ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
أبو
الريحان البيروني : موسوعي
يدعو مبكرًا إلى حوار الحضارات
ولقاء الثقافات بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله* البدايات
:- رجلنا
هو أبو الريحان محمد بن أحمد
البيروني ، كان مولده في ضواحي
خوارزم ، في شهر ذي الحجة عام 362
هـ ، الموافق شهر سبتمبر عام 973 م. وتدل
نسبته على أنه من ضواحي خوارزم ،
لا من المدينة نفسها ، لأن كلمة (
بيرون ) باللغة الفارسية تعني (
الضاحية ) . وقد وهم
شيخنا / ابن أبي أصيبعة حين ترجم
للبيروني ، وقال : هو الأستاذ /
أبو الريحان محمد بن أحمد
البيروني ، منسوب إلى بيرون ،
وهي مدينة بالسند !! ،وتابعه في
ذلك أستاذنا / أحمد أمين . والواقع
خلاف ذلك ، إذ لم يكن أبو
الريحان سندياً ، كما لا نعرف
مدينة في بلاد السند تسمى (
بيرون ) . وفي
تفسير نسبة العلامة / البيروني
إلى ( بيرون ) يقول لنا ( ياقوت
الحموي ) : وهذه النسبة ( أي
البيروني ) معناها : البراني ،
لأن (بيرون ) باللغة الفارسية
معناها ( براً ) ، وسأل ياقوت بعض
الفضلاء عن ذلك ، فزعم أن مقامه
في خوارزم أو بخوارزم كان
قليلاً ، وأهل خوارزم يسمون
الغريب بهذا الاسم ...كأنه لما
طالت غربته عنهم صار غريباً . ويعلق
ياقوت على ذلك قائلاً : وما أظنه
يراد به إلا أنه من أهل الرستاق (
أي السواد أو القرى أو الضواحي
المحيطة بالمدينة ) . وحين
بلغ أبو الريحان العشرين من
عمره ، كان قد عب من بحر العلوم
والمعارف عباً ، وتفتح عقله على
شتى مجالاتها ، فرحل إلى جرجان ،
والتحق فيها ببلاط أميرها /
قابوس بن وشمكير ، الملقب بـ (
شمس المعالي ) ، وكان بلاطه في
تلك الحقبة يحفل بالعلماء
الأعلام ، ومنهم الشيخ الرئيس /
ابن سينا ، الذي تعرف عليه
البيروني واتصل به ، وبهذا اتصل
حبل الود والصداقة والتعاون في
العلم بين العالمين الكبيرين . وفي
بلاط جرجان كتب البيروني كتابه
المهم : ( الآثار الباقية من
القرون الخالية ) ، وأهداه إلى
الأمير / شمس المعالي . وهذا
الكتاب الذي ـ في رأينا ـ يعتبر
أول مؤلفات البيروني ، هذا
الكتاب يبحث ـ أكثر ما يبحث ـ في
تقاويم الأمم القديمة ،
وأعيادها ، ومواسمها ، وموازنة
ذلك بما كان على عهد البيروني ،
وتتخلل هذا كله العديد من
البحوث الفلكية ، والرياضية ،
والفيزيائية المهمة . وإلى
خوارزم عاد أبو الريحان
البيروني حوالي عام 400 هـ = 1010 م ،
عاد إلى مسقط رأسه ، فاستخلصه
لنفسه أميرها / أبو العباس
المأمون بن محمد خوارزم شاه ،
وأصبحت له عند هذا الأمير
الحظوة التي ما بعدها حظوة ،
والقدر الذي لا يدانيه قدر ، إذ
عرف الأمير المأموني للبيروني
العالم مكانته في مضمار العلم ،
فاتخذه مستشاراً خاصاً له ،
وأسكنه معه في قصره ، وكان يبدي
له من مظاهر الاحترام والتقدير
ما لا مزيد عليه . يحكي
لنا ياقوت عن محمد بن محمود
النيسابوري : إن خوارزم شاه دخل
قصره يوماً ـ وكان يركب على
دابته ـ فأمر باستدعاء أبي
الريحان من حجرته ، ولما أبطأ
عليه قليلاً تصور الأمير /
خوارزم شاه ، الأمر على غير
صورته ، فثنى عنان فرسه نحو حجرة
البيروني ، ورام النزول ، فسبقه
أبو الريحان إلى الخروج ،
وناشده الله ألا يفعل ، فتمثل
خوارزم شاه مقولة : ( العلم من
أشرف الولايات ، يأتيه كل الورى
، ولا يأتي هو لأحد ) ، ثم قال : (
لولا الرسوم الدنيوية لما
استدعيتك ، فالعلم يعلو ولا
يعلى عليه ) . عندما
تضطرب الأمور ..! ولأن
دوام الحال من المحال ، فإن أيام
أبي الريحان في بلاط خوارزم شاه
لم تدم ، فسرعان ما اضطربت
الأمور ، وقتل الأمير خوارزم
شاه المأموني ، وسادت بعده فوضى
أدت إلى اضطراب في الإمارة كلها
، مكنت السلطان محمود بن
سبكتكين الغزنوي من الاستيلاء
على خوارزم ، فكان البيروني من
جملة الأسرى مع آخرين من
العلماء ، الذي اتهمهم السلطان /
محمود الغزنوي ( على عادته من
التشدد في الدين ) ، اتهمهم
بالكفر والزندقة ، وأعمل في
بعضهم السيف . وهذا
أسلوب يرفضه الإسلام كل الرفض ،
فالإسلام يشجع العلم والعلماء
،ويطالبنا باحترامهم وتكريمهم
لأنهم ورثة الأنبياء ، ويقرر أن
العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة
في كل زمان ومكان ، ويعلمنا أن
العلماء أكثر عباد الله خشية
لله ، وبدونهم لا يكون رقي الأمم
وتقدمهم . أعود
لأقول لك : كاد البيروني يهلك في
غمرة تلك الأحداث الجسام ، لولا
أن أسعفه الله ـ بل أسعف الله
العلم ـ سبباً خلصه من القتل ،
إذ قال بعض مرافقي السلطان : (
هذا تمام وقته في علم النجوم ،
وأن الملوك لا يستغنون عن مثله .)
، فأبقى عليه السلطان ، وأخذه
معه إلى بلاده . وإن
كانت هناك روايات أخرى نطالعها
في المصادر التي تحدثت عن
البيروني ، روايات عن سبب
انتقال البيروني من بلاط خوارزم
إلى بلاط غزنة ، إلا أن المتفق
عليه الرواية التي ذكرناها لك
آنفاً . ودخل
البيروني الهند مع السلطان /
محمود الغزنوي في فتوحاته في
تلك البلاد التي استمرت إلى عام
415 هـ = 1024 م ، واستحق من أجلها
لقب ( الغازي ) ، ولعله أول من لقب
بذلك في الإسلام ، على حد قول
بعض المؤرخين. وطالت
إقامة البيروني في بلاط غزنة مع
السلطان/ محمود وخلفائه من بعده
، وكانت هذه الفترة أبرز فترات
نشاطه العلمي ، وأحفلها
بالإنتاج الغزير . ويبدو
لنا أن أبا الريحان بعد أن رجع
إلى غزنة من الهند لم يغادر تلك
المدينة منقطعاً إلى القراءة ،
والبحث ، والدرس ، والتجربة ،
والتأليف ، إلى أن توفاه الله
تعالى في الثالث من شهر رجب عام
440 هـ = 13 من ديسمبر 1048 م ، عن عمر
يناهز 78 عاماً . هذا هو
تاريخ وفاة البيروني المتعارف
عليه بين مؤرخي العلم ، غير أن
المستشرق / ( ماكس ماير هوف ) لا
حظ ـ بحق ـ أن البيروني لا يمكن
أن يكون قد توفى قبل عام 1050 م = 442
هـ ، لأن البيروني في كتابه : (
الصيدلة في الطب ) ذكر أنه نيف
على الثمانين سنة ، فإذا صح
ميلاده سنة 362 هـ ، تعين أن يكون
على قيد الحياة في عام 442 هـ ،
وتكون وفاته في تلك السنة أو
بعدها . عن سعة
آفاق علمه : لعل
الطابع المميز لأبي الريحان
البيروني بين العلماء المسلمين
، هو تنوع اهتماماته العلمية ،
واتساع أفاق دراساته ، مع
الإتقان التام ، بل التقدم
والتبريز في كل باب طرقه من
أبواب العلوم المختلفة . فلقد
كان البيروني : طبيباً ، فلكياً
، رياضياً ، جغرافياً ، مؤرخاً ،
عالماً بالطبيعيات ، مقارناً
للأديان ، وكانت له اليد الطولى
في كل هذه العلوم ، مع مشاركة
فاعلة في الفلسفة ، والعلوم
اللغوية ، والأدب ، والشعر ،
والفقه . ولئن
كانت سعة الأفق والموسوعية طابع
كثير من علماء المسلمين في
عصرهم الذهبي ، فلا نبالغ إذا
قلنا : إن البيروني قد بزهم
جميعاً في هذه الناحية ، ليس فقط
في تعدد فنون العلم التي
تناولها بالبحث والدرس
والتأليف ، بل كذلك لمساهمته
مساهمة بناءة في تقدم كل علم من
تلك العلوم ، وتطوره على وجه لا
يتأتى إلا لعالم فذ ، وأستاذ
راسخ القدم في علمه . ونضيف
هنا : أن البيروني امتاز بين
العلماء المسلمين ـ سواء من
معاصريه ، أو سابقيه ، أو لا
حقيه ـ بأنه كان حريصاً كل الحرص
على الاطلاع على ثقافات الأمم
الأخرى من مصادرها الأصلية ،
غير معتمد على الترجمات التي
شاعت في وقته في العالم
الإسلامي ، وبمعنى آخر : فإن
البيروني انفتح بفكره على
الثقافات الأخرى ، يأخذ منها ،
ينقدها ، يصوبها ، يضيف إليها ،
يتقبل فكر الآخر دون رفض مطلق ،
يأخذ من الأخر أحسن ما عنده ،
ويرفض ما لا يتفق مع العقل
والمنطق والعلم ، وما لا يتفق مع
ثوابته الإسلامية ، واضعاً في
الاعتبار أن يقدم للناس العلم
الحقيقي الذي يفيدهم ، وينهض
بهم إلى حياة أفضل بعيدة عن
الجهل أو الخرافة . أقول لك
: لقد درس البيروني من أجل هذا
اللغتين : السريانية ، والعبرية
، كما عني بوجه خاص باللغة
السنسكريتية ، وعن طريقها تمكن
من أن يتعمق في دراسة الثقافة
الهندية بفروعها المختلفة
والتي لم تكن حتى عصره تحظى
بكثير من عناية العلماء
المسلمين . وقد
ظهرت نتائج هذه الدراسات
والأبحاث الجادة العميقة في
كتابه الكبير المهم عن بلاد
الهند ، والذي عنوانه : ( تحقيق
ما للهند من مقولة مقبولة في
العقل أو مرذولة ) ، والذي طبع
لأول مرة في مدينة ليبتزج
الألمانية ، سنة 416 هـ = 1925 م ، في
365 صفحة ، وهذا الكتاب يعد بحق
نسيج وحده في موضوعه ، وفي مادته
، وقد ترجم إلى اللغة
الإنجليزية خلال القرن التاسع
عشر الميلادي ، كما ترجمت أجزاء
منه إلى لغات أخرى ، ولا يزال
حتى وقتنا الراهن كثير الفائدة
لطلاب الدراسات الهندية ، بما
حواه من معلومات واسعة ، ونظرات
تقديرية صائبة تلقي الأضواء
الكاشفة على ثقافة الهند
القديمة : الفلسفية ، والعلمية ،
وقد اشتمل هذا الكتاب على
مجموعة قيمة من المعلومات
والبيانات والأفكار ، لولا
مجهود أبي الريحان البيروني
لكان مصيرها النسيان والضياع . رجل :
العلم محور وجوده : لقد كان
البيروني عالمًا واسع المعرفة ـ
وكما ذكرنا ـ فقد كان جغرافياً
طبيعياً ، ورياضياً فلكياً
حاسباً ، وغيرها من المجالات
التي برع فيها ، وهو وإن لم يكن
صاحب مذهب فلسفي بمعنى الكلمة ،
فقد كان على جانب عظيم من
الثقافة الفلسفية ، خبيراً
بعقليات الأمم ، ونزعاتها ،
والطابع الغالب عليها ، عارفاً
بأديانها ، وبكتبها ، ومميزاتها
، نضيف إلى ذلك : أنه كان صاحب
روح علمية ومنهج علمي ، وكان
واضعاً بحق لأصول طريقة النقد
التاريخي . لقد صحب
البيروني السلطان / محمود
الغزنوي في غزواته لبلاد الهند
، وأقام هناك عشرات السنين ،
ورغم صعوبة اللغة ، وكثرة
الحواجز التي أقامها الهنود
بينهم وبين غيرهم ، فإن
البيروني قد استطاع بفضل الصبر
والدأب أن ينفذ إلى أعماق
تفكيرهم ، ويحيط بأصناف علومهم
ومعارفهم ، ودقائق حساباتهم
المختلفة . وقد دون
البيروني ثمرة هذا كله في كتابه
الذي أشرنا إليه من قبل : ( تحقيق
ما للهند من مقولة ... ) الذي
يعتبر خير ما كتب عن بلاد الهند
، وهذا الكتاب يتضمن بياناً
مفصلاً بعقائد الهنود ، وكتبهم
الدينية ، وآرائهم الفلسفية ،
وآدابهم ، وتاريخهم ، وعاداتهم
، وتقاليدهم ، وأعرافهم ،
وأحوالهم الاجتماعية ، وجملة
معارفهم ، وحساباتهم في التاريخ
، والفلك ، والتنجيم ، كل ذلك
على سبيل تقرير الأشياء كما هي ،
هذا مع مقارنة بين ما عند الهنود
، وعند اليونان ، ومع إشارة إلى
ما عند الصوفية وتأثرهم المعروف
ببعض الآراء والأفكار الهندية
مثل : وحدة الوجود وتناسخ
الأرواح ، وعند بعض أصناف
النصارى الذي يؤكد الباحثون
أنهم تأثروا بفكرة التثليث التي
كانت عن الهنود ، مما يشبه ما
عند اليهود ، كل ذلك نراه عند
الرجل منطلقاً من نظرة صائبة ،
وحكم نافذ ، وعبارة محكمة. ولعل
هذا الكتاب أقرب كتب البيروني
إلى علم مقارنة الأديان ، ومن
أمثلة ذلك حديثه عن اعتقاد
الهنود بتناسخ الأرواح ، وقوله :
إن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار
إيمان المسلمين ، والتثليث
علامة النصرانية ، والأسباب
علامة اليهود ، كذلك التناسخ
بين الأرواح علم النحلة الهندية
، فمن لم ينتحل لم يك منها ولم
يعد من جملتها . ومثال
آخر كلامه عن كيفية الخلاص من
الدنيا ، على رأي الهنود ، فيقول:
إذا كانت النفس مرتبطة في
العالم ( أو بالعالم ) ، ولرباطها
سبب ، فإن خلاصها من الوثاق يكون
بعدم ذلك السبب ... سبب الوثاق هو
الجهل ، وخلاص النفس إذن بالعلم
، وإذا أحاطت النفس بالأشياء
إحاطة تحديد كلى مميز مغن عن
الاستقراء ، تلف المشكوك ،
لأنها إذا فصلت الموجودات
بالحدود عقلت ذاتها ، وما لها من
شرف الديمومة ( الاستمرار ) ، وما
للمادة من خسة التغير والفناء
في الصورة ، فاستغنت عنها ،
وتحققت أن ما كانت تظنه خيراً
ولذة ، هو شر وشدة ، فحصلت على
حقيقة المعرفة ، وأعرضت عن تلبس
المادة ، فانقطع الفعل وتخلصت
بالمباينة . أقول لك
: إن البيروني كان بحق هو كاشف
بلاد الهند ، وبمعنى آخر مكتشف
بلاد الهند من الناحية الثقافية
والاجتماعية ، وكتابه : ( تحقيق
ما للهند ...) أكبر دليل على ذلك ،
نظراً لما فيه من تصور شامل جامع
، ومعرفة مستقصية مستفيضة
للأشياء ، يجب أن يعتبر أهم ما
أنتجه علماء الإسلام في مجال
معرفة الآخر ، وبمعنى آخر معرفة
الأمم الأخرى . لقد
تغلغل حب العلم في نفس البيروني
، حتى كان العلم محوراً لوجوده
ككل ، وهدفاً لحياته ، فعاش يطلب
العلم للعلم ، يطلب العلم من أجل
واقع أفضل لمجتمعه وللبشرية
جمعاء ، لذلك كان البيروني
مكباً على تحصيل العلوم
والمعارف ، منصرفاً إلى تصنيف
الكتب لا يكاد يفارق يده القلم ،
وعينه النظر ، وقلبه الفكر ، على
حد قول النيسابوري عنه . كما كان
يضع في أبحاثه العلمية روحه
كلها ، ولم يكن يقوم بعمل من
الأعمال إلا مخلصاً فيه الإخلاص
كله ، لوجه الحق والعلم
والإنسانية ، وحسبنا دليلاً على
مقدار تشبع هذا العالم النادر
المثال بحب العلم والمعرفة
الموسوعية، ما يرويه لنا ( ياقوت
الحموي ). يقول
ياقوت : لقد دخل النيسابوري على
أبي الريحان البيروني ، وهو
يجود بنفسه ( يحتضر) ، وقد تحشرج
نفسه ، وضاق به صدره ، فقال له في
تلك الحال : كيف قلت لي يوماً
حساب الجدات الفاسدة ؟ ، فقال له
إشفاقا عليه : أفي هذه الحالة ؟ ،
قال له : يا هذا ، أودع الدنيا ،
وأنا عالم بهذه المسألة ، ألا
يكون خيراً من أن أخليها ، وأنا
جاهل بها .. !! فما كان
من النيسابوري إلا أن أعاد عليه
شرح المسألة ، وحفظه إياها ،
وعلمه لها ، وخرج من عنده ، وهو
في الطريق ، سمع الصراخ ، ونعي
الناعي.. فما ظنك
برجل يحتضر على فراش الموت ، فلا
يلهيه ما هو فيه عن العلم
والمعرفة ، ولا يدع زائره دون أن
يسأله عن مسألة من مسائل علم
المواريث ، وعنده أن يودع
الدنيا الفانية وهو عالم بتلك
المسألة ، خير من أن يموت وهو
جاهل بها ، فيشرحها له صاحبه ،
وما أن يخرج من عنده حتى ترتفع
روحه إلى باريها ، تلك الروح
الطيبة المدلهة بحب العلم
والمعرفة والبحث ، فيسمع صاحبه
العويل عليه ، وهو في الطريق .. !! أين
الآن نجد مثل هذا العالم الجليل
العاشق للعلم ، وهو على فراش
الموت.. ؟ !! عفة نفس
، وحب للعلم الحق : نقول :
ومن كانت هذه حاله مع العلم ،
فإنه لا شك لا يمارسه ليتقرب به
إلى الملوك والحكام ، ولا
ليكتسب به الجاه والشهرة
والأضواء الزائفة عند الناس ،
وهكذا كان البيروني مستغنياً عن
السلطة والسلطان ، وما عندهم من
جاه أو مال ، غير مبال بأن يفوز
من عامة الناس ، أو يشتهر عندهم
بالعلم. أما
استغناؤه عن الملوك والسلاطين ،
وزهده فيما لديهم ، فحسبك ما جرى
له مع السلطان / مسعود بن محمود
الغزنوي ، حين ألف له كتابه
المحيط بأوائل علم الفلك
وأواخره ، والمعنون بـ ( القانون
المسعودي في الهيئة والنجوم ) ،
فلقد أجازه السلطان بحمل فيل من
نقده الفضي ، فلم يقبل البيروني
تلك الصلة السنية التي تتناهى
دون بعضها آمال كثيرين من الناس
، ورد المال إلى الخزانة شاكراً
بعذر الاستغناء عنه . أما عدم
اكتراث البيروني بما يقوله
الناس عنه ـ ما دام قد أرضى
ضميره ، وأخلص لوجه العلم
النافع للناس ـ فشاهدنا على ذلك
ما رواه أحد تلاميذه ، حيث يقول :
كان من عادة شيخنا الأستاذ
الرئيس ( رحمه الله ) ، إذا أمر في
كتبه من مؤامرات الأعمال لم يجئ
بالمثال ، وإذا جاء على النزر
منه جاء بالطرق المنغلقة ،
والألفاظ الفصيحة البعيدة عن
التفهم . وقد
سأله هذا التلميذ عن ذلك ، فقال
له سبب ذلك :أنه يخلي تصانيفه من
المثالات ليجتهد الناظر فيما
أودعه فيها متى كان له دراية
واجتهاد ، وهو محب للعلم ، ومن
كان من الناس على غير هذه الصفة
،فلا يبالي به ، فهم أو لم يفهم ،
فعنده سواء .. !! هذا ،
وقد ورد هذا الكلام ضمن كتاب
البيروني ( الآثار الباقية من
القرون الخالية ، ص 71 ، مقدمة
الناشر ) ، وكما أسلفنا فإن هذا
الكتاب طبع بعناية المستشرق /
سخاو ، سنة 1923 م ، في مدينة
ليبتزج الألمانية . تأملات
في النقد التاريخي عند البيروني
: إن كتاب
( الآثار الباقية من القرون
الخالية ) من كتب البيروني
الأولى ، وبمعنى آخر تعد ثمرة
مبكرة رائعة لعبقرية البيروني
العلمية ، فقد ألفه حوالي عام 390
هـ ، وهو لم يبلغ بعد الثلاثين
من عمره ، وفي هذا الكتاب عرض
علمي للمناهج التاريخية
والتقويمية والحسابية لمعظم
الأمم ذات الحضارة في المشرق ،
مع كل ما يتصل بذلك من وسائل
فنية وتاريخية . ويتجلى
في هذا الكتاب سمو عقل البيروني
، واهتمامه بما يليق بالعلماء
الحقيقيين الجادين ، من كد
الذهن في ضبط حسابات الأمم
وتقاويمها ، كما تتجلى روحه
العلمية ومنهجه في البحث في
الطبيعة ( العلوم الطبيعية ) ،
وفي التاريخ بوجه عام . ويمكن
للباحث أو الدارس عندما يقرأ
كتاب ( الآثار الباقية )
للبيروني أن يقارن ما يقوله
الرجل في هذا الباب بكلام
المؤرخين قبله وبعده . وسوف
نحاول أن نذكر لك أمثلة قليلة من
كلامه ، لنبين أصول النقد
التاريخي عنده :ـ المثال
الأول : يقول
البيروني فيما يتعلق بتمحيص
أخبار الأمم : أنه لا سبيل إلى
التوسل إلى ذلك من جهة
الاستدلال بالمعقولات والقياس
بما يشاهد من المحسوسات ، سوى
التقليد لأهل الكتب ، والملل ،
وأصحاب الآراء والنحل ، وتصيير
ما هم فيه مما يبنى عليه بعده ،
ثم قياس أقاويلهم وآرائهم في
إثبات ذلك بعضها ببعض ، بعد
تنزيه النفس عن العوارض المردية
لأكثر الخلق ، والأسباب المعمية
لصاحبها عن الحق ، وهي : كالعادة
المألوفة ، والتعصب ، والتظافر
، واتباع الهوى ، والتغالب
بالرئاسة ، وأشباه ذلك ... المثال
الثاني : ويواصل
شيخنا البيروني حديثه العلمي
قائلاً : ليست الأخبار كلها
داخلة في حد الامتناع فتميز
وتهذب ، لكن ما كان منها في حد
الإمكان جرى مجرى الخبر الحق ،
إذا لم تشهد ببطلانه شواهد أخرى
، بل قد يشاهد وشوهد من الأحوال
الطبيعية ما لو حكى عن زمان بعيد
عهدنا به لثبتنا الحكم على
امتناعها ، وعمر الإنسان لا يفي
بعلم أخبار أمة واحدة من الأمم
الكثيرة ، علماً ثاقباً فكيف
بعلم أخبار جميعها ؟ ... المثال
الثالث : ويقول :
وكل ما يتعلق ببدء الخلق وأحوال
القرون السالفة فهو مختلط
بتزويرات وأساطير لبعد العهد به
، وامتداد الزمان بيننا وبينه ،
وعجز المعتني به عن حفظه وضبطه ،
وقد قال الله تعالى : { ألم يأتهم
نبأ الذين من قبلهم لا يعلمهم
إلا الله } ... المثال
الرابع : يقول :
لا يليق بطريقتنا التي أسلفناها
أن نضيف الشك إلى اليقين ،
والمجهول إلى المعلوم . إن
قراءة كتاب ( الآثار الباقية )
تكشف لنا عن تقاويم وتاريخ
الأمم السالفة ، في نفس الوقت
الذي يكشف لنا عن منهج البحث
التاريخي عند البيروني ، مما
يسمح للباحث المهتم بتطور
المناهج التاريخية في الفكر
الإسلامي أن يعقد مقارنة بين
منهج البيروني التاريخي ومنهج
الذين سبقوه ، أو جاءوا بعده ،
وكنا نود الخوض أكثر في هذه
المسألة ولكن المجال لا يسمح . تعليق
وتعقيب : قبل أن
نشير إلى النقد التاريخي عند
البيروني ، كنا في الجزئية
السابقة ، نبرهن على عدم اكتراث
البيروني بما يقوله الناس عنه ،
ما دام قد أرضى ضميره وأخلص لوجه
العلم والمعرفة ، وذكرنا ما
رواه أحد تلاميذه ، وعرفنا من
كلام هذا التلميذ أن البيروني
كان يخلي مؤلفاته من الأمثلة أو
يأتي بالقليل منها ، من أجل أن
يجتهد القارئ فيما أودعه
البيروني في كتاباته ، متى كان
للمطالع دراية واجتهاد ، وحب
للعلم ، أما إذا كان القارئ على
غير هذه الصفات ، فعالمنا
البيروني لا يبالي به ولا يهتم ،
سواء فهم ما كتب أو لم يفهم ..!! ولنا
على هذا الكلام تعقيب بسيط : إن
العالم لا ينبغي له أن يتجاهل
القارئ بأي شكل من الأشكال ، ولا
يصح بحال من الأحوال أن يغض
الطرف عنه تماماً ، زاعماً أنه
من المحتم أن يصعد القارئ إلى
تفكيره وبالتالي عليه أن يفهم
كل ما يكتب ، أو يقول العالم أو
الكاتب : أنني أكتب لخاصة
المتخصصين ، وليس لي شأن بعامة
القراء.. وفي
رأينا : إن دور العالم الحق أن
يقيم جسراً قوياً بينه وبين
القارئ ، فيكتب له قدر طاقته
وإمكاناته ، إسلوباً سهلاً
مفهوماً ، فيعلمه العلم ،
ويفيده ويرتقي به إلى الأحسن
والأفضل . الأسلوب
العلمي عندنا هو الذي يعرض
الحقائق من علمية أو تاريخية أو
اجتماعية ، عرضاً يلتزم الصدق
والواقع في غير تأنق ، أو قصد
إلى أداء لغوي خاص ، أو تعبير
يعتمد على وسائل الخيال بقصد
التأثير والإمتاع . وغني عن
البيان أن الأسلوب العلمي هو
أداة العالم في تقرير الحقائق ،
بينما الأسلوب الأدبي هو أداة
الأديب في التعبير بغية التأثير
والإمتاع ونقل المشاعر . والأسلوب
العلمي له عدة خصائص منها : أن له
عنصرين فقط هما : التفكير
والتعبير ، وإنه يقف عند أداء
الحقائق المحايدة ، وهو يستخدم
العبارات المحددة الواضحة في
معناها ، ويعتمد على الفكر
المستقيم ، لأنه يخاطب العقل
وحده ، وهو يستخدم بعض
المصطلحات والمفاهيم العلمية ،
ويتجنب التصوير الخيالي ... ويزعم
كاتب هذه السطور أن البيروني في
كتاباته التي عدنا إليها ، قد
اقترب إلى حد كبير من هذه
الخصائص التي من الواجب توافرها
في الكتابة العلمية . نضيف
إلى ذلك أن الكاتب العلمي عليه
أن يلتزم جمال الأسلوب قدر
الإمكان ، والجمال يأتي من
سهولة العبارة ، وحسن اختيار
الكلمات ، والدقة في تقرير
الحقيقة .. وبذلك
يفهمه الناس ، فالكاتب في أي
زمان أو مكان من الناس ، وهو
يكتب للناس ، وعليه فيجب أن
تفهمه الناس ، وإلا فلماذا يكتب
أصلاًَ ..؟ ! دفاعاً
عن العروبة : برغم
العرق الذي كان يمت بالبيروني
إلى الفرس ، فإنه كان عربي
الثقافة ، عربي الروح ، عربي
العصبية ، لا يدين بالولاء إلا
للعروبة والإسلام ، ولا يرضى أن
ينسب إلى غير العرب والمسلمين . والبيروني
هو القائل في كتابه ( الصيدنة )
أو الصيدلة في الطب ) : الهجو
بالعربية أحب إلي من المدح
بالفارسية .. !! ويقول
في نفس الكتاب : ديننا والدولة
عربيان توأمان ، يرفرف على
أحدهما القوة الإلهية ، وعلى
الأخر اليد السماوية ، وكم
احتشدت طوائف من التوابع ... في
إلباس الدولة جلابيب العجمة ،
فلم يتفق لهم في المراد سوق ،
ومادام الآذان يقرع آذانهم كل
يوم خمساً ، وتقام الصلوات
بالقرآن العربي المبين خلف
الأئمة صفاً صفاً ، ويخطب به لهم
في الجوامع بالإصلاح ... كانوا
لليدين وللفم ، وحبل الإسلام
غير منفصم ، وحصنه غير منثلم .. أرجو أن
يراجع القارئ المفضال ما سبق
ذكره من سطور ، والتي اقتبستها
من كتاب ( الصيدلة ) للبيروني ،
وبعد ذلك يقول لي : أهذا الرجل
يمكن أن يتعاطى الإلحاد ، أو يصل
إلى مرتبة الإلحاد ، أو يكون من
الملحدين ، كما كتب البعض ؟ !! ليس
شعوبياً .. وبناءاً
على ما تقدم نرى أنه لا يمكن بأي
وجه من الوجوه أن يصح أيضاً ما
قاله الأستاذ / فيليب حتى ، من أن
البيروني كان ممن تزعموا معسكر
الشعوبية ضد المعسكر العربي .. !! وفي
الواقع أنه إذا راجعنا مفهوم
الشعوبية ، وتطوره التاريخي ،
وتعرفنا على الداعين إليها ، و
دورهم ، سوف نتأكد تمام التأكد
من أن البيروني عالمنا الموسوعي
لم يكن من أهل الشعوبية ، ولم
يكن في يوم من الأيام من الداعين
إليها ، فالرجل عالم جليل ، يفهم
جيداً معنى المنهج العلمي
وأصوله ، ويرفض كل الرفض أي نوع
من أنواع الهوى أو الميل أو
التعصب أو التحيز ، وبمعنى آخر
فإن كل هذه الآفات محال أن
تتواجد في العالم الحق . ولماذا
تعصب للعربية ؟ يعلق
الأستاذ / لويس ماسينيون على
تعصب البيروني للغة العربية ،
فيذهب إلى أن الرجل تعصب لهذه
اللغة بوصفها ـ بين اللغات
السامية ـ أهم لغة حضارية ( أو
لغة حضارة ) ، فقد أدرك مقدرتها
على التركيز والتجريد ، ومدى
ثرائها عن طريق الاشتقاق بدلاً
من الزوائد ، وكذلك قيمتها
ودورها في توحيد المتكلمين بها
.. ونحن لا
نشك ـ وهذا موقف البيروني من
العربية والعروبة ـ في أنه لو
عاش إلى أيامنا هذه لكان يدهش كل
الدهشة من تنازع الأمم المختلفة
إياه ، وتنافسهم على أنه منهم ،
أي على ادعائه ، فالترك يعدونه
تركياً ، والإيرانيون يحتفلون
به بوصفه إيرانياً ، والروس
يرون أنه ينتمي إليهم بحكم
مولده في خوارزم التي تقع في
جمهورية تركستان التي كانت
تابعة للاتحاد السوفيتي السابق..
!! عندما
يعرف أهل العلم فضله : وقد عرف
معاصروا البيروني فضله جيداً ،
وقدروا سبقه في مختلف العلوم حق
قدره ، فذاعت شهرته في حياته ،
وصار يعرف بين علماء عصره
باللقب الذي انفرد به ، وهو "
الأستاذ " كما كان معاصره،
وقرينه في الشهرة العلمية "
ابن سينا " يعرف بلقب "
الرئيس " ، وهما لقبان إذا
أطلقا من غير إضافة كانا كافيين
للدلالة على شخصي البيروني وابن
سينا كدلالة الأسماء سواء بسواء
. وكما
كان أبو الريحان البيروني يعرف
في المشرق بلقب الأستاذ كان
يعرف لدى الغربيين في القرون
الوسيطة باللقب نفسه مضافاً إلى
اسمه مُحرفاً ، فهو عندهم "
الأستاذ البيرون " كما تجده
في الكتب اللاتينية لذلك العهد . وعالم
مثل أبي الريحان البيروني في
سعة آفاق وعلمه ، وتعدد مناحيه ،
يصعب على الباحث ـ مهما كانت
إمكاناته البحثية ـ الإلمام بما
أحرزه العلم على يده من تقدم
وازدهار ، وما حقق في مختلف
الميادين من سبق علمي . وإذا
كنا في هذه السطور سوف نقتصر على
إلقاء الضوء على إسهام البيروني
في علم مقارنة الأديان ، فتلك
إشارات قليلة تدل على ما وراءها
من كنوز خبئيه من مؤلفات
البيروني ـ ما نشر منها ، وما لا
يزال ينتظر من أهل الاختصاص
الدراسة والتحقيق والنشر . والحق
ما قاله المستشرق / ساخاو ، ناشر
كتب البيروني في القرن التاسع
عشر ، من أن تقدير أبي الريحان
حق قدره ، والاعتراف بكل فضله ،
يحتاج إلى عمل أجيال من
الباحثين ينكبون على تراثه
العلمي بحثاً ودراسة ، وتحقيقاً
. يقول
البعض : إن البيروني كان شيعياً
، وهذا أمر لا يعنينا في شئ ،
فمسألة شيعي أو سني لا يصح الخوض
فيها ، فكيف نترك علم الرجل ،
وفلسفته ، وأبحاثه الرياضية
والفلكية والجغرافية
والتاريخية ، وأبحاثه في الأدب
واللغة ومقارنة الأديان ، ونشغل
أنفسنا بالبحث في مسألة هل كان
البيروني شيعياً أم سنياً؟ ألا
يكفي أن نعرف أن الرجل كان
مسلماً ، مدافعاً عن العروبة
والإسلام ؟ . مؤلفاته
: وعالم
له سبقه في أبواب العلوم
العديدة التي طرقها ، لا بد أن
تكون قائمة كتبه حافلة بالعدد
الجم من المؤلفات . وفي هذا
الصدد يقول ياقوت الحموي في
كتابه : " معجم الأدباء "
بعد أن يمهد بتبرير إدراجه
ترجمة هذا العالم في كتابه "
معجم الأدباء " إنما ذكرته
أنا ها هنا ، لأن الرجل كان
أديباً ، أريباً لغوياً ، له
تصانيف في ذلك ... وأما
سائر كتبه في علوم النجوم ،
والهيئة ، والمنطق ، والحكمة ،
فإنها تفوق الحصر ، رأيت فهرسا
لها في وقف الجامع بمرو في حوالي
ستين ورقة بخط مكتنز. وقد
استأنف في عصرنا هذا حصر كتب أبي
الريحان ، ومؤلفاته الأب / جاك
بوالو الدومنيكي ، فتتبعها في
مظانها ، ما بين مطبوع ومخطوط ،
وما بين موجود ومفقود ، فخرج
بقائمة ببليوجرافية ، تحوي ( 180 )
عنواناً ، وذكر كل مؤلف منها
مشيراً إلى موضوعه ، وإلى مكانه
إن كان مخطوطاً ، وطباعته إن كان
مطبوعاً . كما سرد
المراجع التي تشير إلى كل كتاب
منها أو تتناوله بالشرح أو
الترجمة ، أو التعليق . وختم
هذه الببليوجرافية الحافلة
بجداول صنف فيها كتب أبي
الريحان البيروني بحسب فنون
العلم المختلفة التي تناولها ،
وحصر المخطوطات وأماكن وجودها
...إلى غير ذلك من الجداول
المفيدة المهمة للدارس والباحث
. عبقرية
علمية : وفي ضوء
سطورنا المتواضعة السالفة عن
البيروني ، فلا عجب إذا رأينا
اسم البيروني قمة شامخة لا
تطاول في تاريخ العلم والمعرفة
، ترنو إليها الأبصار ، وتقر
بفضلها الألسنة . وعليه
فلا مبالغة الباتة في قول
المستشرق / ( إدوارد ساخاو ) عن
أبي الريحان : إنه من أضخم
العقول التي ظهرت في العالم ،
وإنه أعظم علماء عصره ، ومن أعظم
العلماء في كل العصور . وقد
ذكرنا لك من قبل حصرًا كتب
البيروني ومؤلفاته التي قام بها
الأب / جاك بوالو الدومنكي ،
والذي شغل منصب رئيس دير
الرهبان الدومنكيين بالقاهرة ،
وعمل كمدير لمعهدهم للدراسات
الشرقية ، وهو كاتب مقالة (
البيروني ) في الطبعة الجديدة من
دائرة المعارف الإسلامية ، فقدم
العديد من الجوانب الرائعة
والمضيئة عن شيخنا الأستاذ /
البيروني ، وإنجازاته العلمية . ونذكر
ما قاله المستشرق ( ماير هوف ) :
إن اسم البيروني أبرز اسم في
موكب العلماء الكبار ، واسعي
الأفق ، الذين يمتاز بهم العصر
الذهبي للإسلام . وكذلك
قول الأستاذ / فيليب حتى : إن
البيروني يعد أعمق المفكرين
المسلمين ، وأكثرهم أصالة في
ميدان العلوم الطبيعية
والرياضية . كما لخص
الأستاذ / جورج سارتون مكانة
البيروني العلمية في عبارة
وجيزة ، إذ قال في كتابه المعروف
" المدخل في تاريخ العلم " :
إن النصف الأول من القرن الحادي
عشر للميلاد ، يمثله ـ من وجهة
نظر العلم العالمي ـ البيروني ،
أكثر مما يمثله ابن سينا . ويقول
المستشرق الأمريكي / ( آرثر
إيهام بوب ) : في أية قائمة تحوي
أسماء أكابر علماء الدنيا ، يجب
أن يكون لأسم البيروني مكانه
الرفيع ، وغير ممكن أن يكتمل أي
تاريخ للرياضيات أو الفلك أو
الجغرافيا ، أو علم الإنسان ، أو
مقارنة الأديان ، دون الإقرار
بمساهمته العظيمة في كل علم من
تلك العلوم . ويواصل
( آرثر ) كلامه عن أبي الريحان
البيروني ، فيقول : لقد كان
البيروني من أبرز العقول
المفكرة في جميع العصور ، وكان
يتميز بالصفات التي تعد جوهرية
، والتي تخلق العالم ،
فالبيروني بذلك مظهر من مظاهر
الشمول وعدم التقيد بالزمن ،
شأن العقول العظيمة ، وأنه لفي
الإمكان تجميع عدد كبير من
الاقتباسات عن مؤلفات البيروني
، كتبها منذ ألف سنة ، وهي تستبق
الكثير من المناهج الحديثة ،
ومن المواقف العقلية التي يفترض
اليوم أنها حديثة .. ولعلنا
لا حظنا معاً إشارة الباحث
الأمريكي ( آرثر إيهام بوب ) إلى
دور البيروني في علم مقارنة
الأديان ، وقليلاً ما نجد
الكتاب أو الباحثين الذين كتبوا
عن البيروني يشيرون إلى دوره
وسبقه في دراسة علم الأديان
المقارن ، وهو ما دفعنا إلى
كتابة هذه الصفحات . أعود بك
ـ أيها القارئ المفضال ـ لأقول :
إن هذا التقدير العالي ،
والعالمي الذي يتمتع به الأستاذ
/ البيروني لدى العلماء
والبحاثة ومؤرخي العلوم في
القديم والحديث ، والذين
تناولوا بعض إنجازاته لا كلها ،
تجلى في صورة مجسمة على يد جامعة
موسكو الروسية ، والتي يضم
متحفها الجيولوجي تمثالاً
نصفياً للبيروني مع تماثيل بقية
العلماء الكبار الذين ساهموا في
إبداع ذلك العلم . والزائر
لتلك الجامعة ، في مبناها الفخم
الضخم المطل على مدينة موسكو
عبر نهر ( الموسكفا ) تطالعه في
المتحف الواقع في الطابق الثامن
والعشرين صورة البيروني في
تمثاله ، وهذه علامة تقدير تضاف
إلى كل ما سبق أن ناله أبو
الريحان من إقرار العلماء له
بالفضل في مشارق الأرض ومغاربها
. كما كان
تراث البيروني العلمي محل
اهتمام خاص من المحافل العلمية
في شتى بقاع الدنيا ، ولعل
المتقدمين في العمر من أمثالي
قد يتذكرون أنه بمناسبة مرور
ألف عام هجرية على مولد العلامة
/ البيروني ، أصدرت أكاديمية
العلوم في الاتحاد السوفيتي (
سابقاً ) مجلداً كبيراً عنوانه :
( البيروني ) ، وهو يحوي مجموعة
مهمة من الأبحاث والمقالات
والدراسات لعدد كبير من الكتاب
والبحاثة ، نذكر منهم على سبيل
المثال لا الحصر : الأستاذ / لويس
ماسينيون ، والمستشرق الأمريكي
/ آرثر بوب . ونذكر
أن إصدار هذا المجلد القيم كان
تحت إشراف المستشرق الروسي / س. ب
. تولوستوف ، وقد نشر هذا المجلد
في كل من ( موسكو ) و ( لينينجراد)
، عام 1950 م ، في 139 صفحة . كما صدر
في الهند مجلد قيم آخر في عام 1951
م ، تحت عنوان :" المجلد
التذكاري للبيروني " نشر في
مدينة ( كلكتا ) الهندية ، حاوياً
( 21 ) بحثاً بلغات مختلفة :
الإنجليزية ، والفرنسية ،
والإيطالية ، والأردية ... وساهم
في كتابة هذه البحوث العديد من
العلماء والمستشرقين ، وتتناول
هذه الأبحاث التي تميزت
بالمنهجية العلمية ، جهود
البيروني وأثره الكبير في : علم
الهيئة ( الفلك) ، والجغرافيا
الوصفية ، والدراسات الهندية ،
وعلم حساب المثلثات ،
والجغرافيا الرياضية ، يضاف إلى
ذلك بعض إشارات إلى جهوده في علم
مقارنة الأديان ، فضلاً عن
ترجمة حياة البيروني ، وبيان
مكانته المحترمة في تاريخ العلم
بوجه عام. و
أحب أن أشير إلى الدراسة الجادة
التي كتبها الأستاذ / جمال مرسي
بدر ،عن البيروني ، والتي نشرت
في دائرة معارف الشعب ، العدد 82
، سنة 1960 م ، وكذلك الدراسة التي
كتبها الأب / جاك بوالو الدومنكي
، عن البيروني ، والتي نشرت في
دائرة المعارف الإسلامية ، وقد
استفدنا من هاتين الدراستين ،
ومن غيرهما ، ونحن نلقي أضواءً
كاشفة على شخصية البيروني ،
وعطائه العلمي المتفرد ، فجزى
الله خيراً كل من اجتهد وكتب
كلمة خير عن علمائنا الأجلاء
الذين خدموا العلم والمعرفة ،
فلعلهم يقدمون بذلك مثلاً أعلى
وقدوة صالحة تحتذي لشبابنا الذي
افتقد القدوة في أيامنا هذه . والله
ولي التوفيق ــــــــ *باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |