ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الوحدة العربية : خيار
استراتيجي في حاجة لتخطيط جديد بقلم
: د. إدريس جنداري كاتب
و باحث مغربي عانت
الأمة العربية من حروب مدمرة؛
منذ القرن التاسع عشر؛ حروب
خاضتها القوى الامبريالية
الكبرى؛ بهدف تدمير امتداد
حضاري عظيم؛ يمتد لعشرات
القرون؛ و كذلك بهدف السيطرة
على الموارد الطبيعية؛ لدفع
الحركة الصناعية؛ التي عاشت على
إيقاعها الرأسمالية الغربية؛ و
في نفس الوقت لشل حركة الأمة
العربية على التطور. (1) لكن
هذه الحركة الاستعمارية ووجهت
بقوة؛ من طرف الشعوب العربية؛
فنشأت حركات تحرر وطني؛ ذات بعد
قومي و ديني؛ ساهمت في نشر الوعي
الفكري و السياسي بين الشعوب
العربية؛ و اضطر الاستعمار
أخيرا إلى الانسحاب؛ تحت ضغط
المقاومين. (2) و
نتيجة لكل هذا الحراك الفكري و
السياسي؛ تشكل وعي قومي (إصلاحي)
؛ اخترق الحدود العربية؛ مشرقا
و مغربا؛ محملا بطموحات جمة
للتحرر؛ لكن للأسف الشديد حملت
هذا الوعي نخبة عسكرية مؤد لجة؛
فلم يتحقق سوى القليل من تلك
الطموحات العظيمة . و قد كان ثمن
ذلك الانتقال؛ من الفكرة
الإصلاحية؛ إلى التجنيد
المؤسسي الحزبي فادحا على
صعيدين؛ من منظور الأستاذ عبد
الإله بلقزيز: -
على صعيد تطورها الطبيعي
كفكرة؛ أو كمشروع فكري؛ حيث
أجريت لها عملية إجهاض سياسي؛ و
مصادرة حزبية؛ أعاقت آلية
التطور و التراكم فيها . -
على صعيد نوع الخطاب؛ الذي
باتت تنتجه – تحت وطأة ذلك
التجنيد- حيث أصبح خطابا
سياسويا أو صريع التضخم
السياسوي . و في الحالين؛ تحولت
الفكرة الإصلاحية؛ من فكرة
مبدعة إلى فكرة تبريرية . (3) نحن
هنا لا نسعى إلى محاكمة؛ كل
الذين تحملوا هذا العبء الثقيل؛
لأنهم رغم المطبات الكثيرة؛
حققوا لأمتنا العربية قدرا
كبيرا من المكانة بين أمم
الأرض؛ بعد أن كانت أمة منهكة؛
تتكالب عليها القوى
الاستعمارية؛ كما استطاعوا في
وقت قليل؛ و بإمكانيات قليلة
تعميق وعي الشعوب العربية؛
بامتدادها الحضاري؛ بعد أن عمل
الاستعمار على طمسه بجميع
الوسائل . إننا
ونحن نعيد قراءة هذه المرحلة من
تاريخ أمتنا؛ لا نريد ترسيخ روح
الحنين إلى الماضي؛ كما لا نسعى
إلى محاكمة هذا الماضي؛ لأن لكل
مرحلة شروطها و إمكاناتها
الخاصة بها؛ و التي تختلف عن
شروط و إمكانات مرحلة أخرى. و
من هذا المنظور؛ فإن الواجب
تجاه أمتنا العربية؛ يفرض علينا
أن نستمر في ترسيخ كل الطموحات
التي حلمت بها الأجيال السابقة
علينا؛ و هي توحيد الأمة
العربية؛ مشرقا و مغربا؛ من
منظور يستجيب –طبعا- لشروط
المرحلة التي ننتمي إليها. فنحن
نعيش اليوم على إيقاع العولمة؛
التي تفرض على الشعوب و الأمم
التكتل؛ في شكل اتحادات؛ ترتبط
مكوناتها بعلاقات متشابكة من
المصالح المشتركة بين الشعوب و
الدول. و يحضرنا في هذا الصدد
النموذج الأوربي؛ الذي يجمع
دولا وشعوبا؛ تعيش في رقعة
جغرافية؛ تنعدم فيها الحدود؛
حيث تتحرك البضائع و رؤوس
الأموال؛ كما يتحرك الناس كذلك
بحرية تامة. و
قد تحقق كل هذا؛ رغم الماضي
العنيف الذي جمع هذه الشعوب و
الدول (4) ؛ حيث وصل هذا العنف
أوجه خلال الحربين العالميتين
الأولى و الثانية؛ و دمرت دول
بأكملها؛ لكن إرادة الشعوب؛
جعلتها تقطع مع ثقافة الثأر –
التي ما تزال سائدة عندنا للأسف
الشديد- و تتجه نحو التوحد و
التكتل ؛ سواء على شكل اتحادات
اقتصادية؛ أو على شكل تكتلات
عسكرية؛ أو على شكل منظمات
مدنية... و ذلك استعدادا لمواجهة
جميع الأخطار و التحديات التي
يمكنها أن تحدق بهذه الدول في
أية لحظة . نحن
هنا لا نقدم الاتحاد الأوربي؛
كنموذج وحيد و فريد؛ يمكن
لدولنا و شعوبنا أن تقتدي به؛ و
لكن هناك نماذج كثيرة؛ تختلف
على مستوى الشكل؛ لكنها تتوحد
على مستوى الغاية و الهدف. و
لكننا حينما نعرض للنموذج
الأوربي؛ فإننا نسعى إلى صياغة
رؤية خاصة لمشروع الوحدة
العربية؛ حيث يقدم لنا
الأوربيون الكثير من الدروس
المفيدة في هذا المجال. لا
وحدة عربية من دون هوية مشتركة و
تاريخ مشترك إن
أول درس يمكن أن نستنتجه من خلال
دراستنا للنموذج الأوربي؛ هو أن
التاريخ المشترك بين الشعوب و
الأمم؛ يعد أساسا متينا لبناء
أية وحدة؛ و حينما نتحدث هنا عن
التاريخ المشترك بين الدول
الأوربية؛ فإننا نقصد هنا
التراث اليوناني – الروماني-
المسيحي (5) الذي يعد الأساس
المتين؛ الذي يجمع شعوبا مختلفة
في اللغة؛ لكنها موحدة على
مستوى التصورات الفكرية و
الدينية و السياسية؛ الأمر الذي
يوحد رؤيتها إلى العالم؛ بمختلف
انتماءاتها الوطنية. و
لعل هذا الأمر هو الذي دفع مفكرا
و ناقدا رومانيا كبيرا؛ يحمل
الجنسية الفرنسية؛ هو لوسيان
جولدمان إلى الحديث عن رؤية
للعالم مشتركة بين باسكال
الألماني و راسين الفرنسي؛ و هي
رؤية تراجيدية؛ تجد تفسيرها في
الروح المأساوية المسيحية؛
التي عملت الحركة الجانسينية
على تجسيدها. (6) و
من هذا المنظور يرفض الأوربيون
إلى حدود الآن؛ انضمام تركيا
إلى الاتحاد الأوربي؛ لأنها في
اعتبارهم تشكل نشازا في هذا
المجال؛ فهي لا تشترك مع
الأوربيين في هذا التراث
اليوناني-الروماني-المسيحي؛ و
لذلك فهي تشكل خطرا – في
اعتبارهم- على الهوية الأوربية
المشتركة. و
من هذا المنظور كذلك يمكن أن
نستوعب جيدا حساسية الأوربيين
الكبيرة من المهاجرين غير
الأوربيين؛ و خصوصا المسلمين
منهم؛ حيث يروج الحديث في جميع
الدول الأوربية عما يسمى بسياسة
الاندماج؛ التي تعني إدماج
المهاجرين غير الأوربيين ضمن
النسق السياسي و الثقافي و
الديني الأوربي؛ لكي لا يشكلون
خطرا على انسجام الهوية
الأوربية المشتركة مستقبلا. و
يمكن عرض الكثير من القضايا؛
التي تشترك جميعها؛ فيما سميناه
بالهوية المشتركة و التاريخ
المشترك. إن
حديثنا عن الهوية المشتركة و
التاريخ المشترك في التجربة
الأوربية؛ هو في الحقيقة حديث
عن ضرورة استحضار هذا المكون
الأساسي؛ في أية تجربة وحدوية
عربية محتملة؛ و حينما نتحدث في
النموذج الأوربي عن التراث
اليوناني-الروماني-المسيحي؛
الذي شكل الخصوصية الأوربية؛ و
من ثم شكل رؤية أوربية موحدة إلى
العالم؛ فإنه يمكننا أن نتحدث
بخصوص النموذج الوحدوي العربي
عن تاريخ مشترك؛ ينهل من
التجربة الروحية و الفكرية
الإسلامية؛ كما تشكلت عبر
القرون؛ و بمختلف تجسيداتها . و
من هذا المنظور يمكن أن نتحدث عن
تراث فكري و سياسي و ديني مشترك؛
بين الشعوب العربية؛ و لا
يمكنها أن تقيم وحدتها في منأى
عن رد الاعتبار لهذا التراث. و
نقصد هنا النموذج الفكري و
السياسي و الديني و التخييلي؛
الذي أنتجه و طوره العرب
المسلمون؛ في المشرق العربي و
مغربه؛ بمختلف العصور و التجارب
السياسية. و
نحن هنا نستحضر الإسلام؛
باعتباره قوة دافعة؛ ساهمت إلى
أبعد الحدود في صياغة المعالم
الحضارية للأمة العربية؛ و في
نفس الآن فإننا لا ننفي
الازدهار الحضاري؛ الذي عاشه
العرب قبل ظهور الإسلام؛ و هو
نفس الأرضية؛ التي ساهمت في
انتشار الإسلام عبر العالم؛
باعتباره دينا يحمل صورة حضارية
عن الأمة العربية . و
في هذا الصدد فإننا لا نتفق
تماما؛ مع دعوات إخواننا
المسيحيين من القوميين العرب؛
الذين يريدون؛ الفصل بين
العروبة و الإسلام؛ لأن
المكونين معا يشكلان وجهين
لعملة واحدة؛ و نحن نتساءل
معهم؛ هل يمكن في النموذج
الأوربي أن نفصل بين أوربا و
المسيحية ؟ قد
يقول قائل؛ بأننا ننفي هنا
الفعالية التاريخية للمسيحيين
العرب؛ الذين ساهموا بقسط كبير
في تطوير النموذج السياسي و
الفكري العربي. إن ردنا هنا هو
من جنس الرد الأوربي على كل ما
لا يتلاءم مع الثلاثي السابق
ذكره؛ الذي يشكل الهوية
الأوربية المشتركة. فهل يقبل
الغرب إدماج الثقافة الإسلامية
الأندلسية؛ التي شكلت مرحلة من
تاريخه؛ في بناء تفوقه الحضاري؟
و هل يمكن للأوربيين أن يعتبروا
الفكر الإسلامي جزءا من هويتهم
المشتركة؛ رغم أنه حاضر و بقوة؛
سواء في الأندلس أو في تركيا ؟ نحن
هنا لا ندعوا إلى تهميش إخواننا
المسيحيين؛ الذين يشكلون نسبة
كبيرة في الكثير من الدول
العربية؛ و لكننا ندعو إلى
صياغة هوية عربية مشتركة؛ ينتمي
إليها كل عربي؛ و يحس بخصوصيته؛
في علاقته بهويات أخرى؛ لأن هذه
الهوية الموحدة و المشتركة؛ هي
وحدها التي يمكنها أن تحقق نجاح
أية تجربة وحدوية محتملة. كما لا
ندعوا إلى تهميش جميع المكونات
الثقافية و الإثنية غير
العربية؛ و لكن يجب التعامل
معها في إطار ديمقراطي؛
باعتبارها أقليات لها واجبات
يجب أن تقوم بها؛ و لها حقوق يجب
أن تطالب بها؛ لكن من دون تهديد
لمكونات الهوية المشتركة
للأكثرية. لا
وحدة عربية من دون دول مستقلة و
كاملة السيادة تربطها مصالح
مشتركة إذا
كانت الهوية و التاريخ يرتبطان
بالمشترك الرمزي؛ و توفره يعد
ضرورة ملحة؛ لتحقيق أية وحدة
عربية؛ فإن توفر هذا المشترك
لوحده؛ لا يمكن أن يحقق طموح
الوحدة؛ بل يجب توفر المشترك
المادي؛ و نقصد وجود مصالح
مشتركة بين مجموع الدول؛ التي
تسعى إلى تشكيل الوحدة العربية. و
لا باس أن نذكر هنا بان العلاقات
بين الدول في العالم؛ تتحكم
فيها سياسة المصالح المشتركة؛ و
الأمر أكثر إلحاحا بخصوص الدول
التي تسعى إلى الاتحاد؛ في شكل
إطار وحدوي. و نحن هنا نزعم بأن
فشل كل محاولات التوحد العربي؛
يرجع بالأساس إلى غياب هذا
المكون الأساسي؛ و أي تفكير في
إصلاح أعطاب الماضي؛ يجب أن
يركز على هذا المكون. و
المصالح المشتركة؛ ليس كلاما و
تنظيرا فقط؛ بل يجب على مجموع
الدول العربية؛ مشرقا و مغربا؛
أن تعيد النظر في هذا المكون؛
لأن اغلب الاتحادات في العالم
قامت على هذا الأساس ؛ كشرط
ضروري؛ و إذا توقفنا عند تجربة
الوحدة الأوربية كمثال؛ فإن
نجاح التوحيد لم يبدأ إلا مع
بداية التفكير في إقامة الوحدة
على أسس واضحة تتحكم فيها سياسة
المصالح . فقد حاول نابليون
بونابرت توحيد أوربا خلال القرن
التاسع عشر؛ كما حاول من بعده
هتلر تحقيق نفس الطموح؛ لكن
التجربتين معا باءتا بالفشل؛
لأنهما معا قامتا على الإخضاع
العسكري و الإيديولوجي؛ من دون
مراعاة المصالح المشتركة؛ و من
دون مراعاة استقلال و سيادة
الدول و الشعوب . لكن
أول محاولة خاضتها أوربا؛ بشكل
معقلن؛ حينما أخذت المصالح
المشتركة بين الشعوب و سيادة و
استقلال الدول؛ بعين الاعتبار؛
كانت محاولة ناجحة بجميع
المقاييس؛ و كانت بذلك تشكل
المعالم الأولى لتأسيس الاتحاد
الأوربي ؛ موحد العملة و
الدستور و البرلمان و الرئاسة. فقد
كانت البداية اقتصادية؛ عبر
تشكيل جمعية الفحم و الفولاذ
الأوربية سنة 1951 على يد كل من
ألمانيا الغربية؛ فرنسا؛
إيطاليا؛ و دول البيني لوكس (
بلجيكا؛ هولندا؛ لوكسمبورغ)؛ و
بعد ذلك تم تأسيس أول وحدة
جمركية؛ عرفت باسم المؤسسة
الاقتصادية الأوربية و التي
تأسست من خلال اتفاقية روما
لسنة 1957 ؛ و طبقت في يناير 1958 . و
لتحقيق هذا الرهان الوحدوي؛
القائم على أساس المصالح
المشتركة؛ بين مجموع الدول
العربية؛ لا بد من تحقيق
القطيعة مع مجموعة من
اليوتوبيات التي قادت قسما
كبيرا من الفكر القومي؛ الذي
أقام مشروع الوحدة على أساس
الأمة/الدولة الواحدة؛ من دون
اعتبار للنظام القطري السائد؛ و
الذي ترسخ مع تأسيس الدولة
الوطنية؛ ومن الصعب جدا صهر
مجموع هذه الدول في دولة واحدة؛
تكون النواة الأولى للأمة. و
نحن هنا لا ننطلق من فراغ؛
فالوحدة المصرية-السورية التي
شكلت الجمهورية العربية
المتحدة 1958-1961 و التي كانت بداية
لتوحيد الدول العربية؛ كطموح
سكن القائد القومي جمال عبد
الناصر؛ هذه الوحدة انتهت نهاية
مأساوية؛ عبر انقلاب عسكري في
دمشق يوم 28 أيلول/سبتمبر 1961،
وأعلنت سوريا "الجمهورية
العربية السورية"، بينما
احتفظت مصر باسم "الجمهورية
العربية المتحدة" حتى عام 1971
عندما سميت باسمها الحالي
جمهورية مصر العربية. و
نحن حينما نستحضر هذا النموذج؛
فإننا نقصد بذلك استحالة الحديث
عن الأمة/الدولة؛ و في نفس الآن
ندعو إلى الأمة العربية؛ التي
تتشكل من مجموعة من الدول
الكاملة السيادة؛ و المرتبطة
فيما بينها على أساس اتحاد؛
يقوم على هياكل تنظيمية واضحة. و
لعل هذا هو جوهر الدعوة التي
حملها مقال الأستاذ عبد الإله
بلقزيز؛ المنشور في مجلة
المستقبل العربي بعنوان ( من أجل
مراجعة فكرية و سياسية لمفهوم
الوحدة العربية)(7) حيث دعا
الأستاذ إلى الدخول في مراجعات
جذرية لمفهوم الوحدة العربية؛
تهم منطلقات الفكر القومي؛ كما
تهم – من منظور ابستمولوجي-
آليات اشتغاله؛ و طرق إنتاجه
للأفكار و المعارف. و
لعل الدخول في هذه المراجعات
–حسب بلقزيز- هو السبيل الوحيد
الذي يمكنه أن يحول الوحدة
العربية من الفكرة/المثال إلى
واقع تاريخي و مجتمعي قائم؛
تعيشه المجتمعات العربية
بعامتها و نخبها. و لا يمكن أن
يتحقق هذا الطموح – حسب بلقزيز-
إلا عبر تغيير التصورات القومية
السائدة عن مفهوم الدولة
القطرية؛ التي يجب اعتبارها
مكونا أساسيا للكيان العربي
الموحد؛ و ليس تجزيئا و مخلفا
استعماريا. إن
طرح الأستاذ بلقزيز يتسم
بالكثير من الروح
الإستراتيجية؛ التي ما زال
الفكر العربي يفتقد إليها إلى
حدود الآن؛ و هذا ما يفشل جميع
المشاريع في المهد؛ لأن التنظير
القومي ارتبط لعقود بفكرة
الوحدة العربية؛ ليس كواقع
ملموس؛ و لكن فقط كمثال مجرد؛
يفتقد قوة التحقق. و هذا ما يشجع
على التراكم الإيديولوجي؛ في
غياب أية مشاريع واقعية. و هذه
سمة مشتركة بين أغلب تيارات
الفكر القومي؛ التي نجحت في
إنتاج الإيديولوجيا؛ أكثر مما
نجحت في تحقيق الوحدة العربية
المنشودة. و
طرح الأستاذ بلقزيز – في
الحقيقة- يجب أن يكون منطلقا
حقيقيا؛ للدخول في مراجعات
جذرية؛ لمجموع التراكمات
التنظيرية؛ التي ألغت الدور
المحوري؛ الذي يمكن أن تقوم به
الدولة القطرية؛ في تحقيق طموح
الوحدة العربية. و
هذا ما يتطلب ترسيخ وعي جديد لدى
النخبة الفكرية و السياسية
العربية؛ وعي مبني على أساس
فكري واضح؛ يستفيد من تجارب
الأمم؛ فكر منفتح و مستعد في كل
حين للقيام بمراجعات جذرية؛ إ
ذا كان الأمر يتطلب ذلك؛ و دائما
بهدف خدمة المشروع الوحدوي
العربي المأمول. و
في هذا الصدد نجد تعقيب الباحث
الاجتماعي شفيع بومنيجل؛ على
طرح الأستاذ بلقزيز؛ المنشور في
مجلة المستقبل العربي معنونا ب (
تنازلات على هيئة مراجعات)(8) نجد
هذا التعقيب فاقدا –في الحقيقة-
لروح التجدد و الانفتاح؛ التي
يتطلبها المشروع الوحدوي
العربي؛ لتحقيق الاستمرارية. و
التعقيب بلغته المشحونة ( تضمنت
مقالة السيد بلقزيز مجازفات و
مغالطات – مغالطة مفضوحة معززة
بعنف لفظي... ! ) يحمل صورة واضحة
عن الرجة التي يمكن أن تحدثها
مثل هذه المراجعات الجذرية؛ و
خصوصا لدى التيار القومي
المؤدلج؛ الذي لا يمكنه تصور
اتحاد عربي؛ مشكل من دول عربية
كاملة الاستقلالية و السيادة؛ و
هذا النموذج لا يشكل نشازا في
التكتلات التي يشهدها العالم؛
بل على العكس من ذلك يشكل
القاعدة؛ التي تساهم في إنجاح
هذه التكتلات . لا
وحدة عربية من دون ديمقراطية يرجع
الاهتمام بمسألة الديمقراطية و
الدولة الحديثة في الفكر
العربي؛ إلى مرحلة القرن التاسع
عشر؛ من خلال الكتابات النهضوية
العربية؛ التي اهتمت بالموضوع
من جانبين: -
أولا: من خلال محاربة
الاستبداد؛ كفكر و كممارسة
سياسية؛ و قد أبدى النهضويون في
هذا المجال نضجا كبيرا؛ يتجاوز
قدرات المرحلة؛ و لعل عودة
خاطفة إلى كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) لعلي عبد الرازق؛ لتشي
بالكثير من الاجتهاد؛ الذي
نفتقده الآن؛ كجيل جديد للأسف
الكبير . يوجه الشيخ علي عبد
الرازق في كتابه سهام نقده إلى
دعاة الخلافة من فقهاء البلاط ؛
ويجادلهم بالنص الديني الواضح
ليثبت لهم أن الخلافة شأن مدني
لا دخل للدين فيه؛ وهو في ذلك
يقول : " والحق أن الدين
الإسلامي بريء من الخلافة التي
يتعارفها المسلمون ؛ وبريء من
كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة
ومن عز وقوة . و الخلافة ليست في
شيء من الخطط الدينية؛ كلا ولا
القضاء ولا غيرهما من وظائف
الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك
كلها خطط سياسية صرفة ؛ لا شأن
للدين بها؛ فهو لم يعرفها ولم
ينكرها؛ ولا أمر بها ولا نهى
عنها ؛ وإنما تركها لنا لنرجع
فيها إلى أحكام العقل ؛ وتجارب
الأمم ؛ وقواعد السياسة . (9) و هو
في نقده لنموذج الخلافة؛ يسعى
إلى محاربة كل أشكال الاستبداد
التي يتم تبريرها باسم الدين؛ و
في الآن ذاته؛ فهو يفتح الباب
واسعا أمام نظام الدولة المدنية
الحديثة؛ التي تقوم على
الديمقراطية و المؤسسات. -
ثانيا: من خلال الانخراط
المباشر في الدعوة إلى ترسيخ
قيم الديمقراطية و الدولة
الحديثة؛ و ذلك من خلال التبشير
بنموذج الدولة الأوربية؛ التي
اخترقت الوعي السياسي النهضوي؛
و نجد ذلك واضحا؛ في كتابات
رفاعة الطهطاوي؛ و الصفار و خير
الدين التونسي و محمد بن الحسن
الحجوي ؛ و غيرهم كثير من
النهضويين . و الجامع بين هؤلاء
هو معايشتهم للتجربة السياسية
الأوربية؛ إما بشكل مباشر
(الطهطاوي)؛ أو بشكل غير مباشر
(محمد بن الحسن الحجوي) . لكن في
كلا الحالتين؛ وصل التأثر مداه
و أعلن عن نفسه بوضوح في كتابات
هؤلاء النهضويين؛ الذين كانوا
على وعي كبير بمسألة
الديمقراطية و الدولة الحديثة؛
في نجاح طموحات النهضة العربية .
لكن
مسالة الديمقراطية و الدولة
الحديثة؛ من المنظورين معا؛ لم
تحقق المبتغى و المطلوب؛ الذي
يمكنه أن يمهد الطريق أمام
إقامة هياكل الدولة العربية
الحديثة؛ و ترسيخ قيم
الديمقراطية؛ باعتبارها الأساس
المتين للدولة. و يرجع هذا الفشل
– من منظور الأستاذ عبد الإله
بلقزيز- إلى ثلاثة عوامل أساسية:
-
أولا : أن صلة هذا الجيل
النهضوي بالفكر الليبرالي
الحديث؛ كانت ما تزال تخطو
خطوها الأول؛ و لم تترسخ الرسوخ
الكامل؛ الذي بإمكانه أن ينجب
لحظة فكرية-سياسية لاحقة؛ مع
لطفي السيد و طه حسين و سلامة
موسى؛ أو محمد بن الحسن الوزاني.
-
ثانيا : أن هؤلاء النهضويين؛
عاشوا في فترة؛ لم يكن النظام
الديمقراطي الغربي نفسه؛ قد شهد
نضوجه الكامل؛ بحيث يصير نظاما
عموميا للتمثيل و المشاركة. -
ثالثا: أن الإصلاحية
العربية؛ كانت مدعوة إلى إيجاد
صلات قرابة؛ بين هذه المنظومة
الديمقراطية الحديثة؛ و بين
المنظومة السياسية الشرعية. (10) و
كنتيجة مباشرة لتوافر هذه
العوامل المعرقلة؛ و لعجز
المرحلة على استيعاب الفكرة
الإصلاحية؛ بطموحاتها السياسية
الكبيرة؛ تحقق كنتيجة مباشرة؛
الانتقال إلى ترسيخ نموذج
الدولة الشمولية؛ إما من خلال
الاستفادة من التراث السياسي
القديم (بنية الشيخ و المريد) (11)
أو من خلال الانفتاح على
النموذج الشمولي الاشتراكي؛
الذي يقوم على نظام الحزب
الواحد . و
في كلا الحالتين؛ خسرت الدولة
العربية الحديثة رهان تحقيق
الديمقراطية؛ و ترسيخ أسس دولة
المؤسسات. و كنتيجة مباشرة لهذا
الفشل؛ كان إجهاض حلم الدولة
العربية الحديثة؛ يؤسس لإجهاض
حلم الأمة العربية القوية؛ التي
تقوم على أساس دول الديمقراطية
و المؤسسات . إن
طموح الوحدة بين الشعوب
العربية؛ سيظل حلما جميلا نعيشه
على شكل شعارات فارغة؛ من دون
النضال المستميت؛ في سبيل تر
سيخ قيم الديمقراطية في الأقطار
العربية؛ و ذلك من أجل فتح
المجال للشعوب العربية؛ كي تقرر
مصيرها ؛ بدل تقرير هذا المصير
من طرف أشخاص؛ تتحكم في
قراراتهم المزاجية؛ خلفيات
إيديولوجية و عرقية و مذهبية؛ و
مصالح شخصية ضيقة. و
الديمقراطية هي السبيل الوحيد
الذي ينتزع سلطة القرار من
الأشخاص؛ و يربطها بالشعوب؛ من
خلال انتخابات و استفتاءات
نزيهة؛ قادرة على إفراز دساتير
ديمقراطية؛ توجه مؤسسات
الدولة؛ في اتجاه المصالح
المشتركة لشعوبنا العربية. من
الهوية و التاريخ المشترك؛ إلى
الدول المستقلة و الكاملة
السيادة و المرتبطة بمصالح
مشتركة؛ إلى ترسيخ
الديمقراطية؛ مسيرة الألف ميل؛
التي تتطلب مجهودا و عملا
متواصلا؛ و إرادة سياسية صلبة؛
و نضالا شعبيا مستميتا؛ و الهدف
المنشود –طبعا- هو أن تتبوأ
أمتنا العربية مكانتها
المستحقة بين الأمم؛ باعتبار
امتدادها الحضاري؛ و مساهمتها
البناءة؛ في تشييد الحضارة
الإنسانية؛ و كذلك باعتبار
القوة الاستراتيجية التي تتمتع
بها في العصر الحاضر؛ و التي
تتشكل من موارد طبيعية غنية و
متنوعة؛ و ثروة بشرية غتية و
متنوعة الأجناس. و كلها عناصر
قادرة على صناعة التفوق العربي؛
إذا توفرت الإرادة الصلبة و
الرؤية الاستراتيجية الواضحة . الهوامش:
1-
عرفت مرحلة القرن 19 حملتين
استعماريتين على العالم
العربي؛ الأولى كانت على المشرق
العربي؛ بقيادة فرنسا و
بريطانيا. و الثانية كانت على
المغرب العربي؛ بقيادة فرنسا و
إسبانيا و إيطاليا. 2-
اتحدت حركات المقاومة بين
المشرق العربي و مغربه. و نذكر
هنا بالدور الذي قامت به مصر
الناصرية؛ من خلال الدعم
السياسي و العسكري و الفكري
اللامحدود لحركات التحرر
العربية . 3-
عبد الإله بلقزيز- أسئلة
الفكر العربي المعاصر- سلسلة
المعرفة للجميع- منشورات رمسيس-
أكتوبر 2001—ص: 49 . 4-
نذكر هنا بالحروب المدمرة؛
التي دارت بين فرنسا و ألمانيا؛
خلال المرحلتين؛ النابليونية و
الهتلرية. 5-
أنظر: حسن حنفي- مقدمة في علم
الاستغراب – المؤسسة الجامعية
للدراسات و النشر – ط: 2 - تاريخ
النشر: 2000 6-
- - L. Goldman – Le dieu
caché – ed : Gallimard, Paris 7-
عبد الإله بلقزيز- من اجل
مراجعة فكرية و سياسية لمفهوم
الوحدة العربية- المستقبل
العربي- ع: 367- أيلول/سبتمبر 2009. 8-
شفيع بومنيجل- تنازلات على
هيئة مراجعات – تعقيب على مقالة
د . عبد الإله بلقزيز- المستقبل
العربي – ع: 371- كانون
الثاني/يناير 2010 . 9-
علي عبد الرازق – الإسلام
وأصول الحكم – نشر الهيئة
المصرية العامة للكتاب. 10-
عبد الإله بلقزيز- أسئلة
الفكر العربي المعاصر- مرجع
سابق- ص: 168 . 11-
أنظر: عبد الله حمودي –
الشيخ و المريد - سلسلة : المعرفة
الاجتماعية - تاريخ النشر3 200. -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |