ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
في
الحاجة إلى القراءة العلمية
للظاهرة الدينية : العقلنة
الدينية من منظور "ماكس فيبر" بقلم:
إدريس جندا ري* لعل من
أكثر القضايا التي أضحت تشغل
الفكر العربي الحديث؛ قضية
التعامل مع الظاهرة الدينية؛
التي تشكل محورا رئيسيا في أغلب
المشاريع الفكرية العربية؛ تحت
مسمى الفكر الإسلامي؛ أو التراث
الإسلامي. و
السؤال الذي طرح نفسه طيلة عقود
من الزمن ؛ هو كيف يمكن التعامل
مع التراث ؛ هل عبر قراءته من
منظور المناهج العلمية
المعاصرة ؛ و ذلك ما تم في الفكر
الغربي الحديث؛ حينما عاد إلى
تراثه و قرأه من منظور التطور
العلمي الحاصل ؛ أم يجب الحسم مع
هذا التراث باعتباره يمثل فكرا
قديما ؛ و لذلك فهو لا يجب أن
يغادر المتاحف . إن
السؤال الحقيقي الذي طرح دائما؛
هو في الحقيقة سؤال يرتبط
جوهريا بالظاهرة الدينية
الإسلامية؛ التي شكلت تاريخيا ؛
الفكر العربي الإسلامي؛ الذي لم
يحقق انتشاره في كل أقطار
العالم من آسيا إلى أوربا إلى
إفريقيا ؛ إلا في ارتباط بالدين
؛ باعتباره منظومة فكرية جديدة
؛ تسعى إلى بناء رؤية جديدة
للعالم و للإنسان . و لذلك
نجد جل المشاريع الفكرية
العربية ؛ تستحضر الظاهرة
الدينية الإسلامية ؛ باعتبارها
فاعلا أساسيا في التطور الفكري
؛ الذي حدث في التاريخ العربي ؛
طيلة قرون من الزمن ؛ كان خلالها
الفكر العربي مرجعا فكريا
موثوقا به؛ في مختلف مجالات
المعرفة الإنسانية ؛ من فلسفة و
طب و رياضيات ... و لذلك
فإن السؤال الحقيقي؛ هو كيف
يمكن التعامل مع تراث بكل هذا
الثراء؛ الذي اعترف به كمكون
أساسي ضمن الفكر الإنساني عامة؛
حينما يتم الحديث عن ابن رشد و
ابن عربي و ابن سينا و الخوارزمي
و ابن زهر و ابن خلدون... كأعلام
في مجال الفكر الإنساني؛ لا
يمكن تجاوز إنجازاتهم العلمية
بجرة قلم؛ و عندما نطلع على
كتابات هؤلاء؛ نجدها تستقي
معارفها من معين فكري؛ يرتبط
بالمنظومة الفكرية الإسلامية. و هذا
ما يطرح علينا سؤالا آخر؛ هو كيف
استطاع هؤلاء الأعلام تحقيق هذه
الطفرة الفكرية؛ مع ارتباطهم
بالمنظومة الفكرية الإسلامية ؟
أين كانت تكمن قوتهم الفكرية
هذه؛ التي خلدتهم كأسماء كبيرة
في تاريخ الفكر الإنساني ؟ كلها
أسئلة محرجة ؛ تطرح نفسها على كل
باحث علمي ؛ يقرأ الظواهر قراءة
موضوعية ؛ بعيدا عن العنف
الأيدلوجي ؛ الذي ينطلق من
مسلمات مسبقة ؛ تتحكم في
مقاربته لكل القضايا التي
يطرحها ؛ و لذلك فهو يمتلك
الجواب المسبق و النهائي و
الدوغمائي ؛ حول كل القضايا ؛ و
خصوصا ما ارتبط منها بمجال
الدين ؛ و الإسلامي خصوصا . لكن
دعنا نحاول التخلص من هذه
المسلمات المسبقة ؛ و نطرح
القضايا بشكل موضوعي ؛ هل حقيقة
أن الدين و منه الدين الإسلامي ؛
هو الأفيون الذي سبب تخلف العرب
و المسلمين ؛ أم إن الفشل في
قراءة الخطاب الديني قراءة
علمية هو السبب الحقيقي في هذا
التخلف ؟ و
امتدادا لهذه التساؤلات ؛ كيف
يمكن الخروج من التخلف و التردي
الفكري السائد ؛ هل عبر استئصال
كل ما يرتبط بالدين من حياتنا
العامة و الخاصة ؛ أم عبر محاولة
عقلنة الخطاب الديني ؛ حتى
ينسجم مع قضايانا الفكرية و
السياسية ... ؟ لابد
لمقاربة هذه الأسئلة من محاولة
استلهام التجارب الإنسانية
المغايرة ؛ و خصوصا التجربة
الأوربية-الأمريكية ؛
باعتبارها تجربة ناجحة في عقلنة
الخطاب الديني ؛ عبر قراءة
الظاهرة الدينية المسيحية من
منظور المناهج العلمية الحديثة
؛ من دون التسرع في إصدار
الأحكام اللا- علمية المسبقة ؛
التي لا تؤدي إلا إلى رد الفعل ؛
و الذي لن يكون إلا من جنس الفعل
ذاته . و في
هذا الصدد يؤكد ماكس فيبر أن
المسيحية الغربية استطاعت أن
تبني لاهوتها بشكل منهجي أكثر،
وبطريقة معاكسة لعناصر اللاهوت
الذي نجده عند اليهودية. بل إنها
أعطته تطورا ذا معنى تاريخيا؛
فاللاهوت هو "عقلنة" فكرية
للإلهام الديني" (1) بناء
على هذا التحليل لا يتردد ماكس
فيبر في اعتبار العقلنة الدينية
إحدى العناصر المساهمة في بروز
الحداثة الغربية. و ذلك حينما
يتحدث – بشكل مغاير عن
السوسيولوجيا الكلاسيكية – عن
العقلنة الدينية ؛ باعتبارها
خروجا عن الآليات السحرية
للخلاص ؛ التي سادت المرحلة
الأسطورية / السحرية من التاريخ
البشري ؛ لقد استطاع الورع
الديني – في اعتبار ماكس فيبر-
أن يقطع الصلة مع كل الوسائل
السحرية للخلاص. و ذلك عبر
الانتقال من "وسيلة سحرية"
إلى "وسيلة عقلانية" (2)
تحقق أرقى تجسيد لها في الأخلاق
البروتستانتية. ففي
مقابل الاعتماد على السحر في
تحصيل الخلاص، حضرت مجموعة من
القيم لتأكيد هذا الخلاص دنيويا
(التطهر، الصحة، رفع الألم؛
العمل؛ النجاح...) و كل هذه القيم
تشكل تعبيرا عن مصير أخروي ؛
يرتبط بضمان السعادة الأبدية . لقد تم
التخلي عن كل ما هو سحري، سواء
كرؤية للعالم أو كطقوس وممارسات
؛ و في المقابل تم تعويضه بأخلاق
و قيم عملية و معقلنة ؛ تربط
النجاح الأخروي بالنجاح
الدنيوي. و لكي
يؤكد ماكس فيبر قيمة هذه
العقلنة و أثرها على حياة الناس
؛ فهو لا يتواني في كتابه : "
الأخلاق البروتستانتية و روح
الرأسمالية " في قلب القاعدة
الماركسية لتمشي على رجليها
بعدما كانت تمشي على رأسها ؛ و
ذلك حينما يؤكد على تحكم
البنيات الفوقية في البنيات
التحتية ؛ و بتعبير آخر حينما
يؤكد على الروح البروتستانتية
للرأسمالية ؛ و لا يكتفي ماكس
فيبر بطرح النظرية ؛ بل يؤكدها
عبر التحليل العلمي الرصين ؛
المبني على الحقائق التاريخية .
يحلل ماكس فيبر الروح الدينية
للرأسمالية بأسلوب وصفي بسيط ؛
ولكنه طافح بالدلالات ؛ على
الشكل التالي : " كسب
المال؛ مزيد من المال؛ مع
الاحتراس دوما من الملذات
العفوية في الحياة؛ يعتبر المال
على هذا الأساس كغاية في ذاته؛ و
يبدو في اتجاه تصاعدي و لا
عقلاني بالمطلق؛ من زاوية سعادة
الفرد؛ و المنفعة التي يمكن أن
يجنيها من تملكه للمال. أصبح
الكسب هو الغاية التي يحددها
الإنسان لنفسه ؛ و لم يعد
بالنسبة إليه وسيلة لإشباع
حاجاته المادية . هذا القلب و
العكس لما نسميه الوضع الطبيعي
للأشياء؛ مهما بدا عبثيا من
وجهة نظر ساذجة؛ هو بوضوح
اللازمة المميزة للرأسمالية (..)
غير أنه يعبر أيضا عن سلسلة من
المشاعر ؛ مرتبطة ارتباطا وثيقا
بتمثلات دينية معينة " (3) هكذا
إذن يتحول الدين – في اعتبار
ماكس فيبر – إلى فاعل اقتصادي ؛
يشكل تمثلات الجماعة للعالم من
منظور خاص ؛ تكون له نتائج مادية
؛ قد تصل إلى درجة المساهمة في
ظهور تيار اقتصادي كبير مثل
الرأسمالية ؛ و حينما يطرح فيبر
هذه العلاقة الجدلية بين
البنيات الفوقية و البنيات
التحتية ؛ و يجعل الأولى تتحكم
أحيانا في الثانية ؛ فهو يطرح
بشكل آخر التأثير الذي مارسه
الإصلاح الديني في أوربا ؛
حينما تحول الدين إلى عامل حاسم
في صياغة تمثلات الجماعة لنفسها
و للعالم . و ما
يثير في تحليل ماكس فيبر هو
تركيزه الدائم على الوقائع ؛
التي يمكنها لوحدها أن تنهي
الخلاف حول القضية المطروحة ؛
فهو يلاحظ بشكل دقيق بعض
الظواهر الاجتماعية ؛ و يبحث
لها عن تفسيرات علمية ؛ كما هو
شأنه حينما يلاحظ أن رجال
الأعمال و أصحاب الحيازات
الرأسمالية ؛ و كذلك ممثلي
الشرائح العليا المصنفة من اليد
العاملة ؛ و فوق ذلك الملاك
التقني و التجاري ذا الثقافة
الرفيعة في المؤسسات الحديثة ؛
هم بأغلبية كبيرة من الطائفة
البروتستانتية " (4) و نفس
الشيء حينما يلاحظ أن عددا
كبيرا من مناطق الرايخ (في
ألمانيا) الأكثر غنى ؛ و الأكثر
تطورا من الناحية الاقتصادية ؛
و الأوفر حظا في أوضاعها ؛ أو في
مصادر ثروتها الطبيعية ؛ و بشكل
خاص غالبية المدن الغنية ؛ قد
اعتنقت البروتستانتية منذ
القرن السادس عشر " (5) و كلها
ملاحظات دقيقة ؛ لا يمكنها أن
تفلت من مشرحة عالم اجتماع كبير
من وزن ماكس فيبر ؛ لذلك فهو
يدخل بها إلى مختبر التحليل ؛
ليقوم بدراستها واختبارها ؛
ليصل في الأخير إلى نتائج علمية
قوية ؛ تفرض نفسها على الباحث
العلمي ؛ و تفرض عليه إعادة
النظر في مجموعة من المسلمات ؛
التي يعتبرها صحيحة بالكامل ؛ و
لا تقبل أي نقاش . و لعل
من بين هذه المسلمات؛ تلك التي
تعتبر أن الدين في شموليته لا
يعدو أن يكون أفيونا يخدرا
لشعوب؛ كما لا يتجاوز كونه
تعبيرا عن مرحلة طفولة البشرية؛
و هو كذلك تعبير عن المرحلة
السحرية الأسطورية. و
كلها مسلمات ترتبط بعنف
إيديولوجي ؛ مارسه الفكر
اليساري الشيوعي على الفكر
العربي طيلة عقود من الزمن ؛ و
ما يزال يمارسه إلى حدود الساعة
؛ و النتيجة هي خروج المارد
الديني من قمقمه ؛ ليسيطر على
المشهد الفكري و السياسي و
الاقتصادي و الاجتماعي في
العالم العربي الإسلامي من
أدناه إلى أقصاه . و لعل
هذه النتيجة المنطقية هي وحدها
التي يمكن أن تتحقق ؛ لأن الفكر
العربي ظل لعقود يتعامل مع
الظاهرة الدينية من منطلق
اعتبارات إيديولوجية ؛ بعيدا عن
روح المنهج العلمي ؛ الذي يلاحظ
الظاهرة و يحللها ؛ و يستخلص
النتائج في الأخير ؛ و يسعى إلى
إخضاع الممارسة العملية لهذه
النتائج . و ما
دامت هذه المقاربة العلمية
غائبة إلى حدود الآن فلننتظر
مستقبلا ؛ سيطرة تامة لهذا
المارد على المشهد العربي
الإسلامي بكل مجالاته . ـــــــــ 1 - ماكس
فيبر: رجل العلم ورجل السياسة،
ترجمة نادر ذكرى، دار الحقيقة،
1982، ص: 39 2- Max
Weber - The social psychology of the world religion in
From Max Weber, Essays in sociology, Edited. Gerth. And
Mills Routledge, 1995, P.200 3- ماكس
فيبر – الأخلاق البروتستانتية
و روح الرأسمالية – ترجمة : محمد
علي مقلد – مراجعة : جورج أبي
صالح – مركز الإنماء القومي – ص
: 29 . 4 –
نفسه – ص: 16 5- نفسه
– ص: 16 ___________ *كاتب و
باحث أكاديمي مغربي -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |