ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
أزمة
إيران من الأرصفة إلى الأروقة فهمي
هويدي صحيح أن
الشارع هدأ فى طهران، لكن
تداعيات الأزمة انتقلت من
الأرصفة إلى الأروقة، مخلفة فى
الفضاء الإيرانى، وفى المنطقة
بأسرها، أسئلة كثيرة تبحث عن
تفسير لما جرى وتقدير لما سيجرى.
١ هذه
الأيام لن تعدم أصواتا تسمع فى
شمال طهران عندما يحل الظلام
تطلق الهتاف «الله أكبر»، وقد
يتجاوب معها آخرون مرددين
الهتاف ذاته، وربما أضاف البعض
كلمات أخرى تقول (مرك بر خامنئى،
أى الموت لخامنئى»، وهو ما
يتلقفه المراسلون الأجانب فى
تقارير قرأتها، لكى يدللوا به
على أن جذوة التمرد على النظام
والانقلاب عليه لم تهدأ، والخبر
صحيح لا ريب، لكن تأويله فيه من
التمنى بأكثر مما فيه من قراءة
الواقع، لأن شمال طهران هو عالم
الأثرياء والقادرين الذين ظل
أغلبهم معارضين للثورة ونافرين
منها ومتصيدين لها منذ قامت قبل
ثلاثين عاما، مثل هذه الهتافات
لا تسمع فى الأحياء الشعبية فى
جنوب طهران، ولا أثر لها فى
طهران الكبرى التى تضم عشر مدن
ونواحٍ (طهران إسلام شهر ــ
دماوند ــ رى ــ فيروزكوه ــ
شهريار ــ كرج ــ رباط كريم.. إلخ).
لا
أستبعد أن تكون القراءة
المغلوطة لما شهدته طهران قد
أسهمت فى إشعال نار الغضب الذى
رأيناه، لأن النخبة تعارفت كما
ذكرت قبلا على اعتبار مدينة
طهران مرآة المزاج الإيرانى
وبوصلته، الفائز فيها يحسم
الأمر ويصبح فائزا فى كل إيران،
وهذا ما حدث فى الانتخابات
الأخيرة، فقد فاز مير حسين
موسوى على أحمدى نجاد بثلثى
الأصوات فى المدينة، لكن الموقف
تغير حين تم فرز أصوات طهران
الكبرى بمدنها العشر، إذ تفوق
الثانى على الأول بمائتى ألف
صوت، ولهذا فحين يقول أنصار
موسوى إنه فاز بثلثى الأصوات
فإنهم يسجلون حقيقة وقعت
بالفعل، لكنهم حين يعممون
النسبة على بقية مدن الإقليم،
أو على بقية الأقاليم الإيرانية
الثلاثين فإن ذلك يصبح بداية
الخطأ فى الحساب، الأمر الذى
يضع يدنا على شرارات الغضب
الأولى. لقد كان
سكان الأحياء الشعبية والمناطق
النائية هم الكتلة التصويتية
التى رجحت كفة أحمدى نجاد، وهو
ما يدفعنى إلى عدم التسليم
بدعوى تزوير نتائج الانتخابات،
لأن فارق الأصوات بين أحمدى
نجاد وموسوى 12 مليون صوت لصالح
الأول، وتزوير تلك الأصوات فى
أكثر من 46 ألف لجنة انتخابية،
وفى ظل وجود مندوبين للمرشحين
أمر ليس سهلا، وهو يحتاج إلى
قرار مركزى من المرشد السيد على
خامنئى، وتلك خطوة إذا تمت
فإنها تعد مغامرة كبرى من جانبه
تهدد نزاهته وعدالته، فضلا عن
أن الرجل لم يلجأ إلى هذا
الأسلوب طوال العشرين سنة
الماضية ــ هذا لا ينفى
بالضرورة احتمال اللعب فى الفرز
فى بعض الدوائر بسبب ضغوط محلية
أيا كان مصدرها (كما حدث فى حالة
بوش وآل جور مثلا)، لكن ذلك
اللعب يتعذر له أن يحدث الفرق
الكبير بين الرجلين، لكن يبدو
أن التعبئة الإعلامية الهائلة
التى أثارت مسألة التزوير،
والتى أسهمت فيها أجهزة الإعلام
الخارجية بدور كبير ومثير، نجحت
فى أن تحول الادعاء إلى مسألة
مسلم بها ومفروغ منها. 2 من
هؤلاء الذين خرجوا فى
المظاهرات؟ لا مفر من الاعتراف
بأن هذه المرة الأولى منذ قيام
الثورة التى تنطلق فيها مظاهرات
بهذا الحجم معبرة عن الغضب
والاحتجاج على الحكومة
والمرشد، صحيح أن جامعة طهران
شهدت مظاهرات قوية فى عام 99،
أثناء رئاسة السيد محمد خاتمى،
هتف فيها الطلاب ضد المرشد وهم
يطالبون بمزيد من الحريات، ولكن
تلك المظاهرات اقتصرت على
الطلاب وتم احتواؤها حينذاك. فيما
يتعلق بما جرى هذه المرة، فإنه
يتعذر تصنيف جميع المتظاهرين
تحت عنوان واحد، وإن ظل «الغضب»
يمثل قاسما مشتركا بينهم، سواء
كان غضبا للبعض من النتيجة التى
أسفرت عن خسارة موسوى، أو غضبا
من الضغوط السياسية التى تضيق
بها صدور الشباب الذين يتطلعون
إلى توسيع هامش الحريات العامة،
علما بأن نسبة غير قليلة من
أولئك الشبان ولدوا بعد الثورة
ولم يعيشوا عهد الشاه. وقيل لى
إن منهم من لم يقتنع بأسباب
اشتباك بلادهم مع السياسة
الأمريكية. ثمة آخرون غاضبون من
وطأة الغلاء وقسوة أعباء
المعيشة أو البطالة. وهناك
مجموعات أخرى ليبرالية تعارض
فكرة ولاية الفقيه وتسعى إلى
إعادة النظر فى الأسس الدستورية
للجمهورية، وفيما علمت فقد تبين
فى وقت لاحق أن عناصر سنية
وعربية وكردية قومية نشطة
اشتركت فى المظاهرات، بعدما
جذبتها وعود السيد موسوى التى
ركزت على إعطائهم مزيدا من
الحقوق، والذى لا شك فيه أن ضغوط
الخارج كان لها دورها فى تأجيج
الغضب وإشاعته. والخارج الذى
أعنيه يتراوح بين المعارضين
الإيرانيين وأنصار النظام
السابق، الذين سلط عليهم
الإعلام الغربى أضواءه القوية،
وبين أوساط المخابرات الغربية
التى ألقت بثقل كبير فى عملية
التحريض ومحاولة تفجير الموقف
فى الداخل. لذلك فإنها لعبت دورا
نشطا فى تصعيد وتشجيع الحركة
الاحتجاجية، سواء بواسطة دس
العملاء أو من خلال حملة
التعبئة والتشبيك واسعة النطاق
التى استخدمت أحدث تقنيات
الاتصال «تويتر ــ فيس بوك ــ
يوتيوب». وهى الحملة التى توازت
مع إطلاق سيل البرامج المقدمة
باللغة الفارسية التى شرعت
الإذاعات والفضائيات الغربية
فى تقديمها فى اليوم التالى
مباشرة لإجراء الانتخابات وقبل
إعلان نتائج الفرز رسميا. هذه
الخلفية تسوغ لى أن أقول إن
نتائج الانتخابات لم تكن السبب
الوحيد لخروج المظاهرات، وإنما
كانت المناسبة التى استدعت هذه
الفئات جميعها إلى الشارع ــ
ولذلك يتعذر اعتبار تلك
المظاهرات قرينة لا على اتساع
نطاق المقتنعين بتزوير
الانتخابات، كما يتعذر
اعتبارها معيارا لقياس حجم
المؤيدين لمير حسين موسوى. 3 لأن
المرشحين الثلاثة الذين نافسوا
أحمدى نجاد «موسوى ــ كروبى ــ
رضائى» من أبناء الثورة
الشرعيين فقد اطلقت شائعة فى قم
اتهمت أحمدى نجاد الذى هو من جيل
لاحق بأنه من جماعة «المهدويين»
الذين يسعون إلى تخريب الثورة،
لعدم اقتناعهم بولاية الفقيه،
وتمسكهم بانتظار الإمام المهدى
الغائب. وهى جماعة نشطت بعد قيام
الثورة، ولكنها لوحقت حتى اختفت
ولم يعد لها دور يذكر منذ ربع
قرن. الذين أشاعوا الحكاية
أرادوا فيما يبدو أن يؤلبوا
الحوزة العلمية على أحمدى نجاد،
ويدفعوا أركانها إلى الانقلاب
عليه. وهى الحيلة التى نجحت فى
خمسينيات القرن الماضى عقب
انقلاب رئيس الوزراء محمد مصدق
على الشاه، حين اتهمه اثنان من
الصحفيين بأنه من أعضاء الحزب
الشيوعى. وأدى الترويج للتهمة
إلى انقلاب فقهاء قم وعلى رأسهم
آية الله كاشانى المرجع الكبير
على الرجل، وسحب تأييدهم له،
مما ترتب عليه سقوطه وعودة
الشاه من منفاه خارج البلاد. يقول
البعض فى طهران إن انتشار
الشائعة كان أحد الأسباب التى
شجعت السيد على خامنئى على أن
يلقى خطبة الجمعة يوم 19/6 التى
أعلن فيها تأييده لأحمدى نجاد،
وهو ما اعتبر تكذيبا لدعوى
انتمائه إلى «المهدويين»، حيث
لم يكن معقولا أن يؤيد مرشد
الثورة عضوا فى جماعة تسعى إلى
تخريبها. ليس
معروفا مصدر الشائعة، وإنما
دلالتها هى المهمة. ذلك أن
الأضواء سلطت منذ إعلان نتائج
الانتخابات على المتظاهرين فى
الشارع الإيرانى، لكن
التفاعلات الحاصلة فى دوائر
صناعة القرار، خصوصا المراجع
والفقهاء، لم تنل حظها من
الاهتمام، وقد بدأت تلك
التفاعلات تطفو على السطح حين
هدأت المظاهرات، وبدا واضحا أن
كل طرف لا يريد أن يتزحزح عن
موقفه (مجلس صيانة الدستور رفض
دعاوى التزوير وفكرة إعادة
الانتخابات وموسوى وكروبى
يتمسكان بطعنهما فى النتائج
ويطالبان بالإعادة)، وهو ما
استدعى تدخل طرف ثالث للبحث عن
مخرج من الأزمة. ضاعف من
أهمية تدخل الطرف الثالث أن
الانقسام وصل إلى صلب المؤسسة
الدينية، حيث أصبح بعض المراجع
يؤيدون مير موسوى، فى حين أيد
البعض الآخر أحمدى نجاد، الأمر
الذى يعنى أن الانقسام انتقل من
الشارع إلى النخبة، ومن المجتمع
إلى السلطة صاحبة القرار. وهذا
وضع لا سابقة له فى تاريخ الثورة
الإسلامية. من
البداية التزم بعض مراجع قم
الصمت إزاء ما جرى، وكان ذلك
موقفا غير مألوف، وحين سألت عن
السبب فى ذلك، قيل لى إن
الصامتين هم المعارضون لأحمدى
نجاد، ولكنهم فضلوا عدم الإعلان
عن مواقفهم، لأنهم لا يريدون أن
يظهروا فى العلن خلافهم مع
المرشد الداعم له. الوحيد الذى
جهر بموقفه كان آية الله منتظرى
المعروف بنقده المستمر للأوضاع
القائمة. أما الآخرون من أمثال
آيات الله نورى همدانى ويوسف
صانعى وموسوى اردبيلى وغيرهم
فلم يتكلموا بشىء، وحمل سكوتهم
على أنه من علامات عدم الرضا. المعلومات
المتوافرة تشير إلى أمرين، أولهما
أن العلماء والشخصيات من ذوى
العلاقة الحسنة بالطرفين
يواصلون السعى بين الجانبين
للتوصل إلى مخرج سياسى يهدئ من
الأوضاع ويحتوى الانقسام
الراهن. ويؤدى الشيخ هاشمى
رفسنجانى دورا محوريا فى هذه
الاتصالات، ذلك أنه محسوب حقا
على مجموعة مير موسوى، إلا أنه
على تفاهم جيد مع السيد خامنئى.
وفى هذا السياق يذكر أيضا أن
رئيس لجنة الأمن القومى بمجلس
الشورى، الدبلوماسى السابق
علاء البروجردى ببذل جهدا
موازيا فى الوساطة، أما
الأمر الثانى فهو أن الكلام كله
يدور فى حدود ضرورة الالتزام
بالقانون والعمل من خلال مؤسسات
الدولة فى أى محاولة لتجاوز
الأزمة، «رفسنجانى تدخل علنا
لأول مرة، وأصدر بيانا بهذا
المعنى يوم السبت الماضى (27/6)
باسم مجمع تشخيص المصلحة». ٤ لا أحد
يستطع أن ينكر أن ما حدث أثر على
صورة النظام فى الخارج، وربما
دفع الدول المشتبكة مع إيران
إلى المراهنة على أوضاع وقوى فى
الداخل يمكن استثمار موقفها فى
ممارسة الضغوط على السلطة.
بالمثل فإن أحدا لا ينكر أن
التعبئة واسعة النطاق التى حدثت
والإشارات التى أرسلت إلى
المتظاهرين موحية لهم بأن
الخارج يقف معهم ويؤازرهم، هذه
التعبئة سلحت العناصر المحركة
للمظاهرات بمزيد من الجرأة على
النظام وعلى الولى الفقيه. بذات
القدر فإن الشرخ الذى حدث فى صف
النخبة ــ والعلماء بوجه أخص ــ
أصبح يحتاج إلى حكمة شديدة ووقت
طويل لعلاجه وإعادة لحمته. على
صعيد آخر، فثمة أوضاع داخلية
عدة باتت بحاجة إلى إعادة نظر،
فقد أبرزت الأزمة الحاجة الملحة
إلى تقنين الأحزاب السياسية،
لأن الأوراق اختلطت وتداخلت
بحيث لم يعد يعرف من هم
الإصلاحيون ومن هم المحافظون،
علما بأن كل فريق يضم ما بين 10 و15
مجموعة، وكان واضحا أثناء
الانتخابات أن الناس يصوتون
لأشخاص وليس لأحزاب وبرامج
سياسة، موسوى ليس له حزب،
وكروبى استعان بجماعة رفسنجانى
«كوادر البناء» لكى يقوموا
بحملته، رغم أن له تجمعا صغيرا
باسم «اعتماد ملى» (إرادة الأمة)،
من ناحية أخرى فإن أسباب الغضب
الذى تستشعره بعض الفئات ــ
خصوصا قطاع الشباب ــ تحتاج إلى
علاج. أكرر
أننا نتحدث عن الشأن الداخلى
الإيرانى، فنفتح ملفات ونخوض فى
أمور لا نستطيع أن نتطرق إليها
فيما يخص أقطارا عربية أخرى،
ومنها ما لا يجرؤ مواطنو الدولة
أنفسهم على الحديث فيها. لكن
أهمية التجربة الإيرانية
ومواقفها الشجاعة فى مواجهة
الهيمنة الأمريكية والاحتلال
الإسرائيلى، جعلت الشأن
الإيرانى برمته شاغلا للجميع. استوقفنى
فى السياق الذى نحن بصدده مقال
كتبه باتريك سيل الكاتب
البريطانى المتخصص فى شئون
الشرق الأوسط، قال فيه إنه لا
يسع أحد الآن أن يصدق أن ذلك
المجتمع الناضج والحى والشفاف
الذى يناضل من أجل العدالة
والديمقراطية يرغب فى أن يسيطر
على الشرق الأوسط.. وعوضا عن أن
تكون إيران مصدر خوف، قد تصبح
مصدر وحى للشعوب فى الشرق
الأوسط التى تعيش معظمها فى ظل
أنظمة سياسية مستبدة ومتحجرة (الحياة
اللندنية ــ 264/6) ـ ـ ما
رأيكم دام فضلكم؟. ـــــــــــــ *المصدر
: صحيفة الشروق الجديد 30/6/2009 ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |