ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 01/06/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الفكر الإسلامي

{ نحو فهم صحيح للمقومات والخصائص }

بقلم : يسري عبد الغني عبد الله*

إشكالية يحلها إدراك المفهوم :-

" الفكر الإسلامي " هذا العنوان يبدو للنظرة المتسرعة كأنه يحمل في طياته لون من التناقض ، أو على الأقل عدم التوائم والتلاؤم بين الوصف والموصوف ، فالفكر ـ كما عرفه أهل المنطق ـ هو أمور معلومة نتوصل بها إلى مجهول ، وهو بهذا المفهوم عمل عقلي بحت ، أي أنه بشري ، بينما الإسلام وهو ما نسب إليه الوصف فقيل : " الإسلامي " هو دين سماوي يعتمد أساساً على الوحي ، أي أنه أمر إلهي ، ومن هنا نكون قد وصفنا الفكر وهو بشري بما هو إلهي ، أي وصفنا ما هو محدود بما هو مطلق ، ومن هنا قد يأتي التناقض أو عدم الانسجام .

ولكن هذه الإشكالية سرعان ما تنتهي وتنمحي إذا أدركنا أن المقصود بالفكر الإسلامي هو تلك الجهود التي بذلها علماء الإسلام ومفكروه في مختلف العصور من أجل شرح القضايا التي تعرض للمسلمين ، سواء أكانت قضايا نظرية تتصل بالعقيدة والتشريع والسلوك الحياتي والنفس الإنسانية ، أم كانت عملية تتصل بالعلوم التطبيقية وأمور العمران البشري ، أم كانت إبداعية تتصل بالفن الراقي وأنواعه .

وعليه : فإنه يمكن لنا أن نوجز ذلك فنقول : إن الفكر الإسلامي يتناول قضايا الحق والخير والجمال ، الحق يتمثل في العلوم النظرية ، والخير يتمثل في العلوم التطبيقية وعلوم العمران   البشري ، والجمال يتمثل في الفنون الجميلة الراقية بمختلف ألوانها .

ونعني بالفن هنا الفن الجاد الراقي الملتزم ، الذي يسمو بمشاعر وأحاسيس وأشواق الإنسان نحو الكمال ، ويربط بينه وبين مجال الجمال في هذا الكون الذي صنعه الله تعالى فأحسن صنعه ، وهذا الجمال نعمة كبرى امتن الله بها على عباده ، وقد عدد القرآن الكريم لنا نعم الله سبحانه التي لا تعد ولا تحصى ، سواء كانت في أنفسنا أو فيما حولنا ، وطلب المولى جل علاه منا أن ننظر إلى السماء فوقنا ونتأملها ، وكيف بناها جل شأنه وكيف زينها للناظرين ، وفي نفس الوقت الذي لم يحرم علينا زينته التي أخرجها لعباده ، فالإسلام دين حياة وجمال .

أما الفن الهابط ـ وهو لا يسمى فناً إلا على سبيل المجاز ـ وهو ذلك الفن الذي يهبط بقيمة الإنسان إلى الحضيض الأسفل ، ويثير غرائزه الدنيا ، ويدغدغ شهواته الحسية ، فالإسلام يحرمه ، كما يحرم كل الجرائم التي تؤذي الإنسان مادياً أو معنوياً .

الالتزام بالثوابت :

نعود لنقول : هذا الفكر الإسلامي بفروعه المختلفة يلتزم بالثوابت الإسلامية ، فلا يتعداها لأي سبب من الأسباب ، فضلاً عن أنه لا يعاديها مهما كانت الظروف والملابسات ، وهذه الثوابت نسميها (ما علم من الدين بالضرورة ) .

ومن هنا لا يمكننا أن نطلق عنوان " الفكر الإسلامي " على أي فكر يتنكر لهذه الثوابت المعلومة بالضرورة ، مهما ادعى صاحبه وادعى مروجوه أنه اجتهاد إسلامي ، فالمفكر المسلم هو من يلتزم بالأطر الإسلامية المتمثلة في القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة الصحيحة ، واجتهادات علماء القرون الأولى المعترف لهم بالثقة والأمانة والورع وصحة العلم والفكر .

أما أن يأتي إنسان لا صلة له بدراسة العلوم العربية والإسلامية من قريب أو بعيد (أي أنه لم يدرسها دراسة أكاديمية منتظمة) فيخرج علينا بأفكار هزيلة تثير البلبلة عند عامة الناس ، هذه الأفكار تنكر ما علم من الدين بالضرورة ، مدعياً أو مدعى له ، أنه مفكر إسلامي من أهل التجديد والتنوير والفتوى ، وهو أمر مرفوض شكلاً ومضموناً ، فالدين الإسلامي علم في المقام الأول ، وللعلم قواعد وأصول يجب أن تعرف وتتبع ، كما يجب أن نتعلمها جيداً ونتدرب عليها ، ومن يفعل غير ذلك فقد أخطأ في حق دينه ومعتقده ، وفي حق أمته ، بل في حق الناس جميعاً ، ويلحق بهؤلاء الذين ظهروا كبثور مؤلمة ومعدية في جسد الأمة الإسلامية .

لقد سبق للأمة الإسلامية أن عالجت أمثال هذه الظواهر المرضية بالاستئصال والبتر المعنويين ، وذلك بمقاطعة ثرثرة هؤلاء ، والحكم عليهم بالخروج من حظيرة الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل .

طريق واحد :

إن الفكر الإسلامي له طريق واحد لا عوج فيه ، هو ذلك الفكر الملتزم بالثوابت ، أي الذي لا يتنكر لأمور قد علمت من الدين بالضرورة ، وفي داخل هذا الإطار لا قيود ، ولا سدود ، ولا حدود لهذا الفكر ، ولا حجر على حرية الرأي والفكر ، والبحث العلمي المفيد للناس .

ونستطرد فنشير إلى ظاهرة أخرى ألا وهي هذه التسميات والتقسيمات العجيبة الغريبة التي يروج لها في أيامنا هذه ، فنسمع عن الإسلام اليميني أو الراديكالي ، واليسار الإسلامي أو الإسلام المستنير أو التجديدي ، والإسلام السلفي أو الأصولي ، والإسلام السياسي ، والإسلام الصوفي ، والإسلام البدوي . كما أنهم يقولون : بأنواع أخرى من الإسلام تنتسب إلى دول    معينة ، إلى آخر تلكم المسميات التي تصك في بلاد الغرب ، ويروج لها ـ بكل أسف ـ الكثير من الكتاب في البلاد العربية والإسلامية .

والمعلوم بداهة أن الإسلام إسلام واحد ، ورغم الانقسام المؤلم الذي حدث في جسد الأمة الإسلامية منذ أواخر عهد الخليفة الراشد / عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وظهور فرق عديدة مثل : الخوارج ، والشيعة ، ثم القدرية , والجهمية ، والمعتزلة ، وغير هؤلاء وأولئك ، لم نسمع على مدى تاريخنا الطويل من يقول : إسلام الخوارج ، أو إسلام الشيعة ، أو إسلام المعتزلة ، إلخ .. بل يقال مذهب الخوارج ، مذهب الشيعة ، مذهب المعتزلة ، وهلم خرا .

وفي رأينا المتواضع : إن هؤلاء الذين يترنمون في أيامنا الحالية بهذه التقسيمات والتسميات التي أشرنا إليها ، فما أشبههم بالنائحة المستأجرة التي تندب فقيداً لا تربطها به قربى دانية ولا رحم غالية .

المقومات :

إن ما سبق قوله نرى أنه يصلح لأن يكون مقدمة لا بد منها ، إذا حاولنا إلقاء الضوء الكاشف على مقومات الفكر الإسلامي وخصائصه ، ومنها نستطيع أن نستنبط ونستقرئ بيسر وبسهولة تلك المقومات والخصائص ، وهي على الوجه التالي : ـ

1 ـ الوحي :

أول هذه المقومات الوحي ، المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة الصحيحة ، وليس هنا مجال للحديث المستفيض عن القرآن المجيد أو السنة المطهرة ، بل نكتفي في هذا المقام أن نشير إلى الحديث النبوي المطهر ، والذي نعرفه جميعاً ، والمروي عن الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) : " تركت فيكم ما أن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وسنتي " .

والفكر الإسلامي الذي يقوم في الأساس على القرآن الحكيم والسنة المشرفة هو ذلك الفكر الذي يجتهد في فهم نصوصهما ، وذلك في إطار القواعد العامة للإسلام ، وقواعد اللغة العربية ، ومصالح الناس المتجددة مع كل عصر .

وغني عن البيان أن فهم النص القرآني أو الحديث النبوي ، يحتاج أول ما يحتاج إلى الإحاطة الكاملة والتامة باللغة العربية نحواً وصرفاً وبياناً ومعان ، ثم الإحاطة الواعية بعلوم القرآن الكريم وبخاصة علم الناسخ والمنسوخ ، وعلم أسباب النزول ، ثم علوم السنة النبوية مثل علم المصطلح ، وعلم الرجال ، وعلم الجرح والتعديل ، وغيرها من العلوم التي أشار إليها العلماء الثقات .

2 ـ العقل :

الإسلام هو دين العقل والعقلانية ، وعليه فمن البداهة أن يكون فهم نصوص كتاب الله الكريم والسنة النبوية لاستنباط المعتقدات والاحكام ، وغير ذلك مما يتناوله الإسلام ، من البداهة يحتاج إلى إعمال العقل ، وهناك أحداث مستجدة وطارئة في حياتنا الحديثة والمعاصرة لم يرد فيها نص صريح من قرآن ولا حديث صحيح ، هذه الأحداث تحتاج إلى الاجتهاد ، والاجتهاد ليس أمراً مستباحاً لكل من هب ودب على وجه الأرض ، أو لكل دعي مغرور ، أو حاقد مأجور ، أو ناقم موتور ، أو هادف للشهرة وجذب الأضواء إليه ، أو طامع في الكسب المادي .

الاجتهاد له شروطه الخاصة التي وضعها علماء الأصول الأجلاء بهدف قطع الطريق على قطاع الطريق من أدعياء الفتوى والاجتهاد والتجديد ، والحقيقة المؤكدة أنه ليس لهم من العلم بالإسلام وقواعده وأصوله وثوابته أدنى نصيب يذكر .

وكلمة (العقل ) اسماً ، وإن لم ترد في القرآن الكريم بشكل واضح وصريح ، إلا أنه ورد فيه (الفعل) : تعقلون ، يعقلون ، كما ورد فيه مرادفات لهذا الفعل مثل : يفقهون ، تتدبرون ، يبصرون ، يتذكرون ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ... ، وأمثال هذا كثير جداً ورد في آيات القرآن المجيد .

ومن اللافت للنظر أن القرآن ربط بين الفقه الذي هو الفهم السليم ، وإعمال العقل ، ربط بين الفقه والقلب ، فأهل العناد لهم قلوب لا يفقهون بها ، والذكر والتذكر يكون لمن كان له قلب يعي ويدرك ، ولعل ذلك ما جل بعض علماء التفسير يذهبون إلى أن العقل مقره القلب ، والعلم الحديث يقرر أن العقل و هو مركز الفكر ووظائفه مقره المخ أو الدماغ .

 ولعل القرآن الكريم وهو يربط بين العقل والقلب يلفت الأنظار إلى أنه ينبغي علينا ونحن نفكر أن لا يكون فكرنا جامداً أو جافاً أو بارداً ، كفكر المناطقه الذي يشبه العمليات الرياضية ، بل ينبغي علينا أن نرطب جفاف هذا الفكر برشحات من الإيمان والعاطفة ، وهما في استعمالنا المعتاد يرتبطان بالقلب .

3 ـ العرف السائد :

  الفكر الإسلامي في المقام الأول فكر إنساني اجتماعي لا يتنكر لأعراف وعادات وتقاليد الناس ما دامت تنسجم مع روح الإسلام ، وتحترم تعاليمه ولا تتنكر لها ، فقد أقر الإسلام كثيراً من أعراف الجاهلية وتقاليدها بوصفها منسجمة مع مبادئ الإسلام .

نقول : ليس كل قديم مرفوضاً لمجرد أنه قديم ، ولا كل جديد مستحسناً لمجرد أنه جديد ، ولهذا اتسع مجال الحضارة الإسلامية لتحتضن شعوباً وأمماً وقبائل مختلفة الألسنة ، متفاوتة العادات والتقاليد والأعراف والأخلاق ، استظلت كلها براية الإسلام دون أن تجد عنتاً ولا مشقة ، إذ وجدت في مرونة الفكر الإسلامي الذي يرحب بالأعراف المختلفة والعادات الموروثة ما يرفع عنها الحرج والعنت ، ويسمح بتعدد الأعراف في إطار وحدة الأمة ، ما دامت تلك الأعراف لا تتنافى مع جوهر الدين وثوابته .

ولأن الدين الإسلامي دين يؤمن بالتعددية ، وباحترام     الآخر ، وبالحوار معه ، من أجل حياة أفضل للبشرية جمعاء ، فلذلك أحبت تلك الشعوب المختلفة هذا الدين الذي سوى بينها ، في نفس الوقت الذي لم يرفض موروثها  الثقافي بجميع أشكاله وألوانه ، فأخلصت له ، وأعطته أقصى ما لديها من علم وخبرة ، وفي رأينا : إن هذا العامل كان من أهم أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية التي جمعت في مزيج متفرد بين التنوع والوحدة .

4 ـ مراعاة المصالح العامة :  

الفكر الإسلامي فكر هادف له غاية سامية يسعى دائماً إلى تحقيقها ، هذه الغاية هي حصول الإنسان على السعادة في الدارين : في الدنيا ، وفي الآخرة ، فالإسلام يربط بين الدنيا والآخرة ، ويتوخى إصلاح حياة الناس بالتي هي أحسن في هذه الدنيا لتصلح حياتهم في الآخرة ، ولذلك يعمل على تحقيق مصالح الناس العامة ويرعاها كل الرعاية ، ويعمل على درء المفاسد ، وإبعادها عنهم بكل الطرق .

والفكر الإسلامي ، وهو قاعدة العمل الإسلامي ومنطلقه ، يبتغي دوماً تحقيق المصالح العامة ، مع درء المفاسد التي تمنع تقدم الإنسان وسعادته ومشاركته في التنمية ، وفي البناء أي في العمران البشري   والحضاري ، وحينما كانت المصلحة فثم شرع الله .

والفكر الإسلامي عندما يبحث على الدوام عن جلب المصالح ، يعمد في نفس الوقت إلى التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة ، فهو لا يدلل الفرد ويطلق له العنان دون مراعاة لمصلحة المجموع ، كما هو الشأن في النظم الرأسمالية المتوحشة ، وهو أيضاً لا يسحق الفرد في سبيل المجموع كما هو الشأن في النظم الاشتراكية أو الشيوعية .

والإسلام يعتبر الاعتداء معنوياً أو بدنياً على فرد واحد بمثابة الاعتداء على الأمة بأسرها ، فمن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً .

5 ـ الوحدة والانسجام والشمول :

الفكر الإسلامي يتناول موضوعات شتى ، ولكن له موقف موحد في نظرته للكون والإنسان والحياة ، وهو يدلي برأيه في كل ما يتعلق بالإنسان في رحلة الحياة ، وما بعد هذه الحياة ، وفي علاقة الإنسان بالكون وخالق الكون ، وهو بهذا الاعتبار فكر شامل متكامل يتناول حركة الإنسان ، منذ أن يستيقظ صباحاً إلى أن ينام مساءً ، بل وهو نائم أيضاً ، كما يجمع بين الدنيا والآخرة .

ويلاحظ أن هذا الفكر الشامل رغم تعدد جوانبه ومواضيعه يتسم بالوحدة والانسجام ، فما يتناوله في جانب العقيدة ينسجم تماماً مع ما يعرضه في جانب التشريع ، وكذلك في جانب السلوك على مستوى الفرد ، ومستوى الجماعة ، ومستوى الأمة ككل ، وما يتناوله في الجانب النظري ينسجم تماماً مع ما يعرض له في الجانب التطبيقي والعمراني ، وفي الجانب الجمالي ، كما أن ما يقدمه في تنظيم الحياة الدنيا ، ينسجم تماماً مع رؤيته للحياة الآخرة .

فهو يدعو إلى كبح جماح الشهوات المدمرة ، والوقوف في وجه المنافسة المحمومة على متاع الدنيا وهي منافسة تنتهك فيها الحرمات ، وتفقد فيها القيم والأخلاق ، وتضيع المرؤات .

الإسلام بفكره الوسطي المعتدل يبشرنا بوجود حياة أخرى يحصل الناس فيها على كل ما يشتهون ، فهذه الحياة الدنيا القصيرة ليست هي الفرصة الوحيدة أمام الإنسان كي يحقق ما يريد ، بل أمامه فرصة أخرى في حياة خالدة ، وهو بهذا يخفف من سعار المنافسة العارمة على متاع هذه الحياة الفانية .

6 ـ البساطة والبعد عن التعقيد :

  الفكر الإسلامي يمتاز بالبساطة والسهولة واليسر ، والبعد عن التعقيد و الغموض ، فهو فكر مقدم للمسلمين جميعاً ، عامتهم وخاصتهم على السواء وليس فكراً محصوراً في الخاصة فقط ، ولذا فهو في أساسه يميل إلى التبسيط ، وينأى عن التعقيد ، فهو ليس على غرار فكر الفلاسفة الذين يغربون ويلغزون ، ويصرحون بأن كتبهم إنما وضعت للخاصة بل لخاصة    الخاصة ، ولذلك قل أتباعهم ، وندر مريدوهم ، بل هو فكر مفتوح للناس جميعاً ، مقدم لهم جميعاً لأن له هدفاً واضحاً هو هداية الناس أجمعين ، وإبعادهم عن المزالق ومهاوي السقوط .

7 ـ البعد عن التناقض :

نحب أن نؤكد على أن الأنبياء (عليهم السلام) قد يأتون بأشياء لا يصل العقل إلى إدراكها ، ولكنهم لا يأتون بأشياء تتناقض مع حكم العقل السليم ، ومن هنا فإن الفكر الإسلامي الذي أساسه وحي الأنبياء لا ينتهي في نتائجه إلى أشياء تتنافى مع حكم العقل ، لأنه فكر ينطلق أساساً من الإسلام ، وهو دين معقول في عقائده وتشريعاته وأصوله .

وقد ألف ابن رشد كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) ، وهو كتاب يؤكد فيه على أن لا تناقض بين العقل والوحي ، وإن ظهر نوع من التناقض فإنما هو تناقض ظاهر لا حقيقي ، وهو يعود إما إلى خلل في العقل أو خطأ في تفسير الوحي .

كما ألف ابن تيمية كتابه (درء تعارض العقل مع النقل) ، وهو كتاب ضخم يؤكد فيه نفس القضية التي أكدها ابن رشد من قبل ، وهو أنه لا يوجد أدنى تناقض حقيقي بين أحكام العقل الصحيح ، وما جاء به النقل الصريح ، لأن العقل والوحي نعمة من الله تعالى ومصدرهما واحد وهو الله جل شأنه ، فكيف يتناقضان ؟ ! .

8 ـ رفض العصمة :

الفكر الإسلامي يعتمد على العقل والاجتهاد ، ويرفض عصمة النتائج التي ينتهي إليها ما دامت هذه النتائج محصلة لجهد عقلي ، وليس هناك نص صريح من القرآن الكريم أو السنة المطهرة يعارض هذه النتائج ، ومن ثم فالنتائج التي يتوصل إليها هذا الفكر محل للقبول والرفض ، والتصديق والتكذيب ، والأخذ والرد ، وكل إنسان يأخذ ويترك ، ماعدا الرسول الكريم المعصوم محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فلا عصمة لمفكر مهما كان موقعه ، ومهما كان قبول الناس له ، ومهما بلغ من سلامة العقل و صواب الرؤيا ، وغزارة العلم والمعرفة ، ومتانة الإيمان والورع ، ولنعلم جميعاً أن الكمال المطلق لله تعالى ، وأن فوق كل ذي علم عليم .

ومن المعروف أن أئمة الإسلام المعتبرين لم يدعوا العصمة لمذاهبهم وآرائهم ، بل كان الواحد منهم يصرح دائماً بقوله : رأينا صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب ، وهم لم يطلبوا من الناس أبداً أن يقلدوهم في مذاهبهم ، بل لم نجد إطلاقاً منهم التمسك والإصرار على آرائهم ، بل كثيراً ما كانوا يراجعون أنفسهم ، فيرجعون عما سبق لهم إعلانه من آراء ، فالرجوع إلى الحق عندهم فضيلة كبرى ، والحق لديهم أحق بأن يتبع ، ولا ضرر ولا ضرار في ذلك ، ولا أدل على ذلك من موقف الإمام / الشافعي في مذهبيه القديم والجديد ، ولما روجع في ذلك قال : ذاك على ما علمنا ، وهذا على ما نعلم .

والفكر الإسلامي يضع بهذا مبدأ مهم نحن في أمس الحاجة إليه ألا وهو : مبدأ النقد الذاتي ، وأيضاً البعد عن التعصب للرأي ، والشجاعة الأدبية في الرجوع عنه إذا تبين الخطأ فيه .

أما بعض الاتجاهات التي تبطل الاجتهاد ، وتلغي العقل الإنساني ، فهذه مذاهب يرفضها الإسلام الذي هو دين العقل والواقع ، وينكرها أيضاً أئمته المعتبرون .

9 ـ اليسر والبعد عن الغلو والحرج :

الفكر الإسلامي يساير الفطرة الإنسانية ، لذلك فهو يلتزم التيسير على الناس أجمعين ، ويبعد عن الغلو والشطط والحرج ، أما الفكر المتشدد الذي يجلب على الناس العنت والمشقة فهو بعيد كل البعد عن المنهج الإسلامي الذي أساسه الاعتدال والوسطية .

والإسلام ضد التشدد بكل أنواعه ، وقد صرح الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) ، بلعن المتشددين في الدين ، وذلك بقوله : " هلك المتنطعون" وكررها ثلاثاً ، و (المتنطعون ) هم أهل التشدد والتزمت في القول أو العمل ، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث الناس على تحري اليسر والاعتدال والوسطية والبعد عن العنت والمشقة أكثر مما تعد وتحصى .

والقرآن الكريم ينهانا عن السؤال عن أشياء في الإجابة عنها إيقاع في الحرج والمشقة ، فلا يصح أن نسأل عن أشياء إن تبد لنا تسؤنا ، فالإسلام شعاره اليسر لا العسر والتضيق على الناس ، والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول لنا : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها  ، وحدد حدوداً فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها "

ولذلك يقرر الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة ، أما ما ورد فيه نص قطعي كتحريم شرب الخمر ، أكل لحم الخنزير ، والمقامرة ، ووجوب ستر المرأة لكامل جسدها (عدا الوجه والكفين) فمثل هذا ليس موضع جدال أو مساومة ، والذي يطالب وينادي ويقول بتحريم الخمر والميسر وبوجوب أن تستر المرأة جسدها وأن تبتعد عن التبرج ، لا يصح أن نصفه بأنه أصولي أو متشدد في الدين ، أو مغال في الفكر ، وهذا أمر يقع فيه كثيرون ، فينبغي التنبه له ، فالحلال بين والحرام بين ، وقد بين لنا الإسلام الرشد من الغي .

10 ـ ترتيب الأولويات :

يمتاز الفكر الإسلامي بالوعي المرونة ، لأنه لا يتحرك أو ينطلق في فراغ بل في مجتمع دائب الحركة والتجدد ، وكذا فهو يقدم الأهم على المهم ، وهذا ما يقتضيه العقل السليم ، ويتطلبه المنطق الحكيم .

ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة ، فقد لبث في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً ، يدعو فقط إلى توحيد الله وإلى اليوم الآخر ، وبعد أن تثبتت دعائم الإيمان في مكة ،    هاجر إلى المدينة المنورة وأقام فيها دولة الإسلام بتشريعاتها ونظمها وعمالها وعلاقاتها بالآخرين ، حتى الصلاة وهي عماد الدين والركن الثاني من أركان الإسلام ، لم تفرض على المسلمين إلا في ليلة الإسراء والمعراج أي قبيل الهجرة من مكة إلى المدينة ، وبقية العبادات إنما فرضت بعد ذلك في المدينة المنورة .

وعليه : فعلى المفكر الإسلامي أن يراعي جيداً الأولويات فلا يصرف كل همه إلى أمور شكلية فرعية غير جوهرية ، وإن كانت واردة     شرعاً ، فهل من المنطقي أن نكتب ونتكلم ونتجادل حول استخدام السواك ، وتقصير أو تطويل الثياب ، وتغسيل الميت بالماء الباردة أو الماء الساخنة ، في وقت أصبح فيه الوجود الإسلامي نفسه موضع استفهام ، بل معرضاً للزوال ، في ظل التحديات الجسيمة التي تواجهها الأمة الإسلامية ؟

أقول لكم : لا ينبغي أن ينشغل الناس بالاختلاف حول من يحكم أو يسود بينما العدو يدق الأبواب بعنف ، فلا يحل لنا من باب أولى أن نشغل أنفسنا بخلافات تاريخية عفا عليها الزمن ، كالخلاف بين الإمام / علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ، ومعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) ، بينما قد خرج الأمر إلى غير عودة من يد أنصار علي ، وأنصار معاوية ..!!

الخاتمة :

كانت هذه سطور متواضعة أحببت أن أسهم بها في موضوع (الفكر الإسلامي) من ناحية مقوماته وخصائصه ، واضعاً في الاعتبار أن أساتذة أجلاء قد كتبوا فيه قبلنا ، فنهلنا من علمهم واستفدنا من آرائهم ، وقد أردنا المشاركة بالرأي المتواضع في هذا الموضوع ، وبعد ذلك نترك الأمر للأهل البحث والدرس والرأي والفكر ليضيفوا ما يشاءون من كلامنا أو ليحذفوا ما يريدون من سطورنا ، ولسان حالنا يقول : إن الخلاف في الرأي والفكر من المحال أن يفسد للفكر أو الرأي قضية ،،،

والله تعالى ولي التوفيق ،،، 

ـــــــــــ

*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

ayusri_a@hotmail.com

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ