ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء  04/03/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


ثنائية العقل الديني والسياسي

في الفرز والتفسير

زهير سالم*

شكلت الثنائية في اعتبارات الإيمان والكفر، والحق والباطل، والخطأ والصواب، والحسن والقبيح، والصلاح والفساد، والخير والشر.. قانونا أساسيا من قوانين العقل الكلاسي الذي ساد الدين والفلسفة على مر عصور متطاولة من تاريخ الفكر الإنساني. نزولاً من التفكير الأرسطي مروراً بمدارس الكلام الإسلامية إلى الرشدية وما تلاها  وحتى أيامنا هذه  ما تزال هذه المدرسة سائدة تتحكم بقوانين العقل، وقواعد التفكير، وتفرض نفسها على المعطى الديني والسياسي والاجتماعي .

من غرض هذه الدراسة أن توضح أن المنهج القرآني في مقرراته الإسلامية كان خارج السياق التاريخي المشار إليه. وكانت له قوانينه وقواعده غير المنتمية إلى معطيات الفكر الزمكاني ؛ فإذا كنا نؤمن بأن القرآن الكريم ليس كتاباً زمانياً، بمعنى أنه ليس ناتج زمانه ومكانه، فإنه من الأهمية بمكان أن نتلمس فيه معالم  الطلاقة  في الأنفس والمناهج والآفاق.. لن يضير المنهج الرباني القرآني في شيء، أن المسلمين، والمتكلمين منهم بشكل خاص، لم تسعفهم أجنحتهم للارتقاء إلى الأفق الذي فتحه أمامهم النص القرآني والذي قدمه الرسول القدوة في سياق زماني_ مكاني_ بشري في حياته الطويلة القصيرة.

ينسب العهد الجديد إلى السيد المسيح / متى 12/30 / قوله: (من ليس معي فهو ضدي. ومن ليس يجمع معي فهو يفرق). تلك المقولة هي بعض معطى العقل الكلاسي التي ما زلنا نسمعها شعارات أو نلمحها سياسات ونحن في القرن الحادي والعشرين.. بينما يتفرد القرآن الكريم بدعوته المفتوحة إلى الكلمة السواء في عصر الثنائيات التي لم تجد حلا للآخر في غير استئصاله أو إلغائه أو إقصائه..

ومنذ أن حط الرسول الكريم المدينة المنورة بادر تحقيقا للمنهج الذي جاء به إلى جمع المتفرق ليظلل المتعدد بمظلة واحدة فكانت صحيفة المدينة أول وثيقة لمجتمع متعدد الأعراق والأديان في بناء مدني واحد.

 (وأن يهود بني عوف.. أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. ومواليهم وأنفسهم..

وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة

وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم

وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه

وأن النصر للمظلوم

وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة..)

صورة أخرى من صور سمو المنهج القرآني على المعطى التاريخي /الزماني المكاني/ للعصر الذي تنزل فيه

تقرأ في النص القرآني : (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم..).

إذا تأملت مضمون قول الفريقين اليهود والنصارى ستلحظ الثنائية الكلاسية التي تدعي الخيرية المطلقة وتنفيها بنفس الطلاقة  عن الآخرين؛ هذا التنابذ بين الأقوام والملل والنحل شكل القاعدة التاريخية للعلاقة بين الأتباع، القاعدة التي رفضها واستنكرها خطاب القرآن الكريم. لاحظ كيف يتهم كل فريق الآخر بأنه  (ليس على شيء..) بهذا الإطلاق المستغرق لنفي كل معاني الحق أو الخير أو الجمال.. ثم لاحظ كيف  يضم القرآن الكريم إلى أصحاب دعوة الغرور والجنف هذه طائفة جديدة من الناس يطلق عليها عنوانا جديدا عنوانا  غير ديني  ( وقال الذين لا يعلمون مثل قولهم..)  وهو ،كما ترى، عنوان مفتوح يستغرق أقواماً وأجناساً ومللاً ونحلاً ومدارس وأفراداً.. هذا العنوان (القابل) لكل من يغرق في الدعوى إثباتاً أو نفياً فيدخل في إطار الثنائيات التي تقسم الناس إلى (مع أو ضد) أو إلى (أخيار وأشرار) بالمطلق الذي يعتمد على عنوان خارجي أو مؤشر من معطيات التقويم الإيجابي أو السلبي.

المنهج القرآني وهو منهج رباني إسلامي بامتياز يرفض هذا النوع من التقسيم وهذا النوع من الفرز ليكون له فرزه المفتوح على آفاق الزمان والمكان؛ لنتابع هذه المنهجية القرآنية الفريدة في حوارات الملل والنحل؛ (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). أي قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا،  يرد عليهم القرآن طريقتهم في ثنائية الادعاء والاحتكار أو الإقصاء ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

ولنلاحظ الظلال الوارفة الندية لعبارة بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن في امتداداتها الإنسانية وتطبيقاتها المفتوحة على عالم الإنسان.

 وحتى حين يتخلل حديث القرآن الكريم نسيج الملة الواحدة يميز في أتباعها المسيئين والمحسنين، فهؤلاء  وإن كانت تجمعهم ملتهم المفارقة لما يعتبره القرآن الكريم دين الحق ليسوا سواء (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء اليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين). تلك آيات تتحدث عن مقومات دينية مباشرة وإليك هذه التي تتحدث عن أخلاق مدنية، إذا كان لنا أن نميز في منظومة الأخلاق بين ما هو ديني أو مدني لنتابع حديث القرآن المتسامي عن ثنائيات الفرز على الهوية كما يقولون

(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائماً..).

علمنا القرآن الكريم منذ ألف وخمسمائة عام، ومايزال، ألا نجعل الناس حزمة واحدة مصمتة ثم نرميهم بما نشاء من أوصاف الهدى أو الضلال، أو الخير أو الشر. علمنا أن في صفوف خيرة الخيرة (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة..). وأن في صفوف المتنكبين لعنوان الحق المبين أناساً مؤهلين للأمانة ولتحمل مسئولية العهد والميثاق  والصلاح والإصلاح..

 ويذهب بنا المنهج الإسلامي أبعد في تجاوز الثنائية البشرية في تجسيد الخير والشر أوالصلاح والفساد. فهذه امرأة تدخل النار في قطة حبستها.. وقمة الإعجاز في المثل أنه لم يخبرنا عن دين المرأة أو عن مذهبها لأن الدين أو المذهب في التقويم المباشر للواقعة ليسا هما مناط الاعتبار .

 وتلك أخرى، زانية، زانية من بني إسرائيل، والزانية هي صورة المرأة المجسدة للخطيئة المطلقة في تصور المخاطبين على الأقل، زانية يغفر الله لها لأنها سقت كلباً أجهده العطش!! وذاك مدمن خمر يقول بعضهم في حقه (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به..) فيردهم صاحب المنهج (لا تعينوا الشيطان على أخيكم إنه يحب الله ورسوله..).

والطلاقة ليست فقط في تقويم الأقوام والأشخاص والمواقف وإنما في إعادة تقويم القيم والموقف حتى من الطيب أوالخبيث من المحرمات  فحين يسألون عن أم الخبائث الخمر يجعل الجواب على السؤال درسا في البعد عن الثنائية الحادة التي تكرس الصور الذهنية النمطية المتجافية عن أسس الرؤية الواقعية ( ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما..) إنه أكثر من جواب إنه منهج متكامل كان ينبغي أن يتحول إلى قانون للعقل المسلم وقاعدة للتفكير الإسلامي ونمط للسلوك العام لأبناء أمة الإسلام..

وحين نتحدث عن منهج رباني متسامٍ عن القصور البشري في الفرز أو في التفسير نستقبل حقيقة قدرية وجودية تقرر (أن كل بني آدم خطاء) حقيقة تواجه الذين يدعون الطهورية المطلقة أو يزعمونها أو يتصورونها في الآخرين بأنهم يبنون على خواء..وكما تقرر هذه الحقيقة الخطيئة تقرر الخيرية وتفتح الطريق الفردي المباشر إليها فما من مخلص ولا من وسيط ، المطلوب من هذا الخطّاء الخيّر أن يقوم بمراجعة مشاعره ومراجعة سلوكه ومراجعة علاقاته أيضاً؛  فمعاصي الشعور أكبر من معاصي الجوارح في كثير من الأحيان أحياناً

في المنهج الرباني الإنسان مخلوق في أحسن تقويم، ولكن هذا الإنسان حتى في صورة عيسى عليه السلام وأمه الصديقة، يأكل الطعام (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام..) وأكل الطعام هنا رمزية مفتوحة على كل أشكال الضعف البشري بواعثه وتداعياته. هذا الذي يأكل الطعام معترف به كما هو، ومطلوب منه أن يتسامى أو أن يحاول التسامي، وهو في محاولته تلك موعود بأن (الحسنات يذهبن السيئات) على عكس المنهج البشري السائد الذي يهدر كل حسنات الإنسان وإيجابياته بسيئة واحدة يُطلع عليه منها.. قال أصليت معنا العصر، قال نعم. قال: اذهب هذه بتلك. قالها لصاحب خطيئة ما كنا اليوم لنقبل أن نجلس إليه أو أن نسلم عليه.

في حديث القرآن الكريم عن الكفر والإيمان، كأنك بالقرآن باختياره اللغوي عنوانا للكافرين ينفي وجود (الكفر) بمعناه الاصطلاحي المقرر (الجحود)!! فالذي (يعلم من خلق) يصف هذا الفريق من الناس بأنهم مراوغون أكثر منهم جاحدين. لأن الإيمان ذخر مخبوء في كل قلب وأقصى ما يستطيع هذا المراوغ أن ينفيه أو أن يخفيه. وكل ما يستطيع أن يفعله هذا الفريق من الناس أن يغطوا حقيقة الإيمان في قلوبهم بما تردده ألسنتهم أو تكسبه أيديهم.. فالكفر في لغة العرب لغة القرآن هو التغطية والحجب كما يكفر السحاب النجوم على حد قول لبيد..( في ليلة كفر النجومً غمامُها).

على أساس هذه الرؤية الإسلامية في آفاقها المفتوحة المتسامية ستتخلف معنا عقلياً وعملياً ثنائيات الفرز  الآلية أو المسبقة.

لن يقبل منك عمر رضي الله عنه تزكية لرجل لأنك رأيته قائماً في المسجد يرفع رأسه تارة ويخفضه أخرى، سيقول لك: اذهب إنك لا تعرفه..

وحين يستثني ربنا المصلين من وعيده يُتبع الوصف بمقتضياته ومستحقاته التي تجعل الصلاة أو الانتماء إليها ذا معنى (إن الإنسان خلق هلوعاً. إذا مسه الشر جزوعاً. وإذا مسه الخير منوعاً. إلا المصلين. الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم. والذين يصدقون بيوم الدين. والذين هم من عذاب ربهم مشفقون. إن عذاب ربهم غير مأمون. والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والذين هم بشهاداتهم قائمون. والذين هم على صلاتهم يحافظون).

وحين تسارع النفس البشرية إلى تصديق الاتهام على يهودي بقرينة يهوديته يأتي التوجيه الرباني ينتصر (لابن أبيرق) اليهودي، ويرد الحق إلى نصابه (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً).

لم تنزل آيات القرآن تلك من أجل وقائع فردية عابرة في الزمان أو المكان إنما نزلت لتكون تلك الوقائع عابرة للزمان وللمكان ولتقرر مناهج أولية في فرز الناس على أسس واقعية عملية.

ماذا يعني للمسلم أو للباحث أو لصاحب المنهج أن الحساب يوم القيامة حساب فردي: (وكلكم آتيه يوم القيامة فرداً).( كل امرئ بما كسب رهين) (لا تزر وازرة وزر أخرى) هذه الطريقة في الحساب الفردي والمسئولية الفردية لا تتعارض مع المسئولية العامة عن الالتزام الجمعي ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم..)

وفي خطوة أخرى على طريق رفض ثنائيات (المع أو الضد) على مستوى التفسير الذي نتحدث عنه..  يرفض المنهج القرآني كل معطيات التفسير المسبق.  أن تفسر سلوك الناس ومواقفهم  وآراءهم العملية بل ونظرياتهم العلمية على خلفيات ما يظن  في انتماءاتهم أو انتماءات آبائهم أو أمهاتهم القومية أو الدينية أو المذهبية..

ألا يفجؤك أن تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرد على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أحب نسائه إليه عندما عيّرت( ضرتها) أم المؤمنين صفية رضي الله عنها  بأصولها اليهودية!! فقال لصفية:  قولي لها: إن أبي هارون وعمي موسى..!!

بعض الناس في عالمنا يبحثون عن أسرار اليهودية مثلا حتى في النظرية النسبية وهم بين من ينفيها عن آينشتاين وبين من يحاول أن يجد فيها ملامح للزيغ والضلال..!!

وعلى هذا الأساس، المجافي للمنهج الإسلامي، أساس الرفض المسبق للآخرين من أتباع الملل والنحل والمذاهب تفسر أو تصادر كل بادئة أو بادرة خير تصدر عن نفس بشرية بسبب انتمائها المسبق..

في أي سياق يمكن أن ننظم في تفسيراتنا القائمة إقدام بغي أو زانية على سقيا كلب أو إصرار صاحب أو صاحبة صلاة على الإضرار بقط..

هل سيقبل مني أو منك وسط المعايير السائدة بيننا أن نرتب على فعل زانية بني إسرائيل تلك ، و في يهودية الزانية تلك معنى إضافي لا ينبغي أن نغفل عن ذكره، تلك المغفرة التي تحدث عنها الحديث الشريف.

وإذا لم يكن من شأننا الحكم بنجاة الناس أو بهلاكهم فهل لنا على الأقل أن نترك فرجة في الجدار المسدود الذي تعود بعضنا على رفعه بينه وبين الآخرين...

---------------

*مدير مركز الشرق العربي  

  للاتصال بمدير المركز

00447792232826

zuhair@asharqalarabi.org.uk

04/03/2009


تعليقات القراء

 

أبو الطيب الغالي

يقول أبو الخير سليم تعليقا على المقال

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم    بهن فلول من قراع الكتائب

سلمت يا أبا الطيب

سداد

 

  

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ