ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
معلم
اللغة العربية أكرم
علي حمدان هذه
سطور أخطها لمعلم اللغة
العربية، لم أقصد منها أن تكون
دليلاً عملياً بقدر قصدي أن تحث
المعلم على السعي الجاد نحو
تثقيف نفسه وتطوير قدرته
والارتقاء بمستواه، وتشوقه إلى
قراءة بعض الأعمال التي مر
ذكرها في هذه السطور، والتعرف
على بعض الأعلام الذين تزينت
بأسمائهم هذه الصفحات، وطلب
مؤلفاتِهم والوقوف على
كتاباتـهم وإبداعاتـهم، فإن
معلم اللغة العربية على ثغرة أي
ثغرة، ولا سيما في هذا الزمان
الذي غزتنا فيه الأفكار
والنظريات الهدامة، من كل حدب
وصوب، تستهدف البقية الباقية من
الأخلاق والقيم والمبادئ، وما
تقوم به من الدين الإسلامي
واللغة العربية. المكتبة
والقراءة
وأبدأ
بما أراه الأهم في تكوين معلم
اللغة العربية وصقل شخصيته، إلى
جانب ذكائه الفطري واستعداده
النفسي، وهو الثقافة، التي
لحمتها وسداها القراءة وكثرة
المطالعة، ولا سيما في مادته
وموضوع تخصصه. ومن هنا فعلى معلم
العربية أن يُكوِّنَ
لنفسه مكتبة لغوية، وألا يكتفي
بما هو موجود في مكتبة المدرسة
أو المكتبات العامة، وإن كنا نحبُّ أن تكون هذه ملاذاً له في
أوقات فراغه، وساعات نشاطه
الذهني، يفر إليها من وطأة
المشاغل اليومية، وسطحية
الأحاديث التي يتبادلها عامة
الناس في مجالسهم؛ يقضي فيها
بعض الوقت قارئاً أو متصفحاً أو
مقلباً نظره في الجديد من الكتب
والعناوين، ففيها شحنة ذهنية لا
يمكن للمرء مواصلة سيره من
غيرها. ثم عليه
أن يحرص على أن تضم مكتبته أهم
الكتب في الجوانب اللغوية
والنحوية والبلاغية، وتجمع
الأعمال الأدبية الراقية، وألا
يستغني بالقديم عن الحديث، ولا
بالحديث عن القديم، بل يحرص على
اقتناء النافع المفيد من كل
منهما. فما أروع أن تجمع المكتبة
الخاصة أعمال العقاد مثلاً، إلى جانب أعمال أبي
حيان التوحيدي، وأعمال الرافعي
إلى جانب أعمال الجاحظ، وأعمال
مارون عبود إلى جانب صبح الأعشى[1]
للقلقشندي.
كما عليه أن يتابع الإصدارات الحديثة
في مجاله، من كتب وبحوث
ومقالات، وأن يواكب المؤتمرات
العلمية والندوات الأدبية ما
أمكن، وأن يكون عارفاً بالمواقع
ذات الصلة باللغة وآدابِها
على الشبكة الإلكترونية كمواقع
مجامع اللغة العربية في كل من
مصر ودمشق، ومواقع اتحادات
الكُتّاب الإقليمية والعربية،
ورابطة الأدب الإسلامي، وكذلك
بعض المواقع الخاصة، كمواقع بعض
الأعلام المعروفين في هذا
التخصص. فمثل هذه المواقع تيسر
له الاطلاع على كل جديد بيسر
وسهولة، وترفده في سويعات بما
يحتاج في تحصيله من غير هذه
الطريقة إلى سنوات. وعليه أن
يجتنب ما يقع فيه الكثيرون من انتحاء
قنيان الكتب تفاخراً وزينة،
يرصصونَها ويصففونَها،
ويشغلهم
الاهتمام بتنسيق أحجامها
وألوانِها،
وهم
لا يعرفون ما فيها. بل يسعى لأن تكون
مكتبته مكتبة للبحث والنظر
والمطالعة، وليجعل بينه وبينها
نسباً وصهراً، ليعيش معها،
ويعرف ما فيها، بل يصاحب من
فيها، ويجددها وينميها، ويضيف
إليها كلما سنحت له الفرصة،
وسمحت له الظروف. ثُمَّ
لْتكنْ
قراءته في هذه الكتب قراءة
واعية غايتها الفهم والإفادة
والتحصيل، وليس الترويح عن
النفس وتضييع
الوقت وإزجاء الفراغ، فلا
خير في قراءة بلا وعي، شأنَ من
"أكبر همهم أن يقلبوا صفحات
الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من
الشعر يستملحونَها، أو قصة
طريفة يتفكهون بِها"[2]،
من غير إطالة ولا تعمق، فكم من كتاب لا تحصل
الفائدة منه إلا إذا قرئ من أوله
إلى آخره، قراءة متأنية مدققة واعية.
وقد كان هذا هو دأبَ الكبار من العلماء،
كالشيخ محمود شاكر رحمه الله،
فإنه كان يوصي تلاميذه بقراءة
الكتب كاملة، ولو بلغ الكتاب
عدة مجلدات، وهذا هو ما عرف
أيضاً عن الشيخ المحدث الثبت
عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله،
ومن أقواله في ذلك: الكتاب لا
يعطيك سرَّه إلا إذا قرأته
كلَّه[3].
ويعجبي
رسم لمارون عبود على بعض أغلفة
كتبه، وقد أمسك كتاباً ينظر فيه
نظر الطَّبِن العارف، كما ينظر
الصيرفي في العملات يميز الجيد
منها من الرديء، والحقيقي من الزائف. ولقد
شبهت مرة كتاب الموافقات للشاطبي
بالرواية،
لا تفهم ولا يستمتع بِها إلا إذا قرئت كاملة
غير منقوصة. بل من الكتب ما
يحتاج إلى أن يقرأ مرتين وأكثر،
ومن هنا قال العقاد،
فيما يعزى إليه، ما معناه: لأن
تقرأ كتاباً واحداً ثلاث مرات
خير من أن تقرأ ثلاثة كتب. والذي
يهمنا في هذه المقالة هو مقصدها
وليس حرفيتها، فإنما العبرة
بالمقاصد، والمقصد هنا هو
محاولة التدقيق والفهم العميق،
لا أن يمر القارئ على ما يقرأ
مروراً سريعاً حتى لا يجاوز
الكلام ناظريه. ولا
يتذرعنَّ المرء بمشاغل الحياة
ومشاكلها، ولا تشغلنه الأماني،
فإن من ترجّى الأماني، وصاحب
التواني، واستروح الراحة،
واستحب النوم الطويل، وشغلته
تقلبات الفصول عن الأخذ
والتحصيل، فما أبعد العلم منه،
وما أنفره عنه، قال الإمام ابن
فارس اللغوي، برّد الله مضجعه: إذا
كان يُؤذيكَ حرُّ الْمَصيف
ويُبسُ الخريفِ وبَردُ الشتا ويُلهيكَ
حُسْنُ زمـانِ الربيع فأخذُكَ
للعلمِ قُل لي متى؟[4] ولْيقتدِ
في ذلك بالألوف المؤلفة من
العلماء العباقرة، الذين بذلوا
في سبيل العلم كل غال، متجشمين
في ذلك عناء الأسفار، وشقة الحل
والترحال، ومتحملين الشدائد
والمكاره، في سبيل الغايات
النبيلة، والمقاصد الجليلة، مع
أن الزمان كان يجري عليهم بما
يجري على غيرهم، من مرض وضعف
وفقر، فلا يقدر على انتزاعهم
مما هم فيه، كما يقدر على سواهم،
ولقد يترقبهم أهلوهم الساعات
الطوال، بل قد يترصدهم الموت،
فلا يقع عليهم إلا في حلقة درس،
أو قاعة بحث، أو جلسة تأليف، أو
ميدان مناظرة، أو رحلة مخطرة في
طلب العلم[5]. ثم عليه
أن يرجع للكتب التي قرأها
قديماً فيعيد قراءتَها
من جديد ما أتيحت له الفرصة، واستقامت له
الأحوال، فإن
المرء تختلف نظرته للأمور كلما
تقدمت به السن، وطوت من عمره
الأيام، وازداد اطلاعه، وتوسعت
خبرته، وكم من كتاب تضاعفت
فائدته عندما قرأته مرة ثانية
وثالثة بعد عام أو أعوام من قراءتي الأولى له. ومن
تمام ذلك
أن يُثَبِّت ما يجنيه من النكت
والعيون من خلال استحضارها في
المجالس، ومذاكرتِها
لدى أصحابه وزملائه، فمذاكرة
الرجال تلقيح لألبابِها.
وكثيراً ما فعلت هذا مع أصدقائي
ومعارفي، بل مع عامة الناس، إذا
ما وجدت الحال ملائمة والفرصة
سانحة، فثبتُّ حفظ أبيات كنت حديث
عهد بقراءتِها،
أو اسم مؤلف جديد لم أكن
مررت
به من قبل، مع ذكر بعض
أعماله، أو جددت عهدي ببعض
الطرائف اللغوية والنحوية،
وكنت أرى من أحدثهم يطربون لذلك
أشد الطرب، ويسعدون به ومنه
يستزيدون. بل ربما أفدت أنا من
أحدهم لطيفة طريفة أو فكرة
غائبة، والأهم من ذلك هو ما يشاع
في المجلس من جو علمي أدبي، وما
يترتب عليه من تحديث للمعومات
وجلاء لها، وصدق من قال قدماً
إنما يزكو العلم بالإنفاق.
وآية ذلك أنني ذاكرت يوماً
مسألة مع بعض الإخوة، فحضرتني
حادثة لم أجد خيراً منها في ذلك
الموضع، فلما أردت الاستشهاد
بها وقد كنت قرأتها من قبل،
وجدتني قد أنسيت الأسماء وضيعت
التفاصيل، مما أضعف حجتي، وأوهن
استشهادي، فقلت لهم: لو أنني
حدثتكم بِهذه القصة أول ما
قرأتُها، لما أنسيتها اليوم! ومن الأمور المهمة
جداً لمعلم اللغة العربية أن
يحرص على مراجعة كتب النحو
العربي والبلاغة والعروض من حين
لآخر، فإن الإنسانَ
نسّاء، ولا سيما في
الموضوعات التي لا يكثرُ
دورانُها، ومن هنا كانت
أهمية هذه المراجعة، فما المانع
أن يفتح، في وقت فراغ واعتدال
مزاج، كتاب شرح ابن عقيل أو مغني
اللبيب لابن هشام أو النحو
الوافي للأستاذ الكبير عباس
حسن، أو حتى التطبيق النحوي
لعبده الراجحي، فيراجع باباً من
أبواب النحو ويستذكر مسائله
وشواهده، ويجدد عهداً بنكته
ولطائفه؟ ولْيعلم أن النحو ليس
تلك الألغاز والأحاجي التي كان
يحلو لبعض الطلاب أن يستكثر
منها، ظناً منه أنه بلغ الغاية
ونال المنى، وإنما هو بلوغ
الذوق اللغوي، وحصول الملكة، فإن
"النحو القائم على رعاية
التراكيب والدلالات في الكلام
العربي الملفوظ والمكتوب، هو
النحو الذي ينبغي معرفته وتأمله
والاستكثار منه، لأنه بهذا
المفهوم مِلاك العربية
وقوامها، بل إنه كان يعبر عنه
أحياناً في القديم بالعربية"[6]. وهو
الذي يقوم أَوَدَ اللسان، ويصقل
الذوق اللغوي، وما أحرى معلم
العربية أن يكون كذلك، فإن الإعراب زينة الكلام، ولا سيما إذا
صاحبه نطق سليم، وتخير للألفاظ،
وعلم وأدب وثقافة، فإن ذلك إن
توفر للمعلم لم يمل من حديثه
السامع، بل لم يشبع منه. ثم إذا ما
طرق سمعه لحن أو وقع نظره على
تحريف أو تصحيف، أباه ولم
تُسِغْهُ نفسه، بل مجه ذوقه
وردته قريحته، وجرى تصويبه على
لسانه من غيرما تفكير ولا إعمال
ذهن. وهذا يحتاج إلى طول نظر في
الكتب، وإدمان البحث والتقميش
والتنقير، وحفظ الكثير من جيد
اللغة شعراً ونثراً، حتى تمازج
اللغة نفسه ولحمه ودمه، وتصبح
جزءاً من كيانه. ولقد كنت في
إحدى مراحل الطلب أحور بيتاً
لجميل بثينة يقول فيه: ولو تكشف الأحشاء
صودف تحتها
لبثنــة حـب طارف وتليد فأجعله: ولو تكشف الأحشاء
صودف تحتها
لعمـرك نحـوٌ طارف وتليد ولا يفوتَنَّه أن
اللغة العربية كل متكامل، لا
غنى لموضوع فيها عن الآخر، ولا
يغرنه التقسيمات الحديثة في
التخصصات في اللغة العربية، وما
يسمى بالتخصص الدقيق، مع
اعترافنا بذلك واهتمامنا به، بل
عملنا به وحثنا عليه. وأذكر مرة
أن أحد أساتذة كلية الآداب
بإحدى الجامعات أخطأ فرفع خبر
كان، فنبهه إلى ذلك أحد الطلبة،
وكان طالباً في السنة الأولى،
فرد عليه الدكتور بأن تخصصه
إنما هو في البلاغة لا في النحو! وقد
فاته أن شيخ البلاغيين قال مرة:
"وهل النظم إلا توخي معاني
النحو بين الكلم"، وأن
القدماء كانوا يسمونه عبد
القاهر النحوي. ومن هنا
ذلك فعلى معلم العربية أن يسعى
دائماً للجمع
بين علوم العربية كافة،
من نحو
وصرف ولغة وبلاغة وأدب بجميع
أجناسه، القديم منها
والمستحدث، كالشعر والترسُّل
والمقامة والقصة والأقصوصة
والمسرحية والرواية، وأن يكثر
من المطالعة في جميع هذه الأضرب.
وكثيراً ما كان يسألني
زملائي أيام الجامعة عن "وصفة"
لإجادة النحو، فكنت أجيب أحدهم
حيناً بأن عليه مطالعة كتاب
رسائل الجاحظ، وأجيب آخر بأن
عليه الاهتمام بالصحاح
وشروحها، والنظر في تعليقات ابن حجر والنووي،
وهكذا. وذلك أن ما في هذه الكتب
إنما هو تطبيق عملي للنحو
وقواعده، وأن دارس النحو ينبغي
أن يكون عنده قاعدة لغوية
وأدبية حتى يتمكن من إظهار
براعته النحوية من خلالها.
التجديد
وعليه أن يتبع منهج
التجديد، فإن الحياة تتجدد،
والظروف تتبدل، والاهتمامات
تتغير، فلا يركن إلى القديم
فيما يثقف به نفسه أو يلقيه إلى
تلاميذه، بل يكون ابنَ
يومه، بل ابنَ ساعته، فلقد تقارب
الزمان والمكان، وبتنا نعيش في
قرية دهمتها ثورة المعلومات
والاتصالات الحديثة، ولئن
فاتتنا المشاركة في صنع هذه
الثورة، فلا يفتنا استخدامها
والانتفاع بِها.
ومن هنا فعليه أن يبتكر في
الموضوعات التي يطرحها أمام
تلامذته، أو يكلفهم بها، ولا
يقتصر على وصف الربيع أو
الخريف، أو على الموضوعات
التقليدية التي ما زالت تتكرر
عشرات السنين. بل يتناول كل ما
يستجد على الساحة، وتتمخص عنه
الأيام، وصدق الشاعر إذ قال: إذا
أنت لم تحمِ القديم بحادثٍ
من المجد لم ينفعْكَ ما كان
من قبلُ ولكن
ليعلم
أنه "ليس من التجديد في شيء
التبرم بكل قديم، وفتح الذراعين
لكل جديد، وقد سخر أديب العربية
والإسلام مصطفى صادق الرافعي من
بعض مجددي زمنه، الذين قال إنهم
يريدون أن يجددوا كل شيء، حتى
الدين واللغة والشمس والقمر!
وهؤلاء هم الذين سخر منهم شوقي
في قصيدته عن (الأزهر) حتى صوب
سهام نقده إلى الذين نالوا من
مكانة الأزهر ورسالته ودوره
لمجرد أنه قديم فقال: دع
عنك قولَ
عصابةٍ
مفتونــةٍ
يجـدون كلَّ
قديـمٍ
مُنْـكرا ولو
استطاعوا في المجامع أنكروا
مَنْ
مات من آبائهم
أو عُمِّرا من
كُلِّ
ساعٍ في
القديم
وهدمِـهِ
وإذا تقـدَّمَ
للبنـايةِ
قصَّـرا وأتى
الحضارةَ
بالصناعةِ
رثـةً
والعلمَ
نزراً، والبيانَ
مثرثرا وهم الذين انتقدهم
الفيلسوف المسلم الشاعر-شاعر
الإسلام في الهند- محمد إقبال،
فقال لهم: إن الكعبة لا تجدد
بجلب حجارة لها من أوروبا!"[7] فالجديد الابتداع والطرافة بمقدار ما
يتطور الفكر، أو الإنشاء
والابتكار على مقدار ما ينفعل
الزمن في إحساسات أهله، أو
التنويع والخلق على قياس ما
يزيد في المعاني ويستجد من
انفعالات النفس. بل هذا هو حكم
الزمن وسنة التطور من قديم.[8] وربما عالج الكاتب
البارع موضوعات قديمة كلَّ
القِدم، بأسلوب جديد كلَّ
الجِدة، نابذاً التقليد وراءه،
فجاءت موضوعاته جديدةً
عذبةً فيها روحٌ
وحياة. فكمْ
بين أيدينا من تفسيرٍ
للقرآن، غير أن أحداً لا ينكر أن
الظلالَ لسيدٍ سيدٌ
في هذا الباب، فقد مده صاحبه
بروحه المرفرف، وغَذَاه
بفكره النير[9]،
وكتبه بأسلوبه المشرق، وكل
أولئك كان جديداً في زمنه. ولعل
أروع من مثل هذا الاتجاه
الأستاذ العظيم عباس محمود
العقاد، الذي لا يشق له غبار في هذا
المجال، فلكم كنت أطرب حينما
أقرأ كتبه، ولعل
هذا هو الذي جعل سيداً ينتصر له
أشد انتصار في مواجهة الشيخ علي
الطنطاوي. وليرجع
الراغب إلى ما كتبه في موضوع
الحجاب مثلاً، وهو موضوع طرقه
كثيرون، منهم من اقتصر في خطابه
على المسلمين فكان واعظاً،
ومنهم من تناوله من الناحية
الشرعية فلم يتجاوزها، ومنهم من حاول الدفاع عنه
أمام منكريه، غير أن العقاد أتى
الموضوع من باب لم يسبق إليه،
فكان هو المهاجم لا المدافع،
ترفده في ذلك ثقافة رفيعة، وعقل
راجح، وذهن وقاد. وكأين من كاتب كتب في
مكانة العقيدة وأهميتها، فأطال
أو أقصر، وسهّل
أو عسّر،
بل إن موضوع التوحيد نال ما لم
ينله موضوع آخر في بعض بلاد
الله، ولكنك لا تجد فيه عندهم
إلا كلاماً مكروراً جامداً يُخاطب
ابنَ
المدينةِ بما يُخاطب
به ابن البادية، وابنَ القرنِ
العشرين بما خوطب به من كان قبل
ألف سنة، بيد أنك إذا قرأت مقالة
عنوانُها
"العقيدة" للأستاذ الكبير
محمد قطب، في كتابه النفيس "في
النفس والمجتمع"، أدركت معنى التجديد
وأهميتَه
وفوائده، ولكم سَعِدتُ
وأنا أشرحُ هذه المقالة لطلاب
المرحلة المتوسطة إذ أقبلوا
عليها باهتمام بالغ واستمتاع!
وكيف لا وهو قد حدثهم في مقالته
هذه عن الذرة والنواة والكهارب،
في مزج عجيب بين العلم
والعقيدة، لم يستلهم أمثلته من
صحراء الرَّبع
الخالي، ولا من حرب داحسَ
والغبراء، ولا من خيام البدو
الرحل وإبلها، بل من الواقع
المعيش وما يجري فيه من أحداث
وما أكثرها! وكذلك فإنه لم يناقش
أهل الاعتزال ولا الخوارج ولا
ما اندثر من ملل ونحل لا شأن بها
لغير المختصين، بل ناقش أصحاب
الأفكار والمبادئ الحديثة التي
سادت في زمنه، وطغت في أيامه،
وانتشرت في أوساط الشباب انتشار
النار في الهشيم.
إن الفكرة الجيدة
الجديدة التي تصاغ بأسلوب جيد
جديد بعيداً عن التقليد
والمحاكاة الفارغة، أو
الاجترار كما سماها الأستاذ
مارون عبود، لا ينتهي دورها عند
تبليغ المعلومة للقارئ، أو حتى
إمتاعه، ولكنها تبعث الحياة في
اللغة نفسها، وتجددها وتحيي ما
فيها من موات، وهذا ما فعله
أدباء المهجر الذين وصف فعلهم
أحسن وصف الأديب الكبير ميخائيل
نعيمة في مقالة له عنوانُها
"أول الغيث"
في كتابه "سبعون"،
حيث يقول في وصفه العدد الأول من
مجلة "الفنون" التي كانت
تصدر في نيويورك: "ههنا فتح
جديد ودنيا جديدة. ههنا حروف
تنبضُ
حياة. والعجيبُ أنّها
حروف عربية. وعهدي بالحروف
العربية أن عناكب الجمود
والتقليد والنفاق والفاقة
الفكرية والروحية قد نسجت فوقها
أكفاناً، وأن غبار خمسة قرون قد
تكدس على تلك الأكفان. سبحان من
يحيي العظام وهي رميم!".[10] التكلف وكلمة في
الأسلوب وإني أوصي معلم
العربية أن يتجنب التكلف قولاً
وعملاً، فما وجد التكلف في شيء
إلا شانه، ولا نزع من شيء إلا
زانه. ومن أسمج
التكلف ما كان في الكلام وإخراج
الحروف. ولعلماء التجويد تفصيل
في هذا الباب بليغ، وليرجع
الراغب في الوقوف على شيء منه
إلى كتاب الرعاية لمكي بن أبي
طالب،
أوالنشر لابن الجزري،
أوالنطق بالقرآن العظيم لضياء
الدين الجماس،
أو غيرها من كتب الباب، وهي
كثيرة. ويجري على الكلام
العادي ما يجري على قراءة
القرآن في هذا الباب، وأنقل لك
شيئاً مما قاله ابن الجزري فيه،
ويحسن بك أن ترجع إلى الأصل
فتحيط بكل ما قال، يقول: "فليس
التجويد بتمضيغ اللسان، ولا
بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك،
ولا بترعيد الصوت، ولا بتمطيط
الشد، ولا بتقطيع المد، ولا
بتطنين الغنات، ولا بحصرمة
الراءات، قراءة تنفر منها
الطباع، وتمجها القلوب
والأسماع. بل القراءة السهلة
العذبة، الحلوة اللطيفة، التي
لا مضغ فيها ولا لوك، ولا تعسف
ولا تكلف، ولا تصنع ولا تنطع،
ولا تخرج عن طباع العرب وكلام
الفصحاء بوجه من وجوه القراءات
والأداء". وكم من متخصص في
اللغة العربية نفر الناس منها
إذا تكلم فيها، ورب غير متخصص في
اللغة حببها بأسلوبه الجيد
ولغته العذبة وعبارته الرشيقة. ومن هنا وجدنا هدام
العربية يسعون لإظهارها بذلك
المظهر السمج
عبر شاشات التلفزيون، فتراهم
إذا أرادوا تمثيل دور شيخ أو
مأذون أو إمام إو ما إلى ذلك،
راحوا يلوكونَها
بألسنتهم ويتقعرون فيها، وكأن
العربية الفصحى لا تتكلم إلا
بتلك الطريقة القبيحة!
وكما أن التكلف مذموم
في الكلام، فإنه كذلك مذموم في
الكتابة، وأنت لا تجده إلا عند
من لم
ينضج ذوقُه وتجُدْ قريحتُه
ويَصْفُ طبعُه، وكان حظُّ
الصنعة لديه أكثرَ من حظ الطبع، "لأن الصنعة لا
تخلق أدباً مبتكراً ولا أديباً
ممتازاً ولا طريقة مستقلة"[11].
ويمكن لمن أوتي استعداداً في
فطرته، أن ينمي ذوقه ويصقله
بالتدريب والمران، وكثرة
الكتابة والقراءة، فالذوق في
الكلام، كما يقول الشدياق، "كالذوق
في الطعام، في أن كلاً منهما
منشأه الألفة والعادة". بل إن
الذوق هو مدار البراعة والحسن
في الكتابة، شعراً كانت أم
نثراً، وليس لغيره مدخل فيها،
لأن الشاعر الذي يرتكب ما يخل
بالذوق ربما كان أعلمَ أهلِ
زمانِهِ باللغةِ وبكلام العرب،
فإتيانُه والحالةُ هذه بما
يروقُ النقادَ ناشئ من العلم
والذوق، وإتيانه بغير ذلك ناشئ
من عدم الذوق، لا من الجهل[12].
وقد
كان هذا
هو شأنَ
كثير من الشعراء والكتاب في
بدايات حياتِهم
العلمية والأدبية، فليت شعري
كيف كان المتنبي في بادئ حياته
وكيف بات في آخرها، وقارن بين ما
كتب هاشم الرفاعي في صباه، وهو
الشاعر المفلق الذي عاجلته
المنية في ريعان شبابه، وما كتب
لما اشتد ساعده في الشعر، على
صغر سنه، رحمه الله. وكثيراً ما
وقع في نفسي في بدايات الطلب أن
أكتبَ
مقالةً
أجمع فيها من حُوشيّ
الكلام وعويصه ما لا يفهم منه
شيء، ولكم طربت في تلك المرحلة
لمقدمة كتبها أحد العلماء
المحققين لكتاب "معجم مقاييس
اللغة" لابن فارس صنع فيها ما
كنت أتمنى صنيعه، أو كاد. ثم تغيرت القناعات
وتبدلت المفاهيم، وأدركنا أن
الأدب الحق هو ما كان بليغ
المعنى، سهل الأسلوب، رشيق
العبارة، مشرق الديباجة، حسن
السبك، جزل الألفاظ، لا فيه
تطويل ممل ولا إيجاز مخل. على أن أكثر
ما يسيء إلى الأسلوب الحشو
الفارغ الذي لا طائل فيه،
لما فيه من إملال للقارئ وإضاعة
لوقته. وما أسوأ الكاتب الذي
ينشئ مقالة كبيرة من أجل فكرة
صغيرة، ولله أحمد أمين إذ شبه
أسلوب هؤلاء بالعهن المنفوش،
يصاغ منه في صفحة ما يصح أن يصاغ
في عمود، وفي عمود ما يصح أن
يصاغ في سطر واحد. وما أحسن
الكاتب الذي له في كل جملة، بل
في كل عبارة فكرة، كالعقاد
مثلاً، وأحمد
أمين، ولله
در العرب إذ حصرت البلاغة في
الإيجاز، وما أبدع ما قاله
الأستاذ وليام سترنك في كتيبه
البديع، مبادئ الأسلوب، حيث
يقول: "الكتابة البليغة وجيزة.
يجب ألا تشتمل الجملة على كلمات
غير لازمة، ولا الفقرة على جمل
غير ضرورية، لنفس السبب الذي من
أجله يجب ألا يشتمل رسم على خطوط
زائدة، ولا آلة على أجزاء لا
حاجة لها. وهذا لا يعني أن على
الكاتب أن يجعل جميع جمله
قصيرة، أو أن يتجنب التفاصيل
ولا يعاملَ موضوعه إلا بإجمال،
ولكن أن تترك كل كلمة أثراً"[13].
ولأحمد أمين في هذا
المعنى تمثيل رائع حيث يقول: "ولست
أدري لمَ
كان الناسُ
إذا أرسلوا برقيةً
تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر
المعاني، ولم يفعلوا من ذلك
شيئاً في كتبهم ورسائلهم
ومقالاتهم، ولعلهم يفعلون ذلك
لأن الكلمات في البرقية تُعَدُّ
بالقروش، وليس كذلك فيما عداها"
ويرى أن ذلك إن كان هو السببَ
دل على تقدير القرش أكثر مما
يقدر زمن القارئ والكاتب، وفي
هذا منتهى الشر. ثم انظر إلى
حكمه الذي نوافقه فيه على الأدب
العربي، فهو يرى أن الأدب
العربي في هذا الباب من خير
الآداب، فأكثر ما صدر في عصوره
الأولى حبات من المطر تجمعت من
سحاب منتشر، أو قطرات من العطر
استخلصت من كثير من الزهر. ويمضي أستاذنا
الكبير ليؤكد ما نقلناه تعريباً
عن سترنك، ليقول: "وبعد، فلست
أحب أن تكون كتابتنا كلها
برقيات، وإذاً لعدمنا ما
للأسلوب من جمال، وما لتوضيح
الفكرة وتجليتها وتحليتها من
قيمة، وإنما أريد أن يكون
المعنى هو القصد وهو المقياس،
فإن أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا
فللمعنى".[14] وليعذرني القارئ
الكريم إذا أنا أطنبت في هذه
النقطة، وذكرت له فيها ما قاله
مارون عبود في تعليقه على أسلوب
الدكتور طه حسين في كتابه مع
المتنبي، فإن ذلك راجع إلى ما
لهذه النقطة من أهمية بالغة من
جهة، وإلى تفريط الناس فيها من
جهة أخرى، ثم لأني أريد أن
يستمتع القارئ الذي لم يطلع على
مقالة عبود في كتابه الرؤوس،
بتشبيهه ذلك الضرب من الأسلوب
الذي تتسم به أكثر كتابات
الأديب طه حسين. فهو ينقل عن طه
حسين قوله في الصفحة السابعة من
كتابه مع المتنبي: "وقل إنه
كلام يمليه رجل يفكر بما يقول،
وقل إنه كلام يهذي به صاحبه
هذياناً". ثم يعلق بقوله: "فقلنا
إنه كلام بين بين، يغلب فيه
الهذيان على التفكير، فهو
كالليمون اليافيّ قشره أكثر من
لبه، وهذا شأن الدكتور في أكثر
ما يكتب، يمغط الكلام ويمطه
كالعلكة، فطوراً تراك أمام
حسناء فلا تتكره ولا تتقزز،
وتارة تجدك أمام عجوز تكره
محضرها، وتسأل الله الفرج".
ويمضي أديبنا ليضيف إلى تشبيهه
أسلوب طه بالليمون اليافي،
وبالعلكة تمغط وتمط، إلى تشبيه
آخر لا يقل براعة ولا صدقاً في
تصوير أسلوب طه في أكثر ما يكتب[15]،
يقول: "إن طه في صناعة الكلام
أقدر المعاصرين على التخمير،
فعجينه يرفخ ويطفطف، فتحسب
المعجن يموّن البيت شهراً، حتى
إذا مدت الأيدي إلى الزاد عرفت
أن هذا العيش هش ككرابيج حلب".[16] وما
أجمل
ما جاء في وصف الجاحظ لكلام
النبي صلى الله عليه وسلم، مما
يعضد ما تقدم من قول، وهو ما تشهد به
المجاميع الحديثية، وإني لسائق
وصف الجاحظ هذا على طوله، لما
فيه من
فائدة وحلاوة:
فكلامه صلى الله عليه وسلم "هو
الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر
عدد معانيه، وجل عن الصنعة،
ونزه عن التكلف...
استعمل المبسوط في موضع البسط،
والمقصور في موضع القصر، وهجر
الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين
السوقي، فلم ينطق عن ميراث
حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف
بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر
بالتوفيق، وهذا الكلام الذي
ألقى الله المحبة عليه وغشّاه
بالقبول، وجمع بين المهابة
والحلاوة، وبين حُسْنِ الإفهام
وقلة عدد الكلام، مع استغنائه
عن إعادته، وقلة حاجة السامع
إلى معاودته، لم تسقط له كلمة،
ولا زلت له قدم، ولا بارت له
حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه
خطيب، بل يبذ الخطب الطوال
بالكلام القصير، ولا يلتمس
إسكات الخصم إلا بما يعرفه
الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق،
ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا
يستعين بالخلابة، ولا يستعمل
المؤاربة، ولا يهمز ولا يلمز،
ولا يُبْطِئ
ولا يَعْجَل،
ولا يُسْهِبُ
ولا يَحْصَرُ،
ثم لم يسمعِ الناسُ
بكلامٍ
قطُّ أعمَّ
نفعاً ولا أصدقَ لفظاً، ولا أعدلَ
وزناً ولا أجملَ مذهباً، ولا أكرمَ
مطلباً، ولا أحسنَ موقعاً، ولا أسهلَ
مخرجاً، ولا أفصحَ عن معناه، ولا أبينَ
عن فحواه، من كلامِهِ،
صلى الله عليه وسلم"[17].
وهذا ما نطالعه في
كتابات كبار الكتاب قديماً
وحديثاً، والتي ننصح معلم
العربية بالإكثار من مطالعاتِها
والنظر فيها، لأنها تشحَذُ
الذهن، وتُهذب القلم، وتصقل
الأسلوب. ومن أكثر الكتاب
تبريزاً في هذا المجال في العصر
الحديث الأستاذ سيد قطب رحه
الله، والشيخ الأديب علي
الطنطاوي، والأستاذ الكبير محمد
الغزالي، والشيخ محمود شاكر، والأستاذ
الكبير أحمد تيمور باشا، ورائد
القصة العربية الأستاذ محمود
تيمور، والأستاذ أحمد فارس
الشدياق، والأديب الناقد مارون
عبود، وأمير البيان العربي شكيب
أرسلان، وعميد الأدب الإسلامي،
صاحب الذوق الرفيع الشيخ أبو
الحسن الندوي، والعلامة الشيخ
محمد رشيد رضا، وحسن
الزيات، وأديب العروبة
والإسلام مصطفى صادق الرافعي،
وغيرهم كثيرون من أدباء مصر
ولبنان وسورية وغيرها. وحسبك ما
جاء في مقالات كثير من الكتاب
الأعلام في مجلتي الرسالة
والمنار اللتين نرى حقاً على
الأساتذة في المداس والجامعات
أن يستلوا منها بعض المقالات،
بل كثيراً منها، ويقرروها على
طلابهم دراسة وفهماً. ومن ذا لا يطرب أشد
الطرب عند قراءته "سبعون"
لميخائيل نعيمة؟ اقرأ إن شئت
"قشرة بيضة"، أو "مصائب
قوم"، أو "والا
والا"[18]
أو غيرها من جميل ما جاء فيه[19]،
أومن ذا لا تدركه نشوة عند قراءة
ما سكبه قلمُ، بل قلبُ أحمد أمين
في "فيض خاطره" أو في كتابه
الرائع "حياتي"؟
وكل ما كتب أديب الفقهاء وفقيه
الأدباء الدكتور يوسف القرضاوي
يدخل في هذا الباب، فهو أدب
رائع، ومن أكثر ما وقفت عليه
فائدة في اللغة وعلومها مقالات
العلامة الدكتور محمود الطناحي
رحمه الله التي جُمعت في مجلدين
نشرتهما دار البشائر
الإسلامية، وقد كسرنا عليها
مقالة ضافية. وأما قديماً فإن
النثر الممتاز لم يقتصر على كتب
الأدب، بل تعداها إلى كتب
الفنون الأخرى، بل ربما تقدم من
كتب في التاريخ والفقه والأصول
والسير والحديث والتفسير، بل في
الطب والمنطق والفلك على من كتب
في الأدب، ولله ما أبعد نظر أديب
العربية الشيخ علي الطنطاوي
حينما وضع، في عبارات قصيرة،
درساً في النقد الأسلوبي، في
مقدمته لكتاب "المسلمون في
الهند" للأستاذ أبي الحسن
الندوي، حيث يقول: "ولقد كنت
أتمنى من قديم أن نخرج
بتلاميذنا من هذا السجن الضيق
المظلم الذي حشرناهم فيه، إلى
فضاء الحرية، وإلى ضياء النهار،
فلا نقتصر في الاختيار على "وصف
الكتاب" للجاحظ[20]،
وهو جمل مترادفة، لا تؤلف بينها
فكرة جامعة، ولا يمدها روح، ولا
تخالطها حياة، ولا على ألاعيب
ابن العميد، وغلاظات الصاحب،
وهندسات القاضي الفاضل، فننفر
التلاميذ من الأدب، ونكرهه
إليهم، وكنا نقول لهم إن البيان
الحق عند غير هؤلاء، وإن أبا
حيان التوحيدي أكتبُ من الجاحظ،
وإن كان الجاحظ أوسع رواية،
وأكثر علماً، وأشد تصرفاً في
فنون القول، وأكبر أستاذية، وإن
الحسن البصري أبلغ منهما، وإن
ابن السماك أبلغ من الحسن
البصري. وإن النظر فيما كتب
الغزالي في الإحياء، وابن خلدون
في المقدمة، وابن الجوزي في
الصيد، وابن هشام في السيرة، بل
والشافعي في الأم، والسرخسي في
المبسوط، أجدى على التلميذ
وأنفع له في التأدب، من قراءة
حماقات الصاحب، ومخرقات
الحريري وابن الأثير"[21] القرآن الكريم ومن واجبات معلم
اللغة العربية أن يكون عارفاً
بالقرآن الكريم وعلومه، ملماً
بكتب تفسيره، ضابطاً لأحكام
تلاوته، فالقرآن هو زينة معلم
العربية، وأهم ما يصقل شخصيته
اللغوية، وهناك الكثير من
الأسرار اللغوية التي لا تتاح
إلا لقارئ القرآن الكريم، ومن
هنا وجدنا الكثير من الأدباء
النصارى قد درسوا القرآن
وتعمقوا فيه، حتى اصطبغت به
كتاباتهم، مثل الأب ميخائيل
معوض والشيخ اليازجي والمعجمي
البستاني ومارون عبود وإيليا
أبو ماضي وميخائيل نعيمة وإلياس
أبو شبكة وجرجي زيدان وغيرهم.
وعلى معلم العربية أن
يجتهد في أن يتقن تلاوة القرآن
الكريم وتجويده بأحكامه
المتواترة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكفاك بها
مقومة للألسنة، مهذبة للنفوس.
ولا يكفيه في ذلك مطالعة كتب
التجويد، بل لا بد له من القراءة
على أحد القراء الضابطين، فإن
هذا الفن لا يؤخذ إلا بالمشافهة، ولا يستقيم إلا بالعرض والتلقي. وليكثر مع ذلك
من الاستماع إلى المقرئين
المحققين، ولا سيما الرعيل
الأول من القراء المصريين،
كالشيخ الحصري ومصطفى إسماعيل
والشيخ البهتيمي وأبي العينين
شعيشع وعبد الفتاح الشعشاعي
والشيخ البنا والشيخ عبد الباسط
عبد الصمد والشيخ المنشاوي
وغيرهم ممن هم في طبقتهم، فإن من
ذكرنا قد بلغوا في القراءة
شأواً عظيماً. وعليه النظر في كتب
التفسير قديمها وحديثها، فإنها
تشتمل على فوائد جمة، وأكثر
مسائلها تدور في فلك اللغة، أو
تنبني عليها. كما عليه أن يلم
بمدارس التفسير ومذاهبه،
ويتعرف على أشهر أعلامه، ويقتني
عدداً من كتبه. وليعط فضل اهتمام
لما يهتم بالجوانب اللغوية
والنحوية من كتب التفسير،
كالبحر المحيط لأبي حيان والدر
المصون للسمين الحلبي وروح
المعاني للآلوسي والجامع
لأحكام القرآن الكريم للقرطبي.
ويحسن أن يقرأ من التفاسير
الحديثة في ظلال القرآن لسيد،
وهو كتاب تفسير وأدب وبيان.
وكذلك تفسير التحرير والتنوير
لابن عاشور وتفسير الشيخ
الشعراوي رحمه الله. وأضعف الإيمان أن
يقتني كتاباً واحداً في إعراب
القرآن الكريم، كإعراب القرآن
الكريم وبيانه لمحيي الدين
الدرويش[22]،
وأن يكثر من النظر فيه، ففيه
جملة نافعة من النكات والفوائد
النحوية والبلاغية التي لا غنى
لمتخصص عنها. الحديث
الشريف وعليه أن يهتم بكتب
الحديث وشروحها، وبخاصة الكتب
الستة، وألا يألو جهداً في حفظ
ما يستطيع منها، وأن يطيل النظر
في ما جاء فيها من أحاديثَ وقصص وروايات،
ففيها ثروة لغوية وأدبية ذات
قيمة فنية عظيمة، "وكلها
أمثلة جميلة للغة العرب التي
كانوا يتكلمون بها، ويعبرون
فيها عن ضمائرهم وخواطرهم، ويجد
دارس الأدب العربي فيها من
البلاغة العربية والقدرة
البيانية، والوصف الدقيق،
والتعبير الرقيق، وعدم التكلف
والصناعة ما يقف أمامه خاشعاً
معترفاً للرواة بالبلاغة
والتحري في صحة النقل والرواية،
وللغة العربية بالسعة والجمال"[23].
هذا إلى جانب ما تجلى في
رواياتها الطويلة من بلاغة
الراوي العربي، واقتداره على
الوصف والتعبير والتصوير، إذ
يحكي حكاية يعبر فيها عن معان
كثيرة وأحاسيس دقيقة، ومناظر
متنوعة، فلا يخذله اللسان، ولا
يخونه البيان، ولا يتخلف عنه
مداد اللغة، فتأتي حكايته
وكأنها لوحة فنية منسجمة
متناسقة قد أبدع فيها الفنان،
أو صورة متناسبة قد أحسن فيها
المصور كل الإحسان. وليقرأ
الراغب حديث كعب بن مالك عن
تخلفه عن غزوة تبوك، أو حديث
الإفك الذي ظهرت فيه براعة
السيدة عائشة أم المؤمنين رضي
الله عنها، أو غيرها من
الروايات الطويلة، ليجد مصداق
ما نقول. وأشهد أنني ما قرأت
حديث كعب مرة، وقد قرأته
كثيراً، إلا واستعبرت مني
العين، وخشع بين جوانحي القلب،
لما فيه من صادق التوبة وعميق
الندم، مما يمس شغاف القلب مساً. ثم
ليكثر مع ذلك من النظر في كلام
ابن حجر في فتح الباري والإمام
النووي في شرح صحيح مسلم، فإن
فيهما فوائد جمة، تتعدى الجوانب
العلمية إلى الجوانب المهنية
التي يستفيد منها المعلم في شرح
دروسه، وأداء مهمته، ناهيك بما تمده به من النكات
واللطائف في الحديث وعلومه. ويلي
الحديث كتب السيرة، كسيرة ابن
هشام، والروض الأنف وإمتاع
الأسماع، "فقد حفظت لنا جزءاً
كبيراً من كلام العرب الأقحاح،
ومثلت تلك اللغة البليغة التي
كانت في عصور العربية الأولى
وهذبها الإسلام ورققها،
واشتملت على قطع أدبية لا يوجد
لها نظير في المكتبة العربية
المتأخرة"[24]
ومن
المفيد أيضاً أن يكون ملماً
بالسنة النبوية وتاريخ
تدوين الحديث وبعض من مصطلحه، وهناك جملة كتب صالحة
في هذا المجال، أذكر منها كتاب
الدكتور مصطفى السباعي رحمه
الله "السنة ومكانتها في
التشريع الإسلامي" وكتاب "السنة"
وهو كتيب مقتضب، ولكنه نافع،
للدكتور عبد الله شحادة رحمه
الله. ولا
يظنن المعلم أننا أثقلنا عليه
بهذه المطالب، فإنها أساسية في
علمه وعمله، ثم إن "طالبَ
العلم إذا بذل جهدَه في الطلب
والتحصيل، وتحمل المشاق
والمتاعب، وغالب الصعاب
والعقبات، لا يخيب الله مسعاه،
ولا يهضم الناس حقه، ولا يتخلف
عنه التفوق والنبوغ، فالنبوغ
صبر طويل، كما قال الهذلي: وإن
سيادة الأقوام فاعلم
لها صَعْداءُ مطلعها طويلُ"[25] وليجرب
ما قلنا له ثم لينظر هل
تعدِلَنَّ لذةٌ ما يجد بذلك من
لذة؟ ناهيك بأن العلم يرفع
ذكره، ويعلي قدره، ورضي الله عن
علي بن أبي طالب إذ قال: "قيمة
كل امرئ ما يحسن"، وقد قالوا
أيضاً: إنما اشتق اسم المعلم من
العلم، والعلم أصل لكل خير، وبه
ينفصل الكرم من اللؤم، والحلال
من الحرام، والفضل من الموازنة
بين أفضل الخيرين، والمقابلة
بين أنقص الشرين[26].
وإلا فإنه سيفتقر، ويقل محصوله
اللغوي، ومن ثم ينضب عطاؤه،
وتخلق ديباجته، "فالقلةُ
تغري بالقلة، والفقر يقود إلى
الفقرِ"، كما قال الطناحي في
إحدى مقالاته. الخط وينبغي على
معلم العربية، وكل معلم، أن يكون حسن الخط،
منظم الكتابة، وألا يعد ذلك من
الكماليات، بل هو من الأساسيات
المهمة. وكما أن الطريقة الجيدة
في الكلام جاذبة للقلوب آسرة
للألباب، بما فيها من حسن
المواقع وسهولة المخارج وفصاحة
الألفاظ وسلامة التراكيب وجمال
المذاهب واعتدال الأوزان،
فكذلك الخط الحسن، فإنه يزيد
الحق بياناً والمعنى إشراقاً.
بل إن له أثراً كبيراً في تحبيب
العربية إلى التلاميذ
والدارسين، بانسيابية حروفه
وروعة تراكيبه ودقة رسومه وجلال
مظهره، ومن هنا فلا يكفي أن يكون
معلم العربية قادراً على
الكتابة الإملائية الصحيحة، بل
عليه أن يسعى لتحسين خطه وصقله،
وما ذلك بمستحيل ولا ممتنع؛ فإن
الأمر يحتاج إلى إدمان الدربة
والمران وأن يأخذ المرء نفسه
بالجد فيه، وأن يصرف جزءاً من
همته إلى تعلمه وضبط قواعده
والتعرف على أسراره. والخط
الحسن يرتاح له النظر، وتحب أن
تتملاه العين، وقد صدق الشاعر
إذ قال في وصف حروف هذا الخط: حروف
تعيد لعين الكليل
نشاطاً ويقرؤها الأخفشُ
وأما صفة الخط الجيد، فقد
نقل الحصري في زهر الآداب أن بعض
الكتاب سئل عن الخط: متى يستحق
أن يوصف بالجودة؟ فقال: إذا
اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه
ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى
صعودَه حدورُه، وتفتحت عيونه،
ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق
قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، ولم
تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون
تصورُه، وإلى العقول تثمرُه،
وقدرت فصولُه، واندمجت وصولُه،
وتناسب دقيقُه وجليلُه، وخرج من
نمط الوراقين، وبعد عن تَصَنُّع
المحررين، وقام لصاحبه مقام
النسبة والحلية[27].
وأذكر في هذا المجال
صديقاً لي كان إذا كتب سحر
العيون وذهب بالألباب، من شدة
جمال خطه، وكنت إذا سألته عن بعض
الحروف كيف يستطيع أن يأتي بها
على وجهها، قال: إن للحروف
أسراراً! على
أننا
لا نعني بما قدمنا أن يبلغ
المعلم في الخط مبلغ ابن مقلة
ولا ابن البواب ولا هاشم
البغدادي، فإن هؤلاء قد وكلوا
بهذا الأمر، وكل ميسر لما خلق
له، وإنما نعني أن يصقل المعلم
خطه، وأن يلم بقواعده، وأن يسعى
أبداً إلى تحسينه. وما أجمل أن
يجمع معلم العربية بين جمال
الخط وسلامة المنطق وحسن
الأسلوب! ومن
تمام ذلك أن يعرف تاريخ الخط
العربي، ومدارسه، وأشهر
أعلامه، الذين لا يذكر فنّ الخط العربي
إلاّ ويذكرون معه، مثل الضحاك
بن عجلان، وإسحاق بن حماد،
ومحمد بن مقلة، والحسن بن مقلة، وياقوت
المستعصمي، وابن البواب
البغدادي الذي قال فيه ابن كثير:
"صاحب الخط المنسوب علي بن
هلال أبو الحسن بن البواب، صاحب
أبي الحسين بن سمعون الواعظ ...، وأما خطه
وطريقته فيه، فأشهر من أن ننبه
عليها، وخطه أوضح تعريباً من خط
أبي عليّ بن مقلة، ولم يكن بعد
ابن مقلة أكتب منه، وعلى طريقته
الناس اليوم في سائر الأقاليم،
إلا القليل". وكذلك هاشم
البغدادي رحمه الله وسيد
إبراهيم وعثمان طه ومحمد حداد
وغيرهم. وينبغي عليه أن ينظر في
أعمال كؤلاء الخطاطين حتى يصقل
ذوقه الفني، وينمي مقدرته على
التقليد والمحاكاة. المعاجم ومن أهم ما ننصحُ به
معلمَ العربية المعاجم، إذ عليه
أن يقتني منها ما يسعفه وقت
الحاجة، وليحرص أن يجعل في
مكتبته لسان العرب لابن منظور،
وأن يجعله في متناول يده، وألا
يجعله مرجعاً لما شق عليه فهمه
وعسر هضمه من المفردات فحسب، بل
يكثر الرجوع إليه، ويديم النظر
فيه، فإنه لن يعدم فائدة جديدة،
أو إضافة لطيفة، من حديث شريف،
أو مثل سائر، أو بيت من أبيات
المعاني، ثم هو قبل ذلك وبعده
يثبت علمه ويجلوه وينميه.
ولطالما سألني التلاميذ
والمعلمات عن معاني كلمات، فكنت
أجيبهم، ثم أرجع إلى اللسان
لأتثبت منه، وأثبت معلوماتي،
فأفيد معنى جديداً، أو
استعمالاً غائباً، أو فائدة لا
تقدر بثمن، فإن لم أجد في اللسان
طلبتي، ونادراً ما كان يقع ذلك،
انصرفت إلى غيره من المعاجم،
حتى لربما نظرت في عشرة منها أو أكثر من أجل لفظة!
ومعنى ذلك أن عليه ألا يكتفي
باللسان، بل عليه أن يرجع إلى
غيره، ولا سيما معجم مقاييس
اللغة لابن فارس، فإن صاحبه
وضعه على طريقة لم يسبق إليها،
تسهل على الدارسين حصر معاني
الكلمة، وكذلك أسرار البلاغة
للزمخشري، وكثيراً ما أفدت منه
في فنون القول، وسنن العرب في
كلامها، وكذلك القاموس المحيط،
وأفضل ما فيه طريقة ضبطه، إذ
يعتمد فيه على الأوزان، وليس
على شكل الحروف، وليتعرف على
العين والمخصص والتاج وجمهرة
ابن دريد. ولا تفوتنه المعاجم
المتخصصة في موضوعات بعينها،
كالمفردات للراغب الأصفهاني،
والنهاية في غريب الحديث، وغريب
الحديث لابن قتيبة، والفائق في
غريب الحديث للزمخشري وغيرها.
ومن الكتب التي لا يحسن بنا ألا
نذكر بها في هذا المجال، كتاب
فقه اللغة للثعالبي، فإنه كتاب
غاية في الأهمية، وفوائده أكثر
من يتحدث عنها في هذه العجالة.
ومن تمام ذلك أن يتعرف على
المعجميين المحدثين، من أمثال
الشيخ عبد الله العلايلي
والناقد المعجمي الشاعر الشيخ
أحمد رضا والأب انستانس ماري
الكرملي ومعجمه الموسوم
بالمساعد، والشيخ عبد الله
البستاني وغيرهم. وكذلك الذين
ألفوا في هذا الباب مثل الأستاذ
ظاهر الشويري وأسعد داغر ومصطفى
جواد وغيرهم. ويدخل في هذا الباب
متابعة ما يجد من الاستعمالات
اللغوية، وما يصدر من قرارات
لمجامع اللغة العربية في هذا
الشأن، فيحسن به أن يكون على
اطلاع على ذلك، وكما ذكرنا من
قبل، فإن ذلك متاح عبر
الإنترنت، وأن يجعل من هذه
الشؤون مواضيع نقاش مع زملائه
المعلمين، أو حتى أصحابه
المهتمين.
الاهتمام بالتفاصيل هذا عنوان غاية في
الأهمية. وقد تحدثت فيه كثيراً،
ليس فيما يتعلق باللغة
وتدريسها، بل فيما وراء ذلك من
أمور الحياة. فالاهتمام
بالتفاصيل هو الذي يجعل ثمن
لوحة فنية يصل إلى آلاف
الجنيهات، بينما يمكنك شراء
لوحة مشابهة مقلدة بمبلغ زهيد.
والاهتمام بالتفاصيل هو الذي
رفع خطاطاً مثل حامد الآمدي أو
عثمان طه، وجعلهما في مصاف
الخطاطين الخالدين. وهو الذي
يجعل سعر سيارة كالمرسيدس مثلاً
ثلاثة أضعاف سيارة عادية.
وتعجبني دعاية لإحدى شركات
الطيران العربية تلخص في عبارة:
نهتم بالتفاصيل! ويظهر أثر
الاهتمام بالتفاصيل في جميع
شؤون الحياة: في المأكل والمشرب
والملبس والمسكن والخطاب
وطريقة الحديث والاهتمامات
والميول. وأخلق
بالمعلم أن يولي التفاصيل ما
تستحق من عناية، فيرعاها حق
رعايتها، كأن يهتم بهيئته،
فيحسن اختيار ملابسه، وتسريح
شعره، ونظافة بدنه، وليتطيب
كلما خرج للدرس بأحسن طيب،
عملاً بسنة المصطفى صلى الله
عليه وسلم، ولا يظهر أمام
تلاميذه إلا بأحسن مظهر، وأفضل
صورة، وأبْهى طلعة، ولْيُراعِ
ألفاظَه وطريقته في الكلام، ولا
يَرَيَنَّ منه التلاميذ ما لا
يحب أن يراه منهم، أو يسمعُنَّ
منه ما لا يحب أن يسمع منهم، فإن
لهم فيه أسوة، إن حسنة فحسنة،
وإن غير ذلك فغير ذلك. تصحيح
دفاتر التلاميذ ويجدر بنا في هذا
السياق الإشارة إلى دفاتر
التلاميذ وتصويبها، فإنها
تحتاج إلى اهتمام زائد، فما
أسوأ أن تقع العين على صفحة
تملؤها الأخطاء، وقد شملها "صحٌّ"
أحمرُ كبير يبدأ من أدنى الصفحة
من ناحية وينتهي في أعلاها من
الناحية الأخرى! وأسوأ من ذلك أن
توضع علامات الخطأ على الإجابات
الصحيحة. ومن هنا يتعين على
المعلم أن يدقق في إجابات
التلاميذ، ليجزي كلاً منهم بما
يستحق. بل أن يتجاوز ذلك ليصحح
خطأ إملائياً أو نحوياً، أو
ليقوم حرفاً لم ترتح لشكله العين، أو خرج
عن قواعد الخط السليم، وأفضل ما
يكون ذلك على مرأى من التلميذ
حتى تحصل الفائدة، ويتم النفع. ولست أدري كيف تطاوع
المعلم نفسه أن يضع صحاً على ما هو خطأ أو العكس، فإنه
سيكون هو المتهم لا الطالب،
وهذه الظاهرة فيما أرى من أخطر
ما يضعف التلاميذ وينحدر
بمستواهم، وأخطر منها أن تترك
دفاتر التلاميذ بلا نظر ولا
تقويم، تعشش فيها الأخطاء وتبيض
وتفقس! ولا يقل أهمية عن هذا
التقويم الشفهي لكلام التلاميذ
إن لم يزد. وهنا تظهر
براعة المعلم، فمن تصحيح خطأ في
المعنى، إلى تعديل لحن في
الإعراب، ومن شرح كلمة استعملت
في غير موضعها، إلى تقويم خلل في
النطق، كل ذلك في حكمة وحلم
وأناة، لأن التصويب
إن هو إلا جزء من العملية
التعليمية، وهو وسيلة لا غاية،
سواء في النشاطات الصفية
والمنزلية،
أم في الامتحانات الفصلية
والنهائية. ولكنه وسيلة قيمة لو
أحسن استخدامها، والانتفاع
بها، فالناس من أخطائهم
يتعلمون، والمعلم الجيد من يسخر
أخطاء تلاميذه لمنفعتهم،
والوصول بهم من خلالها إلى
الصواب.
تدريس مخارج الحروف
وصفاتِها ومن
التفاصيل المطلوب الاهتمام
بِها والحرص عليها، مخارج الحروف
وصفاتُها، فمعرفتها أمر غاية في الأهمية، إذ
بها
تقوم الألسنة ويحسن النطق، إلا
أن كثيراً من المعلمين لا
يحسنون تدريسه، أو لا يدرسونه أصلاً. وقد رأيت من المعلمين
من يشغل طلابه بمعرفة مخارج
الحروف من الجهة النظرية، ويقتص
منهم بسؤالهم إخراج القاف من
أقصى اللسان مثلاً، أو الضاد من
حافته، أو يمعن في أذاهم بقوله
اجعلوا العين من وسط الحلقِ لا
من أقصاه، أو الهاء من أقصاه لا
من أدناه، وكأن حلوقهم بين
أيديهم يقيسونها كما يشاؤون! والحق أن هذه الأشياء
لا تؤخذ نظرياً، بل من العبث
وتضييع الوقت والجهد، وإملال
المتعلم والمعلم على السواء أن
يسلك في تدريسها ذلك المسلك،
وأن تعتمد في تلقينها تلك
الطريقة. بل أن يتقن المعلم
أولاً مخارج الحروف وصفاتها
عملياً، ثم يسمع تلاميذه النطق
الصحيح لها، ويريهم صورة الفم
أثناء النطق، ولا سيما في
الحروف التي يتأثر بنطقها الفم،
وأكثر ما يكون ذلك وضوحاً في
الصفات لا في المخارج. كلم
تلاميذك عن الانفتاح في السين
ألف مرة، فلن ينفعهم ذلك مثل أن
تنطق الحرف أمامهم مفرداً
ومركباً في أول الكلمة ووسطها
وآخرها، وأن تتمثل في ذلك بآيات
من القرآن تتلوها عليهم ثم تطلب
منهم أن يحاكوها، وصحح لهم،
وأعد العملية حتى يضبط الحرف،
وهكذا دواليك. فإن عرفوا ما يراد
بالانفتاح عملياً، وأتقنوا
أداءه، كلمهم حينئذ نظرياً ما
شاء الله لك أن تكلمهم. حفظ القواعد مع
الأمثلة ومن
المهم أن يكون المعلم حافظاً
قواعد المادة التي يدرسها حفظ
الفاهم الذكي، وأن يكون محيطاً
بشرحها، عارفاً بشواذها،
قادراً على تطبيقها وشرحها،
مستحضراً لأمثلتها وشواهدها،
لا يخفى من ذلك عنه شيء. ولو سئل
المعلم عن مسألة فأجاب عنها
بأحسن جواب نظري، ثم أخفق في
استحضار الشواهد على ما يقول،
ضعفت حجته، وقلت قيمة جوابه،
وربما لم يفهم عنه، وصدق المثل
القائل: بالمثال يتضح المقال. ومن المهم جداً أن
يكون منطقياً في عرض القواعد
وسرد الشواهد، ولا سيما إذا كان
يشرح درساً كاملاً، فينطلق من
العام إلى الخاص، ومن السهل إلى
الصعب، ومن الواضح إلى المبهم، معتمداً
في ذلك كله على ذوقه ومهارته
التدريسية، وواضعاً نصب عينيه
أن النحو إن هو إلا وسيلة وليس
غاية، وأن الغرض منه تقويم
الألسن، وتجنب اللحن. ولقد تتبعت شواهد
الكتاب، فرأيت أن سيبويه رحمه
الله اتبع فيها منهجاً منطقياً
لم يحد عنه، وفعله فعل ابن هشام،
وما شرح شذور الذهب وطريقته فيه منا ببعيد. ولطالما ذكرت
المعلمين والطلاب على السواء
بأهمية حفظ بعض أبيات المنظومات
النحوية والصرفية واللغوية،
ولا سيما في الموضوعات التي
تكثر تفريعاته، وتتعدد
قواعدها، أو أدواتها، ككان
وأخواتها، وإن وأخواتها،
ونواصب المضارع وجوازمه، وحروف
الجر وما إلى ذلك. فمن ذا الذي لا
تنسيه مشاغل الحياة جوازم
المضارع أن يسوقها كاملة دون
نسيان أو تضييع، ولكنه لو حفظ
أبيات ابن مالك لكفاه ذلك: بلا
ولام طالباً ضع جَزْمــــا
في
الفعلِ
هكذا بِلَمْ
ولمّــا واجزمْ
بإنْ ومَنْ
وما ومهـــما
أيٍّ متى أينَ أيّــانَ
إذمـا وحيثما
أنى. وحــرفٌ
إذمــا،
كإن،
وباقي الأدوات أسمـا وكثيراً
ما كنت أنسى الحالات التي تقتضي
المنع من الصرف، حتى وقعت على
بيتين في شرح الشافية، هما: عدل ووصف وتأنيث
ومعرفة
وعُجمـة ثم جمـع
ثم تركيبُ والنون زائدةً من
قبلها ألـف
ووزن فعل، وهذا القول
تقريبُ فلما
حفظتهما ثبتت القاعدة واستقام
لي الأمر. ومع ذلك
فعليه أن يقتصر في التعليم على
ما يقع به النفع، وتحصل منه
الفائدة، وألا يتشعب بذكر شوارد
المسائل، وعويص المشاكل، وبعيد
الآراء، فإن ذلك يشتت ذهن
المتعلم، ويحول دون الفهم، وقد
صدق ابن خلدون إذ يقول: "اعلم
أنه مما أضر بالناس في تحصيل
العلم والوقوف على غاياته كثرة
التآليف، واختلاف الاصطلاحات
في التعليم وتعدد طرقها، ثم
مطالبة المتعلم والتلميذ
باستحضار ذلك"[28]. ثقافة المعلم العامة سأبدأ
تحت هذا العنوان بالتذكير بأنهم
كانوا يسمون علوم العربية
قديماً علوم الآلة[29]،
فهي في مجملها وسيلة لا غاية،
ومحراث لا ثمرة، فهي مفتاح
لغيرها من المعارف والعلوم،
ومطية لسواها من الآداب والعلوم
والفنون. ومن هنا وجب أن يتسلح معلم اللغة
العربية، وغيره من المعلمين،
بسلاح الثقافة العامة، وأن
يتابع الأفكار والتيارات
والنظريات الحديثة، بصرف النظر
عن موافقته إياها أو عدمها، وأن
يضرب في كل علم بسهم، وأن يكون
عارفاً بقضايا عصره، ومشاكل
أمته، ومآرب أعدائه، مطلعاً على
ثمرات المطابع، وما تجود به
قرائح مفكري عصره ومبدعيه، ولا سيما المخلصين منهم، ذوي
العقائد السليمة والتوجهات
النظيفة والنوايا الطيبة
والأهداف النبيلة والنفوس
الكبيرة والأيدي الطاهرة
والصفحات البيضاء، ممن نذروا
أنفسهم للذب عن حياض الإسلام،
والسعي لنهضة هذه الأمة، غير
طامعين من حطام هذه الدنيا بجاه
ولا سلطان، لا يخشون في الله
لومة لائم ولا غضبة غاشم. فهذا
من شأنه
تقوية شخصيته، وإنضاج عقله،
وزيادة ثقته بنفسه. ولكن عليه
ألا يدع هذا التنوع يصرفه عن
تخصصه والاهتمام به وجعله في
رأس القائمة، فقد بتنا نعيش في
زمن التخصص الذي يمكن المرء من
أن ينجز شيئاً ويبرع فيه، وما
أجمل ما قاله كارليل في هذا
المعنى فيما نقله عنه الأديب
الكبير مارون عبود في مقالة له
عنوانها "حارب على جبهة واحدة"
في كتابه النفيس سبل ومناهج،
حيث يقول: إن أضعف مخلوق يستطيع
أن يعمل عملاً إذا جمع قواه حول
موضوع واحد، في حينَ أن أقوى
الناس إذا وزع قواه على مواضيع
متعددة لا يكون نصيبه إلا الفشل
والخيبة، فالقطرة بتكرار
سقوطها على الصوان، تبقي عليه
أثراً، وأما السيل السريع فإنه
يكر على الصخور بضجيج وصخب
ويذهب كأنه لم يمر فوقها[30].
ورحم الله إحسان عباس الذي يقول:
"لقد كان شعاري ألا أكتب في
شيء خارج عن اختصاصي وما أثق فيه
بمعرفتي ووضوح تصوري، لقد كنت
أغذي هذا الجانب لدي (الثقافة
العامة) بالقراءات المستفيضة،
ولكني كنت أحجم عن تناوله
بالبحث والكتابة، ورحم الله
امرأ عرف حده فوقف عنده"[31]. بل إن هذا الأمر قديم
قدم العلم، وإن وجد عبر التاريخ
الإسلامي من برع في علوم شتى،
كالغزالي مثلاً، فأنت تجد من
برع في الحديث ووثقه أهل الصنعة
وحكموا بضبطه وإتقانه، ولكنهم
وهوه في القراءات، ومنهم من يعد
ثقة في القراءات، ولا يعبأ
بنقله في الحديث. وقد ألف فخر
الدين الرازي تفسيراً ضخماً،
فأودع فيه كل العلوم، ووسمه
بالتفسير الكبير، فقال فيه أبو
حيان: فيه كل شيء إلا التفسير! وليعلم أن الثقافة لم
تعد مقصورة على هذا القدر
الكبير من المعلومات، بل متى
كانت الثقافة كذلك، وإنما هي
تحويل هذه المعلومات إلى معارف
يتفاعل معها الإنسان تفاعلاً
جدلياً، يأخذ منها ويعطي، ويحسن
فيها ويطور، وصولاً إلى الوضع
الأمثل الذي فيه نفع الإنسانية
وتقدمها.[32]
أما المعلومات، فقد باتت بفضل
هذا التقدم العلمي الهائل في
وسائل الاتصالات وتقنية
المعلومات متاحة للجميع من
غيرما عناء، وأذكر أنني كنت
يوماً في حوار هاتفي مع أحد
الأصدقاء المثقفين جداً،
تناولنا فيه موضوعات ثقافية
مختلفة، وأتينا على ذكر أعلام
في الفكر والدين والسياسة، فذكر
اسم أحد المفكرين الجزائريين،
وكنت إذ ذاك لا أعرفه، غير أني
كنت جالساً أمام الحاسوب، فما
كان مني إلا أن ضغطت بضعة أزرار
وأنا أستمع لصديقي، فما إن فرغ
من كلامه حتى كانت أمام ناظري
معلومات هائلة عن ذلك المفكر،
ووجدتني مشاركاً صاحبي في
حوارنا دون أن يشعر أنني كنت
أجهله، بل لقد ذكرت له عنه ما لم
يكن يعلمه، ثم بعد فراغنا،
أعطيت ذلك الموضوع حظاً من
الوقت أوفر، فاطلعت عليه
بتمحيص، ونظرت في فكر الرجل
وأعماله، وقلبت المواقع التي
تحدثت عنه أو نشرت له أعمالاً،
لا أخرج من موقع إلا أدخل في
آخر، ولا أدع قضية إلا آتي على
غيرها، حتى صرت به من العارفين. ولطالما شبهت
الثقافة بالنظارة الطبية، ذلك
أنّها
تري الإنسان الأشياء على
حقيقتها، تماماً كما تفعل
النظارة، فمن الناس من يعاني من
قصر نظر مثلاً، ولا يعرف أنه
مصاب بذلك، ثم هو مع ذلك يرى هذه
الدنيا وما فيها من بديع خلق
الله، وجميل صنعه سبحانه، فيسعد
به جداً، ظناً منه أن الدنيا إن
هي إلا كما يراها هو، ولكنه إن
أدرك ما يعاني، ووضع النظارة
المناسبة على عينيه، أدرك ما
كان فيه من وهم، وعرف أن الدنيا
أجمل بكثير مما كان يظن، وأن
هناك الكثير من التفاصيل
الدقيقة التي كانت غائبة عنه،
والتي بفضلها صار الجميل
جميلاً، فتتبدل قناعاته،
وتتغير نظرته للحياة، فعل
الثقافة بالعقول، سواء بسواء، وقد صدق الشاعر إذ قال: وكنت
أرى أنْ قد تناهى بيَ الهوى
إلى غايةٍ ما بعدها لي مذهبُ فلما
تلاقينا وعاينتُ حُسْــنَها
تيقنتُ أني إنما كنت
ألعبُ! على أنّ
الناس أصلاً يتفاوتون في حكمهم
على الأشياء وإن اتفقوا على
سواد الأسود وبياض الأبيض وقرب
القريب وبعد البعيد، ولا ينكر
أحد أن الشيء في نظر الأبله غيره
في نظر الفيلسوف، وبين هذا وذاك
درجات لا حد لها، وليست الروضة
المزهرة في نظر الشاعر أو
الأديب كما هي في نظر الرجل
العادي، "هذا ينظر إليها
فيقرأ فيها من المعاني والجمال
ما يمتزج بنفسه، ثم يسيل على
قلمه كأنه قطع الرياض، وذاك
ينظر إليها نظرة مبهمة، لا تسفر
عن معنى، ولا تعرف لها وجهة،
نظرة بليدة جامدة، لا يسعفها
ذوق، ولا تخدمها قريحة"[33].
كما عليه أن يقرأ في
علم النفس والنظريات التربوية،
لا بدعوى أنّها
كلها صائبة، ولكن من أجل
الإحاطة قدر الإمكان بكل ما
يقال في هذا المجال الذي هو فارس
حلبته وشيخ صنعته، ولقد اطلعت
على كثير من هذه النظريات،
فأفدت منها كثيراً، إلا أنني لم
أجد خيراً مما جاء به رسول الله
صلى الله عليه وسلم في هذا
الباب، وأزعم أنه ما من نظرية
ولا فكرة تربوية حسنة، إلا وفي
سنته صلى الله عليه وسلم أصل
لها، أو خير منها، وربما اتّهمنا
متهم بالخلط بين الأمور، فإنما
ذلك لقلة اطلاعه على السنة
النبوية في مظانّها
الأصيلة، وما أكثر من هذه حالهم،
ولقد جمع الأستاذ محمد نور سويد
في كتابه "منهج التربية
الإسلامية" الشيء الكثير من
ذلك، فليرجع إليه،
على أن ذلك لا يمنع من الإفادة
من كل جديد ما دام منضبطاً
بضوابط الشرع الحنيف،
منسجماً مع عقيدة الإسلام وذوق
المسلمين. وقد وقفت بعد كتابة
هذا الكلام ونشره على مقالة
للدكتور إحسان عباس يؤكد فيها
هذا المعنى[34]،
وهي المقالة التي سنقبس لك منها
فيما سيأتي من سطور، وعنوانها:
"النموذج الإسلامي للتربية"،
ويا حبذا لو اطلع عليها من له
بالتربية والتعليم صلة، ففيها
فوائد جمة، وخيرات حسان. علاقة المعلم
بالتلميذ وعلى المعلم أن يبني
علاقة حميمة مع التلاميذ، وأن
يكون لهم صديقاً وأخاً، لا
معلماً فحسب، وأن يُري التلاميذ
منه الجانب الآخر، بل الجوانب
الأخرى، من الاهتمامات
والميول، كما عليه أن يتعرف على
هذه الجوانب فيهم، فيعمل على
تنميتها وتطويرها وصقلها. وعليه
أن يكون بساماً في وجوههم، وأن
يعاملهم بمنتهى الحسنى، فلا
يصخب عليهم، ولا يسخر منهم، وأن
يتجنب التوبيخ والملامة
الشديدة ما استطاع، وألا يلجأ
إلى العقاب إلا إذا
دعت إليه
ضرورة، أو مست إليه حاجة.
وليس ما نقوله هذا من التهاون في
شيء، ولكنه أقصر طريق إلى قلوبِهم،
وأكرم مدخل إلى عقولهم، وليوظف
أخلاقه في تربيتهم، حتى يقابلوا
الإساءة
بالإحسان، والإحسان بخير منه. وقد رأينا من
المعلمين من كان يقصر اهتمامه
على الأذكياء من التلاميذ غير
سواهم، ويخصهم بفضله دون غيرهم،
ظناً منه أن الخير فيهم وحدهم،
وهذا صحيح من وجه، فاسد من وجوه،
ذلك أنه يؤلب بعض التلاميذ على
من هم فوقهم ذكاء، ويلقي بينهم
العداوة والبغضاء. ومع اعترافنا
بأن النفس أميل للأذكى وأقرب
إليه، إلا أننا نؤكد أن علي
المعلم أن يعدل بين تلاميذه ما
استطاع، وألا يفرق بينهم في
المعاملة، وأن يستعين على ذلك
بالصبر، إلا ما كان من المكافآت
التي يستحقها المحسن منهم، ويضن
بها على المقصر. ولْيذكر
أن الله سبحانه قد وزع الأرزاق
على عباده، ورفع بعضهم فوق بعض
درجات، ورب تلميذ لا يحسن النحو
والصرف أو غيرها من الموضوعات،
ولكنه انفرد بمواهب لا تقع
لكثير من التلاميذ، واستقل
بمهارات لا يحسنها سواه منهم،
وكل ميسر لما خلق له. وقد رأيت
طالبات لم يكن شيء أبغض إلى
نفوسهن من النحو والصرف، ولكنهن
إذا كتبن سحرن بجمال أسلوبِهن، وسعة ثقافتهن،
وبراعة تصويرهن، وحسن تخيلهن. وليسمح
لي القارئ أخرى أن أقبس له من
مقالة الدكتور إحسان عباس
الماتعة التي مر ذكرها، قوله في
هذا السياق: "إن العقل ليس
قيمة مجردة موحدة، بل هو طاقة
متفاوتة بتفاوت الأفراد، وخير
نموذج لذلك في القرآن الكريم
فهم سليمان لقضية فاتت أباه
داوود، وكلاهما نبي. وعلى أساس
من هذا التفاوت تباينت
التطبيقات العملية في التجربة
التعليمية، واقتضى ذلك ربط
التعليم بتنوع المواهب، وتباين
القدرات العقلية، إذ كل ميسر
لما خلق له، والكشف عن هذه
الناحية أساسي في نجاح العملية
التربوية والإقلال من الاضطراب
والفوضى في توجيهات الأفراد وفي
مسيرة المجتمع"[35]. وأذكر أنني كنت شديد
القسوة على من لا يتسمون بحدة
الذكاء من التلاميذ، وأتعجب من
بلادتهم وبطئهم في التعلم،
وتكرارهم السؤال بعد المعلم،
وقد كان ذلك يؤذيني جداً، لأنني
كنت أحب التلميذ سريع البديهة،
حاضر الجواب، حاد الذكاء، بادي
الفطنة. وربما رميت أحدهم
بالغباء، أو أغلظت له القول،
منكراً عليه ما هو فيه من قلة
الذكاء، ناسياً أن ذلك ليس
بيده، وأنه إنما يجيب على قدر
استطاعته، ولا يفهم إلا بقدر ما
يؤهله عقله. غير أنني لما أدركت
هذه الحقيقة إدراكاً عملياً،
تحولت قسوتي عليهم إلى رحمة
بهم، وغضبي منهم إلى شفقة عليهم.
وهذا هو ما يعرف بمراعاة الفروق
الفردية، التي يجب أن يهتم بها
المعلم أيما اهتمام، ولله در من
قال: "خاطبوا الناس على قدر
عقولهم". على أن هذا لا يعني
ترك من حالهم هذه على حالهم،
والركون إلى القول بأن هذا هو
وسعهم، ولكن مراعاة هذه الحقيقة
في التعامل معهم، وإعطاؤهم
فضلاً من الوقت والاهتمام،
والثناء على ما يأتون به من
إجابات صحيحة، أو أعمال حسنة،
سعياً نحو تطوير مقدرتهم
والنهوض بمستواهم، من غيرما جرح
لمشاعر أحدهم، أو كسر لنفس آخر. وعليه أن يتحرى أفضل
الأوقات لإعطائهم المادة
الدسمة، ثم يروّح عنهم، ولا
يثقل عليهم، وقد كان هذا هو دأب
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
إذ كان يتخول أصحابه بالموعظة
في الأيام مخافة السآمة عليهم.
وكثيراً ما كنت أخرج التلاميذ
للعب، وألعب معهم الكرة، أو
ألعاباً أخرى، تنفي عنهم الملل،
وتعيد إليهم النشاط، فيرجعون
وقد ازدادوا في طلب العلم حباً،
وبه شغفاً، وعليه إقبالاً. وللجاحظ كلام في هذا المعنى
مستفيض، للراغب أن يطلبه في
مقدمات رسائله. وما أجمل تشبيه مارون عبود
في هذا السياق إذ يقول: "إن
المعلم، ولنقل المربي، أشبه شيء
بالطبيب، فكما يصنع الطبيب
عندما يضيق الصدر ما يسمونه
نفساً اصطناعياً، هكذا يفعل
المعلم إذا كان موضوعه مما
تنكمش له الصدور وتتقلص الوجوه،
فيخلق انتباهاً اصطناعياً
...".[36]
وعليه أن يراعي سلوكه
أمامهم، كما مضى، كي يكون لهم فيه أسوة حسنة،
فيغرس في نفوسهم الأخلاق غرساً،
عملاً لا قولاً، وسلوكاً لا
كلاماً؛ فإنما يأخذ التلاميذ عن
معلمهم، ويعتقدون أنه المثل
الأعلى، وأن كل ما يأتي به هو
الصواب الذي لا صواب غيره. وكم
من طفل أتى شيئاً ما فلما سئل
عنه قال: هكذا قال المعلم!
وتعجبني في هذا المقام أبيات لإلياس أبي شبكة يقول فيها: تبسمْ
لهم عن غبطة وتوسمِ
ففي مقلةِ التلميذِ
روحُ
المعلمِ تَمُرّ
الثواني لا أُحِسُّ
مرورَها
أمامَ
صغارٍ عُطَّشٍ
للتقدمِ أمامَ
صغارٍ
جانحينَ إلى العلى
كأفراخِ
نَسرٍ
أُورثوا
المجدَ في الدمِ تُضيء
زيوتُ
الطهرِ في حدقاتِهم
يُمازجُها
لطفُ الفمِ
المتبسّمِ أُعِد
شراباً خالداً لنفوسهم
وأُطعمهم من مهجتي خير
مَطْعَمِ أقول
لهم إن النفوس مسارح
فإن تثقلوها بالمعايب
تُظلمِ فإن
تثبوا فالمجد في وثبا
وإن تقعدوا
فالمجدُ
رهن التصرمِ أقول
لهم إن الجهادَ
فضيلةٌ
تُباركُها
روحُ الإلهِ
المعظمِ
وليقرأ المعلم مقالة
مارون عبود التي اقتبسنا منها
آنفاً، وعنوانُها:
"الرجل ابن البيت والبيئة"،
وليعط فضل
اهتمام
لما
يسميه بشيخ المعلمين، أو
الأستاذ الطمطماني، وهو الجرس،
لأنه عنوان النظام الدقيق
والضبط، واتباعه نجاح وفلاح!
وليمض معه حيث يقول: "إذا كان
صفك ميتاً فهذا يعني أنك ميت لا
حياة فيك، أو أنك فونوغراف لا
أكثر ولا أقل، وفي إمكان
المدرسة أن تستعيض به عنك. فعليك
بما فيك من موهبة أن تضع تلاميذك
في الجو المطلوب، وأن تطهر ذلك
الجو من كل ما يُضيِّق الصدور،
عليك أن تدخل إليه مجاري جديدة،
وهذا لا يكون إلا كما قال ريبو:
اجعل الشيء جذاباً بصورة
اصطناعية إذا كان غير جذاب
بطبيعته، فالانتباه الإرادي
يكون في أوله اصطناعياً ثم يصبح
بالتكرار عادة أو طبيعة ثانية.[37]
وعليه أن يتبع أسلوب
الغرس، ويبتعد عن التلقين، لأن
التلقين المحض يفنى، أما الغرس
فيبقى وينمو ويترعرع ويزدهر
ويثمر، وكم من معلومات مرت بنا
وزالت، فلم يبق منها إلا الذي
غرس
غرساً.
وأفضل مراحل الغرس هي مرحلة
الطفولة المبكرة التي يكون فيها
الصبي على الفطرة الخالصة
والطبع البسيط. وقد نبه الرسول
صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال:
"لأن يؤدب الرجل ولده، خير من
أن يتصدق بصاع"[38].
ولله در الشاعر إذ يقول: وإنّ
مَنْ
أدّبتَهُ
في الصّبــا
كالعودِ
يُسقى
الماءَ في غرسه حتى
تراه مونقاً ناضــراً
بعد الذي أبصرت من يُبسـه -------------------- هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها 1
إنما
زاوجت بين مارون عبود وبين
صبح الأعشى لأن الأول ينتقد
هذا الكتاب أشد انتقاد في
كتابه مجددون ومجترون.
[2] أحمد
أمين، فيض الخاطر، التجديد في
الأدب 10/12
[3] عبد
الفتاح أبو غدة، صفحات من صبر
العلماء، المقدمة 34.
[4] انظر
السابق 369
[5] عباس
حسن، النحو الوافي، ½ بتصرف.
وانظر: السابق 365.
[6]
مقالات
العلامة الدكتور محمود محمد
الطناحي 2/442 7
خطابنا الإسلامي في عصر
العولمة، أ. د. يوسف القرضاوي.
المجلة العلمية للمجلس
الأوروبي للإفتاء والبحوث،
العدد الثالث. حزيران 2003. 8
رواه الترمذي. 9محمد سعيد العريان، كلمة وكليمة (المقدمة)،
ص 38.
10 على أن هناك بعض ما أسيء فهمه
من أفكار سيد، وبعض ما لا
نوافقه فيه، على حبنا
وتقديرنا له رحمه الله،
كموقفه من الفقه الإسلامي،
وقد ناقش ذلك الدكتور يوسف
القرضاوي في كتابه النفيس
الاجتهاد المعاصر. 11
ميخائيل نعيمة. سبعون. أول
الغيث ص 310. ونحن وإن اقتبسنا
هذا القول من نعيمة إلا أننا
لا نوافقه فيه تمام الموافقة. 12
حسن الزيات، تاريخ الأدب
العربي. (نقلاً عن مقدمة
المجموعة الكاملة لمؤلفات
مصطفى لطفي المنفلوطي الجزء
الأول، ص 7). 13 أحمد فارس الشدياق، سلسلة
الأعمال المجهولة. ص 303.
William
Strunk, The Elements of Style. Third edition, Allyn
& Bacon, [14]
أحمد أمين، فيض
الخاطر، الكيف لا الكم. ص 7. 15
لا يخفى على صاحب نظر ما يتسم به
أسلوب طه حسين من رشاقة
وانسيابية قل أن تقع لغيره،
ولعل ذلك راجع إلى أنه كان
يملي إملاء، فإذا أردت أن
تستمع له متحدثاً إليك فاقرأ
كتبه. وكم كنا نتمنى لو أنه
سود تلك الصفحات الكثيرة بما
هو أنفع وأجدى.
[16]
مارون عبود، الرؤوس، 173-174. [17]
الرافعي،
إعجاز القرآن.
282/283. [18] ناحية
في أمريكا تبعد عن نيويورك
مسيرة ثلاثة أيام بقطار
ميخائيل نعيمة، وهي المدينة
التي أقام فيها مع أخيه هيكل.
[19]
على ألا يشغل القارئَ بيانُ
الكاتب عن تمحيص ما يقرأ
والنظر فيه بعين العقل، فإن فيه الخطأ
والصواب،
فليتأمل القارئ! 20
لعل الشيخ الطنطاوي رحمه الله
يقصد هذا الكتاب بعينه، وإلا
فإن الجاحظ من أرفع الناس
أدباً، وأفصحهم منطقاً،
وأعلاهم أسلوباً، وهل تعلمنا
إلا على كتب الجاحظ وأدبه؟
[21]
علي
الطنطاوي، مقدمات
الشيخ علي الطنطاوي.
87-88. دار المنارة للنشر
والتوزيع، الطبعة الأولى 1997. [22]
وإن
كان الدرويش قد ضمن كتابه هذا
بعض المباحث غير الصحيحة،
كمبحث الأحرف والقراءات. [23]
أبو
الحسن الندوي، مختارات من أدب
العرب، المقدمة،ص 9. دار ابن
كثير، دمشق-بيروت. الطبعة
الأولى، 1999. [24] السابق
13 [25] عبد
الفتاح أبو غدة، صفحات من صبر
العلماء، ص 368-369
[26]
رسائل
الجاحظ 3/29 [27] زهر
الآداب 1/454
[28]
مختارات
من أدب العرب، أبو الحسن
الندوي. ص 131. [29]
لرفاعة
رافع الطهطاوي كلام جميل في
هذا الموضوع، فليرجع إليه. [30]
مارون
عبود، سبل ومناهج. حارب على
جبهة واحدة. 119. وإنني
إذ أشرت إلى هذا الكتاب
النفيس لأحرض المعلمين على
اقتنائه ومطالعته، فإن فيه
فائدة ومتعة. [31]
إحسان
عباس، بحوث ودراسات في الأدب
والتاريخ، 1/5. [32]
للدكتور
عدنان قاسم مقالة موسعة في
هذا الباب، فليبحث عنها
الراغب في الاستزادة منه. [33]
أحمد
أمين، فيض الخاطر، قيمة
الثقافة. [34]
إحسان
عباس، بحوث ودراسات في الأدب
والتاريخ، النموذج الإسلامي
للتربية، في الصفحة 406 من
المجلد الأول تحديداً. [35] السابق،
1/405
[36]
مارون
عبود، سبل ومناهج. الرجل ابن
البيت والبيئة. ص 188 [37]
السابق. -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |