ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين  13/10/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


موقف الإسلام من البحث العلمي وحرية الرأي والتعبير

(رؤية مقارنة)

بقلم : يسري عبد الغني عبد الله*

حرية الرأي في الدساتير الحديثة

من المبادئ المستقرة في الدساتير الحديثة في أغلب الدول ، ما تقرره تلك الدساتير من كفالة حرية الرأي والتعبير عنه بكافة الوسائل ،وكذلك حرية البحث العلمي وكفالته وتشجيعه .

وبمعنى عام فإن هذه المبادئ تدعو إلى حرية الإنسان في التفكير والبحث وإبداء رأيه والتعبير عنه بكافة الوسائل.

غير أننا نلاحظ دائماً أن هذه الحرية المكفولة ، تتقيد بعدمالمساس أو الإضرار بالفرد أو بالجماعة ، بمعنى أن لا يكون في ممارستها ما يتضمن إخلالاً بحقوق الآخرين (فكل إنسان حر ما لم يضر) ، مما يعتبر جرائم في نظر القانون وحسب ما يقرره .

ولذلك فإن النصوص الدستورية التي تقرر هذه المبادئ ، تحرصدائماً على الإشارة إلى أن ممارسة حرية الرأي والتعبير تكون في حدود القانون .[عمر الشريف ، مذكرات في نظام الحكم والإدارة في الدولةالإسلامية ، ص153 ، بتصرف ] .

وفي رأينا : أن الذي يقرر نطاق هذه الحريات ومداها يتأثر دائماً بالمناخ الذي يسيطر على الدولة ، مما يكون له أثره على عمل المشرع فيالإقلال أو التوسعة في الضوابط والقيود ، وكذلك يكون له أثره على السلطة التنفيذية فيما تمارسه من رقابة على تطبيق المبدأ وضوابطه متأثرة ولا شك في عملها باعتبارات السلامة الوطنية ، ولكن تحت رقابة الرأي العام .

على كل حال فإن العبرة دائماً بالتطبيق وليس بالنصوص القانونية والدستورية ، فمبادئ حرية الرأي والتعبير وكفالة البحث العلمييجب أن تتأكد ، فهي حق مشروع لكل مواطن .

إن لكل إنسان الحق في أن يعبر عن رأيه ، ولكل إنسان حقه في نشر رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير بشرط ألا يسئ إلى الآخرين بشكل أو بأخر ، ومن حق أي إنسان أن ينتقد نقداً ذاتياً ، نقداً بناءاً بهدف صالح الوطن ، وضماناً لسلامة البناء الوطني .

كما أن حرية الصحافة والطباعة ووسائل الإعلام يجب أنتكون مكفولة ، والرقابة على الصحف يجب أن تكون محظورة ، كما أن إنذار أو وقف أو إلغاء الصحف بالطريق الإداري ضد حرية الكلمة والتعبير .

وإن كان البعض يقول : أنه يجوز الإستثناء في حالة إعلانالطوارئ أو زمن الحرب ، بمعنى أنه من الممكن أن تفرض على الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام رقابة محددة في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومي ، وذلك وفقاً للقانون .

وهناك في وقتنا الراهن الكثير من أهل الفكر والرأي ،ينادون ويطالبون بإطلاق الحريات العامة في جميع مجتمعاتنا العربية والإسلامية , كما يدعون إلىإلغاء حالات الطوارئ ، والقوانين الاستثنائية سيئة السمعة.

كما يدعون إلى ضرورة إجراء إصلاحات سياسية ودستوريةوقانونية جذرية ، كذلك يطالبون بإطلاق حرية الصحافة التي يجب أن تكون بحق منارة للإرشاد والتعليم والتوجيه والتثقيف والتنوير ، وأن تكون بحق معبرة عن كل فئات المجتمع ومشاكله وطموحاته وآماله وأحلامه .

وفي رأينا أن حرية التعبير وإطلاقها يجب أن ترتبطبتقنين ضماناتها ، وحماية أهل الرأي والفكر من أي اضطهاد أو عسف ، مع إطلاق حرية النشر ، في نفس الوقت الذي نطالب فيه أصحاب الرأي والفكر وحملة الأقلام بضرورة الالتزام بأمانة وشرف الكلمة ، والإدراك الحقيقي للحرية المسئولة ، والبحث عن الحقيقة من أجل الصالح العام ، وتحري الدقة , والحوار بالتي هي أحسن ، واحترام الخصوصية .

ولعل القارئ يتفق معنا في أن كل ما دعونا إليه ، وطالبنا به لا يتعارض بشكل أو بأخر مع تعاليم ومبادئ الإسلام ، الإسلام الذي يؤكد هذه الحريات ويدعمها ، بعيداً عن فرض أي قيد , وسوف نوضح ذلك في السطور التالية.

حرية الرأي من المنظور الإسلامي

لقد كفل الإسلام حرية الرأي ، بل إن حرية إبداء الرأي لم تكن في نظر التشريع الإسلامي مجرد حق للفرد ، بل أنها ترقى في بعض الأحيان إلى مستوى الواجب الذي عليه أن يقوم به .

وآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية المطهرة حافلة بما يؤكد هذه الحرية .

فالقرآن الكريم يدعو الناس جميعاً إلى النظر والتفكر في خلق السموات والأرض , ويعلن أن في نزول الماء من السماء ما تحيا به الأرض بعد موتها تلك آيات لقوم يعقلون ، ويدعو الناس إلى النظر والتأمل في ملكوت الله ومخلوقاته .

كما أن القرآن الكريم يدعو الناس إلى ضرورة أن يعبروا عن رأيهم ، بمعنى أن يكون لهم دوراً إيجابياً فاعلاً في الحياة.

يقول الله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [آل عمران : 104] .

ومعنى (لتكن منكم أمة) قيل : من هنا للتبعيض ، أي وليقم بعضكم بالأمر بالمعروف , وقيل : بل هي للتبيين أو التوضيح ويكون المعنى كونوا أمة يأمرون بالمعروف ... وعلى كل حال فإن المعنى الإجمالي هنا : ولتقم منكم طائفة بالدعوة إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

ويقول سبحانه وتعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .} [النحل : 125] .

والمعنى: ادع يا محمد إلى طريق ربك بالحكمة المشفوعةبالأدلة المقنعة ، والموعظة الحسنة المستندة إلى العبر المؤثرة ، وجادلهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن طريقه ، وهو أعلم بالمهتدين .

ويؤكد الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم ) على هذا المبدأ حين يقرر بأن الدين النصيحة ، وبأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر .

كما يشجع الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الاجتهاد الذي لا يقفلبابه أبداً ، وعلى إبداء الرأي دون أدنى خوف من مغبة الخطأ ، فيقرر أن المجتهد مأجور , وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر ، ومن اجتهد فأصاب فله أجران ،في نفس الوقت الذي كرم فيه الإسلام أهل العلم والعلماء , ومن المفترض أنهم أولى بالاجتهاد والاستشارة وتقديم الرأي الصواب لصالح الأمة .

والإسلام لا يقيد الاجتهاد , ولا يغلق أبوابه ، أما بالنسبة للرأي في المسائل الدينية فعلى المجتهد أن يلتزم التزاماً تاماً بما ورد في التشريع الإسلامي من ثوابت ومن أحكام قطعية وأصول ومبادئ عامة تعتبر من أركان الدينوالشريعة , أما بالنسبة للمسائل الدنيوية فلا يصح أن نقيد الرأي فيها إلا بعدم الوصول إلى حد ارتكاب الجريمة أو الدعوة إلى الفتنة . [عبد الحميدمتولي ، مبادئ نظام الحكم في الإسلام ، ص 708 ، وما بعدها ، بتصرف ] .

وقد عني الخلفاء بتشجيع الاجتهاد الشرعي والبحث العلمي ، فازدهرت في ظل دولة الإسلام دولة العلم والحضارة ، ولم يدخر الخلفاء وسعاً في تشجيع العلماء والإنفاق على تحصيل العلوم والمعارف .

ويشير المستشرق / ريسلر إلى سيطرة الإسلام أثناء 500 عام من سنة 700 م إلى سنة 1200 م على العالم بالقوة والعلم ، وبتفوقحضارته ، وأن الخلفاء كانوا قد وضعوا في المقام الأول انتشار الآداب والفنون والعلوم .

كما يشير نفس المستشرق إلى أن الثقافة في العالم الإسلامي ارتقت إلى درجات العرش (أي الخلفاء أنفسهم) فكان الخلفاء يناقشون في أفكار أرسطو وأفلاطون في الوقت الذي كانت فيه طبقة الأشراف في الغرب الأوربي تتباهى بعدم معرفتها القراءة . !! [ريسلر ، الحضارة العربية ، ص 82 ، بتصرف .]

استثناء لا قاعدة

وإنه وإن بدا في بعض عهود الإسلام مقاومة لحرية الرأي والفكر فإنما كان ذلك في فترات معينة ، وكان في الغالب ينطلق من خلفيات أمور سياسية أو صبغت بالصبغة السياسية ، أما مجال الرأي والبحث العلمي البحت فقد كان محل تقدير وتشجيع مستمر من كافة المستويات .

ولا شك أن الحالات الظاهرة في التاريخ الإسلامي التي جرى فيها اضطهاد للعلماء نتيجة إبداء رأي معين إنما كان لأسباب سياسية صرفة .

مثال على ذلك : الإمام / مالك بن أنس أضطهد في زمنالمنصور العباسي عندما أفتى بعدم لزوم بيعة المكره ، وقد رأى المنصور فيها دعوة إلى التمرد عليه .

والإمام / أبو حنيفة النعمان اضطهد في عهد الخليفةالعباسي / هارون الرشيد ، حينما رفض منصب القضاء ، ويقول بعض الباحثين : إن مبعث اضطهاده هو الاعتقاد بأن، امتناعه عن قبول المنصب ينبئ عن عدم ولائه للخليفة وللنظام الحاكم بوجه عام .

والإمام / أحمد بن حنبل اضطهد في عصر الخليفة العباسي / المأمون بن هارون الرشيد ، وفي عصر الخليفة العباسي / المتوكل على الله , وذلك لأنه امتنع عن الخوض في مسألة خلق القرآن الكريم ، وإبداء تأييده لما رآه كل من المأمون والمتوكل في هذه المسألة .

وتتلخص هذه المسألة أو تلك المشكلة ـ وهي بكاملها مشكلة رأي نشأت عن حرية الجدل التي لا حدود لها ـ تتلخص فيما رآه بعض مفكريالمسلمين (ومنهم المعتزلة ) ، من رأي في القرآن ، وهل هو قديم أي موجود منذ الأزل أم أنه محدث أو مخلوق ، أي أن الله سبحانه وتعالى قد خلقه بعدأن لم يكن ، وإنه مخلوق ، لأنه لو كان قديماً لكان معنى هذاوجود قديمين ، والله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالقدم والأزلية .

وقد استطاع المعتزلة إقناع المأمون ثم المتوكل برأيهم ، وأرادا حمل الناس على اعتناق هذا الرأي ، فعارض من عارض ، وامتنع من امتنع ، وكان من بينهم الإمام / أحمد ابن حنبل ، الذي أصر على عدم الخوض في أمور خلافية غير مفيدة تؤدي إلى الخلاف ولا يرجى منها أدنى منفعة ، كما أنه لم يرد عنها شيء في كتاب الله العزيز ، وكان امتناعه سبباً للاضطهاد الذي لحق به .

ونذكر هنا المفكر الإسلامي / محمد بن أحمد بن محمد بن رشد ، الشهير بابن رشد الحفيد ( 520 هـ- 595 هـ ) ونكبته المشهورة حيث تم حرق كتبه في مراكش بعد المحنة التي أمتحن بها ، وبعد أن عفا عنه المنصور ألموحدي الأندلسي .

ويبدو أن الحسد والغيرة كانت وراء تلفيق تهمة الإلحاد والزندقةلابن رشد ، ووراء إدانته من طرف قضاه هم الشهود وهم الخصوم ، خصوم ألداء مصدر خصومتهم الحسد ، وقساه يطالبون بالقتل وحرق الكتب من اجل المخالفة في الرأي أو في المنهج ، وشهود زور ، لأنهم شوهوا آراءه وحرفوها إلي الصورة التي تتفق مع يبتغون رغماً عن أنها لا تدينه .

وهذه الحالات وغيرها من حوادث جرت على مدار التاريخ الإسلامي تمثل استثناءات محدودة لا تؤثر على المبادئ الأساسية التي أعلنها الإسلام من كفالة لحرية الرأي ، والتعبير عنه بكافة الوسائل ، وكذلك حرية البحث العلمي وكفالته وتشجيعه ، أضف إلى ذلك حرية الإنسان الكاملة في التفكير والإبداع والابتكار والبحث وإبداء الرأي.

وفي نهاية هذه الجزئية نحب أن نؤكد على أن حرية الرأي في الإسلام لم تكن مقررة فقط ، بل كانت مطلوبة ، بل كانت من الأمور الواجبة على المسلمين جميعاً ، خاصة إذا تعلق الأمر بالتعبير عن رأيهم في الحاكم وتصرفاته ، وذلك لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس .

الشورى في الإسلام

لعل من أقوى الأدلة على وجوب الرأي وحريته ، أن أساساً رئيسياً من أسس نظام الحكم الإسلامي هو الشورى .

قال الله تعالى : {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنه واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين } [آل عمران : 159] .

والمعنى : ولقد تحليت يا محمد باللين لهم برحمة من الله ، ولو كنت سيئ الخلق جافياً لتفرقوا من حولك ، فاعف عن مسيئهم واستغفر لمذنبهم ، فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى فتوكل على الله في إمضائه إنه يحبالمتوكلين عليه .

وقال تعالى : {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } [الشورى : 38] .

والمعنى : والذين أجابوا ربهم لما دعاهم رسوله للإيمان(المراد بهم الأنصار) وأقاموا الصلاة وأسسوا أمرهم على مبدأ التشاور فلا يبتون أمراً حتى يأخذ بعضهم رأي بعض فيه ، ومما رزقناهم يتصدقون .

وما الشورى إلا مجالاً لصراع الآراء وتبادل الأفكار والخبرات والتجارب بهدف الوصول إلى الأصوب والأحسن والأفضل من أجل صالح المجتمع كله .

ولعل ما دار من جدل بمناسبة اختيار الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم) ما يؤكد أهمية هذا المبدأ في الإسلام ، بل إن الخليفة نفسه يطلب إلى الناس أن يبدوا رأيهم في سياسته بصراحة مهما كان الرأي .

يقول أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) حين ولي الخلافة : "أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتموني على حق فأعينوني ، وإن رأيتموني على باطل فسدد وني" .

ويقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في إحدى خطبه : "أيها الناس ، من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه ".

فقام أحد الحاضرين وقال : "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا " .

قال عمر : "الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم عمراً بسيفه " .

وفي هذه الآثار وغيرها ما يوضح لنا بجلاء مدى إيمان الحاكم بالحاجة إلى الرأي السديد الذي يستعين به على أموره ، ويصوب به ما يعتري تصرفه من قصور .

ولقد كان المجتمع الإسلامي في تلك العهود الزاهرة يمارس حقه في التعبير عن رأيه ، والنقد للحكام ، فكان الناس يبدون الرأي والحكام يتقبلون النقد بصدر رحب ، ويرجعون إلى الحق .

قال رجل لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) : اتق الله يا عمر . !

فاعترض رجل آخر وقال : تقول لأمير المؤمنين اتق الله !

قال عمر : دعه فليقلها ، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم .

أصابت امرأة وأخطأ عمر

ووقف عمر بن الخطاب يخطب في المسجد ، داعياً الناس إلى عدم التغالي في المهور من أجل تيسير الزواج ، مطالباً لتحديدها ، فجاءه من أقصى المسجد صوت امرأة تقول : "ليس هذا لك يا عمر" ثم قرأت قوله تعالى : {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً} [النساء : 20]

والمعنى : إن شئتم أن تستبدلوا زوجة مكان أخرى وأعطيتم التي تريدون تطليقها قنطاراً من المال فلا تستردوا منه شيئاً , أتأخذونه متلبسين بالظلم والإثم المبين ؟

فكف أمير المؤمنين عمر عن مقالته وقال: "كل الناس أعلممنك يا عمر ، حتى النساء ، أصابت امرأة وأخطأ عمر " .

فحين ألزمته المرأة الحجة بنص القرآن الكريم ، لم يتردد في الرجوع إلى الحق وقبول الرأي الآخر ، دون أن يسترسل فيما انتواه ، أو تأخذه فيه العزة بالإثم .

رجل يعارض الفاروق

كما تروى عن عمر الحادثة التالية : جاءت عمر بنالخطاب (رضي الله عنه) برود (أي قطع من القماش ) من اليمن ، فوزعها بين المسلمين ، فخرج من نصيب كل رجل برد واحد ، ونصيب عمر كنصيب واحد منهم .

قيل : واعتلى عمر المنبر ، وعليه البرد ، وقد فصله قميصاً ، فندب الناس إلى الجهاد ، فقال له رجل : لا سمعاً ولا طاعة !

قال عمر : ولما ذلك ؟ ، قال الرجل : لأنك استأثرت علينا ، لقد خرج في نصيبك من الأبراد الثمينة برد واحد ، وهو لا يكفيك ثوباً ، فكيففصلته قميصاً ، وأنت رجل طويل ؟ !

فالتفت عمر إلى ابنه وقال : أجبه يا عبد الله . قال عبد الله بن عمر : لقد ناولته من بردي فأتم قميصه منه . فقال الرجل : أما الآن فالسمع والطاعة .

لم يغضب الفاروق عمر ، رغم قسوة الاتهام ، ولكنه رد على الناقد بالحجة فألزمه الرجوع إلى الحق .

 

السلام عليك أيها الأجير !

أما مناصحة الحكام ، فقد كانت واجباً مقرراً على ذوي الرأي والفكر والخبرة من رجال الإسلام ، وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم ) في هذا الشأن كثيرة ، تؤكد دائماً أن الدين النصيحة . ومن الأمثلة في التطبيق ، نذكرهذا المثال :-

دخل أبو مسلم الخولاني (وهو من التابعين وأسلم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام) على معاوية بن أبي سفيان ، فقال : السلام عليك أيها الأجير . فقالوا له : قل السلام عليك أيها الأمير . فقال : السلام عليك أيهاالأجير . فقالوا : قل الأمير . فقال معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول .

فقال : إنما أنت أجير استأجرك رب الغنم لرعايتها ، فإن أنت هنأت جرياها ، وداويت مرضاها ، وحبست أولاها عن أخراها ، وفاك سيدها أجرك . وإن أنت لم تهنأ جرياها ، ولم تداو مرضاها ، ولم تحبس أولاها عن أخراها ، عاقبك سيدها ! [ابن تيمية ، السياسة الشرعية ، ص 12 وما بعدها] .

هذا هو الإمام العادل

وقد أرسل الحسن البصري إلى أمير المؤمنين الإمام العادل / عمر بن عبد العزيز بالرسالة التالية ، يبصره ويحذره وينصحه بما ينبغي أن يتوفر في الإمام العادل من خصال ، بأسلوب رائع ، وعبارات قوية ، لا خوف فيهاولا وجل ، وتلك هي الرسالة : -

"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل ، ومصدر كل حائر ، وصلاح كل فاسد ، وقوة كل ضعيف ، ونصفة كل مظلوم ، ومفزع كل ملهوف ."

"والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحفي على ولده، يسعىلهم ، ويعلمهم كبارا ، ويكتسب لهم في حياته ، ويدخر لهم بعد مماته "

"والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة ، البرة ، الرحيمةبولدها ، حملته كرهاً ، ووضعته كرهاً ، وربته طفلاً ، وتسهر لسهره ، وتسكن بسكونه ، ترضعه تارة ، وتفطمه تارة ، وتفرح بعافيته ، وتغتم بشكايته ..."

"والإمام العادل يا أمير المؤمنين رضي اليتامى ، وخازن المساكين ، يربي صغيرهم ، ويعين كبيرهم ..."

"والأمير العادل كالقلب بين الجوانح ، تصلح الجوانح بصلاحه ، وتفسد بفساده ... "

"ولا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلية ، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين ، فإنهم لا يرقبون الله في مؤمن ، وإذا فعلت ذلك فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك ، وتحمل أثقالك وأثقالاً مع أثقالك ، ولا يغرينك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ، ويأكلون الطيبات بإذهاب طيباتك في أخرتك "

[محمد فاروق النبهان ، نظام الحكم في الإسلام ، ص 253 ، ومابعدها ، بتصرف .] .

من أبي يوسف إلى الرشيد

ومما جاء في الرسالة التي بعث بها القاضي / أبو يوسف (صاحب الإمام / أبي حنيفة النعمان) إلى أمير المؤمنين / هارون الرشيد، وذلك حين كلفه بوضع أحكام الخراج ، وقد وردت هذه الرسالة في كتاب الخراج وتضمنت النصح السديد والوعد والوعيد ، لم يحل دون إبدائها ما كان للرشيد من هيبة وسطوة ، بل نظر إليها قاضي القضاة باعتباره حقه و واجبه معاً ، عاملاً بما دعا إليه الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم ) من مناصحةولاة المسلمين ، وقد جاء في هذه الرسالة :

" ... ... يا أمير المؤمنين ، إن الله وله الحمد ، قد قلدك أمراً عظيماً , ثوابه أعظم الثواب , وعقابه أشد العقاب , قلدك أمر هذه الأمة فأصبحت وأنتتبني لخلق كثير , قد استرعاكهم الله, وأتمنك عليهم , وابتلاك به ، وولاك أمرهم ، وليس يلبث البنيان ـ إذا أسس على غير التقوى ـ أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه على من بناه ، وأعان عليه . فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية ، فإن القوة في العمل بإذن الله ... "

"... فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين ، فإن ديان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ، ولا يدينهم بمنازلهم ، وقد حذرك الله فاحذر ، فإنك لم تخلق عبثاً , ولن تترك سدى , وإن الله سائلك عما أنت فيه ، وما عملت به ، فانظر ما الجواب ؟ ! ... الخ .. "

 

خاتمة

كانت تلك بعض الأمثلة القليلة من بين الكثير الذي تموج به آثار السلف الصالح ، وهي تكفي لتأكيد ما قرره الإسلام من تقرير واضح وصريح لمبدأ حرية الرأي ، والنقد البناء ، كما تظهر لنا هذه الآثار إلى أي حد كان مضمون هذه الحرية مقبولاً لدى الحكام وأولياء الأمور ، معمولاً به من قبل الناس على كل المستويات ، في كل زمان ومكان.[عمر الشريف ، مذكرات في نظام الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية ، ص 161 ـ 162 ، بتصرف . ]

ونعود فنؤكد على أنه وإن كان التطبيق لم يخل من خروج في بعض الأحيان على هذا المبدأ بدواعي السياسة والمصالح الخاصة والمنافع الشخصية ، إلا أن هذا لا يخل بالحقيقة التي قررها الإسلام كمبدأ جوهري ، وهوأساس الشورى , وهو واجب على كل من يقدر عليه ، حتى ينصلححال الأمة ، وترتقي إلى الأفضل والأحسن ، فتعم السعادة والخير أرجاء المجتمع بأفراده وجماعاته .

 

الأسانيد والمراجع

(1) محمد فريد وجدي ، المصحف المفسر ، دار الشعب ، القاهرة ، مصر.

(2) عمر الشريف ، مذكرات في نظام الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية ، القاهرة ، 1977 م .

(3) عبد الحميد متولي ، نظام الحكم في الإسلام ، القاهرة ، مصر .

(4) جاك . س. ريسلر ، الحضارة العربية ، ترجمة : غنيم عبدون ، القاهرة .

(5) عباس محمود العقاد ، عبقرية عمر ، دارالمعارف ، القاهرة ، 1995 م .

 (6) ابن تيمية الحراني ، السياسة الشرعية في إصلاح الراعيوالرعية ، الطبعة الرابعة ، دار الكتاب العربي ، 1969 م .

(7) محمد فاروق النبهان ، نظام الحكم في الإسلام ، القاهرة ، مصر .

(8) أحمد شلبي ، موسوعة الحضارة الإسلامية ، الجزء السادس، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1992 م .

(9) يسري عبد الغني عبد الله ، المدنية العربية الإسلامية (نظرات في الأصول والتطور) ، هيئة الكتاب ، القاهرة ، 1987 م .

والله ولي التوفيق ،،،،،،

ـــــــــ

*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

Ayusri_a@hotmail.com

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ