريكي كان قد خاطب العالم
العربي والاسلامي بشكل مباشر
مرتين على الاقل خلال المائة
يوم الاولى من ولايته. احداها
اثناء زيارته لتركيا في الخامس
من شهر ابريل الماضي والثانية
جاءت في ثنايا الرسالة التي
وجهها الى الشعب الايراني
بمناسبة عيد النوروز في شهر
مارس . وقبل ذلك وجه اشارة
ايجابية في اكثر من خطاب له ذكر
فيها ان الولايات المتحدة ليست
في حرب اواشتباك مع الاسلام، بل
انه لم يستخدم مصطلح الحرب ضد
الارهاب ، الذي لم يكن يخلومنه
بيان سياسي صادر عن الادارة
السابقة اذا صح
انه سيوجه من القاهرة في زيارته
المرتقبة رسالة الى العالم
العربي والاسلامي للمرة
الثالثة ، فان ذلك يحتاج الى
تفسير . وقد القيت سؤالا في هذه
النقطة على الصحفي الامريكي
البارز سيمور هيرش ، محرر مجلة »نيويوركر«
ذائع الصيت، حين التقيت به في
دبي قبل ايام. في رده
قال انه ليست لديه اجابة محددة ،
لكنه لا يستبعد احد احتمالين، احدهما
ان يكون لدى الرئيس اوباما ما
يقوله بخصوص الصراع العربي
الاسرائيلي ، خصوصا ان زيارته
للقاهرة تاتي بعد لقائه في
واشنطن مع ممثلين للاطراف
الثلاثة : ممثلي "المعتدلين"
العرب والاسرائيليين
والفلسطينيين الاحتمال
الثاني ان يكون اوباما قد ادخل
تعديلا على برنامج زيارته
الخارجية بناء على نصيحة بعض
الجهات المعنية في واشنطن ، لكي
يوجه لفتة خاصة الى مصر، التي
ترعى حوار الفصائل الفلسطينية
في حين تحتفظ بعلاقات ايجابية
مع اسرائيل ، خصوصا ان القاهرة
كانت قد توقعت منذ البداية ان
تكون هي وليست انقرة المنصة
التي يوجه منها الرئيس الامريكي
الجديد اول خطاباته الى العالم
الاسلامي. (2) موضوع
مكانة مصر اثير في الاجتماع
الاخير لمنتدى الاعلام العربي
الذي عقد في دبي قبل عشرة ايام .
اذ خصصت جلسة للفضائيات المصرية
طرح فيها السؤال التالي : هل
يمكن ان يستعيد الاعلام المصري
مجده؟ - دعك من ان الاعلام اختزل
في الفضائيات دون غيرها، الامر
الذي استدعى استضافة اربعة من
مسؤولي ونجوم القنوات المصرية ،
لأن السؤال تمت صياغته بصورة
افترضت ان الاعلام المصري لم
يعد مؤثرا في الفضاء العربي .
وهذا الافتراض لم يختلف عليه
احد سواء من المتحدثين على
المنصة ، اومن نخبة المثقفين
المشاركين في الجلسة . المتحدثون
اثاروا ثلاث نقاط . الاولى ان
لديهم هامشا واسعا في الحركة ،
والثانية انهم يدركون انهم
يؤدون مهمتهم في حدود الظروف
المتاحة ، مدركين انهم يعيشون
في بلد له اوضاعه الخاصة التي
تختلف عن النماذج السائدة في
اوروبا مثلا . والثالثة انهم
يدركون ان هناك طفرة اعلامية في
العالم العربي ، وان مسالة
الريادة المصرية في الاعلام لم
تستمر ، بعدما طور الاعلام
العربي من امكانياته واصبح
الجميع يتنافسون على جذب
المشاهد العربي . كلام
ممثلي القنوات الفضائية
المصرية كان صادقا ومعقولا . اما
صدى الكلام لدى جمهور الحاضرين
فقد كان مثيرا للانتباه . ذلك ان
الاغلبية الساحقة من المتحدثين
ركزوا على ان الفضائيات المصرية
تعاني من الانكفاء والتركيز على
الداخل. حتى قال احد المعلقين
انها ليست فضائيات بالمعنى
المعروف ، ولكنها قنوات محلية
عاجزة عن مخاطبة المشاهد العربي
. آخرون
تحدثوا عن انخفاض سقف الحرية في
القنوات المصرية ، الامر الذي
جعلها متخلفة عن قنوات عربية
اخرى منافسة . وخلال المناقشة
سمعت اثنين من المثقفين العرب
يقول احدهما للآخر ان مصر حين
تقود الدعوة الى مراقبة مكاتب
الفضائيات العربية وتستصدر
لذلك قرارا من وزراء الاعلام
العرب ، فان ذلك يغلق الباب امام
احتمال استعادة الاعلام المصري
لمجده . فرد الآخر قائلا انه اذا
كانت وزارة الاعلام المصرية
تتبنى هذا الموقف ازاء القنوات
العربية ، فلا بد ان تكون قبضتها
الرقابية على القنوات المحلية
اشد واكثر صرامة . في هذه
الاثناء وقف احد المثقفين قائلا
انه ليس من العدل ان يوجه كل
اللوم والعتاب للقنوات
الفضائية ، لان الاعلام في مصر
اذا كان منكفئا اومقيد الحركة ،
فان ذلك يعد مرآة للسياسة ،
ولذلك فليس من الانصاف ان يوجه
الاتهام للاعلام المصري بالضعف
، لان الضعف الحقيقي يكمن في
تراجع السياسة المسيطرة (٣) هذا
التشخيص له شواهد أخرى تؤيده،
لأن غياب التأثير المصري عن
ساحة الإعلام له نظيره في عالم
السياسة. ذلك أن الذي يتاح لهم
أن يترددوا في العواصم العربية
في المشرق والمغرب -و أنا أحدهم-
يواجهون حيثما ذهبوا بالسؤال:
أين مصر ومتى تعود؟ وكانت
السودان أحدث محطة سمعت فيها
السؤال، حتى قال لي أحد مثقفيهم
إن الرؤساء والملوك العرب حين
وقعوا في أنشاص عام
١٩٤٦ بيانهم الخاص
بشأن فلسطين، فإن الملك فاروق
وُصِف في البيان بأنه "صاحب
بلاد النوبة والسودان وكردفان
ودارفور". وعلق على ذلك قائلا
إن مصر الراهنة نفضت يدها من كل
ذلك وأدارت ظهرها لحدودها
الجنوبية تماما، حتى أصبح بعض
الناس فيها لا يعرفون الفرق بين
دارفور وكارفور (المتجر الكبير).
وقال لي
مثقف تونسي ذات مرة إن مصر في
السابق كانت ترسل إلى تونس نخبة
من أساتذة الجامعات المرموقين،
ولكنها أصبحت الآن توفد إليها
ضباط المباحث ورجال أمن الدولة.
وفي لبنان -كما في أوساط الفصائل
الفلسطينية- يتحدثون عن غياب
مصر الشقيقة الكبرى، وظهور وجه
آخر لمصر لم تعد فيه فوق
الصراعات والتحالفات، ولكنها
أصبحت طرفا في تلك الصراعات
والتحالفات، الأمر الذي نال من
هيبتها ومرجعيتها. واستوقفني
في حوار مع بعض ممثلي الفصائل
قول أحدهم إنهم يجيئون إلى
القاهرة امتثالا "لقهر
الجغرافيا". وكان المصطلح
جديدا على مسامعي، حيث أدركت أن
المقصود به هو الضرورة
الجغرافية الملحة التي جعلت غزة
ملاصقة للحدود المصرية، ومن ثم
أصبحت المنفذ الوحيد
للفلسطينيين إلى العالم
الخارجي، الذي لا يمر بإسرائيل. الشواهد
كثيرة على تغير المكانة
واختلافها في العقود الثلاثة
الأخيرة، عما كانت عليه قبل
ذلك، حتى شاع في الكتابات
السياسية وصف تلك العقود بأنها
مرحلة "الجزر"، في مقابل
سابقاتها التي اعتبرت سنوات
المد القومي. لا
غرابة والأمر كذلك، أن يتحدث
الباحثون في الشؤون
الإستراتيجية والسياسية عن
ثلاثة مشروعات تتحرك في المنطقة
هي: التركي والإيراني
والإسرائيلي. ولا يكاد المرء
يجد إشارة إلى تحرك للدور
المصري إلا في حدود ما تنشره
صحفنا القومية لأسباب مفهومة.
وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة
فإننا لا نكاد نجد دورا لمصر
الراهنة إلا في حدود رعاية
حوارات الساحة الفلسطينية التي
فرضتها الضرورة الجغرافية. ولا
يفوتنا هنا أن نلاحظ أن بلدا مثل
قطر (لا وجه للمقارنة مع تركيا
بالمناسبة) أصبح يتحرك على
مساحة في العالم العربي أوسع
بكثير، حتى أثبت وجودا في لبنان
وفلسطين واليمن وفي العلاقات
بين تشاد والسودان. (٤) تسلط
كتابات الدكتور جمال حمدان عالم
الجغرافيا السياسية الأشهر
أضواء مهمة على الدور المصري في
صعوده وتراجعه. ويظل كتابه عن
عبقرية المكان في "شخصية مصر"
مرجعا مهما في ذلك، رغم صدور
أجزائه الثلاثة قبل نحو ٣٠
عاما. وقد وقعت في ثنايا الجزء
الثاني من مؤلفه على بعض
الخلاصات التي تتصل بجوهر
الموضوع الذي نحن بصدده. ولم
أستطع أن أقاوم الرغبة في
التذكير بها في ختام المقال. من
ذلك قوله ما يلي: *
كقاعدة عامة أساسية، تتناسب قوة
مصر السياسية تناسبا عكسيا مع
درجة عزلتها وانغلاقها داخل
حدودها وتقلص ظلها الخارجي،
وطرديا مع مدى انطلاقها خارج
حدودها. فكلما كانت مصر ضعيفة
عاجزة، تضاءل حجمها السياسي وخف
وزنها، وانطوت وتقوقعت داخل
حدودها وتقلص ظلها الخارجي.
وعلى العكس، كلما كانت قوية
فوارة وزاد ثقلها، فاضت قدرتها
خارج حدودها وامتد نفوذها وتمدد
وجودها عبرها (ص ٧٢٣). * كما
كانت عزلة مصر السياسية تعني
عزلتها عن العرب بالتحديد، فإن
تلك العزلة كانت دائما نتيجة
لارتباطها بالغرب بالتحديد.
فسواء في ظل خضوعها للاستعمار
المباشر كما في مصر الملكية، أو
في ظل تعاونها معه كما في
السبعينيات مؤخرا، فإن عزلة مصر
العربية كانت من نتاج ارتباطها
بالغرب عموما واستعماره أو
إمبرياليته خصوصا. وعلى العكس
كان الاستقلال السياسي الحقيقي
يرادف كسر العزلة السياسية وفك
العزلة عن العرب بالدقة (ص
٧٢٤). * أثبتت
تجربة القرن الأخير على الأقل
أن الاستعمار الغربي أو
الإمبريالية العالمية لا مانع
لديها بالضرورة من الاعتراف
بزعامة مصر الإقليمية أو
العربية في حد ذاتها، إذا ما هي
اعترفت بالتبعية لها أو
بالتحالف معها. فما دامت زعامة
مصر الإقليمية تضمن لها أن
تنقاد المنطقة برمتها خلفها
والتبعية لها، فلا بأس في
الاعتراف لها بتلك الزعامة بل
وتثبيتها فيها (ص ٧٢٥). إنك إذا
طالعت هذه الخلاصات مرة ثانية
فستجد فيها إجابة على كثير من
الأسئلة المثارة حول مكان مصر
ومكانتها. كما ستجد فيها تفسيرا
لعوامل المد والجزر في الحالة
المصرية، قد تريحك من ناحية
وتعذبك من ناحية أخرى. ــــــــــ صحيفة
الوطن الكويتيه 26/5/2009 ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |