ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 15/03/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

مخاض التحول نحو الديمقراطية في العالم العربي

على ضوء ثورتي تونس و مصر

بقلم: د. إدريس جندا ري*

1- عوائق الانتقال الديمقراطي في العالم العربي بين إرث الماضي و تحديات الحاضر

 تعيش التجربة السياسية في العالم العربي؛ حالة غريبة من الاحتقان؛ الذي أصبح يهدد في كل لحظة بتفجير الأوضاع من المحيط إلى الخليج؛ و يمكن تفسير هذا الوضع؛ بغياب شامل و كلي لنموذج الدولة الحديثة؛ التي تقوم على أساس الديمقراطية و سلطة المؤسسات.

 فرغم ما قد يبدو من حضور شكلي لهذه الدولة؛ فإن جوهر التجربة السياسية الحديثة غائب بالتمام؛ فليس هناك تداول سلمي و ديمقراطي على السلطة؛ و ليس هناك فصل واضح بين السلطات؛ ناهيك عن غياب جميع أشكال حرية التعبير؛ أما الأحزاب السياسية –إن وجدت- فهي هياكل فارغة و جثث هامدة لا حياة فيها؛ لا يتحرك منها إلا الحزب الحاكم؛ الذي يحتكر السلطة لعقود؛ عبر تزوير الانتخابات؛ و إخضاع الإرادة الشعبية .

إن التجربة السياسية في العالم العربي؛ و رغم طابعها الحداثوي المزور؛ فهي لا تخرج عن الإطارات التالية:

1- تجربة سياسية عتيقة: تستثمر في الدين من خلال شرعنة سلطتها دينيا؛ في مقابل الشرعية الشعبية؛ التي تميز النظام السياسي الحديث. و هذه التجربة تستعير معظم بواعث التعبير عن نفسها من الماضي البعيد؛ من التاريخ الأموي و العباسي ، الذي تحولت فيه الخلافة إلى ملك؛ استعار بدوره معظم بواعث التعبير من المستبد الآسيوي بحسب تعبير الأستاذ عبد الله العروي، أو من أبيه أردشير ( الملك الساساني ) بحسب توصيف الأستاذ محمد عابد الجابري؛ في بحثه عن مبدأ الطاعة؛ الذي جعل من الدين طاعة رجل، و الذي جعل من الطاعة عبر تمجيدها؛ فضيلة الفضائل، و الذي تمكن من أن يغزو الثقافة العربية في عقر دارها؛ و يحولها لصالح الاستبداد الآسيوي كما تعبر عن ذلك وصية أردشير (1)

2- تجربة سياسية (ليبرالوية): و إذا كانت التجربة الأولى تعد استمرارا؛ لنموذج الاستبداد الأسيوي؛ فإن العالم العربي؛ عرف بعد حصوله على الاستقلال؛ عرف تجربة سياسية جديدة؛ قامت على أساس استغلال القيم السياسية الحديثة؛ بهدف ترسيخ نموذج سياسي قائم على الاستبداد. فقد حضرت الليبرالية؛ ليس باعتبارها ديمقراطية؛ و ليس باعتبارها تعددية حزبية حقيقية و انتخابات نزيهة و حرية تعبير و فصل بين السلطات... و لكنها حضرت على العكس من ذلك تماما كآليات سياسية؛ تمكن الحاكم العربي المستبد من ترسيخ سلطته؛ عبر فسح المجال لتعددية سياسية شكلية؛ تشرعن سلطته الحزبية؛ و كذلك عبر تنظيم انتخابات كاريكاتورية؛ يحصل فيها الحزب الحاكم دائما على نسبة تفوق التسعين في المائة؛ أما السلطات الأربعة؛ فهي تجتمع كلها في يد الحاكم الأبدي؛ يشرع و ينفذ و يصدر الأحكام القضائية باسمه و يوجه الرأي العام عبر مقاولاته الصحافية .

3- تجربة سياسية (يساروية) : إذا كانت بعض الأقطار العربية؛ بعد حصولها على الاستقلال؛ قد انحازت إلى الخيار الليبرالي؛ كذريعة لترسيخ قيم الاستبداد؛ فإن أقطار أخرى انحازت إلى الخيار الاشتراكي؛ ليس عن سابق تفكير و تدبير؛ و لكن لأن هذا الخيار الإيديولوجي؛ يساير قيم الاستبداد السائدة في العالم العربي؛ فهو يقوم على أساس الحزب الواحد؛ و يقوم على أساس ديكتاتورية الطبقة الحاكمة؛ و يقوم على أساس الزعيم الأوحد ... و كلها قيم سياسية؛ وجدت البيئة الملائمة في العالم العربي؛ كي تترعرع و تنضج ؛ صانعة أنظمة سياسية ديكتاتورية؛ تعلن بالصريح و المباشر أن الديمقراطية آلية استعمارية لتفكيك الدول؛ و أن التعددية الحزبية مدخل لخلق الصراعات داخل المجتمع؛ و أن حرية التعبير تخلق الفوضى؛ و أن الفصل بين السلطات يهدد استقرار و استمرارية الدولة .. . !

 إن التجربة السياسية في العالم العربي؛ لا تخرج عن هذا الإطار؛ ذي الإبعاد الثلاثة؛ و سواء تعلق الأمر باستمرارية النموذج السياسي العتيق؛ أو تعلق الأمر باستغلال القيم السياسية الحديثة؛ فإن النتيجة كانت دائما؛ غياب مضاعف لنموذج الدولة الحديثة؛ بما تجسده من ممارسة ديمقراطية و فكر ليبرالي؛ و هذا واقع لا يمكن لأحد أن ينكره؛ سواء في المغرب العربي أو مشرقه؛ لأن رائحة الاستبداد أصبحت تزكم أنوف الخارج قبل الداخل؛ و هذا ما أصبح يهدد بانفجار الأوضاع في كل لحظة و حين؛ إن لم يتم تدارك الأمر في أقرب وقت؛ عبر الانكباب الجدي على التأسيس لنموذج الدولة الحديثة؛ التي تربط وجودها بالشرعية الشعبية؛ الممارسة عبر تعددية حزبية حقيقية و انتخابات نزيهة و فصل بين السلطات؛ باعتبارها آليات سياسية تبلور ممارسة ديمقراطية حقيقية .

 إن العصر الحديث يؤسس لقطيعة تامة مع النموذج السياسي الاستبدادي القديم؛ و نحن في العالم العربي لن نشكل الاستثناء أبدا؛ لأن العولمة بوسائل اتصالها الحديثة و المتطورة؛ و بقراراتها السياسية التي أصبحت تتوحد يوما بعد يوم؛ و بحركية مجتمعها المدني؛ الذي أصبح يشكل سلطة موازية؛ إن العولمة بخصائصها هاته؛ تشكل تحديا غير مسبوق على كل الأنظمة السياسية؛ التي لا تساير ركب الديمقراطية و الحداثة في العالم .

 فقد قدمت البشرية تضحيات جسيمة؛ للوصول إلى وضع سياسي؛ يضمن حريتها و كرامتها؛ حيث قام الغرب –بشكل خاص- بحركة هائلة؛ شملت المجتمع و الفكر و الاقتصاد و السياسة؛ و ذلك للوصول إلى حالة يمكن القول عنها؛ أنه تم القطع و الفصل مع أزمنة العصور الوسطى؛ و ما حصل معه "القطع" في مجال السلطة و ممارسة الحكم؛ هو النظام السياسي- الثقافي؛ الذي كان يقضي بان السلطة :

• مقدسة؛ فهي شأن ديني سماوي؛ لذلك لم يكن العرش الملكي عرشا ملكيا و كفى؛ بل إنه عرش الإله ذاته.

• أبوية؛ إذ الملوك يحلون محل الله؛ الذي هو الأب الحقيقي للجنس البشري.

• مطلقة؛ فليس للملك أن يقدم تبريرا لما يقوم به.

• ليس لها أن تكون موضع اعتراض عليها من الخاضعين لها.

 و أما الحالة الجديدة؛ التي انتهى إليها صراع شامل؛ قوي و حاد معا؛ فهو التقرير؛ عكس ما تقدم؛ أن السلطة شأن بشري محض؛ فلا علاقة لها بقدسي و لا بمقدس؛ و إنما هي ترتيب يقره البشر فيما بينهم وفقا لإرادتهم؛ و يلتزمون بما قرروه بما هم عقلاء؛ و بالتالي فالعلاقة التي تقوم بينهم إنما هي علاقة بين راشدين عقلاء؛ و ليس ما يربط الحاكم بالمحكوم من جنس ما يقوم بين الأب و ابنه؛ و إنما الجميع مواطنون. (2)

 يتساءل الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي –على لسان بعض علماء الاجتماع السياسي- في كتابه: (الإسلام و الديمقراطية) : لماذا كانت الدولة في العالم العربي ضعيفة في أساسها؛ فهي تفتقد الشرعية السياسية الضرورية لاستمرارها؛ و لا تمتلك حماية فعلية من المجتمع؛ فالعلاقة بينها و بينه علاقة قهر من جهة؛ و صراع غير متكافئ من جهة أخرى؛ و لكنها تستمر في الوجود مع ذلك؛ أو (هي تتمتع على الأقل بمظهر الاستقرار) ؟

و يجيب الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي؛ من خلال استحضار محاولتين؛ يسعى من خلالهما إلى تفسير هذا الوضع الغريب الذي تعيشه الدولة العربية:

- المحاولة الأولى : هي للباحث الأمريكي( وليام زارطمان) الذي يرى أن السر؛ في استمرار الدولة في العالم العربي في الوجود؛ إنما يكمن في طبيعة " المعارضة " الموجودة في هذه المنطقة من العالم. فإذا كان النظام السياسي في المفهوم الغربي؛ يستقيم وجوده و يتم تماسكه بفضل الجهود المتزنة التي يبذلها الممارسون للسلطة من أجل البقاء فيها؛ و يبذلها الموجودون خارجها من أجل الدخول فيها ( و هو ما يدعى في المعتاد تناوبا أو تداولا على السلطة). فإن الملاحظ في العالم العربي؛ أن التناوب الديمقراطي ليس من صفات السياسة العربية؛ ذلك أن الصفة السائدة للحكومة؛ في العقد و نصف العقد من السنين الأخيرة من السبعينات و الثمانينات؛ هي وجود جماعة سياسية – اجتماعية واحدة و عدم وجود مجال للتناوب؛ فالمعارضة لا تشتت و لا تصفى و لا تشرك في الحكم؛ إنها تُستخدَم؛ و هي تنحو إلى القبول بهذا الاستخدام؛ لسبب ما؛ هو توقعها أن تجد نفسها في السلطة؛ في المرة القادمة؛ سواء عن طريق الانتخاب أو غيره .

 و أما تفسير هذا الأمر عند زارطمان؛ فهو يقوم على وجود نوع من العلاقة القائمة بين السلطة و المعارضة؛ يطلق عليها نعت "التكميلية"؛ حيث يستمر الاستقرار في الأنظمة العربية من جهة؛ و ترسم المعارضة لنفسها نوعا من الخطوط تقف عندها و لا تتخطاها أبدا؛ من جهة أخرى .

 و يستخلص زارطمان في الأخير أن " الحكومة و المعارضة معا لهما مصالح يتابعانها داخل النظام السياسي؛ و هذه التكميلية في المتابعة من شأنها أن ترسخ الدولة؛ إذ كل واحد منها يخدم مصالح الآخر في أدائه لدوره . (3)

- المحاولة الثانية: هي للباحث الأمريكي ( جون ووتر بيري) الذي يحاول تفسير الطبيعة الاستثنائية للمنطقة العربية؛ فهو يعتبر أن الشرق الأوسط أو على الأخص الشرق الأوسط – العربي؛ إنما هو منطقة استثنائية في مقاومتها التحرك نحو الليبرالية السياسية؛ و احترام حقوق الإنسان؛ و الممارسة الديمقراطية التقليدية .

 و يلاحظ (ووتر بيري) أنه في حال "الشرق الأوسط" ما يشي بالخروج عن المسيرة التاريخية الاعتيادية؛ التي تفسر منشأ التحول الديمقراطي في بلد من البلدان؛ و التي تقضي بأن " ارتفاع مستويات التعليم و عمليات التحضير و ارتفاع مستوى الشريحة الاجتماعية ذات الدخل المتوسط؛ يؤدي إلى ظهور طبقة وسطى ذات اطلاع و لها مصلحة في كيفية إدارة الأمور السياسية؛ و تحس إحساسا عاليا بالمواطنة؛ مع الإصرار على جعل الموظفين العموميين مسؤولين عن أعمالهم" و يستطرد الباحث الأمريكي؛ فقد حدث تغيير في الشرق الأوسط؛ نتج عنه تصاعد في هذه المؤشرات كلها؛ لكن دون أن تنتج عنه "مرابح ديمقراطية" .

أما الصفات الفريدة من نوعها –على حد تعبيره- التي تسد الطريق بوجه التحول نحو الديمقراطية؛ فهي تعود إلى سببين كبيرين:

- أولهما : وجود نسبة كبيرة من الطبقات الوسطى؛ تعتمد اعتمادا مباشرا على الدولة أو تستخدم من قبلها.

- ثانيهما: يرجع إلى طبيعة مثقفي الشرق الأوسط؛ و هؤلاء هم من نواح متعددة مثقفو الدولة .

و يعقب ( ووتر بيري) بالقول : إن اتفاق مصالح الأنتلجنسيا و الدولة تتجاوز موضوع المكافآت و الاستخدام و الإجازات المهنية؛ فتشمل شعورا قويا بالهوية و الأهداف المشتركة . (4)

 و سواء مع محاولة (وليام زارطمان) أو مع محاولة ( جون ووتر بيري)؛ فإن التجربة السياسية في العالم العربي؛ تعاني أزمة بنيوية متأصلة؛ تعود إلى طبيعة البنية الفكرية و الاجتماعية و السياسية السائدة في المجتمع؛ و التي تشكل بيئة ملائمة؛ لترعرع القيم السياسية الاستبدادية؛ باعتبارها قيما ينتجها المجتمع؛ و تمارسها عليه بعض فئاته؛ التي تمتلك وسائل العنف المادي و الرمزي .

 

 

 

2- الإرادة الشعبية بديلا للمعارضة

السياسية المُستخدَمة

 كنتيجة مباشرة للانفتاح المعاق؛ الذي تعيشه المجتمعات العربية على قيم السوق و الاستهلاك؛ نتج وضع اجتماعي يشجع على الانتهازية و الوصولية؛ باعتبارها الطريق الآمن نحو (التبرجز) الموهوم؛ الذي لا يقوم على أي أساس واضح و منطقي؛ ما عدا الاستثمار في اقتصاد الريع غير المنتج؛ أو الاستثمار في صناعة منتوج الاستبداد السياسي و تسويقه؛ باعتباره منتوجا عالي الجودة؛ لا يمكن للمجتمعات العربية أن تعيش و تستمر من دون إنتاجه و استهلاكه !

 في ظل هذا الوضع الاجتماعي المأزوم؛ بدأت تطفو على السطح؛ فطريات سياسية؛ لا تمتلك أي رؤية أو مشروع سياسي؛ تقدم نفسها في البداية بديلا للنظام السياسي القائم (معارضة)؛ بهدف الحصول على شرعية شعبية؛ و بعد ذلك تنتقل إلى المرحلة اللاحقة؛ حيث تشرع في استثمار هذه الشرعية الموهومة؛ ليس في خدمة المجتمع؛ عبر البحث عن بديل سياسي ديمقراطي يخدمه؛ و لكن هذا الاستثمار؛ يكون في خدمة النظام السياسي السائد؛ عبر الدخول معه في علاقات مشبوهة؛ مقابل الحصول على ريع سياسي أو اقتصادي.

 و بحصولها على مبتغاها من هذا الريع –موضوع الصراع- تنتهي القصة؛ و تنتقل المعارضة من مطالب التغيير؛ نحو وضع ديمقراطي يسمح بالتداول السلمي على السلطة؛ إلى وضعية "الاستخدام" بتعبير (زارطمان)؛ فهي لا تُشرَك في الحكم و لا تُبعَد عنه؛ إنها تُستخدَم لشرعنة السلطة السياسية القائمة؛ لإيهام الداخل و الخارج؛ أن الدولة تعيش وضعا ديمقراطيا جيدا .

 إن (وليام زارطمان) حينما يحمل المعارضة السياسية السائدة في العالم العربي؛ حينما يحملها مسؤولية استمرار الوضعية السياسية؛ القائمة على الاستبداد و القهر؛ فهو لا يجانب الحقيقة؛ بل يضع أصبعه على مكان الجرح؛ و ذلك لأن جميع الأنظمة الاستبدادية السائدة في العالم العربي؛ تستمد شرعيتها السياسية (الديمقراطية)؛ من المعارضة المُستخدَمة (بفتح الدال)؛ التي تبيع شرعية ديمقراطية موهومة لهذه الأنظمة؛ كتعويض عن فقدان الشرعية الشعبية؛ الذي تعاني منه .

 و لذلك فإنه في الوقت الذي تأمن فيه هذه الأنظمة الاستبدادية على موقعها؛ اعتمادا على تقارير استخباراتية مغلوطة؛ تفسر الاستقرار بإخضاع المعارضة و استخدامها؛ في هذا الوقت بالذات تخرج الشرعية الشعبية من قمقمها؛ متحدية النظام و المعارضة؛ وسط ذهول كلا المكونين؛ الذين ألفا نعمة الاستقرار؛ في ظل تبادل الخدمات بينهما.

 إن هذه الوضعية؛ هي التي لم يأبه لها (وليام زارطمان) كما لم تأبه لها الأنظمة و المعارضة؛ و في نفس الآن لم تأبه لها الدول الغربية الداعمة لهاته الأنظمة بدون شروط؛ خدمة لمصالحها الخاصة؛ حتى يخرج المارد الشعبي من قمقمه و يفاجئ الجميع برمي هذه الأنظمة في مزابل التاريخ .

 و لذلك فقد قرأنا و سمعنا كثيرا ل/من منظرين و فاعلين سياسيين غربيين و عرب؛ أن الشعوب العربية تتميز بالسلبية و الخنوع؛ فقد تمكن منها "براد يغم الطاعة" بتعبير الطاهر لبيب (5) و أن اللعبة السياسية تدور بين الأنظمة الحاكمة و المعارضة؛ و بما أن العلاقة الجامعة بين المكونين علاقة مصالح؛ فإنه لا خوف على استقرار الدول العربية؛ و بالتالي لا خوف على المصالح الغربية في هذه الدول .

 لكن النموذجين (التونسي و المصري) أكدا بالملموس و الواضح؛ أن هذه النظرية تتميز بقسط كبير من التهافت؛ لأن التغيير الذي عجزت عن تحقيقه المعارضة السياسية المستخدَمة (بفتح الدال) تنجح في تحقيقه –أخيرا- الإرادة الشعبية؛ التي لا تدين بأي تأطير أو تنظير لهذه المعارضة؛ التي أصدرت لعقود؛ الكثير من الجعجعة؛ لكن بلا طحين؛ كما يقول المثل العربي .

 إن الثورتين الشعبيتين( التونسية و المصرية) تدشنان لعهد جديد في العالم العربي؛ ليس فقط من حيث النتائج السياسية المحققة؛ و لكن كذلك من حيث تغيير المنطق السياسي؛ الذي ساد لعقود في العالم العربي؛ و هو منطق يربط أي تغيير سياسي محتمل بفعالية المعارضة السائدة؛ و بما أن هذه المعارضة تدخل في علاقة استخدامية مع الأنظمة الحاكمة؛ فإن التغيير يظل صعبا إن لم يكن مستحيلا – حسب هذا المنطق- !

 لكن المرحلة الجديدة التي يعيشها العالم العربي؛ تعبر عن قوة خارقة في قلب التوازنات السياسية السائدة؛ في أقل وقت و بأقل كلفة؛ و هي بذلك (المرحلة) تؤسس لنظرية سياسية جديدة؛ لا تربط التغيير بفاعلين سياسيين محددين؛ بل تربطه بالإرادة الشعبية الغير خاضعة لأية قيادة؛ لأن القيادة تصنعها ساحة الميدان؛ حيث يحضر التغيير السياسي كممارسة؛ و ليس فقط كتنظير .

هل يمكن الحديث إذن عن عهد سياسي جديد في العالم العربي؛ قوامه الإرادة الشعبية كبديل للمعارضة المُستخدَمة ؟

 نعم؛ يمكن لأي منظر أو محلل سياسي؛ أن يستخلص ذلك بمنتهى الموضوعية العلمية؛ في منأى عن أية نزوعات سياسوية رخيصة؛ تستثمر في بؤس الشعوب العربية؛ لتنمية ريعها السياسي و الاقتصادي؛ و هذه خلاصة تؤكدها الممارسة الميدانية؛ أكثر مما يستخلصها التنظير؛ لذلك فهي تفرض نفسها بقوة .

 إن هذا الواقع الجديد؛ لا يهدد أحدا –في الحقيقة- بقدر ما سيدفع في اتجاه التغيير السلمي؛ تفاديا لأي تغيير ثوري؛ يمكنه أن يهدد الدولة بجميع مكوناتها. لكن هذا التغيير يتطلب إرادة و عزيمة صلبة من الأنظمة الحاكمة؛ التي يجب عليها أن تقبل بكل روح رياضية المتغيرات الجديدة؛ التي تعرفها المجتمعات العربية؛ و ألا تقنع بما توفره لها المعارضة السياسية المُستخدَمة؛ من شرعية مزورة؛ لا يمكنها أن تتحدى الشرعية الشعبية؛ التي تعتبر أساس كل ممارسة سياسية ديمقراطية؛ تقوم على أساس التداول السلمي على السلطة؛ و المشاركة الفاعلة لجميع الفئات الشعبية ...

 لقد استثمرت المعارضة السياسية المُستخدَمة في العالم العربي؛ لوقت طويل في تسويق الأوهام؛ سواء في علاقتها بالأنظمة الحاكمة؛ أو في علاقتها بالإرادة الشعبية؛ لكنها في الحقيقة لم تحقق الاستقرار و المشروعية للأنظمة الحاكمة؛ و كذلك لم تحقق الديمقراطية و الحرية للفئات الشعبية؛ الشيء الذي حولها إلى عائق كبير؛ في وجه أي تحول ديمقراطي محتمل في العالم العربي. فهي من خلال علاقتها المشبوهة مع الأنظمة الحاكمة؛ تمضي للفئات الشعبية الداعمة لها؛ شيكا على بياض؛ و في الآن ذاته؛ فهي تبيع الأوهام لهذه الأنظمة؛ حينما تقدم نفسها كبديل عن الإرادة الشعبية؛ التي بإمكانها لوحدها أن تمنح الشرعية السياسية لأي نظام حاكم .

 إن استمرارية الأنظمة السياسية الاستبدادية في العالم العربي – في تناقض تام مع التحول الذي يعرفه العالم نحو الديمقراطية – يجد تفسيره حسب وليام زارطمان- في ذلك التكامل الحاصل بين الأنظمة الاستبدادية الحاكمة و المعارضة المُستخدَمة؛ و هو تكامل تحكمه المصالح المشتركة بينهما؛ لكن على حساب الدولة و الشعب.

 و يمكننا أن نستحضر الكثير من التجارب الديمقراطية في العالم العربي؛ التي كانت قريبة التحقق نتيجة النضال الكبير الذي بذلته الشعوب العربية؛ في بحثها عن الحرية و الديمقراطية؛ لكن هذه التجارب كانت تجهض في آخر لحظة؛ كنتيجة مباشرة لدخول المعارضة المُستخدَمة على الخط؛ للقيام بوظيفة مزدوجة؛ تجاه الشعب و تجاه النظام الحاكم.

 و في قيامها بهذه الوظيفة؛ فهي تحقق مصالحها الخاصة؛ عبر الخروج من الهامش إلى المركز؛ و في نفس الآن فهي تضخ روحا جديدة في شرايين النظام الاستبدادي الحاكم؛ من دون تجديده أو تغييره؛ لكن الضريبة باهظة الثمن؛ يؤديها الشعب من حريته و من مواطنته؛ التي يتم الإجهاز عليها؛ لتحقيق التكامل بين الطرفين؛ خدمة لمصالحهما المشتركة

 إن البديل الذي أصبح متاحا أمام الشعوب العربية؛ للخروج من الاستبداد السياسي؛ لم يعد مرتبطا الآن – بعد ثورتي تونس و مصر- بمشاريع المعارضة السياسية؛ سواء أكانت في الداخل أم في الخارج؛ لأنها مشاريع لا تخدم سوى مصالح أصحابها؛ و هي في الأخير تعتبر امتدادا مباشرا لمشاريع الأنظمة الحاكمة؛ في إخضاع الشعوب العربية و السيطرة عليها؛ باستخدام مختلف أنواع العنف المادي و الرمزي .

 لكن البديل يظل مرتبطا بالإرادة الشعبية؛ التي تصنع رموزها و قياداتها في ساحة الميدان؛ و الشعب بمختلف فئاته؛ لا يمكن أن يجتمع سوى من أجل مصلحة وطنه؛ التي يمكنها وحدها؛ أن توحد أقصى اليسار مع أقصى اليمين؛ ليس ضد أحد بعينه؛ و لكن ضد جميع أشكال الفساد و الاستبداد و القمع ... التي تهدد استقرار الأنظمة الحاكمة؛ أكثر ما تهدد استقرار و نهضة الشعوب.

 إن هذا التحول الذي يعيشه العالم العربي؛ عبر انتقال فعل التغيير؛ من المعارضة السياسية إلى الفئات الشعبية؛ من شانه على المدى المتوسط والبعيد؛ أن يحل إشكالية الشرعية؛ التي تعاني الأنظمة السياسية في العالم العربي من فقدانها.

 و ذلك لأن أي تغيير محتمل؛ تقوده جميع الفئات الشعبية بمختلف انتماءاتها الإيديولوجية و المذهبية و العرقية ... ستكون له بالضرورة نتائج سياسية؛ ستنعكس إيجابيا على الدولة؛ شعبا و نظاما سياسيا؛ فالشعب سيستفيد من الحرية و الديمقراطية؛ و النظام السياسي؛ سيمتلك شرعية شعبية حقيقية؛ ليست من جنس تلك الشرعية الوهمية؛ التي تمنحها له المعارضة؛ خدمة لمصالحها الخاصة.

 إن جميع حركات التغيير الشعبية؛ التي حدثت في العالم عبر التاريخ البشري؛ تقدم لنا هذه الدروس البليغة؛ حيث تكون النتائج دائما إيجابية؛ في صالح الشعب؛ و كذلك في صالح الأنظمة السياسية الحاكمة؛ حيث يقتسم الطرفان معا غنائم (المعركة)؛ لأن هذا النوع من المعارك السياسية؛ لا يكون –بالتأكيد- بين أعداء ألداء؛ و لكنه يجري بين مواطنين؛ حريصين جميعا على مصلحة و نهضة وطنهم .

 لكن ما يجب الحذر منه في مثل هذه التحركات الشعبية؛ هو أن تخرج عن المسار الشعبي المخصص لها؛ في اتجاه تيارات معارضة؛ تسعى إلى استثمارها؛ للزيادة في ريعها السياسي و الاقتصادي؛ أو في اتجاه قوى خارجية؛ تسعى إلى استثمارها لفرض أجندتها الخاصة. و في كلا الحالتين؛ فإن الخاسر الأكبر هو الدولة نفسها؛ التي تخسر الكثير من طاقتها؛ من دون تحقيق أية نتائج ملموسة؛ سواء عبر الانتقال نحو الديمقراطية و الحرية؛ أو عبر تحقيق الأمن و الاستقرار.

 

 

 

3- الإرادة الشعبية بديلا لأنتلجنسيا الدولة

 إذا كانت جميع تجارب التحول نحو الديمقراطية في العالم؛ ترتبط بارتفاع مستويات التعليم و عمليات التحضير و ارتفاع مستوى الشريحة الاجتماعية ذات الدخل المتوسط؛ ما يؤدي إلى ظهور طبقة وسطى؛ ذات اطلاع و لها مصلحة في كيفية إدارة الأمور السياسية؛ و تحس إحساسا عاليا بالمواطنة. فإن العالم العربي قد عرف تصاعدا كبيرا في هذه المؤشرات – و خصوصا في الدول البترولية- لكن من دون أن يحقق ذلك أي تصاعد في مؤشرات الممارسة الديمقراطية. و لعل هذا هو ما حير الباحث الأمريكي (جون ووتربيري ) (6) و يحير –في الحقيقة- جميع الباحثين السياسيين و المفكرين؛ لأنه وضع شاذ؛ لا يستجيب للنظريات السياسية؛ التي تسعى إلى تفسير أوضاع الانتقال نحو الديمقراطية عبر العالم؛ حيث ساهمت الطبقة الوسطى المتعلمة (النخبة الثقافية) بنسبة كبيرة؛ في تسريع عملية الانتقال هاته؛ و ذلك لما تتميز به؛ من وضع اقتصادي مستقر؛ و وضع اجتماعي فاعل؛ و وعي سياسي عميق؛ و كلها خصائص من شأنها أن تساعد المجتمع و الدولة على التحول نحو الديمقراطية .

 لكننا هنا يمكن أن نتساءل؛ هل تشكلت في العالم العربي نخبة مثقفة (انتلجنسيا) نتيجة توافر هذه المؤشرات الاقتصادية –بدرجة أولى- أم إن هذه المؤشرات الاقتصادية؛ لم توازيها نقلة في العقليات السائدة؛ و هي عقليات ما زالت تدين بنسبة كبيرة إلى المنظومة الثقافية و السياسية القديمة؛ حيث تحاط أسرار الاستبداد بهالة مرعبة و مقدسة؛ و يلعب الإيمان في ذلك دور المصاحب؛ بل الحامل للواء السيد (7) ؟

هل يمكن الحديث في العالم العربي عن (أنتلجنسيا) قادرة على تفكيك البنيتين الثقافية و السياسية؛ المسؤولتان معا عن ترسيخ قيم الاستبداد؛ مثلما فعلت الأنتلجنسيا الروسية إبان القرن التاسع؛ في مواجهتها للنظام القيصري الروسي؟ أم إن النخبة المثقفة العربية؛ لا تعدو أن تكون حامية عرين الآداب السلطانية؛ التي ارتبطت في التاريخ الإسلامي؛ بانقلاب الخلافة إلى ملك؛ و هي في جزء كبير منها؛ نقلا و اقتباسا من التراث السياسي الفارسي؛ و هدفها الرئيسي تقوية السلطة و دوام الملك ؟ (8)

 إن ما يمكن تسميته ب (الأنتلجنسيا) في العالم العربي؛ لا يتجاوز في معظمه أن يكون؛ نخبة في خدمة البنية الثقافية و السياسية و الاجتماعية السائدة؛ إنها نخبة تحت الطلب؛ تبيع خدماتها الرمزية للدولة؛ مقابل ريع سياسي أو اقتصادي؛ إن وظيفتها لا تتجاوز إعادة إنتاج reproduction إيديولوجية الدولة –بتعبير بيير بورديو- .

 و إذا كانت المعارضة السياسية العربية؛ في علاقتها بالأنظمة السياسية؛ تقوم بوظيفة تعويض الشرعية الشعبية المفقودة؛ و بالتالي تساهم في تكريس قيم الاستبداد؛ فإن (الانتلجنسيا) العربية؛ تقوم بنفس الوظيفة؛ لكن من منطلقاتها الخاصة؛ حيث تعمل على استثمار رأسمالها الثقافي؛ لإضفاء الشرعية على الأنظمة الاستبدادية السائدة.

 و في هذا الصدد يرى الأستاذ عبد الله العروي أن أدبيات القرن التاسع عشر المخزنية (في المغرب) على غرار كتاب (الفخري في الآداب السلطانية) بمنزلة تنظير لممارسات "التدبير السلطاني"؛ و يلاحظ الأستاذ العروي أن هذه الأديبات؛ على الرغم من كل مستجدات القرن التاسع عشر؛ و ما حفل به من قضايا و أسئلة؛ " لا تعمل إلا على اجترار أمثلة و استشهادات من هنا وهناك؛ بعيدة كل البعد عن طبيعة الأسئلة المطروحة؛ فكانت بالتالي إعادة إنتاج مملة لما سبق أن قاله و أعاد قوله الآداب السلطاني" (9)

 و لعل ما قاله الأستاذ العروي؛ عن نخبة القرن التاسع عشر؛ هو ما يمكن أن نقوله اليوم عن النخبة العربية المعاصرة؛ و التي لا تعدو أن تكون صناعة في غاية لإتقان؛ للنظام الاجتماعي و الثقافي و السياسي السائد؛ و هو نظام يشكل امتدادا طبيعيا للنظام القديم؛ لان الحداثة التي بإمكانها اختراق هذه البنيات القديمة؛ و استبدالها ببنيات حديثة؛ ظلت حداثة شكلية مشوهة؛ لم تستطع بعد النفاذ إلى عمق المجتمع و الدولة و الفكر .

 و لذلك فإن منطق الآداب السلطانية؛ ما زال هو المتحكم في صناعة (الأنتلجنسيا) العربية؛ و هذا ما يشجع على استمرارية الدولة المملوكية الاستبدادية؛ كما تعبر عنها الدولة العربية القائمة؛ التي تفتقد لفكر و مؤسسات الدولة الحديثة؛ سواء تعلق الأمر بترسيخ قيم الديمقراطية؛ من فصل بين السلطات و تداول سلمي على السلطة؛ و حرية الرأي و التعبير ... أو سواء تعلق الأمر ببناء مؤسسات الدولة الحديثة؛ برلمانا و حكومة و قضاء و إعلاما حرا؛ بناء يستجيب للمنطق السياسي الحديث؛ و ليس بناء مؤسسات (جثث) بلا روح و لا حراك؛ تعلن ببناياتها الفخمة الشاهقة عن صورة الدولة الحديثة؛ بينما تخفي داخلها نموذجا سياسيا مملوكيا؛ يقوده فقهاء الآداب السلطانية.

 إن (جون ووتر بيري)؛ حينما يفسر فشل تجربة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي؛ بناء على فشل المجتمع؛ في تشكيل أنتلجنسيا مستقلة عن الدولة؛ إنما يقرر أمرا واقعا؛ نعرفه و نعايشه جميعا في عالمنا العربي؛ حيث سيادة الريع السياسي و الاقتصادي؛ الذي يشجع على الاتكالية و الوصولية و الانتهازية داخل المجتمع؛ و النخبة الثقافية بدورها؛ لا تنجو من هذا الواقع؛ بل على العكس من ذلك؛ فهي تكرسه؛ فحسب (جون ووتر بيري) فإن أغلبية النخبة المثقفة في العالم العربي؛ تعتمد اعتمادا مباشرا على الدولة أو تستخدم من قبلها؛ و هذا ما يجعل أغلبية مثقفي الشرق الأوسط؛ مثقفي الدولة .

 لكن؛ هل يمكن –اعتمادا على تحليل ووتر بيري- لتجربة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي؛ أن نستخلص أن هذا الانتقال من الاستحالة بمكان؛ في ظل ما هو سائد؛ من تواطؤ بين النخبة المثقفة و الأنظمة الحاكمة؛ و هو تواطؤ يخدم مصالح الطرفين؛ و لا أحد منهما مستعد للتضحية بمصالحه الخاصة؛ فهناك –حسب جون ووتر بيري- اتفاق مصالح الأنتلجنسيا و الدولة؛ تتجاوز موضوع المكافآت و الاستخدام و الإجازات المهنية؛ فتشمل شعورا قويا بالهوية و الأهداف المشتركة ؟

 ينقلنا هذا التساؤل مباشرة للحديث عن التحول الذي يعرفه مفهوم "المثقف" أو "الأنتلجنسيا" ذاته؛ و هو تحول يمنح للنخبة الثقافية دورا هامشيا في التغيير؛ و ذلك ناتج عن التحول الذي أصبح يعرفه مفهوم الثقافة _بالدلالة العلمية- التي اتسع مجالها؛ و لم تعد حكرا على فئة بعينها؛ إن الثقافة في ظل العولمة و اتساع دور وسائل الإعلام؛ و حركية المجتمع المدني؛ أصبحت ملكا مشاعا؛ ليست موضوع تلقين و لا موضوع احتكار؛ إن كل الناس عبر العالم؛ بإمكانهم استثمار ما توفره الشبكة العنكبوتية؛ و ما توفره وسائل الإعلام المختلفة؛ من إمكانيات هائلة للإطلاع؛ على مجالات ثقافية واسعة؛ لا يمكن أن توفرها المكتبات التقليدية؛ كما لا يمكن أن يوفرها التعليم التقليدي القائم على أساس التلقين و الشحن .

 إن المثقف/الأنتلجنسيا الذي امتلك لوقت طويل رأسمالا رمزيا؛ جعله مؤهلا لتأسيس سلطة موازية؛ لا تقل قيمة عن السلطة السياسية؛ يجد نفسه الآن يفتقد هذه السلطة؛ في ضوء التحولات التي فرضتها العولمة؛ و لذلك فإن مكانته الاعتبارية؛ لم تعد تؤهله لبناء الشرعية السياسية للنظام السياسي؛ الذي طالما باعه خدمات رمزية؛ في مقابل الحصول على مكاسب مادية .

 لقد تحدث المفكر الفرنسي (ميشيل فوكو) كثيرا؛ عن هذه الوضعية الجديدة التي يعيشها المثقف عبر العالم؛ و هو ينتقل من وضعية المثقف الشمولي/العضوي/ الملتزم؛ " المشتق من رجل القانون المرموق؛ و يجد تعبيره الأكبر في الكاتب حامل الدلالات و القيم" (10) إلى مثقف خصوصي؛ " مشتق من صورة أخرى؛ ترتبط بالعالم الخبير"(11).

 إن الانتقال من المثقف الشمولي؛ المشتق من رجل القانون؛ إلى المثقف الخصوصي؛ المشتق من العالم الخبير؛ يجعل المثقف الجديد يفتقد تلك الشحنة السياسية؛ التي رافقته لوقت طويل كسمة مميزة له؛ تجعله يحضر دائما في موازاة السلطة السياسية؛ إما عبر معارضتها؛ و إما عبر خدمتها.

 و بفقدانه لهذه الشحنة السياسية؛ فإنه يفتقد في الوقت ذاته؛ تلك المكانة الرمزية؛ التي استثمرها طويلا في تقديم خدمات رمزية للسلطة السياسية؛ قد تصل إلى مستوى إضفاء الشرعية عليها؛ للحصول على ريع سياسي أو اقتصادي؛ ضمن سيرورة مرسومة؛ تقوم على أساس تبادل المصالح المشتركة .

 فلما سئل (ميشيل فوكو) عن دور المثقف في عالم اليوم؛ كان جوابه أن " المثقف الذي يقال عنه أنه من اليسار؛ تناول الكلمة لمدة طويلة؛ و رأى أنه يعترف له بحق الكلام؛ من حيث هو سيد الحقيقة و العدالة؛ كان الكل يستمع إليه؛ أو كان يزعم انه مسموع إليه؛ كممثل لما هو شمولي (..) و أعتقد أن تلك الفكرة منقولة عن الماركسية؛ و من ماركسية باهتة؛ فكما أن طبقة البروليتاريا؛ بفعل ضرورة وضعها التاريخي؛ طبقة حاملة لما هو شمولي؛ فإن المثقف باختياره النظري؛ و الأخلاقي و السياسي؛ يريد أن يكون؛ هو حامل هذه الصورة الشمولية؛ لكن في صورتها الواعية و الكاملة - و يؤكد فوكو في الأخير- قبل سنوات من الآن؛ لم يعد يطلب من المثقف؛ أن يلعب هذا الدور؛ لقد نشا نمط جديد؛ من العلاقة؛ بين النظرية و الممارسة(12)

 إن هذا الواقع الجديد؛ الذي بدأت تفرضه العولمة؛ يفرض على النظام السياسي؛ البحث عن بديل للمثقف الشمولي؛ الذي طالما قدم نفسه كمصدر للشرعية السياسية؛ سواء كمثقف معارض؛ أو كمثقف رسمي؛ و هذا البديل لا يوجد في المعارضة السياسية –طبعا- لأنها امتداد غير مباشر للنظام السياسي؛ تجمعهما معا مصالح مشتركة؛ لا يمكنهما التفريط فيها؛ في سبيل تحقيق التحول نحو الديمقراطية.

 إن البديل الآمن الذي بدا يفرض نفسه الآن؛ هو الإرادة الشعبية؛ التي تعتبر مصدر أي ممارسة ديمقراطية ناجحة؛ و ذلك لأن الشعب وحده؛ هو القادر على منح الشرعية لأي نظام سياسي؛ أو نزعها عنه؛ لكن هذه الشرعية؛ لابد أن تمر عبر قنوات سياسية واضحة؛ تقوم على أساس حرية الرأي و التعبير؛ و المشاركة السياسية الواسعة؛ و الانتخابات النزيهة؛ و لا يمكن لهذه القنوات أن تكون صالحة –طبعا- إلا إذا التزمت فصلا واضحا بين السلطات؛ و تداولا سلميا على السلطة.

 و لعل هذا البديل وحده هو القادر على حماية دولنا و مجتمعاتنا العربية؛ من الانهيار الشامل الذي ينتظرها؛ لأن التحول نحو الديمقراطية؛ أصبح اليوم رهانا حتميا؛ إن لم تسع الأنظمة السياسية في شراكة مع شعوبها إلى تحقيقه؛ فإن الحتمية التاريخية قادرة على تحقيقه؛ لكن عبر عمليات جراحية غير محسوبة العواقب .

 إن ما نتمناه كشعوب و كأنظمة سياسية؛ هو أن نمتلك الجرأة الكافية؛ لإحداث تحول حقيقي نحو الديمقراطية؛ لحماية دولنا من أي انحراف نحو الفوضى (الخلاقة)؛ التي تعتبر المدخل الرئيسي نحو التدخل الخارجي في شؤوننا السياسية.

 

 

 

4-  في نقد مسلمة استحالة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي

 إن (جون ووتر بيري) مثله في ذلك مثل مواطنه (وليام زارطمان) حينما يربطان صعوبة (استحالة بالأحرى) الانتقال الديمقراطي في العالم العربي؛ بالتواطؤ الحاصل بين الدولة من جهة؛ و المعارضة السياسية و النخبة المثقفة من جهة أخرى؛ فإنهما معا لا ينظران سوى إلى وجه واحد للعملة؛ بينما يظل الوجه الآخر غامضا؛ مما يجعل التحليل في الأخير قاصرا عن الوصول إلى الحقيقة .

 و لذلك؛ فإننا نجد الباحثين معا؛ يؤكدان بوثوقية مطلقة؛ أن العالم العربي عاجز تمام العجز؛ عن الانتقال إلى الديمقراطية؛ و كأنهما يطمئنان الغرب على مصالحه الإستراتيجية؛ التي لا خوف عليها من أي تحول محتمل؛ و لذلك ما على الغرب سوى دعم الأنظمة الاستبدادية السائدة؛ القادرة لوحدها على حماية هذه المصالح !

 إن الأمر يتجاوز التحليل العلمي الموضوعي؛ و ذلك على شاكلة معظم الكتابات الأنجلوساكسونية –الأمريكية خصوصا- التي يتداخل فيها البعد الفكري بالبعد الاستراتيجي؛ في تناولها للقضايا و الأحداث عبر العالم. فالمحلل و المنظر السياسي توجهه دائما روح البراجماتية؛ و هو يفكر فيما ستربحه القوى الغربية العظمى؛ من أي تحول أو استمرارية؛ في الأوضاع السياسية عبر العالم .

 و إذا كانت منطقة الشرق الأوسط تشكل محور الصراع الدولي على الطاقة؛ فإننا يمكن أن نفهم جيدا؛ لماذا يطمئن هؤلاء الباحثون/الإستراتيجيون صناع القرار السياسي الغربيين؛ أن الوضع السياسي في العالم العربي جثة هامدة بلا حراك؛ لأن الدولة الاستبدادية الحامية لمصالح الغرب الإستراتيجية؛ محصنة كامل التحصين؛ فهي نجحت في تدجين المعارضة السياسية؛ كما نجحت في تدجين النخبة الثقافية؛ و ذلك عبر نسج علاقات مصالح متبادلة؛ يستفيد منها الطرفان؛ و لا احد من الطرفين مستعد للتضحية بمصالحه الخاصة؛ في سبيل التحول نحو الديمقراطية .

 إن الاستبداد و الحرمان من الديمقراطية – حسب تحليل ووتر بيري و زارطمان- قدر مقدر على العرب؛ و ما عليهم سوى أن يصبروا و يصابروا؛ خدمة للمصالح الإستراتيجية الغربية؛ التي تحميها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة؛ و من شأن الممارسة الديمقراطية؛ أن تهددها في أي وقت و حين؛ عبر صعود حكومات؛ تعتبر مصالح شعبها أولوية الأولويات !

هل يمكن بعد هذا أن نطمئن إلى الدعوات الغربية –الأمريكية خصوصا- التي تزعم أنها تعمل على نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ؟

و هل يمكن أن نطمئن إلى دعوات التغيير من الخارج؛ التي تعتمد لفرض الهيمنة و السيطرة؛ عبر فرض أجندة استعمارية؛ تقودها معارضة مأجورة؛ تسعى إلى تحقيق المصالح الاستعمارية للغرب و حماية مصالحها؛ أكثر مما تسعى إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي في بلدانها ؟

 إن ما لم يأبه له (جون ووتر بيري) كما لم يأبه له (وليام زارطمان)؛ هو أن الشعوب العربية؛ قادرة لوحدها على تغيير أوضاعها؛ من دون أي توجيه أو قيادة خارجية أو داخلية؛ و دخول المعارضة السياسية و النخبة المثقفة العربية؛ في علاقة تواطؤ مع الأنظمة الحاكمة؛ لا يعني تماما أن هذه الأنظمة في مأمن من التغيير؛ و ذلك لأن الإرادة الشعبية التي بدأت تتشكل في العالم العربي؛ على ضوء ما تفرضه العولمة و تقنيات الاتصال و موجات المجتمع المدني؛ هي أقوى بكثير من أي تأثير؛ يمكن أن تشكله المعارضة السياسية أو النخبة المثقفة؛ التي تظل عوامل تقليدية في أي تغيير محتمل .

_____

الهوامش:

1- أنظر: محمد عابد الجابري ، العقل الأخلاقي العربي ، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ،2001).

2- سعيد بنسعيد العلوي – الإسلام و الديمقراطية – سلسلة المعرفة للجميع ع: 26 – أكتوبر – نونبر 2002 - منشورات رمسيس – ص: 52- 53

3- وليم زارطمان – المعارضة كدعامة للدولة – نقلا عن سعيد بنسعيد العلوي – المرجع السابق – ص: 69

4- جون ووتر بيري – إمكانية التحرك نحو الليبرالية السياسية في الشرق الأوسط – نقلا عن سعيد بنسعيد العلوي – المرجع السابق – ص: 71

5- الطاهر لبيب- هل الديمقراطية مطلب اجتماعي؟ علاقة المشروع الديمقراطي بالمجتمع المدني العربي – ضمن أعمال ندوة المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية – منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – 1992 – بيروت – ص: 339.

6- جون ووتر بيري – المرجع السابق

7- محمد الناجي - العبد و الرعية: العبودية و السلطة و الدين في العالم العربي – المكتبة الوطنية- يناير 2009 - توطئة ريجيس دوبري- ص: 9 .

8- عبد الرحيم العلام- الآداب السلطانية: دراسة في بنية و ثوابت الخطاب السياسي – عالم المعرفة –ع :324- 2006 – (ص:8-9).

9- Abdellah laroui – les origines sociales et culturelles du nationalisme marocaine (1912-1980) – centre culturel arabe – 1993 – p : 222-

10- ميشيل فوكو – حوار أجراه معه (م . فوينتانا ) و نشر بمجلة القوس (L’ARC)- ع: 70 - 1977 .

11- نفس المرجع

12- نفس المرجع

_________

*كاتب و باحث أكاديمي مغربي

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

   

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ