ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
موجبات
تغير الفتوى (4) من
موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر
العُرف د.يوسف
القرضاوي من موجبات تغير
الفتوى تَغيُّر العُرف الذي
بنيت عليه الفتوى القديمة، وهذا
مما نص عليه العلماء السابقون،
فيما يوجب تَغيُّر الفتوى، ذكر
ذلك القرافي المالكي وابن القيم
الحنبلي، وابن عابدين الحنفي،
وغيرهم. والمراد بالعرف: ما
اعتاده جماعة من الناس وتعارفوه
بينهم من قول أو فعل، حسنا كان
أو قبيحا. فلا شك أن هناك أعرافا
حسنة محمودة، وأعرافا أخرى سيئة
مذمومة. مراعاة الفقه لأعراف
الناس ومن المعلوم: أن
الفقه الإسلامي يراعي أعراف
الناس، ويبني عليها أحكاما،
بقيود وشروط معينة، أهمها: ألا
تخالف نصوص الشرع وقواعده.
وإنما اعتبر العرف؛ لأنه يعلم
أن الناس ما أنشأوا هذا العرف
وتمسكوا به، إلا لحاجتهم إليه،
ولأنه يحقق لهم مصلحة، فراعى
الفقه – المعبر عن الشرع- حاجة
الجماعة ومصلحتها، فاعتبر
العُرف ورعايته من أدلته
التبعية، وقال في ذلك الناظم: والعُرف في الشرع له
اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار ولكن المهم هنا، هو:
أن هذا العُرف الذي بنيت عليه
أحكام، وترتبت عليه آثار، إذا
تغيّر، هل يظل الحكم السابق
ساريا مع هذا التغير؟ الذي قرره المحققون
من العلماء في مختلف المذاهب: أن
الحكم – وبعبارة أخرى: الفتوى-
تتغير بتغير العرف، بحيث لا
يجوز إبقاء الفتوى القديمة-
المؤسسة على عرف تغيّر- على
حالها. قال الإمام شهاب
الدين القرافي في كتابه (الإحكام)
في السؤال التاسع والثلاثين: (ما
الصحيح في هذه الأحكام الواقعة
في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما،
المرتبة على العوائد والعُرف
اللذين كانا حاصلين حالة جزم
العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا
تغيرت تلك العوائد وصارت
العوائد تدل على ضد ما كانت تدل
عليه أوّلا، فهل تبطل هذا
الفتاوى المسطورة في كتب
الفقهاء، ويُفتى بما تقتضيه
العوائد المتجددة؟ أو يقال: نحن
مقلدون، وما لنا إحداث شرع لعدم
أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في
الكتب المنقولة عن المجتهدين؟). ثم يجب عن هذا السؤال
بقوله: (إن
استمرار الأحكام التي مدركها
العوائد مع تغير تلك العوائد:
خلافُ الإجماع وجهالةٌ في
الدين، بل كل ما هو في الشريعة
يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه
عند تغير العادة إلى ما تقتضيه
العادة المتجددة، وليس هذا
تجديدا للاجتهاد من المقلدين
حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد،
بل هذه قاعدة اجتهد فيها
العلماء وأجمعوا عليها، فنحن
نتبعهم فيها من غير استئناف
اجتهاد)[1]. ونلاحظ هنا: أن كلام
القرافي إنما هو في الأحكام
التي مدركها ومستندها العوائد
والأعراف، لا تلك التي مستندها
النصوص المحكمات. وتحدث القرافي في هذا
الموضوع مرة أخرى في كتابه (الفروق)
في حديثه عن (الفرق الثامن
والعشرون) فيؤكد: أن القانون
الواجب على أهل الفقه والفتوى
مراعاته على طول الأيام، هو:
ملاحظة تغير الأعراف والعادات
بتغير الزمان والبلدان. ويقول: (فمهما
تجدد من العُرف اعتبرْه، ومهاما
سقط أَسقطْه، ولا تجمد على
المسطور في الكتب طول عمرك، بل
إذا جاءك رجل من غير إقليمك
يستفتيك، لا تجبره على عُرف
بلدك، واسأله عن عُرف بلده،
وأجره عليه، وأفته به، دون عُرف
بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو
الحق الواضح، والجمود على
المنقولات أبدًا ضلال في الدين،
وجهل بمقاصد علماء المسلمين،
والسلف الماضين)[2]. أما عند الحنفية فنجد
مجموعة كبيرة من الأحكام
الاجتهادية التي قال بها
المتقدمون أعرض عنها
المتأخرون، وأفتوا بما
يخالفها، لتغير العرف، نتيجة
لفساد الزمن، أو غير ذلك، ولا
غرابة في هذا، فإن أئمة المذهب
أنفسهم – أبا حنيفة وأصحابه- قد
فعلوا ذلك. ذكر السرخسي: أن
الإمام أبا حنيفة في أول عهد
الفرس بالإٍسلام، وصعوبة نطقهم
بالعربية، رخّص لغير المبتدع
منهم: أن يقرأ في الصلاة بما لا
يقبل التأويل من القرآن باللغة
الفارسية، فلما لانت ألسنتهم من
ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع
من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول.
وذكر كذلك: أن أبا
حنيفة كان يجيز القضاء بشهادة
مستور الحال في عهده – عهد
تابعي التابعين- اكتفاء
بالعدالة الظاهرة. وفي عهد
صاحبيه – أبي يوسف ومحمد- منعا
ذلك، لانتشار الكذب بين الناس[3]. ويقول الحنفية في مثل
هذا النوع من الخلاف بين الإمام
وصاحبيه: هو اختلاف عصر وزمان لا
اختلاف حجة وبرهان. وقد أصبح من القواعد
الفقهية الأساسية عند الحنفية:
قاعدة "العادة محكَّمة"[4] واستدلوا لها بقول
ابن مسعود:"ما رآه المسلمون
حسنًا فهو عند الله حسن"[5]. وكتب في ذلك علامة
المتأخرين ابن عابدين رسالته
القيمة التي سماها: (نشر العَرف
فيما بني من الأحكام على العُرف)
بين فيها أن كثيرا من المسائل
الفقهية الاجتهادية، كان
يبنيها المجتهد على ما كان في
عرف زمانه، بحيث لو كان في زمان
العرف الحادث لقال بخلاف ما
قاله أوّلاً. ولهذا قالوا في شروط
المجتهد: ولا بد فيه من معرفة
عادات الناس، قال ابن عابدين: (فكثير
من الأحكام تختلف باختلاف
الزمان؛ لتغير عُرف أهله، أو
لحدوث ضرورة، أو فساد أهل
الزمان، بحيث لو بقى الحكم على
ما كان عليه، للزم منه المشقة
والضرر بالناس، ولخالف قواعد
الشريعة المبنية على التخفيف
والتيسير، ودفع الضرر والفساد،
لبقاء العالم على أتم نظام،
وأحسن إحكام. (ولهذا
نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص
عليه المجتهد (يعني: إمام المذهب)
في مواضع كثيرة بناها على ما كان
في زمنه، لعلمهم أنه لو كان في
عهدهم لقال بما قالوا به، أخذًا
من قواعد مذهبه). اختلاف المذاهب ومن قرأ كتب الفقه –
على اختلاف مذاهبها- وجد فيها
أحكاما وفتاوى مبنية على أعراف
زمانها، ولكنها اليوم تبدلت إلى
أعراف أخرى، فوجب أن تتبدل
الفتوى أو الحكم بتبدلها، ولا
سيما في عصرنا الذي تغيرت فيه
أشياء كثيرة جدا في حياة الناس،
نتيجة للتطور العلمي
والتكنولوجي والاقتصادي
والحضاري الهائل، الذي قَلَب
حياة المجتمعات والأمم ظهرا على
عقب، بحيث لو افترضنا قيام بعض
الموتى من قبورهم لأنكروا هذه
الحياة الجديدة التي لم تعد لهم
بها أيّة صلة. الشيكات المصرفية خذ مثلا بعض الأعراف
التجارية والمالية الحديثة،
فيما يتعلق بصرف الشيكات
المصرفية، فلو اعتبرنا القبض
كما قرره الفقهاء (يدا بيد، أو
هاء وهاء) لحرّمنا التعامل
بالشيكات وهي ضرورة الآن، ولذلك
وجب على الفقيه أن يعتبر العُرف
الجاري: أن الشيك يحتاج إلى يوم
أو يومين وقد يحتاج إلى أكثر من
ذلك، كما إذا صدر يوم الخميس
محوّل على بنك خارجي، ويوم
الجمعة عندنا عطلة، ويوما السبت
والأحد عندهم عطلة، فيؤدي ذلك
إلى تأخر صرف الشيك. طرق جديد للبيع وهناك أعراف كثيرة
تغيّرت في الناحية الاقتصادية،
وفي الناحية الاجتماعية، وفي
الناحية السياسية، وهي تقتضي
تغيّر الفتوى من الفقيه المعاصر. مثل عقد الصفقات عن
طريق الهاتف أو الإنترنت أو
الفاكس، أحد الطرفين في أمريكا
والآخر في آسيا، ومثل ذلك
الزواج عن طريق الإنترنت، أو
غير ذلك من المعاملات التي لا
تقف عند حد، والتي تتطلب من
المفتي أن ينظر إليها من أُفق
واسع، غير متقيد بالنصوص
الفقهية التي تغيّرت اليوم عن
زمانها ومكانها. وبعض الأعراف صدرت
بها قوانين ملزمة من فعل
الدولة، لا يجوز الإخلال بها،
وبعض القوانين الصادرة من
الدولة أنشأت أعرافا جديدة. المرأة بين القديم
والجديد وبعض الأعراف كانت
مبنية على أحكام مذهبية، لم تعد
صالحة لحياة الناس اليوم، مثل
منع بعض المذاهب المرأة من
الذهاب للمسجد للصلاة فيها، أو
الاستماع إلى درس أو محاضرة. فقد
ذهبت المرأة اليوم إلى المدرسة
وإلى الجامعة، وإلى السوق،
وتعلمت وعملت في شتى نواحي
الحياة، وسافرت إلى الخارج،
فلماذا يبقى المسجد وحده، هو
المحظور عليها؟ عصر الساندوتش ومثل ذلك: ما ذكره
الفقهاء – مما أشرنا إليه من
قبل - من أن الأكل في الطريق يسقط
المروءة، وعلى هذا لا تقبل
شهادة الآكل في الطريق، ونحن في
عصر السرعة الذي نعيش فيه أمسى
الناس يتناولون الأكلات
الخفيفة في طريقهم وهم ذاهبون
إلى أعمالهم أو عائدون منها،
وهو ما جعل بعض الناس يسمون
عصرنا (عصر الساندوتش). فلو أسقطنا شهادة
هؤلاء لأضعنا حقوقا كثيرة
للناس، وبخاصة أن الناس لم
يعودوا ينظرون إلى هذا الأمر
باعتباره ينزل من مروءة صاحبه،
بل اعتبروه من ضرورات الحياة،
المعاصرة وتطورها. زكاة النقود ويدخل في هذا: ما بُني
من نصوص على عُرف زمني كان قائما
في عصر النبوة، ثم تغيّر في
عصرنا، فلم يعد قائما، فلا حرج
علينا النظر في مقصود النص دون
التمسك بحرفيته. ومن الأمثلة البارزة
على أن النص قد يُبنى على عرف ثم
يتغيّر: ما ثبت من تقديره صلى
الله عليه وسلم نصابين لزكاة
النقود، أحدهما بالفضة وقدره:
مائتا درهم (تقدر بـ595جراما)
والثاني بالذهب وقدره: عشرون
مثقالا أو دينارا (تقدر بـ85
جراما) وكان صرف الدينار يساوي
في ذلك الوقت عشرة دراهم. فإن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يقصد وضع نصابين
متفاوتين للزكاة، بل هو نصاب
واحد، من مَلكه اعتبر غنيا
ووجبت عليه الزكاة، قُدِّر
بعملتين جرى العرف بالتعامل
بهما في عصر النبوة، فجاء النص
بناء على هذا العرف القائم،
وحدّد النصاب بمبلغين متعادلين
تماما، فإذا تغير الحال في
عصرنا وانخفض سعر الفضة بالنسبة
لسعر الذهب انخفاضا هائلا، لم
يجز لنا أن نقدر النصاب بمبلغين
متفاوتين غاية في التفاوت،
فنقول مثلا: إن نصاب النقود ما
يعادل قيمة (85 ) جراما من الذهب،
أو ما يعادل (595) درهما من الفضة،
وقيمة نصاب الذهب حينئذ تزيد
على قيمة نصاب الفضة حوالي عشرة
أضعاف، وهذا لا يعقل: أن نقول
لشخص معه عشرة دنانير ليبية أو
جنيهات مصرية: أنت غني إذا قدرنا
نصابك بالفضة، ونقول: لمن يملك
أضعاف ذلك: أنت فقير إذا قدرنا
نصابك بالذهب!! والمخرج هو تحديد
نصاب كل واحد في عصرنا للنقود به
يعرف الحد الأدنى للغنى الشرعي
الموجب للزكاة، وهو الذهب، لأن
نصابه أقرب إلى الأنصبة الأخرى
بخلاف نصاب الفضة فهو زهيد جدا
بالنسبة لعصرنا، ولا يعتبر
مالكه غنيا في الحقيقة، وهذا ما
ذهب إليه الأستاذ الكبير الشيخ
محمد أبو زهرة – رحمه الله-
وزميلاه المرحومان الشيخ عبد
الوهاب خلاف والشيخ عبد الرحمن
حسن في محاضرتهم عن "الزكاة"
بدمشق سنة 1952م من التقدير
بالذهب فقط، وهذا ما اخترته
وأيدته في بحثي عن (الزكاة)[6]. ------------------- [1]
انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى
والأحكام/ص231/ ط. حلب، تحقيق
الشيخ أبي غدة. [2]
انظر: الفروق/ ج1/ 176-177. [3]
انظر: أصول التشريع الإسلامي
للأستاذ علي حسب الله (ص/84-85). [4]
انظر: "القاعدة السادسة من
الفن الأول" القواعد الكلية،
من كتاب "الأشباه والنظائر"
لابن نجيم الحنفي (ت970 هـ) ص (93-102)
تحقيق عبد العزيز الوكيل، طبعة
مؤسسة الحلبي. [5]
ذكره بعضهم على أنه حديث مرفوع،
والصواب: أنه موقوف على ابن
مسعود رواه أحمد في المسند (3600)
عن ابن مسعود موقوفا، وقال
مخرّجوه: إسناده حسن، والطيالسي
في المسند (1/33)، والبزار في
المسند (5/212)، والطبراني في
الكبير (9/112)، والحاكم في
المستدرك كتاب معرفة الصحابة
(3/83)، وقال: هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه، وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه
أحمد والبزار والطبراني في
الكبير ورجاله موثقون (1/428). [6]
انظر: كتابنا:(فقه الزكاة) 1ج/ 277،
278/
ط الخامسة
والعشرون، ط مكتبة وهبة،
القاهرة. ـــــــــــــ المصدر : موقع
القرضاوي/ 22-1-2008
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |