ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الإسلام
والغرب.. صراع المشاريع الحلقة
الرابعة: البابا
أوربان الثاني يشعل نار الحروب
الصليبية د.
علي محمد الصلابي خطبة
البابا أوربان سنة 1097 التي حضت
على شن الحروب الصليبية ضد
المسلمين نواصل
في هذا المقال استعراض الدوافع
والأسباب التي وقفت وراء الحروب
الصليبية، حيث استعرضنا في
المقالين السابقين خمسة دوافع،
وهي الدوافع الدينية والسياسية
والاجتماعية والاقتصادية،
وأخيرا العامل المرتبط بتبدل
ميزان القوى في حوض البحر
المتوسط، وفي السطور القادمة
نواصل عرض باقية الدوافع: سادساً
: استنجاد إمبراطور بيزنطة
بالبابا أوربان الثاني :
استنجاد الإمبراطور الكسيوس
كومنين [ 1081- 1118م ] بالبابا
أوربان الثاني ضد السلاجقة ، لم
يكن هذا الاستنجاد في الحقيقة
الأول من نوعه بل سبقه استنجاد
الإمبراطور [ ميخائيل السابع ]
بالبابا [ جريجوري السابع ] عقب
موقعة ملاذكرد 463ه السالفة
الذكر ، فالمعروف أن شن الحرب
على الترك كان من الأغراض التي
تنطوي عليها الدعوى البيزنطية ،
فالأناضول يعتبر أكثر أهمية من
بيت المقدس عند الدولة
البيزنطية [1] ، ولذلك لما أصبحت
عاصمة البيزنطيين مهددة من قِبل
السلاجقة كان لزاما على
الإمبراطور أن يستنجد بالغرب في
مقابل اتحاد الكنيستين الشرقية
والغربية ، وقد أرسل البابا
جريجوري السابع إلى الإمبراطور
ميخائيل السابع رداً مرضياً
بدافع العاطفة المسيحية من جهة
، وبدافع سياسي من جهة أخرى ،
فما يحشده من جيش سوف يقضى على
الانشقاق بين الكنيستين ويزيد
من نفوذ البابوية في الشرق
مثلما زاد في الغرب ؛ غير أن
الحرب التي نشبت بين جريجوري
السابع والإمبراطور [ هنري
الرابع ] منعته من المضي في
مشروعه ولما خلف الإمبراطور [
الكسيوس كومنين ] الإمبراطور
ميخائيل السابع ، بعث برسالة
إلى البابا أربان الثاني وإلى
كبار رجال الإقطاع سنة 478ه
يدعوهم لإرسال المساعدات لنجدة
إخوانهم في الشرق وحماية
القسطنطينية ضد الخطر السلجوقي
[2] ، ولقد كان [ الكسيوس ] يرغب في
أن يبعث له الغرب ببعض الجند
المرتزقة ولكن البابا أوربان لم
يشأ أن يجعل نفسه في خدمة الدولة
البيزنطية ، بل أراد أن تتولى
البابوية تقديم المساعدة
للمسيحيين في الشرق ، وهذا
التغيير في الفكرة يؤدي إلى أن
يحشد العالم المسيحي اللاتيني
جيشاً ضخماً ، لا أن يبعث بجنود
مرتزقة تخضع لأهواء الأمراء
وتتحكم في تصرف البابا لصالح
الإمبراطور ميخائيل السابع ،
وهنا تبرز أهمية الإبداع
والتفكير واقتناص الفرص وتسخير
الوسائل في خدمة مشروعهم وعلينا
أن نستفيد في هذا الدروس
الكثيرة لخدمة المشروع
الإسلامي ، وأثار هذا الاختلاف
في التفكير من المتاعب ما أساء
العلاقات بين البيزنطيين
والصليبيين ، والثابت تاريخياً
أن المسئول الأول عن قيام
الحركة الصليبية هو البابا
أوربان الثاني ، فهو الذي أنذر
بقيام تلك الحروب [3] ؛ يؤيده في
دعواه الجهاز الكنسي في الغرب ،
وينسب إليه جميع المؤرخين
اللاتين المعاصرين له ، الدور
الرئيسي في تحقيق هذه الفكرة [4].. سابعاً
: شخصية البابا أوربان الثاني
ومشروعه الشامل للغزو الصليبي : ولد
أوربان الثاني عام 427ه/1035م في
شاتيون سير مارن واسمه أودو ،
وقد درس على يدي القديس برنو
الذي أسس نظام الكارسوسيين ،
وفي عام 461ه/1068م أصبح راهباً في
دير كلوني بالقرب من ماكون ، وقد
التحق بخدمة البابا المتسلط
المؤمن إيماناً راسخاً بتفوق
البابوية على الإمبراطورية ،
ونعني به جريجورى السابع وتم
تعيينه كاردينالاً أسقفاً
لاوستياً في عام 473ه/1080م ، وخدم
الكنيسة في ألمانيا خلال
المرحلة من 477ه/1084م إلى 478ه/1085م ،
وقد ساند على نحو شرعي البابا
جريجوري السابع في خلال صراعه
مع الإمبراطور هنري الرابع ،
وقد ارتبط أربان الثاني بسينودس
[ مجمع كنس ] في ساكسوني الذي عقد
عام 478ه/1085م ، وعند وفاة البابا
فيكتور الثالث في 16ديسمبر 1087م
في مونت كاسينو تم السيطرة على
روما عن طريق كايمنت الثالث ،
وتم انتخاب أوربان الثاني بعد
تأخير طويل في تراكينا إلى
الجنوب من رومـا بالقـرب من
جايتا وحمل اسم أوربان الثاني
[481- 493ه/1088- 1099م] [5].. ونلاحظ من
خلال سيرة هذا الرجل أنه اتسم
بالنشاط الوافر ، وإحكام سيطرته
على كافة مناطق نفوذ الكنيسة
الأم ، ولعل موقفه من أسبانيا
يمثل لنا بعداً مهماً ، فقد أيد
الحرب ضد المسلمين وعندما أمكن
للأسبان إخضاع بعض المناطق التي
كانت من قِبل تحت سيادة أعدائهم
سارع البابا بجعلها ضمن نفوذ
كنيسة روما ولاشك أن أوربان
الثاني في دعمه الحرب ضد
المسلمين هناك كان يسير على خطى
وهدى البابا الكسندر الثاني ،
وهذا يؤكد لنا حقيقة محورية وهي
وجود استراتيجية عليا للبابوية
في روما [ مشروع واضح المعالم
والأهداف ] تتجه نحوها وتنفذها
بحرص في القرن الحادي عشر
الميلادي / الخامس الهجري على
نحو خاص بغض النظر عن تغير وتقلب
البابوات ، وأهم ملامح هذه
الإستراتيجية هي توسيع نفوذ
كنيسة روما ، وتوحيد الكنائس ،
ومحاربة الإسلام أينما وجد
باعتباره العدو اللدود الذي
لامناص من مواجهته ومحاولة
الانتصار عليه بأي ثمن [6] ، ومن
الملاحظ أن من خلال الاستغاثات
البيزنطية المتعددة ، وانشغال
من سبق أوربان الثاني بأمور
متعددة ، جاءت السانحة لهذا
البابا ، وفي مجمع بباكنزا
بإيطاليا في مارس 1095م / 488ه اتجه
إلى الاستجابة لدعوة
الإمبراطور الكسيوس الأول
كومنينوس 474/ 512ه - 1081/ 1118م ، غير
أن البابا قد أخفق في مجمع
بياكنزا في الدعوة لشن حرب
صليبية ضد المسلمين في الشرق [7].. 1-
أوربان الثاني يعقد مجمعاً
كنسياً في جنوب فرنسا : إن
إخفاق البابا العنيد الطموح في
مجمع بياكنزا ، لم يثنه عن السعي
في تحقيق هدفه بكل الوسائل
الممكنة ، وقد اتجه إلى بلاده
الأصلية فرنسا من أجل معاونته
على نجاح مشروعه المرتقب ، وقد
دل ذلك الاختيار على ذكائه خاصة
أن جنوب فرنسا التقليدي المحافظ
كان بمثابة منطقة تماس مع الحرب
التي شنها الإسبان ضد المسلمين
في أسبانيا ، بالإضافة إلى أن
مجرد طرح الفكرة على الأرض
الفرنسية كان من الممكن أن يحقق
نجاحاً فورياً من خلال أنها
الموطن الأصـلي للبابا ، وهـو
أدرى بشعابها ، خاصة أنها - في
نفس الحين - ذات تاريخ خاص مع
الإسلام خـلال معـركة بواتيه
المعروفة لـدى المسلمين بمعركة
" بلاط الشهداء " عام 114ه /732م
، والتي فيها هزم المسلمون وتم
وقف المد الإسلامي وإعاقته عن
الامتداد فيما وراء جبال
البرانس ، وسوف ندرك من خلال
تحليل خطاب البابا في مجمع
كليرمنت أن كافة تلك الزوايا ،
لم تغب عن ذهن ذلك الرجل الحاد
الذكاء ، القوي الإرادة منذ أن
تربى في أحضان حركة الكارسوسيان
الرهبانية الصارمة .. مهما يكن
من أمر ، فإن البابا اتجه إلى
كليرمنت فران بجنوب فرنسا وعقد
مجمعاً كنسياً هناك وفي اليوم
العاشر عقد المجمع الذي تناول
فيه العديد من القضايا التي تهم
الكنسية ، وهي في غاية الأهمية
والخطورة ، وذلك في يوم 27 نوفمبر
1095م [8].. 2-
الخطبة التي ألقاها البابا
أوربان الثاني : كان للخطبة التي
ألقها البابا أوربان الثاني في
المجمع الديني المنعقد في
كليرمونت عام 488ه/1095م ؛ أثرها
البالغ في نفوس المسيحيين
المجتمعين في هذا المجتمع فقد
الهبت حماسهم وأصابتهم بحالة
عبر عنها المـؤرخ جوستاف لـوبون
في كتابه [ حضارة العرب ] : بأنها
نوبة حادة من الجنون [9] ، إذ قال
البابا [ يا شعب الفرنجة ، يا شعب
الله المحبوب المختار ، لقد
جاءت من تخوم فلسطين ، ومن مدينة
القسطنطينية أنباء محزنة تعلن
أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن
الله قد طغى وبغى في تلك البلاد
، بلاد المسيحيين في الشرق ؛ قلب
موائد القرابين المقدسة ، ونهب
الكنائس وخربها وأحرقها ،
وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم ،
وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن
عذبوهم أشنع تعذيب ، ودنسوا
الأماكن المقدسة برجسهم ،
وقطعوا أوصال الإمبراطورية
البيزنطية ، وانتزعوا منها
أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر
فيها لا يستطيع اجتيازها في
شهرين كاملين .. على من أذن تقع
تبعة الانتقام لهذه المظالم ،
واستعادة تلك الأصقاع إذا لم
تقع عليكم أنتم . أنتم يا من
حباكم الله أكثر من أي قوم آخرين
بالمجد في القتال ، وبالبسالة
العظيمة وبالقدرة على إذلال
رؤوس من يقفون في وجوهكم ؟ ألا
فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي
قلوبكم - أمجاد شارلمان وعظمته ،
وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم
، فليثر همتكم ضريح المسيح
المقدس ربنا ومنقذنا - الضريح
الذي تمتلكه الآن أمم نجسة ،
وغيره من الأماكن المقدسة التي
لوثت ودنست - لا تدعوا شيئاً
يقعد بكم من أملاككم أو من شؤون
أسركم ، ذلك بأن هذه الأرض التي
تسكنونها الآن والتي تحيط بها
من جميع جوانبها البحار ، وتلك
الجبال ، ضيقة لا تتسع لسكانها
الكثيرين ، تكاد تعجز عن أن تجود
بمن يكفيكم من الطعام ، ومن أجل
هذا يذبح بعضكم بعضاً ،
وتتحاربون ويهلك الكثيرون منكم
في الحروب الداخلية . طهروا
قلوبكم إذن من أدران الحقد ،
وأقضوا على ما بينكم من نزاع
واتخذوا طريقكم إلى الضريح
المقدس ، وانتزعوا هذه الأرض من
ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم
، إن أورشليم أرض لا نظير لها في
ثمارها ، هي فردوس المباهج إن
المدينة العظمى القائمة في وسط
العالم تستغيث بكم أن هبوا
لإنقاذها . فقوموا بهذه الرحلة
راغبين متحمسين تتخلصوا من
ذنوبكم ، وثقوا بأنكم ستنالون
من أجل ذلك مجداً لا يفنى في
ملكوت السموات ] [10].. وهكذا
كان لهذه الكلمات الحماسية التي
ألقاها البابا أوربان الثاني
أثرها البالغ في نفوس المسيحيين
المجتمعين فبعد أن أنهى البابا
خطبته مباشرة صاح المجتمعون
صيحة رجل واحد قائلين هكذا أراد
الله [11] ، ولم يكد البابا أوربان
الثاني ينتهي من خطابه هذا ، حتى
نهض إليه الأسقف أدهمير دي
مونتيلن وركع أمام قدمي البابا
، والتمس منه الإذن بأن يلحقه
بالحملة المقدسة ، وأمام هذا
الموقف المؤثر تحركت مشاعر
المجتمعين وتدافعوا بالمئات
يركعون أمام البابا مثل أدهمير
في حماس منقطع النظير وحملوا
الصلبان وحلفوا جميعاً على
تخليص المدينة المقدسة ، ويعقب
المؤرخ المعاصر للأحداث وهو -
روبرت الراهب - فيقول : يا له من
عدد كبير من الناس ، من كل
الأعمار ومن مختلف المستويات
الذين تقلدوا الصلبان خلال مجمع
كليرمونت، وقد حلفوا على تخليص
المدينة المقدسة وقد وصل عددهم
إلى 300 ألف [12] ، وإزاء هذا الموقف
المتحمس لأدهمير - عينه البابا
أوربان الثاني ممثلاً شخصياً
ونائباً عنه ليوضح للجميع أن
الحملة تحت إشراف الكنيسة ، بل
تحت إشرافه هو مباشرةً [13].. 3- ما
يستنتج من خطاب البابا أوربان
الثاني ..؟؟ قام
الدكتور محمد مؤنس عوض بدراسة
واعية للحروب الصليبية واستفاد
من مراجعهم وقام بتحليل لخطاب
البابا من خلال أربعة نصوص
لأربعة من المؤرخين المعاصرين ،
هم فوشيه الشارترى ، وروبير
الراهب ، وجويرت النوجتي
ويودريك الدولى ، وهناك تصور
بأن فوشيه الشارترى كان من بين
الذين حضروا مجمع كليرمنت ،
وبصفة عامة ، من الممكن عقد
مقارنة بين النصوص الواردة في
مؤلفات المؤرخين الأربعة من أجل
التوصل إلى حقيقة ما أعلنه
البابا في خطبته الشهيرة ، وعند
مقارنة تلك النصوص يمكن استنتاج
الآتي :- أ- وجه
البابا حديثه إلى جنس الفرنجة ؛
من أجل التركيز على البعد
الأثني أو العرقي ، وأوضح أن
الله قد ميزهم بموقع بلادهم ،
وبعقيدتهم الكاثوليكية ، وعمل
على تذكيرهم بالبعد التاريخي من
خلال أمجاد شارل مارتل وشارلمان
وما قدماه للمسيحية من خدمات
جليلة ، على نحو عكس أهمية حافز
الذاكرة التاريخية في تشكيل تلك
الظاهرة التاريخية الكبرى [14] ب- أشار
البابا إلى أن هناك أخباراً
مؤسفة ؛ ومزعجة قدمت من الشرق
مفادها أن جنساً ملعوناً وهم
عرق ملعون ، عرق غريب تماماً عن
الله وهم حقاً جيل لم يتوجه
بقلبه أو يعهد بروحه إلى الله [15]
، [ ويقصد بذلك الأتراك السلاجقة
] ذبحوا المسيحيين الشرقيين ،
وحولوا الكنائس إلى اسطبلات
لخيولهم ، وأن دماء أولئك
المسيحيين تنادي مسيحيين الغرب
من أجل إنقاذهم من براثن
أعدائهم الكفار .. ج- عمل
البابا على إثارة مطامع سامعيه
؛ في ثروات الشرق فأوضح أن الأرض
في الغرب الأوروبي ولا سيما في
فرنسا ضاقت بسكانها ، وطلب من
الناس الذهاب إلى الشرق حيث أرض
كنعان التي تفيض لبناً وعسلاً
وفي ذلك الدليل الجلي الذي لا
يقبل ارتياب مرتاب على أن البعد
الاقتصادي للحركة الصليبية كان
موجوداً ، وقد تم الإعلان عنه
بصراحة كاملة منذ اللحظات
الأولى لميلادها .. س- وعد
البابا كل من يحمل السلاح ويتجه
إلى الشرق ؛ بأن تغفر ذنوبه
وآثامه وبمعنى آخر قدم لهم
الغفران الكنسي ، أما إذا
استشهد المرء في سبيل تحقيق
هدفه فإنه يعد شهيداً من شهداء
المسيحية الأبرار ، وجميعها
مغريات مهمة في عصر سادته ظاهرة
الهوس الديني العاطفي في العالم
المسيحي الأوروبي .. ش- اتجه
البابا إلى الإشارة إلى بيت
المقدس ؛ وهي الجنة الأرضية قلب
العالم ، التي شهدت ميلاد السيد
المسيح وطهرها بموته وذكر
لمستمعيه أنها تناديكم من أجل
تخليصها من براثن محتليها من
الكفار ، وأود أن أقرر هنا أن
تلك المدينة مثلت محوراً على
قدر عظيم من الأهمية ، من أجل
إثارة الشعور الديني لدى مستمعي
البابا وفي أغلب النصوص التي
وردت إلينا بشأن الخطاب المذكور
، نجد أن بيت المقدس تحتل مكاناً
بارزاً ومحورياً ، وهو أمر
منطقي تماماً من خلال مكانتها
وقداستها الدينية ، كذلك أنها
مثلت الحلم الجماعي الخاص بالحج
المسيحي في ذلك العصر .. ر- حرص
البابا على تدعيم خطابه بعدد من
النصوص الواردة في الكتاب
المقدس من أجل إثارة الشعور
الديني لمستمعيه ، أو ربما من
أجل أن يعطى لخطابه قداسة خاصة
مثل عبارات ذلك الكتاب في العقل
الجمعي الأوروبي في ذلك العصر ،
ومن أمثلة ذلك العبارة الواردة
في إنجيل متى وهي " من أحب
أباً وأمَّاً أكثر مني فلا
يستحقني ، ومن أحب ابناً أو
ابنةً أكثر مني فلا يستحقني "
[16] ، كذلك العبارة القائلة "
من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا
يستحقني " [17]. والتي وردت في
نفس الإنجيل المذكور .. ز-
ترتيب الأولويات عند البابا
أوربان الثاني : كان البابا
أوربان الثاني بارعاً في عرض
أفكاره وكذلك في إخفاء بعضها ،
وقد ركز على أمر بيت المقدس حتى
يقدم طريق واحداً ؛ على الغرب
الأوروبي السير فيه دون تردد
ويخلق لمعاصريه [ وحدة الهدف ] من
خلال وحدة المؤسسة الدينية
الداعية له في صورة البابوية ،
وعلى هذا الأساس لم يرد في
الخطاب المذكور أية عبارات عن
رغبته العارمة في توحيد الكنائس
وإخضاع كنيسة القسطنطينية
لسيطرة الكنيسة الأم في روما ،
كذلك لم يرد فيه ما يدل على
الهدف التنصيري وهو هدف محوري
للبابوية من خلال المشروع
المرتقب ، وتعليل ذلك الإخفاء
يكمن في أن البابوية أدركت أن
هناك أولويات في طرح المشروع
ينبغي عدم تخطيها ، وأن وحدة
العالم المسيحي تتطلب عدم تشعيب
الأهداف وطرحها حتى لا يغيب
الأمر منذ اللحظات الأول لميلاد
المشروع ، ويلاحظ هنا أن لغة
البابوية في الخطاب ذات طابع
متكتم في عرض الأهداف الأخرى
لها ، أما فيما بعد نجاح المشروع
والاستيلاء على الرمز الديني
المسيحي في صورة بيت المقدس ،
وجدنا - والأمثلة هنا أكثر من أن
تحصى - الإفصاح عن الأهداف
الأخرى بوضوح وصراحة كاملتين
وفي هذا دليل واضح على أن تلك
المؤسسة الدينية ذات التأثير
الفعال رأت تحقيق أهدافها
مجزءةً وليس دفعة واحدة ، وهو
أخطر ما في المشروع برمته ، وفي
تقديري [18] ، أن البابا أوربان
الثاني لم يغيب عن تفكيره ذلك
الجانب بحكم أنه المهندس الأول
للمشروع والراعي الأصلي لفكرته
، وفي واقع الأمر فإن الخطاب
الذي ألقاه البابا في مجمع
كليرمنت يعد على جانب كبير من
الأهمية التاريخية ، فلم نسمع
من قبل في تاريخ أوروبا القرون
الوسطى أن خطاباً كان معبراً عن
عصره بمثل هذه الصورة كما لم
نسمع عن خطاب حرك الجماهير
الأوروبية الغفيرة بعيداً عن
مواطنها الأصلية إلى الشرق بمثل
تلك الدرجة التي تحدثنا بها
المصادر التاريخية المعاصرة ،
ولذلك لا ننظر إليه على أنه مجرد
خطاب عادي ، بل أنه إعلان ما
يشبه " الحرب العالمية " في
العصور الوسطى من جانب الغرب
الأوروبي ضد الشرق الإسلامي ،
وذلك دونما مبالغة أو قولية أو
اعتساف في الأحكام ، بل من خلال
شواهد التاريخ التي وقعت في
أعقابه .. ويلاحظ أنه في أعقاب
إلقاء البابا لخطابه صاح
الحاضرون صيحة واحدة وهي الله
يريد ذلك ، وكانت صيحة المسيحية
لمحاربة الإسلام وأهله ،
واتخذوا الصليب شعاراً ومن هنا
كانت تسميتهم بالصليبيين [19].. ل- قدرة
البابا أوربان الثاني على تقديم
مشروع عام : استطاع أوربان
الثاني أن يوحَّد شعوب الغرب في
مشروع عام ، على الرغم من أن
لغات هذه الشعوب وعاداتها
المحلية ، واهتمامات أبنائها
كانت تختلف اختلافا بيناً ،
ولكن الفكرة الصليبية التي جمعت
جماهير الغرب الأوروبي لم تكن
لتنجح لو لم تكن متوافقة مع حركة
المجتمع ، هذا التوافق بين
الفكر والواقع ، بين التبرير
الأخلاقي للحرب ، وحركة المجتمع
هو الذي خلق الإيديولوجية التي
تحركت الجماهير الأوروبية في
إطارها ، فعلى المستوى الشعبي
كان تفكير الناس في أوروبا
الغربية في القرن الحادي عشر
يتوازى مع السياسة
البابويةوفكرة الحرب المقدسة
إلى حد ما ، إذ أن أوروبا كانت قد
بدأت حركة إحياء دينية مع مشرق
شمس القرن الحادي عشر ، ومع
اقتراب الألف الأولى بعد المسيح
من اكتمالها سرت موجة بالإحساس
بالذنب والرغبة في التوبة في
غرب أوروبا ، فقد تعمق لدى
الإنسان الغربي الشعور
بالخطيئة والإحساس بالذنب ،
والحقيقة أن من يقرأ مصادر
تاريخ القرن الحادي عشر في غرب
أوروبا لا يمكن أن يغفل إصرار
الناس في ذلك الزمان على أن
يضمنوا لأنفسهم غفران خطاياهم
وكان هذا نتاجاً للمشاعر
الألفية والأخروية التي ملكت
على الناس وجدانهم وعقولهم مع
توقعاتهم لمجيء الدينونة ،
وانتشر الوعاظ الجوالون في كل
أنحاء الغرب الأوروبي يحثون
الناس على الزهد والتوبة
والتشبه بحياة الفقر التي عاشها
الحواريون وفي غمرة هذا التدين
العاطفي الذي حكم تصرفات
المجتمعات الغربية سادت مشاعر
الكراهية والتعصب ضد أتباع
الديانات الأخرى ، بل وضد من
يعتنقون مذهباً غير المذهب
الكاثوليكي ، وثمة دليل قوى على
هذا في طيات الملحمة الصليبية
المعروفة باسم " أنشودة
أنطاكية " التي تعكس بشكل
أمين ؛ روح الانتقام التي سرت في
المجتمع الكاثوليكي ضد "
الوثنيين المخذولين " - على حد
زعمهم - كما أن القصيدة لا تعتبر
أن الأمة المعادية للمسيح هم
المسلمون فقط ، وإنما يصدق هذا
الوصف أيضاً على كافة من لا
يعترفون بعقيدة الكنيسة
الكاثوليكية ، وهي بهذا تجسد
التفكير الشعبي في أوروبا القرن
الحادي عشر ، هذا التفكير
الشعبي كان هو الآخر واحداً من
ملامح الإيديولوجية العامة
التي أفرزت الحركة الصليبية ،
لقد تمثل نجاح أوربان الثاني في
أن خطبته التي دعا فيها إلى
الحملة الصليبية كانت بمثابة
بؤرة تجمعت فيها كل الأفكار
التي مثلت الإطار الإيديولوجي
لحركة المجتمع الغربي آنذاك على
الرغم من الاختلافات اللغوية
والعادات والتقاليد ، وهكذا لم
تكن استجابة جماهير المستمعين
إلى البابا في كليرمون مجرد رد
فعل لبلاغة كلماته ، وإنما كانت
هذه الاستجابة تعبيراً عن فرحة
أولئك المستمعين بالمشروع الذي
مس أوتار الآمال التي كانت
تداعب كلماتهم تقريباً ، وجاءت
الحرب المقدسة ستاراً مدهشاً
يمكن للجميع أن يتحركوا من
خلاله لضمان تحقيق أحلامهم
الدنيوية وخلاصهم الأخروي ،
وبوسعنا أن نورد عشرات
التعبيرات الواردة في المصادر
التاريخية والحوليات المعاصرة
تصف الصليبيين بأنهم " فرسان
المسيح " ، " رجال المسيح
" ، " أولئك الذين يكونون
جيش المسيح " ، " الشعب
المقدس " ، " شعب الرب " ..
وهي كلها تعبيرات تشير بأن فكرة
الحرب الصليبية كانت قد رسخت في
الأذان ؛ بحيث كان الناس على
اقتناع كامل بأنهم حين يشاركون
في هذه الحملة ، لا يفعلون ذلك
استجابة لأوامر أي مخلوق ، ولا
حتى البابا نفسه ، وإنما هم
يطيعون الرب [20].. يتبع
بمشيئة الله تعالى .. ------------------- 1-
الحروب الصليبية د. علية
الجنزوي ص 253. 2- الحرب
والروم اللاتين (1/150). 3-
الحروب الصليبية د. علية
الجنزوي ص 254. 4-
المصدر نفسه ص 254 العرب والروم
اللاتين (1/56). 5- الحرب
الصليبية العلاقات بين الشرق
والغرب، د.محمد مؤنس ص 63. 6-
الحروب الصليبية العلاقات بين
الشرق والغرب د. محمد مؤنس ص 65. 7-
المصدر نفسه ص 65. 8-
الحروب الصليبية العلاقات بين
الشرق والغرب ص 66. 9- حضارة
العرب نقلاً عن دور الفقهاء
والعلماء المسلمين في الشرق
الأدنى ص 237. 10- قصة
الحضارة (15/15،16) وثائق الحروب
الصليبية ص 99 - 100. 11- دور
الفقهاء والعلماء المسلمين في
الشرق الأدنى ص 237. 12-
المصدر نفسه ص 237. 13-
الحرب الصليبية ص 51 حسن حبشي دور
الفقهاء ص 238. 14-
الحروب الصليبية العلاقات بين
الشرق والغرب ص 67. 15-
الحرب المقدسة الحملات
الصليبية وأثرها على العالم
اليوم كارين أرمسترونغ ص 35. 16-
الحروب الصليبية العلاقات بين
الشرق والغرب ص 68. 17-
الكتاب المقدس العهد الجديد،
متى، الإصحاح(10،27،28). 18-
الحروب الصليبية العلاقات بين
الشرق والغرب ص 68. 19-
الحروب الصليبية العلاقات بين
الشرق والغرب ص 69. 20-
الخلفية الأيديولوجية للحروب
الصليبية، د.قاسم عبدالله ص 24 ،
25. ـــــــــ
المصدر
: إسلام أون لاين -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |