ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
مدخل
في سمياء التواصل -
سيكولوجيا الحرب نموذجا - الطاهر
مرابعي إن الحكم
الذي ظل يلازم منهجنا حتى
نهايته هو متابعة البنيات
الثقافية و السلوكية في سياق
مراجعة تاريخية قارئة للحقائق
المتداولة، تحت غطاء التصور
العام الذي ينتج العنف أو
السلام، و إنا إذ نؤكد على فكرة
البنية، إنما نؤكد عليها من
زاوية دلالتها في سياق قراءة
شاملة من منظور تحليل الخطاب،
حيث يتم توخي طبيعة الأشكال و ما
تحيل عليه من رمزية بوصفها
علامة على حقيقة ما ، وبذلك نكون
قد أرسينا قاعدة لحقائق كثيرة
أثارت ضجة في الواقع المعيش
خصوصا في الفترة الأخيرة بعد
الميل الواضح لاستعمال العنف في
مختلف الأقطار التي من بينها
الوطن العربي، و هو ما يعني أننا
أشرنا بالتلميح إلى واقع بعينه
هروبا من التحيين. -
مدخـل نظـري : أ- في مفهوم
العلامة و الاتصال : تتوخى نظرية
الاتصال في منتهاها إلى الجمع
بين عدد من الميادين العلمية
المتجاورة تحت مظلتها، كتصور
لمستقبل النظام الاستقرائي –
الإستنتاجي الذي يؤطر نشاطاتها[1]،
و لما تأتى لنا استخدام بعض
أدوات المناهج المنضوية تحت
راية التصور العام لمفهوم
الاتصال، اقتضى الأمر ابتداء
الحديث عن بعض خصائص هذه
المناهج، و لأجل هذه الغاية كان
لابد من الحديث عن كل منهج على
حدة و ببالغ الإشارة، مع
التنبيه إلى أن علم
الأنثروبولوجيا و هو ثالث هذه
التخصصات المتصلة بتصور نظرية
الاتصال سوف لن يحضى بمداخلة
منا لعدم إدراج أدواته و إن كنا
ضمنيا قد استوفينا جانبا من
تصوراته، لعل أبرزها منطلق
البنيوية الذي تربع على عرش
المعرفة بعد استكمال جوانبه
داخل هذا العلم . 1-
السميـاء : أو علم
العلامات، تسمية شائعة لعلم
يدرس دلالة العلامات اللغوية و
غير اللغوية، مرتكزا في ذلك على
التصورات البنيوية بالدرجة
الأولى، و هو في الأصل مجال
لساني – منطقي لما يمكن إثباته
من أصول نظرية له؛ فقد بدأ هذا
العلم أولا في مدرستين: -
المدرسـة الفرنسيـة: أسست
المدرسة الفرنسية للعلامة عامة
عبر المنظومة اللغوية جاعلة هذه
الأخيرة (اللغة) "نظاما من
العلامات التي تعبر عن أفكار ، و
من هذه الناحية فهي مماثلة
للكتابة و أبجدية الصم البكم
والطقوس الرمزية و صيغ الاحترام
والإشارات العسكرية"[2] و
يعتبر سوسير المتنبئ بظهور علم
السمياء بوصفه علما يدرس حياة
العلامات ضمن الحياة
الاجتماعية و هو برأيه علم يشمل
اللسانيات[3]. -
المدرسة الأمريكية : وهي مدرسة
بنت تصوراتها على مبادئ و
تفصيلات عالم المنطق الأمريكي
تشارلز ساندرس بيرس، الذي قدم
نظرية غاية في التماسك و
التصور، بناها على مقولات
الوجود الثلاثة :الأولانية،
الثانيانية، و الثالثانية[4]، و
هو ينظر إلى العلامة على أنها
"شيء ما ينوب لشخص ما عشيء
م،من جهةماو بصفة ما، فهي توجه
لشخص ما، بمعنى أنها تخلق في عقل
ذلك الشخصعلامةمعادلة أو
ربماعلامةأكثر تطورا"[5]. 2-
اللسـانيـات: اللسانيات أو علم
اللغة، مجال دراسي قديم يتخذ من
اللغة موضوعا له، فيدرسها من
نواح عديدة، دون أن يميز في ذلك
بين مستوى و آخر، فموضوعه "كل
النشاط اللغوي للإنسان" في
الماضي والحاضر، سواء تعلق
الأمر باللغة الرسمية أم غير
الرسمية، الجيدة أم الرديئة، و
قد تفرع عن نوع هذه الدراسة
أقسام ثلاثة: -
علم اللغة الوصفي -
علم اللغة التاريخي -
علم اللغة المقارن[6] و رغم قدم
مجال هذا البحث إلا أن التصور
الدقيق له قد اكتمل بظهور سوسير
من خلال ترسيم مبدأ الوصفية و
الشمولية؛ الوصفية بمقابل
المعيارية التي كانت طاغية منذ
زمن، والشمول بمقابل التخصيص
الذي لازم متابعة اللغة الرسمية
(المكتوبة). ب- مناسبة
اجتماع السمياء باللسانيات تحت
نظرية الاتصال : يمكن إيجاز
تصور اجتماع اللسانيات
بالسمياء تحت راية الاتصال في
المقولة السابقة الذكر "الاستقرائية
و الاستنتاجية"؛ ذلك أن
الأدوات التي تستخدم لعملية
القراءة إنما هي مستخلصات
التصورات اللسانية؛ صفوة التفكير
اللغوي الذي يبحث في واقع
التواصل البشري، و عبر المنهج
السميائي تتم مطاردة الدلالات
المتخفية و راء مختلف النشاطات
التواصلية بغية اكتشاف
أبعادها، هذه الدلالات التي لا
تخرج بدورها عن مجمل ما يعتري
الإنسان من رغبات و تصورات،
تكون من جهتها هدف العلم الذي
يقام له "علم الإنسان"، و
بذلك تتسع العملية لتشمل مفهوم
الاتصال مع تنوع الزوايا التي
يتم منها الانطلاق. و لعل أجل
تصور يوضح المفهوم الجديد
للإتصال هو تحديد اهتمام
اللسانيات الذي يتعلق بنظرته
إلى اللغة كشكل، و نظرة السمياء
إلى ذات المادة بوصفها علامة، و
بالتالي "اختيار الأدوات
المناسبة من جملة الأشكال
وتحويرها وظيفيا كعلامات على
معان تواصلية" . ج- اشتغـال
العـلامـة : يتخذ التصور
السميائي في نظرته المبسطة شكلا
ثلاثيا، يركز بالدرجة الأولى
على "عملية النقل" التي
تكون الدلالة خاضعة لها، و هي
ترقية من نوع ما... تتعاطى مع
المفهوم المبسط في علاقته
بالثقافة و ما تسمح به من ترقية
للدلالات، و بغرض تقريب الصورة
أكثر نستعين بنموذج "تقليـدي"
يسمح بالفهم السريع تحت العنوان
الأخيـر. من الأمثال
السائرة في الثقافة العربية
مقولة "فـلان كثيـر الرماد"،
و هي من الناحية البلاغية كناية
(...)، يتأتى الوصف اللساني لها
على النحو التالي: "فلان
كثير الرماد"؛ متتالية لغوية
مركبة من ثلاثة وحدات لسانية
ممكنة الدلالة الانفصالية "المعجمية"
و هي : دلالة الشخص (فلان)، و
دلالة الصفة (كثير)، ودلالة
الموضوع (الرماد)، بحيث تتقلب
دلالة الصفة (الكثرة) بين الشخص
و موضوعه وهو (الرماد)، فمن
الناحية المبدئية يمكننا أن
نرصد للشخص وصف "الكثـرة"
من جانب ما يحرق (الرماد)، فهو
كثير الفعل و ناتج فعله أو الأثر
كثير الظهور (الرماد)، ودلالة
الجملة من هذه الناحية مكتملة
البنية، بدليل أننا تناولنا
الدال الذي هو عناصر المتتالية
منفصلة، لننتهي إلى المدلول
الذي هو مجموع علاقة هذه
العناصر، غير أن الثقافة التي
أفرزت هذا النوع من الأمثال قد
تعودت التعاطي مع الحقائق
بشواهدها، و هو ما يعني أننا
سنحول مجموع هذا المدلول إلى
دال جديد نبحث له عن مدلول جديد
بدوره، وسيكون كما عرفنا في
القراءات التقليدية "الكـرم"؛
لعلاقة السببية بين كثرة الرماد
و كثرة الطبخ، أي كثرة الضيوف. تتضح
العلاقة إذا في تصور العلامة
على أنها ترقية بين مستويات،
يتم فيها وقف المدلول عن مهمته و
التراجع به مجددا إلى المستوى
الأول ليغدو علامة جديدة على
معنى أبعد غورا و أبلغ قصدا،
لأجل ذلك أصبح من اللازم
التأكيد على أهمية الفهم البعيد
للمظاهر البسيطة، بوصف ذلك
النشاط وقوفا عند الحقيقة و
اكتشافا للمعمى. د- الطبيعة و
الثقافة / التواصل : يتصل الفارق
المميز بين الثقافة و الطبيعة
اتصالا مباشرا بابتكارات
الانسان (الحضارة)[7]، فالطبيعة
في دلالتها العامة هي كل ما لم
تصنعه يد الإنسان، و بالعكس
تكون الثقافة هي كل ما ينتجه هذا
المخلوق البشري[8]. من جملة
منجزات الإنسان كما يذكر
المتخصصون "اللغة"، أو "أداة
الاتصال"، و وصفها بـ"الأداة"
يسهل نسبيا عملية التعميم على
النموذج الطاغي (اللغة المنطوقة
و المكتوبة)، لينسحب التعريف
على كل نسق منظم، صنعه الإنسان
لتحقيق التواصل مع بني جنسه،
مهما كانت طبيعة هذا التواصل
مادام قابلا للقراءة، وهو ما
يعني أن اللغة مستمرة الإنشاء و
التغيير بحسب الحاجة ووضعية
الحضارة[9]، و تظهر هذه القضية في
مثل حالات الاستخدام الفني أو
في حالات "السرية" حين يتم
تغيير الدوال و إزاحتها عن
مدلولاتها الطبيعية (الوضعية)،
لمقتضيات "السرية" كما هو
شائع في حالة الحرب . 2-
إشكالية التواصل / مفاهيم : يعيش
الإنسان في حاجة دائمة للتواصل...حاجته
لباقي الفروض التي تمليها عليه
الطبيعة، بحكم أنها "غرائز"،
فليست الكلمة إلا رغبة كرغبة
الغذاء و رغبة اللباس و رغبة
النوم و لو قدر لرجل أن يعيش في
معزل عن البشر لقدر له بالمثل أن
يفقد صوابه فيدخل "الجنون"،
التصور الجديد للتواصل بعد فشل
نموذج التواصل مع المجتمع. من هنا
يمكننا أن نتحدث عن طرق متعددة
في التواصل البشري، وأن نقرأها
سميائيا في الموضة و أنواع
اللباس، في الجلوس و طريقة
الاستراحة، في النبرات و صرف
الحروف... في العنف و اختيار
الأدوات؛ إذ يغدو هدف التواصل
منبريا خلف كل نشاط بشري و إن
تعددت طرقه و تفاوتت، و ينتهي
بنا الأمر إلى تفسير تفاوت
السلوك و تنوعه بترتيبه في سلم
السلوك اللفظي، فما عجز عنه
التواصل باللفـظ، يدرك بغيره . كثيرا ما
يعجز الإنسان عن التعبير عن
حقيقة أو رغبة ما لسبب أو آخر
كالحياء أو عدم التناسب بين
فارط الرغبة في حال العاطفة و
معادلها من التعبير، و هنا ينحو
السلوك البشري منحا آخر
للتعبير، فيحيد درجة عن المألوف
ضمن ذات المؤسسة أو بما يحقق نفس
الهدف في مؤسسة أخرى، فما عجز
عنه السلوك اللفظي باللغة
العادية يدركه ذات السلوك (اللفـظ)
في اللغة الشعرية، من أجل تحقيق
شيء من الموازنة بين الحالة
النفسية و الحالة التعبيرية، و
هو ما عبر عنه النقاد بـ"المعادل
الموضوعي"، على أصل التسمية
التي أطلقها ت.س. إليوت[10]، و
بالمثل يمكننا أن نتحدث عن
التواصل و التعبير باستخدام
أنموذج خارج عن المؤسسة
المعروفة للتواصل، بعد عجز
استعمال أدواتها لسبب أو لآخر،
فنحن نتصور الأبكم العاجز عن
النطق و قد أدرك استعمال
الحركات و نقل مجال التواصل من
السمعي أو السمعي- البصري، إلى
البصري وحده
لامتناع الحواس عن تأدية
مهمتها، كما نتصور ضمن ما نقرؤه
من استعمال العنف عند الطفل و
حتى الراشد لأغراض تواصلية،
يكون فشل استعمال المسالمة فيها
سببا في سلوك منحى جديد، سواء
لأزمة نفسية أم لمشكلة في قنوات
الاتصال أم عقدة مع طرف منها أو
أكثر، و لتوضيح القضية نلجأ إلى
الاستعانة بالمخطط الياكوبسوني
الذي يرسم خارطة التواصل
بأطرافها. أنمـوذج
ياكوبسون للتـواصل : المـرسـل،
المرســل إليه، الرسـالة،
السيـاق، الشفـرة ، قناة
الاتصال[11]. هذه الأطراف
التواصلية هي ما يحدد مشكلات
التواصل بالصورة العلمية
الكافية "لتحقيق المعالجة
المناسبة لاحقا"، و بذلك
أمكننا تحديد المعالم الرئيسية
لعملية التواصل و بؤر مشاكلها
في النقاط التالية : 1-
مشكلة تتعلق بالمرسل ذاته: و
بذلك يكون المسؤول الأول عن
عثرات التواصل في كيفيات معينة
يعرف فيها بوصفه الباث (إخلاله
مثلا بنظام التوازن في عملية
الاتصال، خصوصا في حالة اتخاذه
منطلقات متطرفة لا تتماشى و
طبيعة المتلقي). 2-
مشكلة تتعلق بالمرسل إليه: و
ينطبق عليه في هذه الحالة عيب
عجز التلقي، و تكون الأسباب
غالبا، سيكولوجية (كالتطرف
مقارنة بنص الخطاب الذي تم
تلقيه، مما يؤدي بدوره إلى
إخلال بنظام التوازن التواصلي). 3-
مشكلة تتعلق بالرسالة ذاتها: و
الخلل في هذه الرسالة يحمله
النص التواصلي الذي قد ينطوي
على مشكلات تتعلق بنفسية الباث
الذي صاغ المحتوى، أو تفاوت بين
مستويي التواصل من حيث ما يطرح
من مفاهيم. 4-
مشكلة تتعلق بالشفرة: أي الرموز
في ذاتها، فقد تكون غير مفهومة
أو مصوغة بغير ما تم التعارف
عليه من نماذج التواصل (كاستعمال
رموز لغات غير معروفة، أو
الدخول إلى نظام تجريدي برموز
غير متفق عليها). 5-
مشكلة في السياق : و يتعلق الأمر
بمشاركة تلازمية لأطراف
التواصل في عملية تخلق بنية
مغلقة و لو نسبيا تحول دون تسرب
سياقات، ربما حتى غريبة على
الأطراف المتواصلة، فيؤدي
الأمر إلى تعدد المعايشات و
اختلافها في الواقعة الواحدة، و
هنا ينساق الطرفان إلى منحدر
أخطر هو "تعدد المرجـع"، و
هو ما قد يجر إلى الاختلافات
والمشاحنات خصوصا إذا تعلق
الأمر بالجوانب العقدية و
السياسية . 6-
مشكلة تتعلق بقناة الإتصال:
تمثل قناة الاتصال الممر الرسمي
لمجموع الحوارات الممكنة بين
مختلف الأطراف، و كسرها بأي حال
من الأحوال يؤدي إلى عزل كل جهة
عن الأخرى و بالتالي توسيع رقعة
التشتت و التقليل من احتمالات
التقارب، بما يعني الزيادة في
عدد المجموعات و إن تقاربت في
توجهاتها، و كمثال على ذلك
افتقاد أجهزة الاتصال التقنية
لدى العسكريين أو قمع مجموعة
إيديولوجية بعينها من منبر
تواصلي، كوسائل الإعلام و
القنوات الفضائية، و يحسن في
مثل هذه الحالة التحايل في
استخدام أجهزة الإعلام تجاه
إيديولوجيات بعينها، قصد
احتوائها و تجنب تخفي نشاطاتها. قضية
التواصل البشري إذا قضية معقدة
لا يمكن اختصارها في مجرد
التلفظ، فهذا الأخير ما هو إلا
صورة بريئه، تطفو على السطح
بمجرد الحديث عن التواصل
اللغوي، و الحقيقة أن العملية
من التعقيد و صعوبة التفسير
بحيث تقتضي معالجة لسانية و
ربما أكثر – نفسية- و يزداد
الأمر تعقيدا حينما تصرح الجهات
المتواصلة عن رفضها لمبدإ (الحوار)،
و قرارها استعمال شيء نسميه "العنف"بعد
أن فشلت الكلمة بوصفها نموذج
"الحكمة" عن تحقيق "السلام"
–الحوار الهادئ- و بالتالي لابد
من ترك التواصل و الدخول في لغة
العنف لتحقيق "المستحيل"-الممنوع-
ما الذي يمكننا أن نحدده نحن
الذين نهتم بمشكلات التواصل في
مثل هذه الحالات؟ طبعا لا بد
أن نعرف منطلقنا، و هو البحث في
أزمة التواصل، وربما سوف نحرج
لمجرد علمنا بأن مختلف الأطراف
قد تراجعت عنه و غيرت من
أدواتها، هذه الأدوات التي يبدو
بالنسبة إلينا أنها خرجت من
ميدان تخصصنا، و بالتالي خرج كل
شيء من أيدينا، أفيكون علينـا
أن نترك انشغالاتنا المعرفية
جانبا، و ننتظر إعلان بدأ
الحوار لأجل حمل الأقلام و
إكمال أو –بدأ- بحث جديد؟ طبعا القضية
تتعلق من جهة البحث العلمي
بحيلة من حيل الثقافة في تمرير
الرغبات، بما يعني أن مشكلة
التواصل لازالت قائمة و هو ما
نتفق عليه جميعا، و يصبح من
الفروض المسلمة أيضا أن التواصل
إذ أنهي في زاوية، إنما يتم في
زاوية أخرى . ربما تغير من
الواقع نوع من الممارسات، لكن
الذي لم يتغير هو التصورات... هي
الرغبة الجامحة في تجاوز حقيقة
ما، إن لم يكن بالحوار(التواصل)
فبالعنف، و هنا نتساءل ما الذي
يكونه العنف، أفلا يكون تواصلا
بطريقة ما، أليس في تنوع أساليب
استخدامه تنوعا في طرق تبليغ
الرسائل ؟ مبدئيا حتى
في عبارة "نرفض أي حوار"
ترسيخ لمبدأ الحوار، و ربما هو
رسم لخريطة الحوار الجديد، بل
حتى في ممارسة العنف حوارا لأنه
يتخذ أكثر من شكل كما تتخذ اللغة
العادية و الخطابية أكثر من شكل
بغرض الإيصال و التأثير، و لابد
أن العنف سلوك واع[12]، "موصل و
مؤثر" و لولا نوعية رسائله ما
أمكن إصدار تعليمات وقائية من
جملة ما هو محتمل الوقوع بناء
على ما تم في الماضي . أصبح بديهيا
أن نفهم اليوم رسائل العنف و
الحرب و أن نحدد خطاب
المتحاربين بناء على عملياتهم،
و أن نرد بخطاب لو دخلنا الحرب،
ليس نصا، إنما قتالا؛ من خلال
اختيار الجبهات و تحديد الضربات...
إلى رسم المحرمات... هذه الأجواء
التواصلية التي نطلق عليها
مصطلح "العنيفة" ليست في
حقيقة الأمر إلا نقاشات ساخنة
ستنتهي بالعودة إلى "الكلام"،
الوجه الآخر للحوار "العنيف"،
فما يبدو هو أن المرحلة اقتضت
تنويعا لا إبطالا، لذلك قيل "أول
الحرب كلام وآخرها كلام"،
فماذا نقول عما بين الكلامين ؟ إن ما بين
الكلامين كذلك كلام و إن لم يكن
نطقا، بل إن الكلام الأخير،
كلام ما بعد الحرب هو خلاصة حوار
الحرب الصامت، حوار الرسائل "العملياتية". 3-
سـفر الدلالــة : "الصمت
علامـــة الرضا" لم تعد
الكلمة وحدها الدالة ، بل لم تكن
و إذا كان الأمر كذلك، فليست
الكلمة دالة على شيء واحد
فالتفاوت قضية تتعلق بالموقف
التواصلي، حتى أن اللغويين
حددوا دلالة الكلمة الواحدة
بحسب كيفية صرفها و عبروا عن ذلك
بمصطلحات... بل بعلوم. ينتقل
الكلام من المستوى التقريري في
الجملة المقدرة للمخاطب عند
قولنا: أنت (إشارة)، إلى
الإستفهام عن المجيء بتعجب دون
إدخال أداة استفهام و القضية كل
القضية تتعلق بما يسميه
اللغويون بالتنغيم، و هو أحد
قضايا الفونولوجيا (علم وظائف
الصوت)[13]، فالموقف التواصلي
يحدد مستويات من التلقي، تسعى
التقنيات الكتابية اليوم إلى
استدراكها من خلال الرموز
المختلفة كعلامات الاستفهام و
التعجب و الفواصل والنقاط، و
الأقواس .... و طبعا سوف ننساق
بصورة منطقية إلى تحديد ذات
المستويات في حالة التواصل
بالحركة-الصم البكم- مع اختلاف
في طريقة الأداء لاختلاف أدوات
الترميز . في حالات
أخرى كالعنف، و الحرب هنا
نموذجنا سوف نعثر على نفس
المستويات المتفاوتة ما بين
المتحاربين الذين يتخلل نشاطهم
الحربي بين الفينة والأخرى
حوارا بالمفهوم المتداول (ينتهي
في كثير من الأحيان بما يسمى بـ"الهدنـة")
لأجل وضع نهاية للأسلوب
التواصلي البشع، لكن عقبات
الفشل تستمر و القانون أن
الإنهاك المشترك و الاستنزاف
للجيوش هو الضابط للاستسلام. فما هي
مستويات التواصل بهذه الطريقة و
كيف يتم تنويع الرسائل ؟ لهذا السؤال
أكثر من جواب طالما أن له في
اللغة أكثر من جواب، و إن كنا
سنحدد عنوانا فليكن التالي : 4-
رمـــوز الحـــرب : رموز الحرب
هي كل مقدسات الوجود لدى كل طرف،
و هي تشمل الأهل و القادة و
المبادئ المعنوية التي تنتصر
لها الجهتان (الإيديولوجيا) و
الهوامش التي يتسرب منها الدعم (مكاتب
الدول، جالياتها، مستثمروها...)...
إلخ. هذه الجهات
المحددة هي التي تلعب دور
الرسائل التواصلية من خلال
استخدامها كأدوات لتمرير
المحتوى، المحتوى الذي يتحدد
بكيفيات معينة عبر (الاختطاف،
القتل، طلب فدية،الاغتيال،
مقايضة بمقابل، أسـر، إغفال
المعرفة بأمر المختطفين أو
السكوت عن المقتولين، أو غلق/مراقبة
الأماكن الرمزية للمقاتلين
كالكنائس و المساجد و الجمعيات...)
و التمكن من الرموز بأي حال من
الأحوال يعبر عن الاقتدار
الحقيقي وعن التمكن من
الاستمرار في اللعبة، كما أن
استعمالها يتخذ دلالة مميزة لأن
أصل التواصل يكون في ميدان
المعركة، و بين المتحاربين
مباشرة . يلاحظ أن هذه
المحددات السابقة الذكر صيغت
غير مشيئة عندما وضعت تحت تسمية
عامة هي "الرموز"، و يبدو
واضحا دلالة هذا الاصطلاح، إذ
بالإمكان استعمال التسمية
المتداولة مباشرة، غير أن القصد
اقتضى الإشارة
إليها "وظيفيا"، أي بما
تؤديه من وظيفة في حالة الحرب
بوصفها معنى، تلقى مقاصدها عند
الإصطدام بـ"دوالها" لتشكل
لاحقا وفق التصور اللساني "الصورة
الذهنية" للعملة ذات
الوجهين، و هو ما يعني أن تعلق
الأمر بها ينتهي إلى إعادة
صياغة معناها مرتبطا بداله من
خلال إشارته ليس إلى العالم
الخارجي، و لكن إلى سياقه
الجديد الذي يكتسب مدلوله من
التوهم الاستنتاجي للدلالة
الجديدة[14]. 5-
مستويات التواصل : في كثير من
الأحيان يكون استهداف الرؤوس
المدبرة للمنظمات و حتى للدول
الخيار الأول، و كمثل الرأس في
الجسد، يكون الرأس في التنظيم،
وإصابته تعني إنهاءه، فالمسح أو
التصفية النهائية لقضية الوجود
لا يدخلها شبهة في هذه الحالة و
إن كنا نقرأ رسالة هنا، فنحن
نقرأ رسالة واضحة من الجهة
المباغتة، إنها الرغبة الصريحة
في شل الحركة نهائيا من الجسد
المتمرد، لكن السياق مرة أخرى
يتدخل (تشكل الدلالة من غير
المزاوجة مع العالم الخارجي)
فقد يعني الأمر بموجب معطيات
ما، أن الرغبة هي إقصاء جهات ما
ثم إضعاف دور البقية في عمليات
التنازل المرتقبة لحظة السقوط. و في حال
حديثنا عن المساس بالمقدسات
يتعلق الأمر برغبة-استئصالية
عنيفة تقتلع الجذور و نادرا ما
تكون رسالة العملية رغبة في
تخفيض نسبة المطالبة بتلك
المبادئ، و التراجع بها إلى
المستوى الطبيعي من الواقع
المشترك . إذا كان
الأمر مع الرؤوس و المقدسات
كذلك فإن الورقة الأكثر مغامرة
في التواصل و الأبلغ صدى هي
المساس برمز – الأهل- هذا الطرف
البعيد عن المشاركة في الحرب
يغدو ورقة رابحة في يد العدو،
فهو محور مقايضة، تركز في أغلب
الأحيان على المكاسب السياسية (إعلان
موت المطالب الحربية المتمثلة
أساسا في إنهاء الخصم و
استخلافه). 6-
مركزية الأهل / المركزية
اللامركزية : أهالي أطراف
الاقتتال أناس أبرياء في
الغالب، هم فئة ملت أخبار
الحرب، و تبحث دائما عن السلام
حتى تضمن استمرار الحياة، إنها
فئة تعيش دائما حالة استنفار
قصوى، و هي تدرك مركزها
الإجتماعي عن وعي صريح أو ضمني،
فهي طبقة تعيش على حراسة الكبار
و ضمان سلامتهم، رغم اتهامها
بالإغراق في الذاتية
البراغماتية، و كنتيجة لصعوبة
الموازنة بين جميع هذه
المقتضيات يلجأ أبناؤها إلى
الانطواء في شكل –كبر- معبرين
عن مللهم من الواقع، و بمقابل
ذلك نجد أن جسارة مغامرة
الأولياء المجندين تكتسب وعيها
على خلفية هذه القاعدة التي يتم
تلقيها عبر الجلسات الأسرية
المتقطعة التي تتخذ شكل الأشواق
المنتظرة في فترات اشتداد
الاقتتال، من هنا يمكننا أن
ننظر إلى طبيعة المركزية
المقوضة على أنقاض التفكير
السابق الذكر للأسر العسكرية، و
لا يختلف الأمر كثيرا مع الجهات
السياسية التي تأمل أسرها في
المحافظة على وجودها تحت سقف
البيت . هذا الجو
العاطفي المشحون هو البؤرة
المناسبة للصراع السياسي
بالنسبة لجهات تعيش ذات الواقع
الأسري لكنها أكثر إصرارا على
الاستمرار في المغامرة بوصف ذلك
جزءا من العقيدة الحربية،
فتنطلق بذلك فكرة استغلال منبع
العاطفة كبديل –ربما- صعب
الضرب، لتحقيق مكاسب ما، و يمكن
تصور هذا المخرج أقذر المخارج،
و إن كان أنجعها؛ فهو تحول في
مسار الحرب أولا، و تغيير في
اللهجة ثانيا . 7-
الدلالـة التواصلية في
استـهداف الأهـل : استهداف
الأهل هو أحد أبرز دلالات الفشل
العسكري، و هو حيلة لأجل
الاستمرار على الخط بكيفية
جديدة تتناسب و حالة الضعف . إن ضرب الأسر
و بالجملة دون اختيار و بهذه
العجلة يعني الرغبة في شل حركة
العدو ليس بقصد استخلافه على
المنصب لأن الضارب يعاني زفرات
السقوط، إنما بقصد شغله بما
تبقى له من حرمة لا يزعم أبدا
انه مستعد للمغامرة بها، فهي
فوق كل مصلحة، و بالتالي يتم
اضطراره إلى التنازل عن مكاسبه
العسكرية –وهي في الغالب
سياسية- و بدوره صاحب هذه
المكاسب على استعداد فوق الرغبة
لتقبل ليس كل المطالب، إنما
بعضها، بحكم أقدمية الصراع و
الملل منه من جهة، و بحكم الخشية
على الأهل ثانيا، و ليس للضعيف و
قد عاش كل هذا الزمن إلا أن يكون
في حالة قوة من زاوية ما، و إلا
ما عاش حتى هذه اللحظة. 9-
خلاصــة : إن الحكم
الذي ظل يلازم منهجنا حتى
نهايته هو متابعة البنيات
الثقافية و السلوكية في سياق
مراجعة تاريخية قارئة للحقائق
المتداولة، تحت غطاء التصور
العام الذي ينتج العنف أو
السلام، و إنا إذ نؤكد على فكرة
البنية، إنما نؤكد عليها من
زاوية دلالتها في سياق قراءة
شاملة من منظور تحليل الخطاب،
حيث يتم توخي طبيعة الأشكال و ما
تحيل عليه من رمزية بوصفها
علامة على حقيقة ما ، و بذلك
نكون قد أرسينا قاعدة لحقائق
كثيرة أثارت ضجة في الواقع
المعيش خصوصا في الفترة الأخيرة
بعد الميل الواضح لاستعمال
العنف في مختلف الأقطار التي من
بينها الوطن العربي، و هو ما
يعني أننا أشرنا بالتلميح إلى
واقع بعينه هروبا من التحيين. ============== حواشي [1]
ميجان الرويلي، سعد البازعي،
دليل الناقد الأدبي،المركز
الثقافي العربي، الطبعة
الثانية، الدار البيضاء،
بيروت، 2000 .ص108 . [2]
السيميائية أصولها و قواعدها،
ترجمة رشيد بن مالك، مراجعة
وتقديم عزالدين مناصرة. منشورات
الاختلاف (د.ط)، (د.ت)، ص29 . [3]
ميجان الرويلي، سعد البازعي،
دليل الناقد الأدبي، ص107 . [4]
سعيد بنكراد، السيميائيات و
التأويل. المركز الثقافي
العربي، الطبع الأولى، الدار
البيضاء بيروت، 2005. ص47 . [5]
السيميائية أصولها و قواعدها،
ترجمة رشيد بن مالك. ص26. [6]
رمضان عبد التواب. المدخل إلى
علم اللغة، مكتبة الخانجي.
الطبعة الثالثة، القاهرة، 1417ه-1997م.
ص7. [7]
جميل صليبا، المعجم الفلسفي.
دار الكتاب اللبناني، (د.ط)،،
بيروت، لبنان، 1979، الجزء
الثاني، ص15 . [8]
نصر حامد أبو زيد، النص و السلطة
و الحقيقة، المركز الثقافي
العربي، الطبعة الرابعة، الدار
البيضاء، بيروت، 0200 ، ص81 . [9]
أنظر مثلا إلى نظرية نشأة اللغة
العربية و علاقتها بالأصول
الأكادية، يوسف الحوراني،حصار
اللغة العربية... لماذا. مجلة
العربي، عدد522، صفر 1423ه، مايو 2002م.
وزارة الإعلام. الكويت . [10]
حسن البنا عز الدين، الشعرية و
الثقافة، المركز الثقافي
العربي، الدار البيضاء بيروت،
الطبعة الأولى، 2003. هامش ص36 [11]
أنظر التفصيل: فاطمة الطبال
بركة, النظرية الألسنية عند
ياكوبسون. المؤسسة الجامعية
للدراسات و النشر و التوزيع, ط1,
1993 ص62 و ما بعدها . [12]
يقصد بالوعي تمام القصد لا تمام
القناعة و صحة المذهب، و هو إذ
ذلك مصطلح مقابل لـ"اللاوعي"،
بما يعني أننا نهدف من توظيفه
إلى الإشارة إلى الحيلة المبيتة
في غير ما مقايسة للقيم . [13]
أنظر مثلا : صبحي ابراهيم الفقي
،علم اللغة النصي بين النظرية
والتطبيق ، ،الطبعة الأولى، دار
قباء 2000. ص63 . [14]
أنظر، نصر حامد أبو زيد، النص و
السلطة و الحقيقة، ص80 . -------------------- هذه
الدراسة
تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |