ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الدور
الإقليمي التركي: الملامح
والأسباب بقلم
مصطفى اللباد* أولاً:
الملامح يبدو
واضحاً الآن تبلور دور تركي
إقليمي يحمل سمات وقسمات خاصة،
ويشارك في الحراك الجاري في
المنطقة بفاعلية لأسباب متنوعة
ولكن على خلفية المصالح الوطنية
التركية. تأمّل الدور التركي
الآن يبدو ضرورة لنظرة أكثر
عمقاً الى المشهد الإقليمي
الراهن، ولكن هذا التأمل يبدو
أكثر وضوحاً عند ملاحظة
التوازنات التي سادت في المنطقة
عشية احتلال العراق وما أدت
إليه من اختلال في توازنات
القوى لمصلحة إيران ولغير مصلحة
الدول العربية. كانت تركيا في
عداد الخاسرين في تلك الحرب
بالرغم من أنها لم تشارك في
المعارك التي دارت على بلاد
الرافدين، ومرد ذلك أن تثبيت
الكيان الكردي في شمال العراق
ضرب المصالح التركية ضربة
مزدوجة، أولاً لأن طفور طموحات
الأكراد القومية يهدد وحدة
الأراضي التركية وبالأخص في
جنوب شرق تركيا حيث الغالبية
الكردية من السكان. وثانياً لأن
ظهور هذا الكيان في شمال العراق
بغطاء دولي أميركي، يشكل منطقة
عازلة لتمدد نفوذ تركيا
الإقليمي. ومن المعلوم أن تركيا
لا تملك من مداخل جغرافية إلى
المشرق العربي سوى العراق
وسوريا. عند
تأمل تفاصيل المشهد الإقليمي
الآن يمكننا ملاحظة عودة تركية
واعدة إلى قلب التوازنات
وعمليات الحراك الإقليمي في
المنطقة. فتركيا أصبحت تسيطر
اقتصادياً على منطقة الحكم
الذاتي الكردية في العراق عبر
امتلاك شطر كبير من السوق
المحلية في كردستان العراق
وتصدير البضائع إليها، أو عبر
الاستثمار المباشر في مشروعات
البنية التحتية وليس آخراً بسبب
أن تركيا هي المعبر الجغرافي
لصادرات كردستان العراق من
النفط. ويهيئ ذلك لتركيا امتلاك
وسائل ضغط فائقة الفاعلية على
إقليم كردستان، حيث لا تكتفي
فقط بالآلة العسكرية لملاحقة
مقاتلي حزب العمال الكردستاني
في جبال قنديل الوعرة. وإذا كانت
تركيا تاريخياً تملك علاقات
متميزة مع التركمان في العراق؛
فإنها الآن تملك مروحة من
العلاقات داخل العراق لا تقتصر
على التركمان فقط، بل تمتد إلى
أطياف العرب السنة والعرب
الشيعة عبر علاقاتها المتميزة
مع رئيس الوزراء نوري المالكي،
والسيد مقتدى الصدر الذي
استقبلته في اسطنبول ووعدته
بتعمير مدينة الصدر مرة أخرى،
مثلما مع آل الحكيم القريبين من
إيران. ولا يعني ذلك أن تركيا
تأمل في جذب حلفاء إيران من
العرب الشيعة إليها، ولكنها على
الأقل تؤثر في حسابات الجدوى
الاقتصادية لهذه الفصائل، بما
يجعل تركيا الطرف الثاني إلى
جانب إيران في معادلات السياسة
العراقية، وهي نتيجة تعكس
تطوراً لافتاً وعميقاً لدور
تركيا الإقليمي. يظهر
دور تركيا الإقليمي الحالي
ويتأكد عند ملاحظة علاقاتها مع
سوريا، ويكفي التأمل في هذه
العلاقات عام 1999 عندما كادت
الحرب تقع بين البلدين بسبب
إقامة الزعيم الكردي عبد الله
أوج ألان في سوريا، آنذاك أفلحت
الوساطة المصرية في نزع فتيل
الحرب عبر إبعاد أوج ألان عن
دمشق. والمتأمل الآن في
العلاقات التركية - السورية يجد
أنها بلغت مستوى غير مسبوق في
شهر تشرين الاول الماضي، عندما
تم فتح الحدود بين البلدين في
خطوة تعكس مدى التقارب في
العلاقات بين البلدين. ولم
يتوقف النفوذ التركي في دمشق
على هذا الحد، حيث تقوم تركيا
بدور الوساطة بين دمشق وتل أبيب
في خطوة تعكس اعترافاً بموقع
تركيا باعتبارها "مرجعية
إقليمية" في المنطقة. زادت
ملامح الدور أكثر فأكثر مع
التوتر الذي جرى بين دمشق
وبغداد أخيراً وقيام تركيا
الدولة غير العربية بالوساطة
بين البلدين. وبغض النظر عن نجاح
الوساطة من عدمه، فقد كانت
تركيا ومازالت وسيطاً مقبولاً
من الطرفين العراقي والسوري.
وتمدد الدور الإقليمي التركي
أكثر فأكثر مع انخراط أنقرة في
الملف الفلسطيني بالتنسيق مع
مصر، وهكذا أفلحت تركيا في نسج
شبكة من العلاقات والنفوذ في
كامل المشرق العربي من العراق
شمالاً وحتى غزة جنوباً،
بالإضافة إلى اتفاقات التفاهم
الاقتصادي بين تركيا ومجلس
التعاون الخليجي وهي نتيجة
إقليمية لم تتحقق منذ تأسيس
الجمهورية التركية عام 1923. ثانياً:
الأسباب يمكن
تقسيم الأسباب الموجبة لدور
تركي إقليمي في المنطقة إلى
موضوعية وأخرى ذاتية. ويأتي في
مقدم الأسباب الموضوعية ذلك
الفراغ الكبير الضارب أطنابه في
المنطقة نتيجة انهيار ما سمي
النظام الإقليمي العربي،
خصوصاً عقب احتلال العراق عام
2003. ثم يأتي عامل أخر مهم ضمن
الأسباب الموضوعية المسهلة
لقيام تركيا بدور إقليمي وهو أن
تركيا ترسم سياستها الإقليمية
بغطاء وتأييد من الولايات
المتحدة الأميركية وباعتبارها
ثقلاً موازياً للدور الإقليمي
الإيراني الذي لا ترضى عنه
أميركا، حتى مع تأكيد تركيا
المستمر أنها لا تتواجه مع
إيران في المنطقة. والسبب
الثالث تمدّد تركيا إقليمياً في
المنطقة بتكاليف سياسية أقل
بكثير من العائد السياسي الذي
تجنيه، بحيث أن الجدوى
الإستراتيجية من لعب هذا الدور
تكون متحققة تماماً في حالة
الشرق الأوسط. وتكفي هنا
الإشارة إلى الدور الإقليمي
الإيراني والذي استثمرت فيه
إيران مالياً وإيديولوجياً
لبناء شبكة من التحالفات مع
الدول والحركات والأحزاب
السياسية لمدة ثلاثين عاماً.
المقارنة بين مساحات التأثير
التي يملكها كل طرف تشي بأن
تركيا تتنافس مع إيران بأدوات
جديدة ولكن بمدخل أقل كلفة
سياسية من إيران بكثير. رابع
الأسباب الموضوعية التي تدفع
تركيا إلى لعب دور إقليمي في
المنطقة يتمثل في أن الشرق
الأوسط هو المجال الجغرافي
الوحيد في جوار تركيا الذي
يمكنها فيه لعب دور إقليمي دون
الاصطدام بقوى عالمية،
بالمقارنة بالقوقاز حيث النفوذ
الروسي أو في ألبانيا والبوسنة
حيث النفوذ الأوروبي. يتمثل
خامس الأسباب الموضوعية في تلك
الصورة الإيجابية لتركيا عند
شرائح عربية واسعة، والترحيب
غير المسبوق بهذا الدور من أوسع
القطاعات العربية بدور تركي في
المنطقة لأول مرة منذ قيام
الجمهورية عام 1923. ووصل الأمر
إلى حد الحديث عن "النموذج
التركي" وضرورة الاستفادة من
الدروس التي يقدمها مثل التناوب
السلمي على السلطة وإدماج
التيارات الإسلامية في العملية
الديموقراطية والفصل بين
الحزبي والدولتي، وليس أخراً
توسيع هامش المناورة تحت سقف
التحالف مع القطب العالمي
الأوحد. والسبب الموضوعي السادس
لدور تركيا الإقليمي يتلخص في
توافر تاريخ مشترك بين تركيا
والعرب ووجود تقارب ثقافي
وحضاري بينها وبين الدول
العربية، وهو ما لا يجعل تركيا
عنصراً وافداً إلى المنطقة
ويسهل قيامها بهذا الدور. تقوم
الأسباب الذاتية التركية للعب
دور إقليمي في المنطقة على أساس
المصالح الوطنية، حيث تشكل
الدول العربية أولاً سوقاً
ممتازة للسلع التركية التي تحظى
في المنطقة بتنافسية لا تحظى
بها بالضرورة في السوق
الأوروبية. وثانياً تشكل
المنطقة العربية بما تملكه من
احتياطات للطاقة عامل جذب
بأهمية استثنائية لتركيا التي
يتزايد الطلب فيها على النفط
والغاز لعاملين أساسيين هما
تعاظم قدرات الاقتصاد التركي
وطموح تركيا لكي تصبح معبراً
لإمدادات الطاقة إلى أوروبا بما
يعزز وضعيتها الإستراتيجية.
وثالثاً هناك المصالح الأمنية
التركية، لأن لعب دور إقليمي في
المنطقة يعني المشاركة في تحديد
الأجندة الإقليمية والوصول
بخطوط الدفاعات التركية إلى
أبعد نطاق ممكن من الأراضي
التركية. وتركيا كانت تاريخياً
ضحية لعمليات إرهابية سواء على
خلفية سياسية مثل المشكلة
الكردية أو المشكلة الأرمنية أو
على خلفية إيديولوجية مثل
عمليات الجماعات الدينية
المتشددة التي تنشط في دول
جوارها الجغرافي. ورابعاً
يؤدي الدور الإقليمي المتزايد
في المنطقة إلى تحسين كبير في
صورة تركيا لدى الاتحاد
الأوروبي الذي يتعنت في قبولها
عضواً بسبب الاعتبارات
الثقافية والدينية، والتحسن هو
باعتبارها صمام الأمان المتقدم
على تخوم الشرق الأوسط المجاور
جغرافياً للاتحاد الأوروبي.
خامساً فلا يمكن إغفال التأثير
الذي لعبه وصول حزب العدالة
والتنمية إلى السلطة في تركيا
على قيامها بدور إقليمي في
المنطقة. صحيح أن الدور
الإقليمي التركي يتأسس على
اعتبارات موضوعية وعلى خلفية
المصالح الوطنية التركية في
المقام الأول، ولكن ذلك لا يمنع
من دور مساعد للخلفية
الإيديولوجية التي ينطلق منها
حزب العدالة والتنمية في توجيه
سياسة تركيا الخارجية. ومرد ذلك
أن "مسألة الهوية"، وهي
مدركات الدولة لنفسها في مواجهة
محيطها الجغرافي، تعد من أهم
العوامل في رسم السياسة
الإقليمية للدول الوطنية. ومن
الطبيعي أن تختلف مدركات هذه
"الهوية" من حزب إلى آخر
ومن فصيل سياسي إلى غيره من
الفصائل. وهذا الاختلاف يقود
إلى اعتماد البرنامج السياسي
للأحزاب الحاكمة على رؤى بعينها
في القضايا المختلفة ومنها
طبعاً السياسات الإقليمية. ـــــــــــــ *مدير
مركز الشرق للدراسات الإقليمية
والإستراتيجية – القاهرة -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |