ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
ثقافة
الجدران والأسوار عبر التاريخ
جدران
انهارت.. وجدران ستنهار..
والشعوب باقية
نبيل
شبيب
ليس كل جدار أو سور يستحق الإدانة، إذ يُفترض في الأصل أن تكون الجدران والأسوار وما شابهها وسيلة لغرض مشروع، كالستر والحماية لأهل مسكن من المساكن، أو تحصين بناء من اللصوص، أو الدفاع عن مدينة كما كان قبل عصر الطائرات والصواريخ، وقد عرف التاريخ ذلك كله، وورد ما يبين مشروعيته في القرآن الكريم عبر قصة ذي القرنين، أما الحديث عن الجدران والأسوار هنا فيستدعيه استخدام "الجدران المحصنة" وسيلة غير مشروعة لتحقيق هدف غير مشروع، كما هو الحال مع الجدار الإسرائيلي وسط فلسطين، والجدار الفولاذي على أرض مصر، لإحكام الحصار على الشعب الفلسطيني في أرضه، فهذا ما نشر أوصاف جدار الفصل العنصري وجدار العار وما شابقه ذلك. قواسم
مشتركة في وصمة العار المستبدون
في ميدان بناء الجدران غير
المشروعة صنفان، صنف من
الجاهلين ممن لا يقرؤون التاريخ
أصلا، ليدركوا أن الجدران ومن
يبنيها إلى الزوال وأن الشعوب
المستهدفة بها باقية، وصنف ممن
يحسبون أنفسهم "عباقرة
زمانهم" فيتجاهلون دروس
التاريخ رغم علمهم بها، ظانين
في أنفسهم القدرة على صنع ما عجز
سواهم عنه. أما في
ميدان القيم والمثل والمبادئ
فإن توظيف الجدران والأسوار
فيما يخدم الشيطان لا الإنسان،
يقترن بدرجة بعيدة من النفاق
السياسي والقانوني والأخلاقي،
فنجد كثيرين يدينون أحيانا من
يبني جدرانا عازلة بين البشر،
أو بقصد حصار فريق من البشر،
ولكنهم لا يأبهون بأنهم يصنعون
مثل ذلك دون تردد!.. جدران
العار والشنار كثيرة، يمتد
تاريخها عبر 2400 سنة على الأقل،
وتجمع بينها قواسم مشتركة
عديدة، في مقدمتها: 1-
انتهاك حقوق الإنسان وحرياته..
استبدادا في الحكم أو احتلالا
للأرض وعدوانا. 2- الوهم
بقابلية تحصين الأقوياء أنفسهم
عسكرياوقابلية حصار "الأضعف"
معيشيا. 3-
ازدواجية المعايير عبر ممارسة
الجريمة وإدانة "الآخر"
عندما يمارسها. 4- حتمية
انهيار الجدران والأسوار على
أيدي الشعوب تخصيصا.. ولو بعد
حين. ومن
يتأمل عقب الحقب التاريخية
الماضية، قديمها وحديثها، يجد
الشواهد على هذا القواسم
المشتركة واضحة بينة بصورة قد
تبعث على الذهول من سلوك من
يتجاهلها، لولا أن غروره بأن
يختلف مصيره ومصير ما يصنع عن
سواه، يغريه بانتزاع نفسه من
شواهد التاريخ وأحكام الواقع
معا. سور
الصين والجدار الأمريكي ليس من
المفارقات أن يكون أضخم جدران
العار في التاريخ: - سور
الصين العظيم.. التاريخي -
والجدار الأمريكي العظيم..
المعاصر، أو ما يعرف بجدار
آريزونا، وقد يحمل قريبا اسم
"سور المحيطين" لا توجد
مفارقة.. فعلى قدر ضخامة
الاستبداد يكبر حجم الجريمة،
بغض النظر عما يقال من "التطور
والتقدم" عبر العصور!.. كانت
البداية لبناء سور الصين العظيم
بين القرنين الرابع والثالث قبل
ميلاد المسيح عليه السلام، أي
قبل عصور التنوير والحداثة
والديمقراطيات الغربية
والمواثيق الإنسانية.. وكانت
البداية لبناء الجدار الأمريكي
العظيم في منتصف العقد الأول من
الألفية الميلادية الثالثة، في
أوج التبجح الأمريكي بأن القرن
الجديد سيكون قرنا أمريكيا وبأن
الولايات المتحدة الأمريكية
ستنشر الديمقراطية وحقوق
الإنسان في كل مكان.. كان
الغرض من إقامة أولى منشآت سور
الصين "تحصين" الأثرياء
لأنفسهم آنذاك.. والغرض
من إقامة أولى منشآت الجدار
الأمريكي هو "تحصين" بلد
الثراء الأمريكي من نزوح "فقراء"
المكسيك إليه عبر الحدود.. عام 221 ق.م
قرر أول أباطرة الصين، كين
شيهوانجدي، توسعة تحصينات
الأسوار التي أقامها أثرياء
الصين القديمة، بغرض الحيلولة
دون دخول البدو الرحّل إلى
بلاده من أي منفذ على امتداد
مناطق انتشارهم في شمال غرب
الصين.. فتواصل البناء لحجب
الآفاق شمال غرب الصين.. وبعد
فترة وجيزة من إقامة أولى منشآت
الجدار الأمريكي على مسافة 600
كيلومتر، قررت السلطات
الديمقراطية الأمريكية توسعته
ليمتد مسافة 1074 كيلومترا.. تواصلت
أعمال بناء سور الصين، جيلا بعد
جيل وقرنا بعد قرن، فلم تنقطع
إلا في القرن الميلادي السابع
عشر، فبلغ طوله عند اكتماله ما
شمل أرض الصين من شرقها إلى
غربها على مسافة تزيد على 8850
كيلومترا. ويناقش
"ممثلو الشعب" الأمريكيون
في الوقت الحاضر توسعة إضافية،
ليمتد سورهم العتيد على طول
الحدود الجنوبية ما بين
المحيطين، الأطلسي والهادي،
على مسافة 3200 كيلومتر.. ومن يدري
فقد تتواصل عمليات التحصين وراء
جُدُر وبروج مشيدة، جيلا بعد
جيل.. إلى القرن الميلادي الثاني
والعشرين!.. تراوح
ارتفاع سور الصين بين 6 و10
أمتار، وبلغت سماكته حوالي 6
أمتار، وكان بعض الجبال "جزءا"
منه، أي كانت أجزاء السور تصل ما
بين جبل وجبل، وكانت وسائل
التحصين تتمثل في صلابة الأحجار
وارتفاع الأبراج، وغير ذلك من
وسائل القوة والتحصين المعروفة
في ذلك العصر.. أما
الامبراطورية الأمريكية
الحديثة المتطورة تقنيا، فتضيف
إلى الاسمنت المسلح والفولاذ
المنيع والأسلاك الشائكة
والارتفاع والسماكة، شبكات
الإنذار الألكترونية، وآلات
التصوير الليلي، ومجسات الصوت
والحركة.. لا يصعب
الآن تقدير ما كان يعنيه سور
الصين بميزان الإنسان وكرامته
عبر العصور "البائدة"..
كذلك يمكن في عصرنا هذا،
وبموازين تقدمه وتطوره وحداثته..
وكذلك بمعايير شرعة الغاب فيه،
أن تتبدى قيمة الإنسان وكرامته
بمنظور صانع القرار الأمريكي،
عند التنويه بأنه أضاف إلى
التحصينات الاسمنتية
والألكترونية ما يوصف بآليات
"قذف الأحجار" على من يتجرأ
من فقراء المكسيك ويحاول تجاوز
الحدود بحثا عن عمل في دولة "الإمكانات
غير المحدودة"!.. هل يوجد
من يستغرب بعد ذلك أن تطرح
عبقرية صانع القرار الأمريكي -أو
الصهيوأمريكي- فكرة بناء جدار
فولاذي تحت الأرض وتحت سطح
الماء لحصار غزة، وأن يموّله
بسخاء! جدران
الحرب الباردة طغيان
امبراطوريات الإعلام الغربية،
ومقولة "مركزية أوروبا في
العالم" في فكر الغرب
وأحاسيسه، غيض من فيض العوامل
التي لعبت دورها في أن يصبح جدار
برلين هو الأشهر في العصر
الحديث لا سيما من حيث اعتباره
"الرمز" الذي تتداول ذكرَه
الألسنة والأقلام عند الحديث عن
حقبة الحرب الباردة بين
المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. لكن
الحرب الباردة عرفت جدارا آخر،
لا يختلف عن جدار برلين من حيث
الهدف والمفعول وصبغة العار
والشنار. جدار
العار الشيوعي أقامته في برلين
ابتداء من عام 1961م الدولةُ
الشيوعية في شرق ألمانيا،
المنهارة في هذه الأثناء.. وجدار
العار الرأسمالي أقامته ابتداء
من عام 1973م كوريا الجنوبية التي
لا تتصرف خارج نطاق الإرادة
السياسية والعسكرية الأمريكية،
ليفصل بينها وبين "الدولة
الشقيقة" في شمال شبه الجزيرة
الكورية.. العار
الشيوعي كان يمتد بالمجموع (بين
شطري برلين وحول الشطر الغربي
منها) مسافة 127 كيلومترا.. والعار
الرأسمالي ما زال ممتدا على
مسافة 240 كيلو مترا.. ارتفاع
الأول زهاء ثلاثة أمتار ونصف..
وارتفاع الثاني 6 أمتار.. كانت
سماكة الجزء الاسمنتي من جدار
برلين الشيوعي حوالي متر ونصف.. أما
جدار كوريا الرأسمالي فتبلغ
سماكته 11 مترا في الأسفل و4
أمتار في الأعلى.. وفيما
عدا ذلك كان "يتنافس"
العاران، الشيوعي والرأسمالي،
الشرقي والغربي، الألماني/
السوفييتي والكوري/ الأمريكي،
من حيث التجهيزات التي تصنعها
عبقرية التقدم الحديث، من خنادق
على امتداد مئات الكيلومترات،
وأبراج مراقبة بالمئات، وكذلك
مئات الصواعق الكهربائية..
ومئات المنشآت لكلاب المطاردة
المدربة.. وألوف الألغام
الأرضية لاغتيال "الإنسان"..
الألماني لو حاول التسلل بين
شطري ألمانيا سابقا، والكوري لو
حاول التسلل بين شطري كوريا
سابقا وحاليا!.. لقد ولد
جدار برلين في رحم الحرب
الباردة، ولم يبق منه في هذه
الأثناء سوى ما يزيد قليلا عن
كيلومتر واحد ليكون نصبا
تذكاريا يرمز لفترة الحرب
الباردة و"ويلاتها
اللاإنسانية".. وولد
"توأمه" الكوري في رحم
الحرب الباردة أيضا.. ولا يزال
قائما، شاهدا، على "الويلات
اللاإنسانية" من الحرب
الباردة وحتى الآن.. الفارق
الوحيد هو أن جدار برلين كان
عارا على العالم الشيوعي فوجب
التنديد به والتركيز عليه.. أما
جدار كوريا فكان ولا يزال عارا
على العالم الرأسمالي، فوجب -بحكم
سطوة الإعلام الغربي- إما
تسويغه أو تجاهله. من
يستغرب إذن أن يصنع الغرب ما
يصنع لإنهاء الإقامة الجبرية
المفروضة (ظلما واستبدادا) على
زعيمة المعارضة في مانيمار،
والتي تقاوم الاستبداد، ويصنع
أضعافا مضاعفة من أجل ترسيخ
جدران الحصار حول شعب فلسطين -ليس
في غزة فقط- والذي يقاوم عدوا
اغتصب أرضه، ويعاني من "شقيق"
يخذله!.. جدران
عار أخرى أيادي
"الهيمنة"، لا سيما في
نسختها الغربية، كانت وما تزال
وراء معظم جدران العار الأخرى
في كنف التاريخ القديم والحديث،
فمن العسير الفصل بين عدوانيتها
المتوارثة والمستمرة، وبين
أحدث جدران العار والشنار: - جدار
الفصل العنصري في قلب فلسطين
المغتصبة، تقيمه اللقيطة
الغربية في قلب المنطقة العربية
والإسلامية الفلسطيني.. - وجدار
الخنق الفولاذي، على حدود قطاع
غزة البرية والمائية، يُبنى
بتمويل غربي وتخطيط
صهيوأمريكي، لإحكام الحصار حول
المقاومة الفلسطينية والشعب
الذي يحتضنها. أكثر من
40 جدارا وسورا أقيمت تحت اسم "جدار
السلام" -والاسم حقيقي وليس
تهكميا!- للفصل بين البروتستانت
والكاثوليك في إيرلندا
الشمالية، وما كانت نشأتها إلا
جزءا من موبقات ما صنعته
الطائفية عن طريق حكام بريطانيا
وإيرلندا منذ اندلاع حروبها
الأولى قبل أكثر من 400 عام.. وإلا
امتدادا للإرث الذي خلفه القيصر
الروماني هادريان على شكل جدار
يحمل اسمه منذ القرن الميلادي
الثاني ويمتد في شمال بريطانيا
ما بين سواحلها الشرقية
والغربية، على مسافة 120
كيلومترا، وأضيف إليه في عهد
القيصر بيوس جدار آخر حمل اسمه
أيضا بطول 59 كيلومترا. ولئن
أدمنت الدول الأوروبية الغربية
إدانة جدار برلين زمنا طويلا،
فهي التي أقدمت في تسعينات
القرن الميلادي العشرين على
تمويل مشروع أسبانيا لإحاطة
سبته ومليله المحتلتين،
بالجدران والتحصينات، في وجه
"اللاجئين الأفارقة"،
الذين كان أجدادهم يجدون "القتل"
أو "التصدير رقيقا" إذا ما
قاوموا -بأجسادهم وليس بالجدران
والأسوار- نزول "اللاجئين"
الأوربيين القادمين من وراء
البحار لاغتصاب ثرواتهم.. وليس
للعمل بأجر طلبا للرزق!.. ولا
يختلف جدار العار الأسباني/
الأوروبي عن سواه كثيرا، من حيث
سماكة منشآته لتبلغ 8 أمتار،
وارتفاع ألواحه من الاسمنت
المسلح إلى 12 مترا (ويراد زيادة
هذا الارتفاع قريبا)..
فالتحصينات هي التحصينات،
والتجهيزات الألكترونية هي
التجهيزات.. والعار هو العار،
سيان هل حمل جنسية صينية أم
أمريكية، وأوروبية أم إفريقية،
وألمانية أم كورية.. والعار هو
العار وإن أقامت الجدران
والأسوار ومارست الحصار أيدٍ
عربية. نهاية
جدران العار إن
الذين يقيمون جدار الفصل
العنصري منذ عام 2003م على امتداد
670 كيلومترا، والذين يقيمون
الجدار الفولاذي منذ عام 2009م
تحت الرمال على امتداد 14
كيلومترا وتحت سطح الماء لعزل
سواحل غزة وترابها عن العالم
الخارجي، يجدون أنفسهم داخل
نطاق "أسرة تاريخية" واحدة
من عهد قيصر الصين كين
شيهوانجدي.. وقد أصبح ترابا تحت
التراب، إلى عهد من ظن نفسه
قيصرا أمريكيا حديثا.. وسقط
وسيصبح عاجلا أو آجلا ترابا تحت
التراب. على أن
النهاية المحتومة ليست من نصيب
من يقيم جدران العار فقط، بل هي
اليوم كما كانت بالأمس من نصيب
تلك الجدران أيضا. لقد
اهترأ سور الصين العظيم ولم يبق
من ألوف الكيلومترات إلا ما
يقوم "السياح" بزيارته،
وتحول كثير من حجارة سور العار
العظيم إلى حجارة بناء.. فقد كان
الفلاحون ينتزعونها ويقيمون
بها مساكنهم، قرنا بعد قرن،
وكان ذلك من أسباب اهترائه!.. ولقد
سقط جدار برلين بثورة المظاهرات
الشعبية في الدولة التي أرادت
"حصار" سكانها والحيلولة
دون رحيل من يريد الرحيل منهم
عنها، فرحلت تلك الدولة.. ورحل
الجدار معها، وبقي السكان، ولقد
بدأت تنفتح الثغرات في جدار
العار بين الكوريتين، رغم
السياسة الأمريكية التي تحول
قدر المستطاع دون تقارب وتعاون
يمكن أن يؤدي إلى تحرير الشمال
من شيوعيته الاستبدادية
والجنوب من الهيمنة الأمريكية. كما بدأ
يتهاوى مفعول الجدار الأمريكي
العظيم.. فالفقر والقهر
والبطالة ليست "فيروسات
مكسيكية" يقي الجدار منها، بل
هي "فيروسات رأسمالية ذاتية"
لا تسلم منها أي دولة رأسمالية،
لا سيما الولايات المتحدة
الأمريكية، وإن مفعولها المدمر
-كما أعطى مثال الأزمة
الرأسمالية العالمية- أكبر من
مفعول أي "هجرة" مكسيكية
تعبر الحدود!.. الجدران
راحلة.. والشعوب هي التي تهدم
الجدران بمعاول إدانتها
ومقاومتها مع من يقيمها، ومعاول
رفض كل تسويغ لها، ويشهد
التاريخ أن مفعول تلك "المعاول"
الشعبية هو الأكبر والأقوى
والأبقى على الدوام.. وفي سقوط
جدار برلين عبرة، إذ كان عن طريق
المظاهرات الجماهيرية الحاشدة،
بدأت بداية "صغيرة" في حملة
"صلوات وأدعية" داخل بعض ما
بقي من الكنائس في العهد
الشيوعي، ولهذا لا ينبغي أن
يستهان اليوم بأي عمل جاد، وإن
كان صغيرا، في مقاومة جدران
الحصار المعاصرة. -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |