ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الأزمة
الدعوية: إدارية أكثر مما هي
منهجية! د.
أحمد العمير مقدمة: اختلفت تقديرات المهتمين بالشأن الدعوي
المحلي لخطورة الأحداث
المتسارعة الداخلية والخارجية،
وتأثيراتها على مسيرة الدعوة
ومكتسباتها التي حققتها خلال
العقود الأخيرة _بفضل الله
ورحمته_. كما تباعدت تصوراتهم
حول آليات تقليل سلبيات هذه
التطورات، وطرق استثمار فرص
الكسب فيها؛ فمنهم المكتفي
بتفاؤله، ومنهم المتشائم
المحبط، وبين الطرفين مراحل
وتباينات. فأما الأول فمصيب مقصر، ذلك أن تفاؤله سنة
الأنبياء وثمرة اليقين بوعد
الله، لكنه لا يوصل لشيء إذا لم
يصحبه شجاعة ومبادرة ومدافعة مع
تعاون وتطاوع وحسن إعداد، والتي
هي سنن نبوية كذلك، فضلاً عن أن
التفاؤل بلا خطط عملية ملموسة
ولا حركة متنامية قد يخيب آمال
الجموع، وقد يترك انطباعاً
خاطئاً بالضعف والتراجع لدى
الخصوم، ويزيد من جرأتهم على
المصلحين. وأما الثاني فمخطئ معذور، وخطؤه بيّن
ظاهر، غير أن تقصير "الجميع"
في فهم الأزمة وإدراك مسؤوليتنا
المباشرة عن بعض أجزائها، وضعف
وتبعثر جهود المجاهدة
والمدافعة: يبرر له شعوره
النفسي بالاستياء والإحباط
الذي قل أن يسلم منه بشر يعيش
هذه الظروف. وأصحاب التفاؤل غير الفعال قد يجادلون
أصلاً في وجود الأزمة، انطلاقاً
من سعة انتشار وبيان العلم
الشرعي في هذا العصر وإقبال
الناس وتأثرهم برسالة الإصلاح _بفضل
الله ورحمته_ ثم بجهود الدعوة
المتواصلة وقناعتهم بأن خطط
الخصوم والأعداء مهما تعاظمت
وتوالت فينبغي ألا تكون مؤثرة
في مسيرة الإصلاح، لكنهم يلقون
باللائمة في حدوث العوائق على
تقصير الأفراد وتفريطهم أو
تهوراتهم، وعلى التحولات
المنهجية والتغيرات عند البعض
الآخر، ويطالبون فقط بالصبر
والاستقامة حتى يتحقق النصر،
وهنا حديثهم ينصب على الاستقامة
الفردية وليست الجماعية. بينما نجد أن الطرف الآخر المستاء
والمتألم من وضع الدعوة الراهن
ومستقبل المشروع الإسلامي
بعامة، لا يختلفون مع
المتفائلين في مبررات تفاؤلهم،
لكنهم يتساءلون عن دقة وصحة
القراءة المطروحة للواقع
الدعوي، فمع هذه المبشرات وتلك
الجهود والنتائج، ألا يمكن أن
نكون متلبسين بأخطاء متنوعة قد
تكون هي السبب الأهم في وقوع "الأزمة"
– وهي الصفة التي يصرون على وصف
الواقع الراهن بها –!؟، وليس
التفريط ولا التهور ولا
التحولات المنهجية لوحدها! بل
منهم من يرى أن هذه الأخطاء قد
تكون هي التي أفضت لهذه
التحولات وتلك التهورات وساهمت
في تضخيمها وانتشارها. وهذه المقالة تمثل محاولة لبسط رأي
الشريحة المستاءة، والتي يبدو
أن نسبتها آخذة في التزايد، تم
جمعها من خلال الإنصات المتفهم
لبعض أفرادها والقراءة
المتأملة لانتقاداتها المبثوثة
على الملأ مؤخراً بعد أن كانت
همساً وفي دوائر مغلقة، وسيكون
دور المقالة العرض والتعليق
الاستقرائي للأحداث والأفكار
والمواقف والتوجهات ذات
العلاقة، وهذا ليس حديثاً باسم
هذه الشريحة ولا نيابة عنها –
وإن كان الكاتب لا ينفي تقبله
وتبنيه للعديد مما فيها–،
لكنها محاولة لإيصال بعضٍ من
ملاحظاتها الجديرة بالتداول،
ودعوة للتأمل فيها وتبادل الرأي
حولها، سعياً للخروج من "الأزمة"
وتسديداً للمسيرة واحتراماً
لكل صاحب رؤية لا تعدم أن يكون
فيها حظٌ من الحق والصواب، فنحن
أمة يسعى بحاجتها أدناها، وقد
يحمل المُبلِّغون فيها الفقه
إلى من هو أوعى وأفقه منهم،
أخذاً بقوله _صلى الله عليه وسلم_:
"بلغوا عني ولو آية، فرب
مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل
فقه إلى من هو أفقه منه". وقد
يكون ذلكم في المسألة الجزئية
أو التطبيقات الواقعية ولا يلزم
أن يكون على الإطلاق. أولاً: مظاهر الأزمة: مع الاعتراف بفضل الله ورحمته والتحدث
بنعمه الظاهرة والباطنة على
رجال الدعوة في هذا البلد، لا
ينبغي أن نتوقف عن تلمس ومعالجة
موانع النصر الذاتية " قل هو
من عند أنفسكم" التي قد نقع
فيها أفراداً وجماعات،
والمعاصي الفردية تقف على رأس
هذه الموانع، غير أن الخطأ
الجماعي والتخطيطي لا يقل
فداحة، إذا كان غير مبرَّرٍ ولا
مستندٍ على استدلالات علمية
صحيحة ولا على وسائل شرعية
مطلوبة للاجتهاد الجماعي. وهذا هو جوهر الأزمة التي نتحدث عنها،
والتي امتدت لمدة ليست
بالقصيرة، وفيما يلي عرض لبعض
مظاهرها مع تفصيل متفاوت بحسب
ما يفرضه الغرض من عرضها. 1. تجاهل الأخطاء التاريخية: لا يتوقع أبداً من أي حركة بشرية – لا
تدعي العصمة – أن تسلم من
الأخطاء، والاعتراف بالأخطاء
التي يثبت التاريخ المشاهد
دورها في أزمة ما، يعد ركيزة
مهمة في علاج أي أزمة، والمطلوب
من أي حركة جادة في التغيير
والإصلاح أن تعنى بدراسة
مسيرتها وتشخيص أخطائها والعمل
على تفاديها والتقليل من آثارها.
ومع كل هذا، نجد أن أبرز مظاهر
الأزمة لدينا يتضح في الإعراض
عن دراسة الأخطاء فضلاً عن
الاعتراف بها ومحاولة علاجها. وللتمثيل المهم نتحدث عما تم التعارف –
دعوياً– على تسميته بمرحلة "الخطاب
العام"، والذي استفاد من أزمة
الخليج الثانية – وإن كان قد
بدأ قبلها– وانبنى على فكرة
توسيع دائرة الدعوة ومحاولة
إعادة الجميع لجوهر الهوية
الإسلامية وتذكيرهم بالمسلمات
المهددة، فهذه المرحلة رغم
الزخم الكبير الذي صاحبها، تكاد
أن تكون قد تلاشت بصورتها
الأساسية مع المحاصرة الأمنية
التي واكبت فورتها ودفعتها نحو
انحدار خطها البياني، فأصبحنا
باستسلامنا لهذا التلاشي إما أن
نكون غير مقتنعين بها من
الأساس، وهذا غير وارد، أو أن
نكون غير متفقين حقيقة على
تفاصيلها وغير متوقعين لحدة
انعكاساتها، وهذا هو الأغلب
والأكثر إيلاماً. لكن لكونها التجربة الجماهيرية الأولى
للدعوة المعاصرة في هذا البلد،
فلم يكن من المستغرب أن تقع في
الخطأ، إنما المدهش والمحير أن
تمر التجربة دون استفادة ودون
مراجعة للخطوات التالية على
ضوئها، وهذا يمثل خطأ أكبر
وأبلغ. وفيما يلي سرد لبعض أخطاء تلك المرحلة: • تضخيم الرمز، دون التأكيد عملياً وليس
نظرياً على حق تخطئته ومراجعته
بالبرهان والحجة مع الاحترام
والأدب المشاع بين المسلمين
عموماً ولمثله من باب أولى. وليس
من المبالغة في شيء لو قلنا: إن
هذه القضية بالتحديد طالت حتى
المواقف العلمية الشرعية،
فالاجتهاد الفقهي لأحد الرموز
في مسألة فقهية محددة يتعامل
معه الآخرون بحرج شديد في العلن
وإن اختلفوا معه في الدوائر
العلمية الخاصة، لا لشيء إلا
للمحافظة على مكانة الرمز،
وتناسينا تماماً المحافظة على
حق التداول العلمي الرصين
بالحجة والدليل، وأغفلنا تشجيع
الردود والاختلافات العلمية
والتي هي من أبرز مزايا هذا
الدين، حتى وقعنا في التضخيم
للرمز وسلبيات التبعية
المذمومة له، بل أوقعنا ذلك في
تناقضات وحرج علمي نجني مرارته
أمام الناس اليوم، ولك أن تتأمل
ما يقع في فتاوى لباس وزينة
المرأة أو حدود التعامل مع
الإعلام لترى حجم التغير فيها. وكان بإمكان موقف واحد يعلن فيه للعموم
اختلاف الأغلبية أو البعض مع
هذا الاجتهاد أو ذاك، أن يفعل
الأفاعيل في موازنة
الاجتهادات، بل كان المفترض أن
نحفظ للعالم الواحد حقه في
مخالفة الجمهور ما كان مستخدماً
للمنهجية العلمية الصحيحة،
وعلى هذا سار الصحابة وسلف
الأمة _رضوان الله عليهم أجمعين_. • صناعة الرمز قامت – في بعض جوانبها–
على قدرات ذاتية أفادت من
الظروف المرحلية للدعوة، ولم
تقم على وحدة بناء جماعية توصل
الرمز لمكانته بطريقة تراكمية
وموضوعية وتفرض عليه نظامياً أو
أدبياً التحاور والتواصل معها،
ولا على قناعات مشتركة محررة
ومفصلة بين الرمز والأوساط
العلمية المحيطة به تلزمه
وبدوافع ذاتية لاحترامها وتبني
اجتهاداتها، والرجوع لأمر
الشورى فيها (مما فسر التباينات
فيما بعد). • اجتهادات الرمز في التعبئة الجماهيرية
العالية والشحن النفسي للجموع
الحديثة العهد بالهداية، قد
تكون مقبولة سياسياً في ذروة
مشروع إصلاح سياسي وفي بيئة
تتقبل أو تم تهيأتها لذلك، أما
فيما عدا ذلك فهي خطأ، ورغم تنبه
البعض لذلك في حينه، لم يكن
الوسط الدعوي بالقادر على إلزام
الرمز بالتخفيف من شحن
الجماهير، ولا على الترشيد من
تأثير الجماهير عليه (...!!). مما
يوحي بأن تلك المرحلة في
تفاصيلها كانت اجتهادات فردية
عفوية، ولم يواكبها دراسات
تفصيلية ولا آليات قرار جماعية
وحيوية، ومما يؤكد هذا
الانطباع، وقوع الشلل الواضح
الذي تعرضت له أغلب الأنشطة
التي نشأت في ظل مرحلة الخطاب
العام، إلى أن ختمت تلك المرحلة
بالمحافظة فقط على المكتسبات
الدعوية والتربوية القديمة،
وهذا في عرف المدافعة السياسية
خطأ قاتل، فلا يقبل أن تخطو
خطوات نوعية أكبر من عناصر قوتك
الحقيقية، إلا أن تكون قد
حسبتها بدقة ودرست ردود أفعال
الطرف الآخر المتوقعة تجاهها،
ووضعت في حساباتك أن تتراجع عن
بعضها لا كلها عند الضرورة، ثم
تكمل بقية الخطوات كما هي أو
تغير فيها وتبني عليها غيرها
بعد أن تهدأ العاصفة، وإلا فما
الحاجة لإثارة العاصفة من
أصلها، والتفسير الوحيد لكل ذلك
يكمن في غلبة الاجتهادات
الفردية والعفوية. • ضعف قراءة الواقع المحيط وتقدير حجم
ونفوذ دوائر القوة فيه،
والمبالغة في تقدير عناصر القوة
والتأثير الذاتية أو حجم وتأثير
الجماهيرية العاطفية، أسهم
كذلك في الانعكاسات التي واجهت
تلك المرحلة. والغريب أن بعض
الرموز والشخصيات عادت بعد
المحاصرة الأمنية لتعيد
الحسابات بالكامل في هذه
التقديرات، مما يؤكد مرةً أخرى
أن القناعات والرؤى كانت فردية،
وهاهي اليوم تتغير بفردية
مماثلة. • الخلط بين معايير الدعوة الثابتة
ومتطلبات التعامل مع الظروف
الزمانية والمكانية المتغيرة،
فالتصلب في اتباع طرق ووسائل
إصلاح ودعوة تاريخية ناسبت مدة
معينة، لا ينفع في مدة زمنية
مختلفة ومتشابكة ومعقدة
المصالح والتداخلات، وللتمثيل
فقط نشير للخلط المنتشر في
حينها – ولا يزال– بين مطلب
التربية الجادة للأفراد ومطلب
إقامة مؤسسات الشأن العام
والأنشطة والبرامج المفتوحة،
فهذه المؤسسات نحتاجها بإلحاح
لهذا العصر، وهي تمثل نوعاً من
أنواع الجهاد الميداني الذي يجب
أن يتربى عليه الأفراد دون أن
تهتز مستوياتهم ودون أن يشعروا
بتناقض بين النظرية والتطبيق. • التركيز على العلم الشرعي بطريقة أو
حتى عملياً بهامشية غيره من
العلوم المعاصرة لدى الأفراد،
والاستمرار في بطء المبادرة
الجماعية للانخراط في مستجدات
العصر والإفادة من مجالاته
المختلفة حتى تفاجأنا أننا خارج
السرب تماماً على المستوى
العام، في المجالات السياسية
والاقتصادية والقانونية
والإعلامية والإدارية، التي
نعيش قصوراً كبيراً في تبنيها
بصفة جماعية وغفلة ملموسة عن
بناء مؤسساتها المتخصصة
والمؤثرة، وتردداً في توجيه
الموهوبين وأصحاب القدرات
نحوها، واكتفينا فقط بتوجيه
الانتقادات لوضع الأجهزة
الرسمية، أو توجيه النصائح
والمواعظ للعاملين الخيرين في
هذه الأجهزة، بعد أن أصبحت هذه
المجالات مملوكة بدرجة كبيرة
لأصحاب التوجهات الأخرى. • التأثر بالبيئة المحلية والتقوقع في
إطارها، رغم الادعاء بمتابعة
اجتهادات البيئات الأخرى
والتفاعل معها والاستفادة
منها، والمتغيرات الأخيرة
أظهرت كم نحن غارقون في سلبيات
البيئة المحلية وخاضعون
لعيوبها وقيودها، والحقيقة أن
القضايا الخارجية التي تفاعلت
معها الدعوة المحلية كالمسألة
الأفغانية أو الجزائرية مثلاً،
قد فرضت نفسها علينا ولم نتواصل
معها ونستفد منها ابتداءً، بل
كنا نتعامل معها بفوقية
وأستاذية وحين تكشفت الحقائق
تبين أننا لا نقل عنها أخطاءً
وسلبيات أو تأثراً بالبيئات،
والواقع الملموس اليوم يؤكد أن
فصائل الجهاد الفلسطيني تمتلك
الكثير من الدروس والتجارب
والخبرات، ويشهد بنجاحها في
التحرر من ضغط الواقع الفلسطيني
الرسمي والفئوي الذي كان
يحاصرها ويقيدها لسنين طويلة،
مما يؤكد عملياً قدرتها وتفوقها
على من حولها من التيارات
الفلسطينية، وهي بذلك تثبت
إمكانية التحرر من الضغوط
البيئية المتواصلة، وتقيم
الحجة على من أخفق في ذلك وتلزمه
بالاستفادة من طريقتها. هذه الأخطاء وإن كانت تعبر عن صفتها
التاريخية إلا أنها ما تزال
قائمة وقد يتكرر الحديث عن
بعضها – بصورتها الحالية – في
المظاهر التالية، لكن لأهمية
ربطها بمنشأها التاريخي تم
تخصيصها بالحديث هنا. 2. الشعور بالفراغ القيادي والضعف العام: وهذا أيضاً من الأدواء القاتلة لأي حركة
تغيير وإصلاح جماهيرية،
وخصوصاً بعد مرحلة انتشار وظهور
خطاب، إذ من المفترض المحافظة
على حرية حركة القيادة العلمية
الفكرية التوجيهية وفاعليتها
وقدرتها ونفوذها مهما تعاظمت
العوائق، قبل البدء بتوسيع
الخطاب، وألا يخلط بينها وبين
القيادات التنفيذية، التي قد
تظهر وقد تختفي، وقد تتراجع
وتتغير، وإذا تكالبت العقبات
بصورة غير متوقعة بعد التوسع،
فسيكون إبقاء القيادة العلمية
التوجيهية بعيدة عن الخصومات
اليومية، وقادرة على التأثير
بالجماهير وخلق أجواء
الاستجابة لها بنزاهتها
العلمية وتجردها وإخلاصها
للمبدأ، ضرورة من الضرورات كي
يستمر وهج الرسالة ولا يتوقف –
بإذن الله – عند إيقاف هذه
القيادة التنفيذية أو تلك، أو
منع هذا البرنامج أو ذاك. والأزمة لدينا أن القيادات العلمية
والفكرية جمعت بين الدور
الإشرافي التوجيهي والدور
التنفيذي، أو بين رسم السياسات
واتخاذ وتنفيذ القرارات، وحين
عرّضها هذا الجمع للمحاصرة،
تراجع حضورها بشكل ملحوظ ،
وتُركت الجموع دون توجيه بعد
التواصل شبه اليومي فيما سبق،
فنشأ عن ذلك فراغ قيادي على
المستوى العلمي والتوجيهي
العام، استغله الخصوم بتسريع
برامجهم التغريبية وبمحاصرة
البرامج الإسلامية. ولعل نموذج الشيخ أحمد ياسين _رحمه الله_،
وأثره في حركة حماس وغيرها من
حركات المقاومة الفلسطينية،
يوضح بجلاء ذلك النوع من
القيادة العلمية التوجيهية
والمستمرة الأثر رغم الإعاقة
والسجن، وستتواصل _بإذن الله_
بعد الشهادة، ومن ذكاء وفطنة
إخواننا هناك أنهم لم يسموا من
يشغل دوره من بين القيادات
العملية التنفيذية. 3. الاقتصار على دوائر الدعوة التقليدية: التركيز على القطاعات التعليمية ومساجد
الأحياء والمؤسسات الإغاثية
الخارجية وما يرتبط بها من
مشاريع، هو السمة البارزة
للدعوة المحلية، وهذا ليس
تقليلاً من نفع وخيرية هذه
الدوائر، ولكن المعطيات
القريبة والبعيدة كانت تدفع
وبإلحاح للبحث عن دوائر جديدة
تناسب طبيعة هذا العصر وتتفاعل
مع تطوراته، كما أن الفرص كانت
متاحة، لكننا مضينا في التردد
والمبالغة في التحوط وبطء
الحركة والمبادرة. ومن المفارقات العجيبة، أن العديد من
شباب الدعوة الذين سافروا
خارجاً للدراسات العليا،
وحرصوا على مواصلة رسالتهم
الدعوية صدموا بالفارق الكبير
بين تنوع وعلنية وحيوية وانفتاح
البرامج الدعوية في تلك الدول
وبين ما تربوا عليه، وحصل لديهم
صراع نفسي انتهى ببعضهم
للانقطاع عن العمل المنظم،
وبالبعض الآخر لفقد القناعة بما
كان عليه والتردد فيه. بطبيعة
الحال الدعوة في تلك الدول هي
حصيلة تلاقح عدة تجارب من مدارس
دعوية مختلفة، ونتيجة تأثر بنمط
الأنشطة الاجتماعية العامة في
الدول الغربية، لكنها لا تخلوا
من إيجابيات، ومن حق أولئك
الشباب أن يقولوا: إن دعوتنا
المحلية هي أيضاً حبيسة البيئة
التي نشأت فيها وتقولبت فيها،
وكان من المفترض أن تتحرر منها
وتنفتح على الآخرين، وتستفيد
مما لديهم وتتعرف على عيوبها من
خلالهم، ومن ثم تبتكر وسائل
ودوائر جديدة وتتحصل على
الأسبقية بنقلها إلى البيئة
المحافظة بضوابطها وقيودها
التي تحرص عليها، ولا تنتظر حتى
تفرض عليها من غيرها وبالطريقة
التي لا تريدها كما هو حاصل
الآن، والمصيبة أن هذا التحفظ
التقليدي والانغلاق النسبي في
أنشطة الدعوة المعتادة، والذي
كان دافعه الحرص على جودة
التربية وجديتها، أصبح مدخلاً
كبيراً على الدعوة مع المتغيرات
الأخيرة، مما يؤكد الخطأ في هذه
الدرجة من الانغلاق، وهذا الشح
في تنوع الأنشطة وانفتاحها على
المجتمع. 4. المبالغة في الترفع عن الواقع،
واستهداف النخبة: بعد المحاصرة الأمنية التالية لمرحلة
الخطاب العام، عادت الدعوة
للفكرة القديمة التي طرحها بعض
مفكريها المعاصرين، والتي تقضي
بأن الوسيلة الأسلم للإصلاح
تتلخص في "صناعة قلة تنقذ
الموقف"، فتمحورت الجهود على
اصطفاء النخبة واستهدافهم في
شتى القطاعات، ومع التقدير
الشديد لتلك الشخصيات الفكرية
ومسيرتها العلمية، إلا أن
تعقيدات هذا العصر وتداخل
مجالاته وتشابك مصالحه، تجعل
نجاح هذه الطريقة أمراً صعباً
في هذه الظروف، وإن كانت قد نجحت
في أوقات ماضية. والواقع الملموس يشهد بأن القلة
المتوافرة اليوم في العديد من
المجالات، لم تستطع أن تُحدث
تأثيراً يذكر، إن لم نقل أنها هي
التي تأثرت بالواقع الضاغط
المحيط بها، أو أنها استسلمت –
مغلوبة على أمرها – لتوجهه
العام ولمصالح وأهواء
المتنفذين فيه. هل يرجع ذلك
لعيوب ذاتية في هذه القلة، قد
يكون، ولو صح فهو يشي قبل كل شيء
بفشل برامج الإعداد لهم؛ غير أن
عصر الاتصالات الواسعة الذي
نعيشه وطبيعة ثقافاته المتحررة
ومجتمعاته المنفتحة ودوله
وأنظمته المتداخلة المصالح،
يقتضي التفاعل والتواصل مع كل
الطاقات والتخصصات ومع كل
الأنشطة والمؤسسات وكل
المسؤولين والمديرين في محاولة
حثيثة لتغيير القناعات وإخراج
الرؤية الإسلامية من الإقصاء
العملي الذي وضعت فيه. ينبغي
الانخراط في كافة طبقات ومؤسسات
المجتمع، والتنسيق مع كل
المعتزين بالهوية الإسلامية
وغير المناوئين لها، والاتفاق
معهم على جوهر الرسالة الدعوية
ولفت أنظارهم للتحديات التي
تتعرض لها وواجبنا جميعاً في
التكاتف لتغيير الواقع. 5. معضلة نقل الرؤية والتصور إلى الواقع: امتداداً للمظهر السابق من مظاهر الأزمة،
لا بد من التنبه إلى أن مسؤولية
نقل الرؤية الشرعية الراجحة
والتصور الإسلامي الصحيح لما
يجب أن يكون عليه واقع المسلمين
اليوم، من مرحلة التنظير
والتدليل التي أجادت الدعوة في
بلورتها ونشرها إلى مرحلة
التطبيق العملي الملموس، لا
يمكن أن تنفرد بها قلة أو نخبة،
وسيكون من الإجحاف والظلم
تكليفهم لوحدهم بهذه المسؤولية.
وهذه المعضلة بالتحديد هي مفترق الطرق
للعديد من الدعوات المعاصرة،
فالعجز والخلل والارتباك يتضح
بأجلى صوره عند تحول هذه
الدعوات إلى البرامج العملية
الواسعة للتغيير، وكأنها تحسب
أن دورها ينتهي بالإحياء العلمي
والتأصيل النظري، بينما هو في
الحقيقة لا يبدأ إلا مع الإحياء
العملي للحق والعدل والسُنّة،
ومع الخطوات والجهود الميدانية
لنقل الواقع مما هو عليه من
مخالفات إلى الرؤية الإسلامية
الصحيحة. وما تفعله قبل ذلك ليس
إلا بعثاً وتجديداً لعلمٍ سبقها
إليه من كان قبلهان ونوعية
وحكمة ذلك الإحياء العملي وتلك
الخطوات والجهود هي المحك
للنجاح أوالفشل في مهمة
التغيير، وليس حجم العوائق
المحيطة. والدعوة المحلية ليست بدعاً في ذلك،
ومعضلة التغيير العملي هي أبرز
ما تواجهه، رغم قلة البحوث
والدراسات لذلك، وعجز القلة
يعود بالدرجة الأولى لانعدام
الرؤية الاستراتيجية للتغيير
عند عموم الأوساط الإسلامية.
فالنخبة مهما أوتيت من ملكات
وقدرات لا تستطيع أن تعمل بدون
خلق أجواء دعم ومساندة واسعة،
وبرامج تفعيل ومتابعة لجهود
تغيير القناعات والترويج
للرؤية الإسلامية الصحيحة،
وهذا سيقتضي وجود علاقات عامة
فعالة وحركة ميدانية حية بين
كافة الطبقات ومهارات عالية في
التواصل مع الناس والصبر على
أذاهم. بينما واقع الأزمة اليوم، يشهد بأن القلة
المعول عليهم – بعد الله تبارك
وتعالى – لا يجيدون في الأغلب
سوى مهارات كسب أعداد جديدة
للدعوة وعلى استحياء داخل أجهزة
ومؤسسات المجتمع،حتى يصبحوا
أرقاماً متزايدة غير مؤثرة
ومغلوبة على أمرها. بينما هي لا
تتنبه – إن لم تكن لا تجيد –
للتعامل مع أصحاب القرار
والمؤثرين في هذه الأجهزة. 6. الإعراض عن أنشطة الاحتساب العام
والدفاع عن الحقوق: لئن كانت الدعوة المحلية بفصائلها
المختلفة قد نجحت بالتأصيل
النظري والعلمي للاحتساب على
الحاكم وإداراته الرسمية،
وسبقت غيرها من أصحاب التوجهات
الأخرى في هذا المجال، وتحملت
في سبيل ذلك الكثير؛ إلا أنها –
وبكل صراحة – أخفقت وتأخرت في
تطبيقات ذلك العملية، مما أفسح
المجال لاجتهادات غير مضبوطة
وغير محسوبة النتائج جرّت على
غيرها الكثير من التبعات،
وأوجدت مستنداً لأجهزة السلطة
المختلفة للمحاصرة وتشويه
الصورة. ومظهر الأزمة هنا، أن الدعوة تأخرت
وترددت عن السعي المتدرج المؤيد
بالاستدلال الصحيح، وعن انتهاج
السبل الأسلم والأفضل والأكثر
قبولاً لظروف وواقع البلد، ولا
بد من توقع التضييق والإساءة
والأذى والاستعداد لتحمل كل ذلك
دون تراجع. وغاب عن الساحة معلم مهم لأي حركة دعوية
إصلاحية، ألا وهو رفع الظلم
أنّى كانت صوره ورد الحقوق
المنتهكة والمغصوبة ومحاربة
الفساد المالي والإداري، وليس
فقط الأخلاقي وكان بالإمكان
تحقيق شيء من ذلك عبر التدرج
وعبر كسب بعض الأطراف الموجودة
داخل السلطة والمتذمرة من هذه
الأوضاع، بشرط أن تكون الجهود
هنا شرعية وباسم الجميع ولصالح
الجميع وليس باسم حزب أو تيار
معين. 7. تباين الاجتهادات: لم يعد سراً وجود التباين بين القيادات
العلمية ورجالات الجيل الأول من
كيان الدعوة، ومع أن الأحداث
العالمية والمحلية قد زادت من
هذا التباين، إلا أن بذوره كانت
موجودة من قبل ولم تحسن الأوساط
الدعوية طوال مسيرتها المعاصرة
أن تضع حلولاً عملية لتحرير هذه
التباينات والتقريب بينها، أو
العمل على تفهمها وخلق أجواء
التعاون والتنسيق فيما بينها،
رغم أن ما يجمع هذه القيادات
أكبر بكثير مما يفرقها،
والحقيقة أن التأمل المتجرد في
هذا التباين يوصل للملاحظات
التالية: • كل طرف معه جانب من الحق يتشبث به
ويجادل من أجله، حتى وإن اختلط
بجوانب أخرى من الخطأ لازمة له،
وعادة ما يمثل ذلك رمزاً أو أكثر
ومن يلتقي معهم من القيادات
المؤثرة، ويمتنعوا تبعاً لذلك
عن التنسيق مع الآخرين حتى
يقروا لهم بالحق الذي هم عليه
ويحترموا اجتهادهم فيه دون
اتهامات، وقد يشترطوا تبعية
الآخرين لهم في هذا "الحق"
الذي يظهر لهم، قبل أي خطوة
ملموسة للتنسيق، وبطبيعة الحال
هذه الوضعية غير مقبول
استمرارها من طبقة القيادات،
رغم العلم ببشريتهم وتأثرهم بمن
حولهم، لكن المقصود هنا أنها
تستمر لافتقاد آليات حل حقيقي
يحفظ حق كل طرف وأهليته ومكانته
ويؤلف بين القناعات المختلفة. • تراكم الأخطاء ومظاهر الأزمة الدعوية
السابق ذكر بعضها، دون توجه
حقيقي وفعال للإصلاح والتعديل،
وامتلاك الطرف الأكثر تحفظاً في
آليات وأساليب الدعوة للتأثير
والنفوذ داخل الوسط الدعوي؛ كل
ذلك زاد من تغير القناعات
وتباين الاجتهادات مع توالي
الأحداث والمتغيرات التي تحتاج
لحيوية وتفاعل سريع ومبادرات
تقتنص الفرص التي لا تتكرر
بسهولة ولا تحتمل التأخير. • تغير قراءات موازين الكسب والخسارة
تبعاً لتغير القناعات وتعدد
المؤثرات على القادة محلياً
وخارجياً. إذ مع افتقار الطبقة
القيادية لآليات التداول
الشوري الحقيقي الذي يسمح بنقاش
القضايا المهمة بكل وضوح وتجرد،
أدى إلى تضخم هذا التغير في
تقدير موازين الكسب والخسارة
وتبدل القناعات، وأسهم في ظهور
بعض الخطوات الجديدة على
الساحة، والتي أوضحت بجلاء قدرة
أصحابها على التأثير، ووجود من
يقتنع بطرحهم ويرغب في توسيع
دائرة قناعتهم وسحب الآخرين
إليها. حتى وصل الأمر إلى تجاذب
مكشوف. 8. العجز عن استيعاب المستجدات: وهذا الملحظ هو قطعاً نتيجة طبيعية
للمظاهر السابقة، إذ رغم أن
أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد
فاجأت الدول قبل الحركات، إلا
أن قدرتنا على استيعاب هذه
المفاجأة واحتواء تأثيراتها
على الساحة وعلى الصورة العامة
عن الدعوة التربوية لدى
الجماهير، كان دون المتوقع،
والمشكلة الأبرز في هذا الحدث
الذي يتبناه أصحاب المشروع "الجهادي"
(...) هو أنه وضع المشروع الدعوي
التربوي والطويل المدى على
المحك وعرضّه لتحدٍ حقيقي،
وأعطى انطباعاً عاماً بأن فشل
المشروع الدعوي التربوي هو الذي
أفسح المجال للاجتهادات
الجهادية غير المحسوبة
النتائج، كما أنه أحرج الجميع
بتناول قضايا حساسة لم يكن في
الحسبان أبداً الحديث عنها،
فحصل الاضطراب ولم ننجح في
احتوائه وتوجيهه والإفادة منه
بالصورة الأمثل، مع توافر فرصة
كبيرة لذلك. 9. ارتباك الصفوف: وهذه نتيجة حتمية للتباين بين القيادات
وظهور الفراغ الملموس في
القيادة التوجيهية المؤثرة
والقادرة على التوحيد
والتفعيل، سواءً على المستوى
الفردي أو الجماعي، ومظاهر هذا
الارتباك واضحة للعيان
وتتلمسها في هذا المجلس أو تلك
العبارة، ويزيد من تفاقمها
الحضور – المتهور– للتيار
الجهادي، وتراجع الدعوة
التربوية على المستوى
الجماهيري العام أمام هجمات
التغريب والعلمنة، وضعف
مشروعها أمام نفوذ ونجاح خصومها. 10. رجال دعوة وحسبة ودولة!؟: من المفارقات، التي قد تفسرها الضغوط
المتتالية من الخصوم، والشعور
بالهزيمة مع الفراغ القيادي،
لكنها لا تبررها أبداً، إصرار
الجميع على الخوض في قضايا
الشأن العام، فأصبحت كوادر
الدعوة على مختلف مستوياتها
تشعر بالأزمة وتبادر على سجيتها
للمساهمة في الحل، وأحياناً تجد
من يؤيدها باعتبار الحاجة
لتفعيل الطاقات، وهذا مظهر من
مظاهر الأزمة وعامل من العوامل
الخطيرة لتفاقمها، فالدولة
وشؤونها والتعاطي مع رجالها
ومؤسساتها تحتاج عناصر منتقاة
ومؤهلة بعناية. 11. صناعة المواهب ثم تكبيلها: وهذه مأساة بحد ذاتها، حين ترى المواهب
الفردية المتعددة التي تزخر بها
الساحة الدعوية ثم لا تتمكن من
استثمارها وتنميتها ولا تتمكن
من خلق فرص ومشاريع وبرامج
دعوية تنطلق من ملكات وقدرات
هذه المواهب وتستوعبها؛ والسبب
هو: التحفظ التقليدي عند صاحب
القرار الدعوي على بعض هذه
المواهب وأفكارها المتعدية،
وهذا في تقديري هو الفشل بعينه،
فالنجاح هو في كسب هذه النماذج
وحسن الاستماع لها واستمرار
قناعتها بالمشروع الدعوي
وتفاعلها معه، وليس افتعال
مشكلة معها والتضييق عليها حتى
تهرب بعيداً عنا، والموهوبون
بطبعهم مشاكسون، والحل الأسهل
لمشكلتهم عند المسؤول التقليدي
يكمن في التخلص منهم والإبقاء
على المسالمين الطيعين، في حين
أننا نردد كثيراً أهمية تربية
القادة وليس الأتباع، ولا أدري
كيف نصنع القادة من الطيّعين!؟ 12. من يقيّم من؟: وهذه معضلة مزمنة مرتبطة بالقضية السابقة
ومسببة لها، أسهمت في خسارة
الدعوة للعديد من الشخصيات
المبدعة والمؤثرة، وما لم يتم
علاجها بأسرع وقت فسيستمر
الهدر، ومردها في تقديري (شخصنة)
التقويم بدلاً من (منهجته)
وموضوعيته، والذي ينشأ بطبيعة
الحال عن إطالة مدة المسؤول
وعدم إشعاره بمتابعته هو أيضاً،
وكل ذلك ينشأ بسبب انغلاق العمل
الدعوي جزئياً أو كلياً. والحل
الحقيقي يتمثل في انفتاح العمل
ما أمكن، لكن بشرط (مأسسة) هذا
العمل ووضع الضوابط الدقيقة له
وتقليل الحظوظ النفسية والعيوب
البشرية من خلال فرق العمل
المترابطة والأنظمة المؤسساتية
الشورية حقاً وواقعاً، لا
ظاهراً وشكلاً عبر مؤسسات صورية
تكرس الفردية أو الشللية. 13. تضخيم المسؤولية الفردية، ونسيان
المسؤولية الجماعية: ومع المثالية العالية في التعامل مع
الأفراد، ونقص المراعاة لظروف
الزمان والمكان التي يعيشها
الناس اليوم، نجد التضخيم
الزائد لمسؤولية الأفراد عن
الأزمة القائمة، والحديث
المتكرر عن الأخطاء والمعاصي
الفردية ومظاهر الضعف والقصور
والفتور والتغير والتحول و...،
إلى ما هنالك من هذه المفردات،
لكننا لا نجد أبداً أي إشارة
للأخطاء الجماعية التي يتحملها
الجميع دون استثناء، ولا نجد
الحديث عن مسؤولية الرموز
والقيادات العلمية والفكرية أو
التنفيذية وما تتحمله من تبعة
مباشرة عما آلت إليه الأمور
الدعوية مؤخراً. والحقيقة البشرية الثابتة، تؤكد أن عطاء
الأفراد وجهودهم وتضحياتهم
ترتكز بشكل كبير على البيئة
العملية الجماعية التي توفر لهم
أجواء البذل والتفاعل والسعي
المتواصل، والضعف الذي يعتريهم
مع توافر هذه البيئة يتحملون هم
مسؤوليته بالكامل، ولكن عند
تفكك وضعف هذه البيئة يصبح
تحميلهم المسؤولية دون غيرهم
نوعاً من التعدي والجفاء. ومن الجانب الآخر، فلو أدرك هؤلاء
الأفراد طبيعة هذه الرسالة
وطبيعة الدور المطلوب منهم ومن
القادة والرموز، لما قبلوا هذا
الواقع المتأزم ولطالبوا
بالحركة والمدافعة، بل سيكون من
حقهم لو طالبوا – بالوسيلة
الشرعية الصحيحة – بتغيير
القيادات البطيئة المترددة إلى
الفعّالة المتحركة، فلا محاباة
في هذه الرسالة كما تقضي بذلك
أدبيات الدعوة، وحيث لم يحصل
شيء من ذلك فلا بد أن نتساءل عن
نتائج المسيرة الدعوية من أصلها. توصيف الأزمة: مما سبق يتضح أن الأزمة متعددة الجوانب
والأطراف، ومن الخطأ حصرها في
جانب واحد أو في مظهر واحد. غير
أن السمة الغالبة التي نستطيع
تلمسها في كل المظاهر السابقة
ويحق لنا وصف الأزمة كلها بها
دون تردد، هي سمة الأخطاء
الإدارية والقيادية والجماعية
العامة. والحل الحقيقي لها ينبغي أن يكون
إدارياً، ولا يمكن أن تنجح
الحلول بدون هذا المحور. ثانياً: مقترحات للمرحلة القادمة: مما يزيد الأزمة تفاقماً أنها تأتي في طور
تبدلات وتحولات جوهرية في مسيرة
البلد، يتم فرضها والترويج لها
بشكل سافر في ظل ما يسمى بـ"الحرب
على الإرهاب". هذه الحرب
الفضفاضة والمليئة بالغموض
والمفاجآت، قد أتاحت للبلد فرصة
التحول من تهمة دعم الإرهاب –
التي أشاعها الحليف الأمريكي
بغرض المساومة والضغط السياسي
– إلى أن يكون ضحية له، كما
أتاحت له فتح وتفعيل العديد من
الملفات والأجندات المعلقة
لسنين طويلة دون حسم. فبسبب تورط المجموعات المسلحة في الأوساط
الإسلامية المحلية، بشكل مباشر
أو غير مباشر، تبدو البلد
مؤخراً وكأنها تشكك في أوضاعها
السابقة وتتراجع عن بعضها، وعلى
هذا الأساس انطلقت موجات تطوير
الخطاب الديني ومحاربة أحادية
الرأي وتغيير مناهج التعليم
وإشاعة روح المحبة والتسامح
والترويج لثقافة الحياة بدل
ثقافة الموت وللمنهج الجلي بدل
المنهج الخفي وبلورة
استراتيجية ثقافية وطنية جديدة(...!!).
في ظل كل هذه الشعارات البراقة
الخدّاعة يتم اليوم إلقاء
اللائمة في ذلك كله – جزافاً–
على التشدد الديني الذي "ابتدعته"
الدعوة الإسلامية المعاصرة
وجلبته إلينا من الخارج(...!!)،
كما يتردد بشكل ممجوج في وسائل
الإعلام المحلية، فيدخل البلد
بذلك في طور جديد، يجد فيه
العديد من المتربصين السابقين
فرصة للتصريح والمطالبة
العلنية بالتعددية المذهبية
والفكرية والثقافية وبالحرية
الاجتماعية. واللافت للنظر في كل هذه التحولات
والشعارات، أنها تقتصر على
مراجعة واسعة وشاملة للصبغة
الدينية للبلد، وتحويلها من
التشدد إلى التيسير والتسامح
ومن الأحادية إلى التعدد، في
نفس الوقت الذي يحرم فيه ويجرم
أي مخالفة أو أي تعددية في الرأي
حول أداء أو قرارات وخطوات
الحكومة، وهذا تعسف واختزال
وانفعال في التعامل مع البعد
الديني لأي مجتمعٍ كان، وفي هذه
البلد تحديداً، ولا يمكن أن
تأتي الحلول المتعجلة
والمفروضة قسراً في المسألة
الدينية إلا بنتائج عكسية، حتى
وإن كان صاحب القرار مقتنعاً
بخطأ و تشدد الأحوال الدينية
السابقة وحاجتها للتغيير،
وحاجته هو للتوقف عن مجاملة هذه
الأحوال. فمعالجة بذور التطرف والغلو لا تأتي من
خلال لعبة التوازنات السياسية
المعروفة، ولا عبر تقليص نفوذ
وفرص الأغلبية بتوسيع فرص
الأقليات ، وخصوصاً إذا كانت
هذه التحولات التعددية
والانفتاح الاجتماعي يأتيان
بصورة مفاجئة، وفي ظل استمرار
للتشدد والانغلاق السياسي. كل ما سبق يزيد من فداحة الأزمة الدعوية
الإصلاحية، ويضاعف من
مسؤولياتها ومن التحديات في
طريقها، ويفرض عليها السعي
الحثيث نحو تغيير حقيقي ونوعي،
وفيما يلي أفكار مقترحة لشيءٍ
من ذلك التغيير المطلوب. 1. توسيع دائرة الكفاءات القيادية
المتخصصة: لا بد من إشراك وتفعيل أكبر عدد ممكن من
الكفاءات القيادية في كافة
التخصصات، وإشعارهم بالأهمية
والتواصل معهم والاستماع
لآرائهم ومقترحاتهم
وانتقاداتهم، وحشد جهودهم
جميعاً للمطالبة بالعودة إلى
الرؤية الإسلامية الصحيحة
والصافية والمتضمنة للعدل
والحق والهدى، والبعيدة عن
الهوى والمصالح الآنية الضيقة،
والتعامل في ذلك مع كل من يلتقي
مع هذه التطلعات أياً كان موقعه
وخلفيته، بشرط أن يتم الفصل بين
دوائر اهتماماتها وقدراتها
والتأكيد على عدم التداخل بينها
حرصاً على فاعليتها والتناغم
بينها. ويمكن على سبيل المثال تقسيمها للدوائر
الثلاث التالية: • كفاءات علمية تربوية: تتابع العمل
التربوي الدعوي، بقسميه:
التعليمي الذي يعنى بتربية
الطلاب في المراحل التعليمية
العامة، ويقتصر العاملون فيه
على المدرسين والمرشدين،
وينبغي أن يكون رسمياً وببرامج
معلنة، وقسمه الوعظي الذي يعنى
بالدعوة التوجيهية لعامة
الناس، ويرتكز على أئمة المساجد
والدعاة والخطباء وهو في واقعه
ظاهر ومكشوف، لكن بشرط أن يتحول
جوهر هذه العملية من الإصلاح
الفردي المجرد ومن الإحاطة
الوجدانية والنفسية ببيئة
الرفقة الصالحة المحدودة، إلى
الإعداد الحقيقي للنفسية
المؤمنة عن يقين وقناعة راسخة،
وللعقلية المفكرة والمبدعة
والباحثة عن الحق والمناضلة من
أجله أمام الجميع، والمتهيأة
لذلك بالثقافة الإسلامية
المتزنة وبالوسطية الحقة لا
المدّعاة، وأن يحرص الجميع على
إطلاق روح جديدة للدعوة تتمحور
حول قيمة الإنسان وكرامته
واحترام حقوقه وتحريره من كل
القيود والحدود إلا من تلك التي
شرعها الله _تبارك وتعالى_ وقضى
بها.. وبشرط ألا تتهور هذه
الكرامة وتلك الحرية فتتعدى على
كرامة الآخرين دون وجه حق، وألا
تتعدى وتتجاوز حدود الله وأحكام
شرعه القويم خصوصاً في التعامل
مع الخلق، كما يفترض أيضاً بهذه
الروح الجديدة أن تصرّح وتفاخر
بوجودها وتعلن وتنشر برامجها. • كفاءات العمل المؤسسي المدني، والتي
ينبغي أن تشمل جميع الكفاءات
المتخصصة المتبنّية للرؤية
الإسلامية الصحيحة والمتفاعلة
معها في عموم الأجهزة الحكومية
المختلفة، وفي كافة المؤسسات
الأهلية المحلية في المجالات
الإعلامية والاجتماعية
التأهيلية والاقتصادية
والخدماتية والمهنية، ويعمل
الجميع على تشكيل ما يمكن لنا
تسميته بطبقة "التكنوقراط"
الإسلاميين، والمطالبة الحثيثة
تبعاً لذلك بتنمية ومساندة ودعم
رؤيتهم الإسلامية وتوسيع دائرة
تطبيقاتها المتنوعة ومعالجة
العوائق والتحفظات التي
تعترضها، ومزاحمة الأنماط
والسلوكيات المعارضة لها
ومدافعة مصالح الملأ المنتفعين
بمخالفتها، ولهم أن يتحركوا على
أساس أن رسالتهم ورؤيتهم التي
ينطلقون منها هي الأصل في هذا
البلد وعلى هذه الأرض المباركة،
فلا يمكن أن يتخلوا عنها وعن
مسؤوليتهم تجاهها خوفاً من نفوذ
ومصالح وأهواء بعض المعرضين
عنها والمنخدعين بما لدى
أعدائها. • كفاءات العمل السياسي: وهذه ينبغي أن
تنتقى بعناية فائقة من بين
المهتمين بالشأن العام في أوساط
المتبنين للرؤية الإسلامية
الصحيحة وحلولها المطروحة
لمواجهة الأزمات التي أثقلت
كاهل البلد وأربكت مسيرته،
ولندرة هذه الطبقة في الأوساط
الإسلامية ولقلة خبرتها يفترض
بأصحاب القرار الدعوي أن يبحثوا
بأسرع وقت عن الوسيلة الأفضل
لتأهيلها وإعدادها، والإفادة
في ذلك من دورات التدريب
المعاصرة لمهارات العمل
السياسي والجماهيري، ثم تكلف
بمهمة التفاعلات والتداولات
السياسية المختلفة المعبرة عن
موقف الرؤية الإسلامية بصورة
ناضجة ومتعقلة ومقنعة، وغير
متنازلة في نفس الوقت. وهذه الدوائر ينبغي أن تعمل باستقلال تام
عن بعضها البعض، لكن مع التعاون
والتكاتف وبالتنسيق والدعم
المتبادل، فلا يفتات أحد على
أحد ولا يستغني أحد عن أحد،
فمخرجات الدائرة التربوية
يعتمد عليها الجميع، وأنشطة
وبرامج دائرة التكنوقراط
يستفيد منها الجميع، ومواقف
دائرة السياسيين يتكأ عليها
الجميع. وبالمفهوم الاقتصادي،
يمكن لنا التمثيل بالحاجة – في
المشروع الدعوي الإصلاحي –
لوجود شركة قابضة تضم عدة شركات
مستقلة ذاتياً ومتناغمة في ظل
الشركة القابضة، بدلاً من شركة
العائلة الواحدة ذات الأنشطة
المتعددة والمكبلة لحيوية
قرارها بسبب مركزية واختلافات
العائلة. 2. حسم الموقف من المشاركات السياسية: أهمية حسم هذه القضية ليست مرتبطة – فقط
– باحتمالات توسيع المشاركة
فيما يأتي من المراحل السياسية
للبلد، ولكن – من باب أولى–
بالحاجة الواقعية المّاسة
للخروج برؤية عملية واضحة حول
القضايا السياسية المختلفة
والاجتهادات المتباينة في
الساحة الدعوية الإصلاحية فيما
يتعلق بالخيارات الأسلم
للتعامل مع تغيرات وتحولات
البلد الأخيرة، ولئن كانت
التخطئة واسعة لنهج التيار "الجهادي"
في تعامله مع أوضاع البلد
السياسية والأمنية، فإن التردد
ظاهر كذلك في نهج التواصل مع
الواقع السياسي الرسمي والعمل
من خلاله، وإن كان هذا الأخير
بدأ يحظى بالاتساع مع
الاكتشافات "المتأخرة"
لنفوذ هذا الواقع وتمكنه. وعلى هذا فالمنتظر من الطرف الأكثر
انتشاراً في الأوساط الدعوية
والمتمسك بترفعه عن الواقع
السياسي الرسمي وبتحفظه على
تجاوزاته، أن يقدم النموذج
العملي الفعلي للاعتدال الشرعي
الذي يتطلع إليه في التعامل
السياسي مع هذا الواقع، وليقدم
بشكل ملموس محسوس وليس بتنظيرات
مثالية، القدر الممكن من
التفاعلات السياسية البعيدة عن
التفريط أوالإفراط اللذين يحذر
منهما، والخالية من التكالب
المخجل على التواصل الرسمي ومن
الإعراض الجافي عنه المؤدي
لتفرد الخصوم والنفعيين به،
فالإعراض السلبي في هذه المسائل
لا يخدم قضية ولا يقيم حجة،
والتذرع بالحذر من الانعكاسات
والمآلات هو في حقيقته دليل على
العجز أو نقص روح المبادرة،
ويمنع من استصلاح ما يمكن
إصلاحه ودفع ما يمكن دفعه
ميدانياً في هذا الواقع السياسي.
فمن المفترض أن نحسن استثمار هذه المرحلة
وما فيها من فرص، وألا نستمر في
دوامة الأخطاء المتراكمة، بل
ننتقل نحو مرحلة المبادرات
المدروسة والمتزنة، والمهيأة
لتحمل كل التبعات المحتملة،
وذلك بإقناع صاحب القرار
السياسي(...)، وفرض الخيارات
الشرعية والوطنية الحقة عليه –
البعيدة عن خيارات وطموحات
المنتفعين من حوله – وحشد
التأييد الشعبي لهذه الخيارات
الشرعية، ويمكن تحقيق شيء من
ذلك بتوظيف تهورات الطابور
الأمريكي في البلد والتي بدأت
مؤشرات التذمر الرسمي منها
تتزايد، ومن خلال تفعيل وترشيد
مواقف الغالبية المحافظة في
المجتمع وإخراجها من السلبية
القاتلة أومن التهور المربك. ومن المهم لتحصيل ذلك ألا يجد المغرضون –
في المبادرات والخطوات
المطلوبة – مستنداً لتهمة
الافتئات على الحاكم أو نزع عصا
الطاعة ولا لتهمة تفكيك الوحدة
الوطنية، بل تكون بالاحترام
الواجب لمنصب السلطة وبالوسائل
المقبولة شرعاً وواقعاً
سياسياً عالمياً، وألا تثير
التوجس من احتمالية منازعة
الامتيازات التي تكونت في تاريخ
البلد – كما في غيره من سائر
البلاد – فهذا في الأصل ليس
هدفاً للرسالة الدعوية، ما كانت
هذه الامتيازات مقبولة عرفاً
ولا تخالف شرعاً راسخاً ولا
تهدر حقاً إنسانياً، إذ إن هدف
الرسالة الدعوية ينبغي أن يكون
إقامة العدل والقسط والشهادة
بالحق ولو على النفس، وليس
منازعة الخلق في حظوظهم
الدنيوية. 3. إعلان الموقف من الأوضاع القضائية
والقانونية والإدارية: يضج واقع الناس بالعديد من المآسي
والمظالم التي لا يجدون سبيلاً
لرفعها في ظل الأوضاع القائمة
في المحاكم والإدارات المختلفة
ذات العلاقة، وكان من سياسة
الأوساط الدعوية العلمية
الإعراض عن تناول هذه الأوضاع
بالحديث أو النقد المباشر، ربما
لما تمثله من خلفية شرعية
وقضائية، لكن مع التغيرات
والتحولات العديدة المحيطة
بنا، سيكون من الضروري إعادة
النظر بهذه السياسة، والتصريح
بالتحفظات الموجودة على هذه
الأوضاع سواءً كانت لعوائق
إدارية وإجرائية أو لأخطاءٍ
علمية وتطبيقية، ولا بد من
حماية حقوق الناس، ورفع الظلم
عنهم، وتسهيل حصولهم على حق
الشكوى، ورفع الدعاوى، والدفاع
عنهم المكفول لهم وحقهم في
المحاكمات العادلة، وتحصيل
الحق الذي لهم أو رفع الظلم
الواقع عليهم، وتفعيل إجراءات
إحظار الخصوم وإيقاع العقوبات،
وواقع هيئات الادعاء والتحقيق
ومحاكم القضاء واللجان ذات
العلاقة، الإداري والإجرائي لا
يضمن تحقيق هذه المتطلبات
الشرعية والعالمية، وإعلان
الموقف الواضح والرؤية
التفصيلية في هذا الخصوص، هو
الخيار الأصوب للمرحلة القادمة. كما أن مظاهر الفساد الإداري والمالي في
بقية القطاعات لا تخفى، ومن
المفترض في المشروع الإصلاحي
المتكامل أن يكون له خطواته
العملية في محاربة ذلك، وفي
تفعيل وتوسيع جهود الشخصيات
النزيهة المتألمة من هذا الواقع.
4. مراجعة الأدوار القيادية: بمعنى أن يتفهم الجميع أن هذه المرحلة من
تاريخ الدعوة وواقع العصر، تجعل
من الصعوبة الوصول إلى قيادة
فردية جامعة يذعن لها الآخرون،
ولن يحصل هذا والله أعلم من
القريبين لهذه الشخصية فضلاً عن
البعيدين، ومن هنا فلا بد من
جماعية الإدارة وفي هذا الخير
الكثير للدعوة _بإذن الله_. لكن لا بد من مراجعة كل الأدوار القيادية
القائمة في الساحة الدعوية، وهل
معايير الوصول إليها والبقاء
فيها تاريخية أم استحقاقية؟ هل
هي احتكارية أم تداولية؟ وهل هي
إشرافية أم تنفيذية؟ وما هي
آليات اختيار هذه القيادة
العلمية أو السياسية أو
الاقتصادية أو الاجتماعية دون
غيرها، لهذا الدور دون ذاك؟ وهل
التأهيل العلمي الشرعي هو
المطلوب فقط لشغل هذه الأدوار
أم المطلوب أن نبحث عن البارزين
في كل التخصصات؟ ومن الذين يحق
لهم الترشح، ومن الذين يحق لهم
التصويت والانتخاب؟ كل هذه
الأسئلة يتم طرحها الآن على
المدى الأوسع مع افتضاح واقع
مؤسسات الحكم السياسية في
المنطقة، والمفترض في الأوساط
الدعوية أن تكون سبّاقة في حسم
هذه القضايا وتقديم النموذج
العملي الذي ترتضيه في هذا
الإطار، قبل أن تفجأها التغيرات
المتوقعة، ولا بد أن تدرك
القيادات أن المرحلة الآن تقتضي
مشاركة الناس في إدارة وصياغة
واقعهم، وتفهم حاجتهم للتفاعل
معهم وتسيير شؤونهم من الداخل
وعلى أرض الواقع، ولا يمكن أن
يتحقق ذلك فقط بالدروس النظرية
والمؤلفات. 5. مراجعة آليات صناعة القرار: من المهم أن تتوسع دائرة دراسة وصناعة
القرارات الدعوية الهامة، وأن
تشترك فيها كل الشخصيات ذات
الدور والحضور والتأثير وأن يتم
الإفادة من الجميع وألا يشعر
أحد بالتهميش في هذا الإطار،
وبمنظور الشركة القابضة الممثل
لها سابقاً، سيكون من الطبيعي
احتياجها لجمعية عمومية تتابع
التطورات ومن خلالها يتم نقاش
القضايا المختلفة بطريقة علمية
مقنعة للجميع ويطرح فيها بدائل
الحلول المختلفة لقضايا الشأن
العام، وبإمكان هذه الجمعية
العمومية أن توجد وتؤتي غرضها
بصورة افتراضية وغير مباشرة،
عبر منتديات الحوار والملتقيات
المتنوعة ومراكز البحث العلمي
الرصين ومجلاتها التي تصدر عنها.
هذا النوع من المؤسسات ينبغي أن
نسعى لإيجادها وصناعة الاحترام
والتقدير لها، علّها تسهم في
بلورة التصورات وتحديد
الخيارات ثم صناعة المواقف
بطريقة أصوب وأحكم وتوجيه
الساحة نحوها، وتفعيل كل
البرامج والطاقات وتنسيق
الجهود بينها، ويكون الترجيح بينها علمياً للخروج
بالأصوب من بينها حسب الاجتهاد،
وعند الضرورة الخروج بعدة
قرارات في الموضوع الواحد يحترم
فيه كل طرف اجتهاد الآخر المؤهل
للاجتهاد وإن كان لا يتفق معه في
هذه المسألة الاجتهادية. 6. وحدة المبدأ وتعدد الاجتهادات: وتحقيق هذا المطلب الملح – بالصورة
السابقة أو بغيرها من الصور–
سيساعد على حسم التباينات التي
لا يمكن التخلص منها في الظروف
الحالية، وذلك من خلال تفهم هذه
التباينات ودوافع أصحابها
وحججهم والاعتراف لهم بحقهم في
الاجتهاد واحترام علمهم
وسابقتهم، ومطالبتهم بتقبل
اختلاف الآخرين معهم، ومع
انطلاق الجميع من وحدة المبدأ
واحترام تعدد الاجتهادات، لا بد
من إعلان وجود هذا الخلاف
العلمي للناس وأن كل طرف يحترم
الآخر في اختياراته ويعمل على
التكامل معه والتنسيق
والتعاون، بل ويؤيد الاجتهاد
الآخر ويدعمه أمام الآخرين
حفاظاً على وحدة الموقف وتربيةً
للأتباع على التجرد للحق إذا لم
يتضح يقيناً وقد يكون مع أي من
الطرفين، وهذه الوضعية ليست
مثالية مفرطة، بل هي حكمة
سياسية واقعية، ونموذج الفصائل
الجهادية الفلسطينية يطبقها
بدقة مشكورة لهم، إذ مع
اختلافهم في تفاصيل مقاومة
الاحتلال تجدهم يتفقون على هذا
الإطار العام ويدعمون بعضهم
أمام الآخرين، ومن خلاله يصلون
أحياناً إلى تنسيق بعض العمليات
الميدانية فيما بينهم (رغم
الاختلافات التفصيلية)، وهذه
الفاعلية وهذا الجهاد المتفق
على تفاصيله في النموذج
الفلسطيني، هو الذي يفسر _فيما
يبدو_ غياب مظاهر الغلو والتطرف
في التعامل مع الواقع الفلسطيني
العام (..!!). 7. الحذر من الانشغال بالنزاعات عن الهدف
الرئيس: المؤسف أن غياب الوضعية السابقة، فتح
المجال لنوع من التنازع يكثر
بين الأتباع ويصل إلى الرموز
أحياناً، فلا بد من الحذر منه،
فإذا تعذر التنسيق الكامل بين
الاجتهادات المختلفة، فلا بد من
التمييز بينها وتوضيح مناطق
الاختلاف قولياً وعملياً
واحترام حق الناس في المعرفة
بذلك وترك حرية الاختيار لهم،
كما يقتضي ذلك الحذر من
الانشغال بالنزاعات عن الهدف
الرئيس للدعوة. 8. التمحور حول الفكرة والمشروع بدل
الشخصيات: هذا الخطأ التاريخي السابق ذكره، يبدو
وكأنه لا يزال متسيداً، إذ بدأ
يشيع مؤخراً أن الشيخ فلان أو
الدكتور فلان سيقيم مكتباً
خاصاً أو موقعاً الكترونياً أو
مركزاً أو غير ذلك من المشاريع
التي تتمحور حول الشخصية، ونحن
بهذه الطريقة نكرر الأخطاء؛
لأنه فرق كبير بين صناعة الرموز
والقادة وإبرازهم إعلامياً
وواقعياً وجعلهم مرجعية، وبين
جعلهم هم والناس من حولهم
يرجعون للمبدأ الذي ينطلقون منه
و يتمحورون حول الأفكار
والمشاريع التي تخدم المبدأ،
فالطريقة الأولى تجعل في نفوس
الأتباع هيبة ووجل من الرمز
وتمنعهم من قدرة التصويب له إذا
أخطأ، وتجعلهم عالة على تفكيره
وتخطيطه وأوامره لا عوناً له في
ذلك، أما الطريقة الثانية فتقلل
من الهيبة غير الشرعية، وتمنح
الجرأة على النقد، وتوفر الفرصة
الواسعة أمام الجميع للمشاركة
والعمل والابتكار والتطوير
بعيداً عن حرج العمل الذي يأباه
البعض في ظل هذه الجهة أو تلك،
ويتربى الناس على التجرد بصورة
عملية، كما يتخلصون من سلبية
جماهيرية الرمز. 9. صناعة المؤسسات بدلاً من الرموز: وهذا فرع على ما سبق ولكن يضاف عليه أنه لا
بد من إطلاق العديد من المؤسسات
في مجالات مختلفة، العلمية منها
والدعوية والإعلامية
والاجتماعية والاقتصادية
وغيرها. لكن لا بد من إفراد المجالات التعليمية
التي تتعرض لتهديد متواصل بمزيد
عناية وتركيز، وخصوصاً أن
توجهات التخصيص الاقتصادي لهذا
القطاع تتيح المجال لإنشاء
العديد منها بالشروط الدعوية
التربوية المطلوبة. والمجالات الإعلامية ذات الأهمية
المتزايدة تقتضي حديثاً خاصاً
بها، فلا ينبغي أن يقبل أبداً
بعد اليوم استمرار الأغلبية
المحافظة في البلد بدون وسيلة
إعلامية حقيقية تتحدث باسمها
وتدافع عن رؤيتها وقناعاتها
وثقافتها المقصاة واقعياً، في
حين تحظى الفئات الليبرالية
بالدعم والتسهيلات المتتالية
في هذا المجال، فلا بد من
المطالبة الحثيثة بالترخيص
لمؤسسات إعلامية متكاملة، بشرط
أن يكون ذلك بالصورة المؤسساتية
الحقيقية وليس كواجهة للرموز. كما يجب التركيز والاعتناء بمراكز
الدراسات والبحوث، لتقوم
بدورها في رصد المتغيرات ودراسة
الانعكاسات واقتراح الخيارات
العملية، ولتعتني بالدور الآخر
الغائب تماماً في منطقتنا
والمتمثل بدراسات المستقبل و(سيناريوهات)
التعامل معها، فصناعة المواقف
المؤثرة تقتضي وضع الآليات
لإشراك كل صاحب رأي وبصيرة
وخبرة في مجاله، ويمكن أن
يتوافر هذا من خلال قنوات الرصد
والقياس لهذه الآراء والأفكار،
من كل الطبقات وبشتى الوسائل،
أو مراكز الدراسات التي تستوعب
أصحاب التخصص الجادين الذين
يكلفون بهذا الرصد الداخلي مع
الرصد الخارجي لمواقف الرأي
العام ودوائر القوى المختلفة
وتأثيراتها، ودراستها وتحليلها
ثم تقديم مقترحاتهم وتصوراتهم
وبدائل الحلول، وهذا أيضاً ليس
من المبالغات والذي يتابع خطوات
ما يسمى بحزب الله اللبناني يجد
أنه يملك شيئاً من ذلك وهم أقل
منّا عدداً وتنوعاً للطاقات،
لكن الفارق هو توفير البيئة
التفعيلية المناسبة. 10. المواهب الفردية وفريق العمل: الصفة الأبرز للدعوة المحلية هي تعدد
وتنوع المواهب الفردية مع ضمور
وانحسار الأنشطة والبرامج
الجماهيرية العامة، والسبب
الواضح لهذا التعطيل والهدر
يكمن في افتقار هؤلاء للبيئة
الجماعية الفعالة التي تفجر
طاقاتهم وتوجهها وتسددها وتوفر
لهم الأجواء والأوضاع الأنسب
لإبراز وتنمية هذه المواهب.
بمعنى أنهم يفتقدون لفريق العمل
الذي يحركهم، فمن المعروف أن
البشر يتكاملون ويتعاونون ولا
يمكن أن يستقل أحد عن الآخر أو
يستغني عنه وخصوصاً الموهوبين
منهم، وإذا لم يجدوا هذه الروح
وهذا الفريق فيمن حولهم
فسيبحثون عنه عند الآخرين. 11. استيعاب التقصير بدلاً من استعدائه: والمرحلة تقتضي بلا مراء أن نستوعب
الجميع بأخلاقنا ورحمتنا
وتآخينا، وألا نستعديهم لتقصير
أو مشاكسة أو تمرد أو تفريط أو
إفراط، وتعنيف وتحذير كل من
يتسبب في حصول شيء من ذلك وإعادة
اعتبار كل من أسيء إليه، والعمل
على (منهجة) التقويم بدلاً من (شخصنته)
_كما ذكر سابقاً_. 12. العمل على ترسيخ الثوابت: مع التهديدات المتتالية لثوابت الأمة
ومسلماتها سيكون من المهم أن
يحرص القادة والمربون على إعادة
التذكير بالثوابت والتأكيد
عليها والخروج بالناس من دوامة
الجدل والمراء غير المفيد، ومثل
هذه العلنية قد تساهم في تخفيف
الضبابية التي بدأت تشوب بعضاً
من رسائل الدعوة الرئيسة،
فيرتفع الغموض وتتضح القضية في
أذهان الناس، وأهم ما ينبغي ألا
يشوبه اللبس رسالة الدعوة في
المجالات الثقافية والاجتماعية
(وخصوصاً ما يتعلق منها بالمرأة)،
إذ لا بد أن تبقى تفاصيل الرؤية
حولها حاضرة ومعلنة، ومتكررة
كلما دعت الحاجة. 13. استعادة ثقة الجماهير، والابتعاد عن
تهييج الخصوم: من الملاحظ أن الدور الجماهيري المؤثر،
الذي كانت الدعوة المحلية تتمتع
به سابقاً قد تخلخل، وأتى من
ينافسها فيه باسم "الجهاد"
أو باسم "الوطنية"،
والمطلب الملح الآن، أن نراعي
ونتفهم هذه التحولات الضخمة في
واقع البلد، وأن يتم التعامل
معها بناءً على أوضاعنا الجديدة
فليست كما كانت سابقاً، وهذا
يقتضي محاولة كسب ثقة الجماهير
من جديد عبر الالتزام بالثوابت
المستدل لها بالنص الصحيح وليس
بالاختيار الفقهي المجرد، كما
يقتضي خدمتهم والسعي بمصالحهم
وتطلعاتهم، وأكثر ما يشغل الناس
اليوم: إعادة شعورهم بالقوة
والعزة في مقابل شعور الذل
والمهانة والاختراق الذي
يهددهم به الأعداء من الخارج
وأذنابهم من الداخل، وهذا
يستدعي الحنكة والدقة، وانتهاج
طرائق وأساليب نوعية جديدة
تخرجنا من الأزمة التي نتحدث
عنها، ويتم فيها تعبئة كل
المخلصين لدينهم وبلدهم حتى في
الأوساط الرسمية للمساهمة في
تحقيق هذا الأمل الذي يشغل
الجميع. وسيكون من المناسب في هذا الإطار تجنب
تهييج الخصوم ومحاولة كشفهم
بطريقة غير مباشرة، من خلال
الخطوات والمواقف العملية
والأخلاقية النزيهة في مقابل
انتهازيتهم ونفعيتهم المفضوحة
مؤخراً، والاستثارة المباشرة
سيستغلونها على أقل تقدير
بوصفها بالاستعداء والحزبية،
وهذا ما ينبغي أن نهرب منه نحن
قبل غيرنا، كما أن هذه الأجواء
قد تشكك الأطراف الأخرى
المحايدة، والتي قد تكون مرتبطة
معهم بمصالح مشروعة، وقد تغلق
الباب أمام عودة المتردد منهم. ختاماً: يعتذر الكاتب عن الجرأة والمباشرة في بعض
الفقرات، أو الإساءة والتطاول
في البعض الآخر، ولعل مقصد
الإصلاح وباعث الإسهام في الحل
يشفعان له في ذلك. كما يعتذر أخيراً للمعترضين على التناول
العلني لهذه المواضيع، فطبيعة
الأزمة والتغيرات المحيطة بها
واتساع الحديث عن هذه الجوانب
تقتضي الوضوح والمباشرة. والأمل بعد توفيق الله ورحمته أن تحظى
الورقة بالاهتمام والرعاية
والتصويب والتسديد حتى نصل
جميعاً للخروج من الأزمة _بإذن
الله_ . والحمدلله رب العالمين. __________ المصدر : موقع المسلم -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |