ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الإسلام
وثقافة تحرير العقل والفكر بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله مدخل : عندما
نتحدث عن الإسلام وثقافة تحرير
العقل والفكر ، أو بمعنى آخر :
منهج الإسلام في تحرير العقل
والفكر ، يجب أن نضع في الاعتبار
أن الإسلام حرر الإنسان من
أغلال الحجر العقلي ، ورباه على
حرية الفكر واستقلال الإرادة ،
كما حرره من أصفاد الجهل وظلمته
، لأن الجهل يقتل مواهب الفكر
والنظر ، ويميت عناصر الحياة
والقوة في الأفراد والأمم ، كما
أنه دعاه إلى عدم طاعة الأهواء ،
والانقياد الأعمى . وعبر
هذه السطور سنحاول أن نوضح كيف
واجه الإسلام الحجر العقلي :- في
مواجهة الحجر العقلي: لقد
حرر الإسلام الإنسان من أغلال
الحجر العقلي ، وسيطرة التبعية
العمياء المقيتة ، ورباه على
حرية الفكر ، واستقلال الإرادة
، ليكمل بذلك عقله ، ويستقيم
تفكيره ، وتكتمل له شخصيته
وإنسانيته ، فإن كمال العقل ،
واستقامة التفكير ، واستقلال
الإرادة ، هي أسس صحة العقائد ،
واستقامة التدين ، ورقي الأخلاق
، ومعرفة الحق الذي يجب أن يتبع
، ومعرفة الباطل الذي يجب أن
يجتنب ، وقد أشار إلى ذلك رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم )
حينما قال : (( ما اكتسب رجل مثل
فضل عقل ، يهدي صاحبه إلى هدى ،
ويرده عن ضلال . )) [ متفق عليه ] . فالإيمان
لا يتم عند الإنسان ، وكذلك
الدين لا يستقيم ، حتى يكمل
العقل ، وقد عني الإسلام ببناء
هذه الدعامة عناية كبرى ، وذلك
من عدة زوايا : أولاً
: البرهان أساس الإيمان : لقد
جعل الإسلام البرهان أساساً
للإيمان الصادق ، والعقيدة
الصحيحة ، وبين أن كل اعتقاد ،
أو عمل لا يقوم على دلائل الحق
فهو مردود على صاحبه ، كما أنذر
بشدة الذين يجادلون في الله ،
وفي آياته بغير علم، ولا هدى ،
ولا كتاب منير . يقول
سبحانه وتعالى : { ومن يدع مع
الله إلهاً آخر لا برهان له ،
فإنما حسابه عند ربه ، أنه لا
يفلح الكافرون . } [ المؤمنون : 17 ]
. وقال
تعالى : { ومن الناس من يجادل في
الله بغير علم ولا هدى ، ولا
كتاب منير ، ثاني عطفه ، ليضل عن
سبيل الله ، له في الدنيا خزي ،
ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق
. } [ الحج : 8 - 9] . هذا ،
وقد وردت كلمة ( برهانكم ) في
القرآن الكريم أربع مرات . ثانياً
: ضلال القادة : وكشف
الإسلام عن ضلال القادة الدينين
، الذين انحرفوا عن العهود
والمواثيق المأخوذة عليهم ،
وافتروا على الله الكذب ،
وتاجروا بالدين والعقيدة ،
وانتحلوا لأنفسهم حق التشريع
والتحليل والتحريم إرضاءً
لأهوائهم ، وتحقيقاً لمصالحهم
الدنيوية ، وإشباعاً لشهواتهم ،
وتلبيساً على الناس في دينهم . قال
الله تعالى : { وإذا أخذ الله
ميثاق الذين أوتوا الكتاب
لنبينه للناس ، ولا تكتمونه ،
فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا
به ثمناً قليلاً ، فبئس ما
يشترون . } [ آل عمران : 187 ] . وقال
عز وجل : { فويل للذين يكتبون
الكتاب بأيديهم ، ثم يقولون :
هذا من عند الله ، ليشتروا به
ثمناً قليلاً ، فويل لهم مما
كتبت أيديهم ، وويل لهم مما
يكسبون . } [ البقرة : 79] ويقول
جل شأنه : { ولا تقولوا لما تصفوا
ألسنتكم الكذب هذا حلال ، وهذا
حرام ، لتفتروا على الله الكذب ،
إن الذين يفترون على الله الكذب
، لا يفلحون . } [ النحل : 116 ] . وقال
تعالى : { ولا تلبسوا الحق
بالباطل ، وتكتموا الحق ، وأنتم
تعلمون . } [ البقرة : 42 ]. ثالثاً
: الدعوة إلى الحق : كما
دعا الإسلام البشر جميعاً إلى
كلمة الحق ، التي هي جوهر
الخيرية ، والذي يستجيب لها كل
ذي قلب سليم ، وعقل رشيد ، والتي
لم يختلف فيها نبي مرسل ، ولا
كتاب منزل . قال
الله تعالى : { قل يا أهل الكتاب
تعالوا إلى كلمة سواء ، بيننا
وبينكم ، ألا نعبد إلا الله ، و
لا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ
بعضنا بعضاً أرباباً من دون
الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا
بأنا مسلمون } . [ آل عمران : 64 ] . رابعاً
: النظر في عوالم السماوات
والأرض : لقد
طلب الإسلام من كل ذي عقل ، أن
ينظر ويتأمل في عوالم السماوات
والأرض ، وما فيها من الدلائل
الواضحة على وحدانية الله
سبحانه وتعالى في ألوهيته ،
وربوبيته . فعلى
الإنسان أن ينظر إلى السماء
التي فوقه ، كيف بنيت ، وكيف
زينت ، وإلى الأرض كيف مدت ،
وكيف ألقيت فيها الرواسي ، وكيف
أنبت فيها من كل زوج بهيج ، وما
هذا الخلق العظيم إلا تذكرة لكل
قلب يشعر ويعي ، ولكل عقل يدرك
ويفهم. يقول
تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل
كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت
، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى
الأرض كيف سطحت . } [ الغاشية : 17 ] وعلينا
أن نعي جيداً أن في خلق السماوات
والأرض ، واختلاف الليل والنهار
، والفلك التي تجري في البحر بما
ينفع الناس ، وما أنزل الله
تعالى من السماء من ماء ، فأحيا
به الأرض بعد موتها ، وبث فيها
من كل دابة ، وكذلك تصريف الرياح
، والسحاب المسخر بين السماء
والأرض ، كل ذلك آيات لأهل العقل
والرشاد ، الذين يمشون في طريق
النور والمعرفة . إن
الإنسان إذا نظر إلى نفسه ، وعرف
مما خلق ، وأنه خلق من ماء دافق ،
يخرج من بين الصلب والترائب . وإذا
نظر الإنسان إلى الأرض التي هي
مصدر الحياة ، ونظر إلى طعامه ،
يجد أن الله تعالى بقدرته صب
الماء صباً من السحب ، ثم شق
الأرض شقاً ، فأنبت فيها حباً ،
وعنباً ، ورطباً ، وزيتوناً
ونخلاً ، وحدائق وافرة الثمر
،وفاكهة ومرعى، كل هذا متاعاً
لنا ولإنعامنا ، وبهذا التأمل
المقترن بالتدبر والنظر العقلي
،يزداد الإنسان علماً ومعرفة ،
ومن ازداد علماً ازداد إيماناً
، ومن ازداد إيماناً ازداد
رقياً وأخلاقاً وتحضراً . لقد
دعانا الله سبحانه وتعالى أن
نمعن الفكر في هذا الكون الفسيح
، ونمعن النظر فيما حوى من موارد
عديدة ، وطلب منا أن نسعى لمعرفة
أسراره الكثيرة ، وأسباب الحياة
فيه . قال
تعالى : { قل سيروا في الأرض
فانظروا كيف بدأ الخلق}[
العنكبوت : 20 ] . ويجدر
بالذكر هنا أن قوله تعالى : {
سيروا في الأرض } ذكر في القرآن
الكريم أربع مرات. وقال
تعالى : { وفي الأرض آيات
للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا
تنظرون . [ الذاريات : 20 ] خامساً
: الدعوة إلى استنهاض العقول : استنهض
الإسلام العقول ، ووجه الأفهام
، وأيقظ الحواس ، ونبه المشاعر ،
وذلك بالتعقيب على بيان الآيات
الكونية والتشريعية ، وذلك بمثل
قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات
لقوم يعقلون } [الروم : 24 ] ، وقال
تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم
يتفكرون.} [
الرعد : 3 ] ، وقال : { إن في ذلك
لآيات لأولي النهى } [ طه : 54 ] ،
ونفس تعبير ( أولي النهى ) ورد في
الآية ( 128) من سورة طه أيضاً . ويقول
تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم
يسمعون . } [ يونس : 67 ] ، وقال : {
ويبين آياته للناس لعلهم
يتذكرون } [ البقرة : 221 ] ، وقال : {
إنما يتذكر أولوا الألباب } [
الرعد : 19 ] ، و ( أولوا الألباب )
هم أصحاب العقول الراجحة ،
الفاهمة ، الواعية ، المدركة ،
وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم
( 16 ) مرة . سادساً:
نظرة الناقد البصير : لقد
دعا الإسلام البشر جميعاً إلى
أن ينظروا إلى ما يستمعون من
أقوال نظرة الناقد الواعي
البصير ، الذي يستطيع أن يقيم
الأمور تقييماً عقلياً سديداً ،
فيتبعون منها ما يدل على الحق
ويهدي إلى الخيرية ، وإلى الرشد
، هؤلاء هم الذين يستمعون إلى
القول ،فيسيرون على طريق الهدى
، ولما لا ؟ ، وقد هداهم الله ،
لأنهم أصحاب العقول الراجحة . قال
تعالى : { فبشر عباد الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه ،
أولئك الذين هداهم الله ،
وأولئك هم أولوا الألباب } [
الزمر : 18 ] . سابعاً
:الذم للغافلين : لقد ذم
الإسلام الغافلين المتبلدين ،
ونعى عليهم غفلتهم ، وإعراضهم
عن دلائل الآيات الكونية التي
يشاهدونها ، ويرونها رؤية
العيان ، في كل لحظة ، وهم عنها
غافلون ، معرضون ، هذه الآيات
الكونية المعجزة تطالعهم
بدلائلها في كل الآونة ، وهم كما
يقال : لا حياة لمن تنادي ! ، وهم
معرضون عن كل آيات الله ، ألم
يسيروا في الأرض الممتدة ،ليروا
نعم الله التي لا تحصى ، فتكون
لهم قلوب يعقلون بها ، أو أذان
يسمعون بها ؟ ، حقاً وصدقاً : إن
الأبصار لا تعمى ، ولكن القلوب
التي في الصدور ، التي هي أساس
المشاعر والأحاسيس ، هي التي
تعمى . هؤلاء
الذين في غفلة وإعراض عن دلائل
الله الكونية لهم قلوب لا
يفقهون بها ، ولهم أعين لا
يبصرون بها ، ولهم أذان صماء لا
يسمعون بها ، حقاً أنهم
كالأنعام ، بل هم في غفلتهم أضل
منها. قال
تعالى : { وكأ ين من آية في
السماوات والأرض ، يمرون عليها
، وهم عنها معرضون . } [ يوسف : 105 ] . ثامناً
: في مواجهة أسرى التقليد :- لقد
عاب الإسلام على أسري التقليد
إعراضهم عن الحق الذي جاء به
أنبياء الله ، ورسله ، وجمودهم
على إتباع ما وجدوا عليه آباءهم
، وأجدادهم ، وهم إذ يرتكبون
الفواحش باسم الدين ، فهم
يفعلون ذلك تعصباً للجمود
والتبعية العمياء المخالفة
للعقل والمنطق السليم . قال
تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا
إلى ما أنزل الله ، وإلى الرسول
، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه
آباءنا أو لو كان آباؤهم لا
يعلمون شيئاً ولا يهتدون . } (
المائدة : 104 ) . وهؤلاء
النفر من الناس إذا قيل لهم
اتبعوا منهج ما أنزل الله ، منهج
الهدي والرشاد ، ردوا قائلين :
بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا ،
حتى لو كان هؤلاء الآباء لا
يعقلون شيئاً ولا يهتدون . وإذا
فعلوا فاحشة ، كرروا القول : بأن
الآباء والأجداد كانوا يفعلون
ذلك ، وكانوا يأمرونهم بها .
وعليهم أن يدركوا جيداً أن الله
تعالى لا يأمر بالفحشاء، إنهم
يقولون على الله مالا يعلمون !! ،
والله سبحانه وتعالى يوضح لنا
عاقبة التبعية العمياء ومدى
جنايتها على الناس. يقول
تعالى : { يوم نقلب وجوههم في
النار يقولون : يا ليتنا أطعنا
الله ، وأطعنا الرسولا . وقالوا :
ربنا آنا أطعنا سادتنا وكبراءنا
فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم
ضعفين من العذاب ، والعنهم
لعناً كبيراً .} [ الأحزاب : 66 - 68 ] تحليلنا
لظاهرة التقليد الأعمى :- إن
التقليد الأعمى أكبر شر يبتلى
به الأفراد والجماعات ، لأنه
يميت مواهب الفكر والإبداع
والابتكار ، ويقف حجر عثرة في
طريق النظر الواعي ، والتفكير
السليم ، فهو يجمد قدرات
الإنسان الفكرية ، وطاقاته
الإبداعية ، ويجعلها راكدة ،
آسنة غير متحركة أو متطورة . إن
التقليد الأعمى يجعل الإنسان لا
يميز بين الحق والباطل ، ولا بين
الصواب والخطأ ، ولا يفرق بين
التقليد في الخير والتقليد في
الشر ، ويحمل أهله على الإعراض
عن الحق ، ومعاداة أهله . إنه
يدعوهم إلى الوقوف في طريق
الإصلاح والمصلحين ، ويدعوهم
إلى الجمود على العقائد ،
والمذاهب الموروثة ، أضف إلى
ذلك التعصب الجماعي لحمايتها ،
وذلك لأن قيام العقائد على أساس
الوراثة ، وتقليد الآباء
والأجداد دون وعي وإدراك ، يضفي
عليها قداسة تستحوذ على عواطف
الوارثين لها ، وتصرفهم عن
التفكير السليم في صحتها ، أو
بطلانها . إن
التقليد الأعمى يدفعهم دفعاً
إلي التعصب الجماعي لحماية
المذاهب والأفكار الموروثة ،
والإبقاء عليها ، ومعارضة كل
إصلاح جديد يخالفها أو ينتقص من
قداستها ، حتى لو كان هذا
الإصلاح أساسي وجوهري لخير
الناس وصالحهم . وقد
أشار القرآن الكريم إلي هذه
الحقائق في آيات كثيرة كقوله
تعالي في شأن معاداة الأمم
الماضية لدعوة رسلهم :- {
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية
من نذير ، إلا قال مترفوها : إنا
وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على
آثارها مقتدون . قال : أو لو
جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه
آباءكم ؟ ، قالوا : إنا بما
أرسلتم به كافرون } [ الزخرف : 23 -
24 ] وكان
نفس الأمر في شأن معاداة قريش
للدعوة المحمدية ، فقد كان
عجبهم أن جاءهم منذر منهم ، فما
كان منهم إلا أن اتهموا محمد (
صلى الله عليه وسلم ) بالكذب
والسحر وسخروا منه أشد السخرية
، مدافعين عن آلهتهم التي لا تضر
ولا تنفع ، رافضين طريق الهدى
والرشاد . ما
يترتب على التقليد الأعمى :- وهكذا
- كما أوضحنا في الجزئية السابقة
- يفعل التقليد الأعمى الضار
للأفراد والجماعات ، والذي تقدس
فيه المعتقدات القائمة على
الوراثة ، لقد كان أهل قريش
يعرفون الرسول الكريم محمداً (
صلى الله عليه وسلم ) معرفةً
جيدة ، بل يعرفونه حق المعرفة ،
ويعلمون صدقه ، وأمانته حق
العلم ، أضف إلي ذلك درايتهم
الكاملة بحسن أخلاقه ، وطيب
معشره ، ولكن التعصب الجماعي
القائم على التقليد الأعمى
وتقديس ما وجدوا عليه الآباء
والأجداد ، حملهم حملاً على أن
يتعجبوا من دعوته ، ويتنكروا
لها ، ويسخروا منه . وهذه
الحقيقة التي ذكرناها، مقررين
إياها ، وهي : أن قيام المذاهب
والعقائد على أساس الوراثة
والتقليد الأعمى ، دون درس أو
تمحيص ، يضفي عليها هالة من
التقديس الزائف ، فالذي ينجم عن
استحواذها على عواطف الوارثين ،
انصرافهم عن التفكير الواعي
السليم في فسادها وبطلانها ،
وبالتالي يأتي تعصبهم الأعمى
الجماعي من أجل حمايتها من كل
دعوة تخالفها ، أو تنتقص من
قداستها . وقد
علمنا الإسلام التسامح ، وعدم
التعصب ، وقبول الأخر لأن
الجميع في حق الحياة سواء ، كما
علمنا احترام الرأي والرأي
الأخر ، والحوار بالتي هي أحسن . كما أن
الإسلام يؤمن بالتعددية
الفكرية ، ويرفض أحادية الرأي ،
في نفس الوقت الذي ينادي فيه
بالأخذ والعطاء ، والحوار
المفيد بين الثقافات ، فقد
خلقنا الله تعالى لنتعارف
ونتفاهم ، من أجل واقع أفضل
للبشرية جمعاء ، ويكون ذلك عن
طريق تبادل الأفكار والآراء ،
والمنافع والخبرات ، وليس عن
طريق الصدام والخلاف . إن
الأمم والطوائف والجماعات التي
تتمسك بالعقائد والمذاهب
الموروثة، رغم أنها لا تستند
إلى نظر صحيح ، ورؤية سليمة
واعية ، هؤلاء يكون مصيرهم
الجمود والتخلف والتأخر ، لأن
ما يتمسكون به لا يقوم على أساس
من الحق ، وقصارى ما يعتمدون
عليه هو التقليد القائم على
التبعية العمياء ، وتقديس
مواريث الآباء والأجداد ، دون
أدنى إعمال للعقل والفكر. القضاء
على سلطة المتألهين : وبهذه
الدعامة المهمة التي منطلقها
تحرير الإنسان من الحجر العقلي
، وسيطرة التبعية العمياء ،
وتربيته على حرية الفكر ، وعلى
الإرادة الحرة ، قضى الإسلام
الحنيف على سلطة المتألهين من
أصحاب القيادات الضالة المضللة
، وخلع عنهم رداء القداسة التي
انتحلوها لأنفسهم ، وموهوا على
الناس بأنها رفعتهم فوق النقد
أو الجرح والتعديل ، وأجرى
عليهم من أحكام المسؤولية
والجزاء ما أجراه على سائر
الأفراد . هذا ،
وقد بين الإسلام أن ربوبية
العبادة والتشريع إنما هي حق
خالص لله تعالى وحده ، وأهاب
بأسرى التقليد والتبعية
العمياء ، أن يحرروا أنفسهم من
هذه الأغلال الجاثمة على عقولهم
وأفهامهم ، وتلك الأكنة
المعقودة على أسماعهم وأبصارهم
. وقرر
الإسلام بوضوح وجلاء : حق
الإنسان في حرية الفكر
والاعتقاد ، وحرية الرأي ،
واستقلال الإرادة ، كما فتح
للإنسان في كل زمان ومكان طريق
التحرر الفكري ، والاستقلال
الإرادي ، وبوأه المنزلة
اللائقة بإنسانيته وكرامته . كما
عرف الله سبحانه وتعالى الإنسان
بأنه لم يخلقه عبداً يقاد ، كما
تقاد بهيمة الأنعام ،و في نفس
الآن لم يجعل لمخلوق مهما كان ،
حق السيطرة على عقله وفكره
وإرادته ، وإنما خلقه حراً
مالكاً لقياد نفسه ، وعبداً
لربه الواحد الأحد فقط ، جعله
يفكر بعقله ، ويسترشد بمواهبه
وقدراته التي منحها إياه ،
ويعمل باختياره وإرادته ،
ويهتدي بنور العلم في مسيرته
الحياتية ، وفي اتخاذ قراراته
المصيرية ، وفي أداء أعماله . عرف
الله الإنسان وعلمه أن لا يظهر
بمظهر العبودية إلا لخالقه
الأعظم ، ولا يدين في عقائده
وسلوكه إلا بدين الحجة والبرهان
. ولا
يفوتني في نهاية حديثي عن هذه
الدعامة الأولى من دعائم المنهج
الإسلامي في تحرير العقل والفكر
، أن أوضح حقيقتين مهمتين ، قد
يقع الخلط من البعض في فهمهما :- الحقيقة
الأولى : التقليد الذي نقصده : إن
التقليد الذي نقصده ، هو ذلك
التقليد الذي ذمه الإسلام ،
وشدد النكير على أهله ، والذي
أوضحنا مفاسده ، وآثاره السيئة
في الأفراد والجماعات ، عبر
سطورنا الفائتة ، هذا التقليد
هو : التقليد الأعمى الذي ينطلق
من الجمود ، والثبات على القديم
الموروث دون إعمال الفكر فيه ،
مع التبعية العمياء ، ومحاربة
كل جديد يخالفه ، ولو كان هذا
الجديد فيه صالح الناس وخيرهم ،
أو هو أقوم طريقة وأهدى سبيلاً . التقليد
الذي نعنيه هو الذي لا يميز بين
التقليد في الخير ، والتقليد في
الشر ، وعليه فهو لا يفرق بين
إتباع الحق من الأئمة الراشدين
، والعلماء الصالحين ،
والمفكرين الهادين ، والقادة
المصلحين ، وإتباع أهل الباطل
من أصحاب القيادات الضالة
المضللة ، والأهواء الجامحة ،
وأصحاب النزعات التي يسيطر
عليها الأنانية والمصالح
الخاصة . هذا هو
التقليد ، الذي ذمه الإسلام
وشدد النكير على أصحابه ، أما
تقليد أهل الخير والصلاح ،
والحق والفلاح ، من الأئمة
الراشدين ، والعلماء العقلاء
المعتدلين ، الراسخين في العلم
والمعرفة ، والمتميزين
بالأخلاق الصالحة ، هؤلاء الذين
استمدوا أفكارهم ، وعلومهم ،
ومذاهبهم من هدى كتاب الله
المجيد ، والسنة النبوية
المطهرة ، واستقاموا على
الطريقة المثلى ، والمحجة
البيضاء ، وتقليد هؤلاء ليس من
قبيل التبعية العمياء التي لا
تنظر ، ولا تفكر فيما تقلد ،
وإنما إتباع هؤلاء من قبيل
القدوة الواعية المستبصرة ، فمن
واجبنا أن نتبع أهل العلم
والمعرفة إن كنا لا نعلم أو لا
نعرف . يقول
تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون . } [ النحل : 43 ] -
ويجدر بالقول هنا أن تعبير ( أهل
الذكر ) ورد في القرآن الكريم
مرتين ، أما كلمة ( الذكر ) فقد
وردت ( 19 ) مرة . ونحن
نعرف قول الرسول ( صلى اله عليه
وسلم ) الذي جاء في حديث العرياض
بن سارية : (( فإنه من يعش منكم
بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ،
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين )) . ( متفق عليه ) نقول :إن
طريق العصمة من ضلال الرأي ،
وطغيان الهوى والنجاة من شرور
التفرق ، والاختلاف ، والتمزق ،
والخروج من ظلمة الجهل وضلاله ،
هو الاعتصام بكتاب الله ، وسنة
رسوله الكريم ( صلى الله عليه
وسلم ) ، وسؤال أهل العلم
والمعرفة الذين عرفوا بالرسوخ ،
والأمانة في العلم ، والاعتدال
في القصد والتفكير . الحقيقة
الثانية : الحرية التي نقصدها : إن
حرية الفكر التي جعلها الإسلام
رائداً للتفكير السليم ،
ونبراساً للعقول والأفهام في
الاهتداء إلى معالم الحق
والخيرية ، هي الحرية التي تطلق
عقولنا وأفكارنا من أغلال الحجر
العقلي ، والكبت الفكري ،
وتحررها من سيطرة التقليد
والتبعية العمياء ، وتجلي لها
معالم الحقائق التي كانت محجوبة
عنها . الحرية
التي نقصدها ، والتي دعا إليها
الإسلام ، أن الإنسان حر دائما
وأبداً ما لم يضر الآخرين ، مع
مراعاة أن قيادة التوجيه
والإرشاد يجب أن تكون قيادة
بناء وإصلاح وتربية وتعليم ، لا
قيادة هدم وإفساد وتضليل ،قيادة
تستمد مقوماتها العلمية من هدي
الإسلام ، وتعاليمه ، من نضوج
العقل واستقامة التفكير ، من
الاعتماد على قضايا الحق
والمنطق ، وتحكيم الحجة
والبرهان ، مع التحري الواعي في
فهم نصوص كتاب الله المجيد
والسنة النبوية المطهرة ،
والاستدلال بهما على قوانين
النظر والفكر . وعلى
من يتصدى للرأي والحل والعقد أن
يفهم القرآن والسنة جيداً
انطلاقاً من فهمه ووعيه بدلائل
وخصائص وأوضاع اللغة العربية ،
والثقافة الإسلامية بوجه عام ،
لأنه إذا وكل الأمر إلى الناس
يفهمون ويستنبطون كما يريدون
ويشتهون ، لاختلت موازين الصواب
والخطأ ، في الفهم والاستنباط ،
وغابت الحقائق عن الأفهام في
غمرة الأهواء ، لأن العقول
والأفهام متفاوتة ، والأهواء
والنوازع متحكمة ، و الكملة أو
الذين يشتاقون إلى الكمال أو
يتطلعون إليه في كل زمان ومكان
قليلون. هذه هي
حرية الفكر التي نادى بها
الإسلام ، وجعلها نبراساً للعقل
ورائداً للفكر ، فهل آن لنا أن
نعيها ونتدبرها ؟! -------------------- *باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية -------------------- هذه
الدراسة
تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |