ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الإسلام
والنظام السياسي بين الأسس
والمصادر بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله* البداية
: إن كلمة
الديمقراطية كلمة دخيلة في
لغتنا العربية الأم ،لم
يتداولها الناس قبل القرن
العشرين ،فلم يكن أجدادنا العرب
في صدر الإسلام على اتصال بما
أبدعه وأنتجه العقل الإغريقي
،من علوم ،ومعارف وثقافات ، حتى
العصر العباسي الأول ( العصر
الذهبي للحضارة الإسلامية ) ،
الذي بدأ العرب يترجمون فيه
التراث الإغريقي إلى لغتنا
العربية الخالدة . وإذا
جاز أن يكون الأجداد العرب قد
سمعوا في هذا العهد - عهد
الترجمة - كلمة الديمقراطية
،فقد كان هذا السماع مقصوراً
على دائرة ضيقة جداً من العلماء
الذين قاموا بعملية الترجمة ،أو
الذين اتصلوا بالمترجمين ،أي
أنها لم تشع في ذلك الحين ،ولم
تستعمل بين الجمهور للدلالة على
هذا المعنى الخاص الذي تدل عليه
اليوم وهو حكم الشعب لنفسه
بنفسه . ومما هو
جدير بالذكر في هذا الصدد أن
الترجمة حين بدأت في القرن
الثالث من الهجرة ( التاسع من
الميلاد ) كانت ترجمة حرفية
بمعنى الكلمة ،نقرأ فيها الحرف
الأصلي للكلمة المترجمة دون ما
تدل عليه من معنى .لذلك كانت
كلمة ( فيزيقي ) مستعملة في اللغة
العربية كما كان يستعملها
الإغريق لتدل على ما نسميه
اليوم ( الطبيعي ) نسبة إلى
الطبيعة . وكلمة (
ميتا فيزيقي ) لتدل على ما نسميه
اليوم ( ما وراء الطبيعة ) ،
وكلمة ( بوليتقي أو بوليتكي )
لتدل على ما نسميه اليوم
بالسياسة ،وكلمة (ديمقراطي)
لتدل على ما نسميه اليوم بـ (
الديمقراطية ) وهكذا دواليك . غير
أنها - أي هذه المصطلحات - بقيت
كسائر الأسماء المنقولة من
اللغة اليونانية كأنها أسماء
أعلام معروفة فقط لهؤلاء الذين
لهم اتصال علمي قريب بها
،فكأنها كانت وقفاً على هذا
النفر القليل من العلماء
،المعني بالدراسات الاجتماعية
والسياسية من التراث الإغريقي . وأما
سائر الأجداد من العرب فكانوا
كالعرب قبلهم ، لا يعرفون شياً
يذكر عن تلك الأفكار اليونانية
، والكلمات الإغريقية المعربة . وليس
معنى كلامنا هذا أن أجدادنا
العرب كانوا يجهلون مدلولها ،
الذي تدل عليه اليوم ،كما كانوا
يجهلون اللفظ ،فالعرب أحرار
بطبيعتهم ،وديمقراطيون بطبيعة
تكوينهم وبيئتهم ،وسنرى معاً
هنا إلى أي مدى كان الإسلام
الحنيف ديمقراطيا في نزعته ،وفي
تشريعاته ،وفي مقدرته على تكييف
حياة المسلمين العملية . العرب
والعالم قبل الإسلام : قام
الرسول محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) يدعو الناس جميعا إلى
التوحيد ، والفضائل الكريمة في
بلاد تفشت فيها عبادة الأوثان
والجهالة قلبا وقالبا . كما كان
القوم في بلاد الحجاز عاكفين
على الظلم والاستبداد ،وعلى
أعمال السلب والنهب ،وعلى الغزو
والتقاتل ،وعلى شرب الخمر ،ولعب
الميسر ، والتفاخر بالا حساب
والأنساب ،وقوة الشكيمة
والإتباع ،وكثرة النفر والنفير
،أضف إلى ذلك ما كان ينتشر بينهم
من عادات اجتماعية قبيحة مثل
وئد البنات أحياء ،والطبقية
البغيضة ،والفرقة العنصرية . لقد
كانت بلاد الحجاز في مجموعها
بلاداً جرداء قاحلة لا زرع فيها
ولا نبت ولا ماء ، بلاد كلها
صحارى وجبال و وهاد ونجاد ،بلاد
عف الفاتحون عنها فبقيت في عزلة
واستقلال ،كما ظل أهلها متمتعين
بحرية الحركة والانتقال
،يتصرفون في أمورهم كما يشاءون
،من غير أن يكون لهم وازع إلا
المصلحة القبلية مع العصبية
والوثنية . وحول
هذه الصحراء القاحلة الجرداء
كان يوجد من جهة الشمال
إمبراطوريتان عظيمتان ،هما
إمبراطورية الرومان الشرقية
،وإمبراطورية الفرس أو
الأكاسرة ،ويوجد من جهة الغرب
البحر الأحمر ، ومن جهة الشرق
صحراء شاسعة ،ومن ناحية الجنوب
كانت بلاد اليمن والتي كان لا
يؤبه بها في تلك الآونة . ومن حيث
الحكومة ،وشئون السياسة كانت
بلاد الفرس تحت حكم الطغيان ، أي
حكم الفرد المستبد الذي لا يخضع
في حكمه إلا لما يمليه عليه عقله
وإرادته . أما
بلاد الرمان الشرقية ،وهي التي
كان يعبر عنها العرب بأمة الروم
،فقد كان لها إمبراطور يحكمها
،وكانت ذات قوانين وضعية من
أهمها تلك التشريعات التي وضعها
( جوستانيوس ) في القرن السادس من
الميلاد ،فوضع ما يسمى ( ديجست )
و ( أنستيتوس ) و ( توفل ) و (
القوانين ) . وبالرغم
من تلك القوانين ،ومن هذه
الشرائع التي وضعت أيام (
جوستانيوس )وقبله أيضاً فقد هذه
الإمبراطورية مقطعة الأوصال
،مفككة العرى ،عم فيها فساد
الحكم ،والطغيان ،وانتشرت فيها
المحاباة والرشوة ، والفساد حتى
ضعفت قوتها وتفككت ،ففتحت
لنفسها أبواب الانهيار والزوال
. أما
العرب فكان لا يتحكم فيه إلا
التقاليد القبلية ،والمصالح
والنزعات والشهوات . وأشرقت
الأرض بنور ربها :- في
هذا العصر ظهر النبي الأمي
،محمد بن عبد الله ،المبعوث هدى
ورحمة للعالمين ( صلى الله عليه
وسلم ) ،وقام يدعو إلى التوحيد
،وهو جوهر الإسلام وأساسه ،ذلك
التوحيد الذي يعني أن الله عز
وجل لا شريك له ، هو الواحد
الأحد ، الفرد الصمد ،الذي لم
يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفواً
أحد . ويبين
أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم )
ليس إلا عبد الله ورسوله ،لا
يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، ولا
يملك لأحد شفاعة إلا أن يأذن
الله تعالى له ،وأنه إنسان وبشر
أوحي إليه برسالة فحسب ،وهو بشر
مثل سائر البشر إلا أن الله
اختصه بأن يكون رسولاً ونبياً ،
وليكون خاتماً للأنبياء
والمرسلين ،معلناً كلمة
التوحيد التي جوهرها أن الله
واحد لا شريك له ،له الملك من
قبل ومن بعد . جاء
الإسلام ليعلن في وضح ساطع
البيان أنه ليس هناك بين العبد
وخالقه أي حاجز ،فلا وساطة ولا
وسيط ،والطريق إلى الله مفتوح
لكل إنسان يصل إليه من أراد
،بعمله وتقواه ،بجده واجتهاده
،بعمله الصالح لا بحسبه أو نسبه
أو جاهه أو سلطانه ،أو باعترافه
للقديسين والكهان ،أو بصلاتهم
له ،فليس هناك اعتراف لغير الله
،أو توبة إلا له سبحانه وتعالى
،فهو التواب الرحيم ،القريب
الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه
،المهم أن ندعو الله بصدق
،وبقلوب خاشعة مؤمنة . ليس في
الإسلام نظام كهانة أو كهنوت أو
رهبانية أو زهد مبالغ فيه ،إنما
أباح الله تعلى لعباده من
الطيبات رزقاً طيباً ، ودعا إلى
العبادة التي بجوارها السعي في
مناكب الأرض ،وتعمير المعمورة
الأرضية ، وبناء المجتمع الذي
فيه خير الناس جميعاً . بهذا
حطم محمد ( صلى الله عليه وسلم )
أوثان المشركين كاللات والعزى ،
ومناة الكبرى ،وهبل وغيرها من
الأصنام التي لا تنفع ولا تضر
،في نفس الوقت لا تليق بالعقل
الإنساني ولا الفطرة القويمة
التي جبل الله البشر عليها ،لقد
حرم الإسلام عبادة الأوثان
،انطلاقاً من دعوته الكريمة
التي نهضت بالعقل الإنساني إلى
ما يليق به من كمال إنساني ،وسمو
حضاري . لقد عرض
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه
إلى الأذى ،وعداء الأهل
والأقارب والجيران بل وأقرب
الناس إليه ،فتألبوا عليه ،
وجمعوا جموعهم لقتله ، فأنقذه
الله مما كان يمكرون . وعلى
الرغم من ذلك كله فقد كانوا كلما
أمعنوا في إيذائه قال :" اللهم
اهد قومي فإنهم لا يعلمون ." . إصلاح
اجتماعي فريد : - جاء
محمد (صلى الله عليه وسلم ) ليحرم
بالقرآن الكريم الخمر والميسر
،وكل العادات والتقاليد
والأعراف القبيحة التي تهدر
قيمة الإنسان في كل زمان ومكان
،حرم وأد البنات حيث كان
المشركون يرون من العار والشنار
أن تكون لهم بنات ،فكان من بينهم
من يضعها في حفرة ،ويهيل عليها
التراب حتى تموت ،ويقال أن
الفاروق / عمر بن الخطاب ( رضي
الله عنه ) فعلها مع ابنة له في
الجاهلية الأولى ،وظل يتذكر هذا
الموقف طوال حياته متألماً ،
نادماً ،متحسراً لقد منع رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه
الوحشية ،وأزال هذه الجهالة
،وجعل للبنات حقاً في العيش
كالبنين ،وغيرهم من سائر خلق
الله . وجعل
للناس جميعاً واجبات
وحقوقاً،وأشاع فيما بينهم أن
أحبهم إلى الله تعالى هو أنفعهم
للناس جميعاً ، وبعد ذلك عليهم
أن يتسابقوا ما وسعهم الجهد إلى
الجهاد في سبيل الخيرية ،والخير
الاجتماعي العميم حتى يوجد شعب
،يستعد كل فرد من أفراده
للتضحية بمصالحه الشخصية في
سبيل المصلحة الاجتماعية
العامة . عبادات
جوهرها المساواة :- كما
أوجب الصلاة ،والزكاة ،وصوم
رمضان ،وحج بيت الله الحرام لمن
استطاع إلى ذلك سبيلا ،أوجب ذلك
ليطهر قلوب الأفراد ويزكيها
،وأيضاً ليهيئ للمسلمين فرصاً
اجتماعيه يلتقون فيها كل يوم
وليلة لتتأكد عرى الروابط
بيمنهم ،ويلتقون فيها من كل عام
في رحاب مكة المكرمة ،ويكونون
بذلك مؤتمراً إسلامياً جامعاً ،
يتداولون فيه شئونهم ،ويتدبرون
أمورهم ،ويقررون ما فيه خيرهم
وصلاحهم ،حتى ينهضوا إخوة
متآزرين ، متصافين ،متحابين
،كالبنيان المرصوص يشد بعضه
بعضا . ونادى
بأن الناس سواء لا فرق بين هاشمي
وغير هاشمي ،بين عربي وغير عربي
، بين أبيض وغير أبيض ، بين شريف
ووضيع ،بين هذا وذاك ،فالكل
سواء في الإنسانية ، والكل سواء
أمام القانون ،أمام الله سبحانه
وتعالى لا يتميزون إلا بالتقوى
،والعمل الصالح . لقد
خلقنا الله من ذكر وأنثى
،وجعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف
،نتبادل الآراء والخبرات
والتجارب والمعارف والمنافع من
أجل واقع أفضل لنا ولزوينا
،فأكرمنا عند الله أتقانا ، ولا
فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى
والصلاح . أرأيت -
أيها القارئ - خيراً من هذا ؟ !
إنه النور الذي ينبثق من بين أمة
جاهلة متناحرة ،تجعل الناس
طبقات بعضها فوق بعض . وتتفاخر
بالأنساب والأحساب ،والقوة
والعصبية ،يجئ هذا النور لينادي
بأن الناس سواسية كأسنان المشط
،لا يتفاوتون ولا يتفاضلون إلا
بالتقوى والقلب السليم ،وإلا
بما يقدمونه لأمتهم من جلائل
الأعمال . ذلك
النور هو محمد بن عبد الله ( صلى
الله عليه وسلم ) المبعوث هدى
ورحمة للعالمين ،الذي لم يتلق
هذا السمو عن أحد من أهله وذويه .أو
عن البيئات التي كانت تعاصره
وتجاوره ( رومان أو فرس ) ،ولكنه
تلقاه عن الوحي الأمين الذي لا
ينطق عن الهوى ،فهو نور إلهي
يهدي الإنسانية جمعاء إلى أرقى
ما يهدف إليه الإنسان الكريم . كفل
محمد ( صلى الله عليه وسلم )
للمرأة حريتها واحتفظ لها
بإنسانيتها ،ولم يجعلها متاعاً
،بل إنساناً بما يتمتع به كل
إنسان من حقوق وواجبات .فلها أن
تملك المنقول والعقار ما شاء
لها حق التملك .ولها أن تبيع
،وأن تهب ،وأن توصي وتقاضي كما
تريد . ولها حق الإرشاد ،ولها حق
التعليم والمعرفة . ولا ينقص حق
من هذه الحقوق بزواجها فهي
تحتفظ بمالها وذمتها المالية
مستقلة عن مال زوجها ،كما لها أن
تتصرف فيه كما تشاء وأن توكل
عنها ما تشاء ،دون أن يكون
لزوجها سلطان عليها في ذلك كله . مكارم
الأخلاق والسلام العادل :- جاء
الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق
،ولينهض بالإنسان إلى مكانة
علياء ،فاحترم عقله وإرادته
وحريته ،وتركه حراً من غير أن
يكرهه على أن يعتنق هذا الدين أو
ذلك الدين ،فلا إكراه في الدين
بعد أن تبين الرشد من الغي . ولم
يشرع الحرب للحرب أو كأداة
لإلزام الناس أن يكونوا مؤمنين
بل دفاعاً عن النفس والعقيدة
،تأميناً لطريق الدعوة بالحكمة
والموعظة الحسنة ،فلا يجب أن
نقاتل في سبيل الله إلا الذين
يقاتلوننا أو يعتدون علينا ،ولا
يجب أن نعتدي على الآخر لأن الله
لا يحب المعتدين ، ولكن الله لا
ينهانا عن الذين يقاتلوننا
،والذين أخرجونا من ديارنا ،
كما يجب علينا أن نقسط في كل شئ
فالله يحب المقسطين . ولنقل الحق
من ربنا فمن شاء فليؤمن ،ومن شاء
فليكفر . ومن
يقرأ خطب الرسول الكريم ( صلى
الله عليه وسلم ) الخالدة تجده
فيها ينهى عن حرب التخريب
والإبادة والعنصرية والشدة
،ويحرم حرب الاستئصال والإبادة
، فكان يقول في وصاياه : لا تقتل
امرأة ولا صبياً ،ولا كبيراً
هرماً.ولا تقطع شجراً مثمراً .ولا
تخرب عامراً ولا تعقر شاة ولا
بعيراً إلا لمأكله .ولا تعقر
نحلاً ولا تحرقه ولا تغلل ولا
تمثل ،ولا تقتل أصحاب الصوامع
،أي المعتكفين على العبادة من
غير أهل دين الإسلام . إلى غير
ذلك من الأوامر والنواهي ،التي
تبين بوضوح أنها لم تكن حرب غيظ
ونكاية . بل حرب
ضرورة أثارتها أحقاد قوم لا
يعقلون ،ولا يريدون أن يتركوا
الأبواب مفتحة في سبيل دعوة
رشيدة ،تتبع خير الطرق وأسلمها . الإسلام
وتقديره للعلم والعلماء :- كما
ارتفع الإسلام بالعلم والعلماء
في عصر الجهالة والجهلاء فقرر
أنه لا يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون ،والذين يعون
ويتذكرون هم أصحاب العقول
الراجحة ، والله تعالى يرفع
أصحاب الإيمان الصادق الواعي
،والذين أوتوا العلم درجات
،وبالتالي لا يستوي الأعمى مع
البصير ،ولا الظلومات مع النور . كما طلب
الإسلام منا أن نطلب العلم
والمعرفة في كل مكان ،ولو كان
هذا المكان في أقصى بلاد الدنيا
،في نفس الوقت نطلبه من المهد
إلى اللحد ، والعلم فرض عين وأمر
واجب على كل مسلم ومسلمة . ويؤكد
الإسلام على تعلم العلم الدنيوي
أي كل العلوم الطبيعية من طب
وصيدلة وفلك وهندسة ورياضيات
،وكذلك العلوم الإنسانية
والاجتماعية ،إلى جانب العلوم
الدينية من قرآن كريم وحديث
شريف وفقه وأصول ،إلى آخر
العلوم التي تعرف الإنسان بدينه
الحنيف ،أي أن الإسلام يدعو إلى
ربط العلم بالإيمان ،معلنا
شعاراً رائعاً فحواه ( كلما
ازددت علماً ،ازددت إيماناً ) . فتعلم
العلم سواء أكان دينياً أو
دنيوياً هو احترام للعقل
الإنساني الذي مجده الله في
محكم آياته القرآنية ،وذلك لأن
التعلم والعلم خشية لله
،وطلبهما عبادة ،ومذاكرتهما
تسبيح ، والبحث عن المعرفة ،وعن
الحقائق العلمية جهاد فيه السمو
والنبل ، وتعليم العلم لمن لا
يعلمه صدقة لها أعظم الأجر عند
الله . وقد سوى
الإسلام بين مداد العلماء ودم
الشهداء ،فالعلماء لهم المنزلة
العليا والدرجة الرفيعة عند
الله تعالى مع الصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقا . لقد
ارتفع الإسلام بالعلماء وأهل
العلم حتى سماهم أهل الذكر ،أو
أولياء الأمر ،يسألهم الناس عن
الأمور التي يختلفون فيها
فيرشدونهم إلى سواء السبيل
،ويرجع الحاكمون والمحكمون على
السواء إلى علمهم وخبرتهم في كل
وقت . وبلغ من
حبه ( صلى الله عليه وسلم ) للعلم
والتعلم أن جعل فداء من يقرءون
ويكتبون من أسرى ( بدر ) أن يعلم
كل واحد منهم عشرة من أبناء
المسلمين في المدينة القراءة
والكتابة ،في وقت كان الإسلام
فيه أحوج ما يكون للرجال والمال
. الشورى
وأهميتها في الإسلام : جعل
الإسلام أمر الناس شورى فيما
بينهم بعد أن وضح قواعد عامة ،
ومبادئ عليا صالحة للتطبيق في
كل زمان ومكان ،وترك الإسلام
للعقل الإنساني بعد ذلك فيما
عدا قليلا من التشريعات
التفصيلية حرية الحركة والأداء
والعمل في كل العصور والأزمان . ومعنى
الشورى :استعانة الحاكم برأي
غيره ، من الحكماء والعلماء
وذوي الخبرة ، وأهل الرأي
والتجربة من أجل الوصول إلى أصح
الآراء فيما يصادفه من معضلات
ومشكلات ،وقد حث الإسلام على
الاستمساك بهذا المبدأ ،واتخذه
أساساً للحكم . وجاء في
القرآن الكريم :{ والذين
استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة
وأمرهم شورى بينهم . ومما
رزقناهم ينفقون } [ الشورى : 38 ] وجاء
أيضاً { فيما رحمة من الله لنت
لهم . ولو كنت فظاً غليظ القلب
لأنفضوا من حولك فاغف واستغفر
لهم وشاورهم في الأمر . فإذا
عزمت فتوكل على الله . إن الله
يحب المتوكلين }[آل عمران : 159 ] . كما
أوجب الإسلام طاعة رسوله ،وطاعة
أولي الأمر ما لم يأمروا بما
يخالف الله وفي الحديث الصحيح :
" السمع والطاعة حق على المرء
فيما أحب أو أكره ما لم يؤمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة ،وإنما
الطاعة بالمعروف " [ متفق عليه
] كيف
يتحقق مبدأ الشورى في الإسلام ؟ يتحقق
مبدأ الشورى في الإسلام بأمرين
:- الأمر
الأول : - اختيار الحاكم ،
ومبايعته على الطاعة ،وقد كان
المسلمون يختارون من يرونه
أهلاً للقيام بتبعات الحكم
،فتتم له البيعة .فإذا نظرنا في
بيعة "أبي بكر " الصديق (
رضي الله عنه ) بعد وفاة النبي
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
وبيعة " عمر بن الخطاب " (
رضي الله عنه ) ، وبيعة " عثمان
بن عفان " ذي النورين ( رضي
الله عنه ) ، وبيعة " علي بن
أبي طالب " ( رضي الله عنه )
،وجدنا الناس جميعاً يجتمعون ،
ويختارون خليفتهم ،ثم يبايعونه
،وإذا كان النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) قد كلف " أبا بكر "
الصديق بأن يصلي بالناس ، عندما
مرض مرض الموت ،إلا أن الناس قد
بايعوه بالخلافة بعد وفاته . وإذا
كان " أبو بكر " الصديق ( رضي
الله عنه ) قد أشار باستخلاف
الفاروق "عمر بن الخطاب " (
رضي الله عنه ) .. إلا أن الناس قد
بايعوه بالخلافة ،وإذا كان "
عمر بن الخطاب " ( رضي الله عنه
) قد رشح ستة من الرجال للخلافة
من بعده ، إلا أن الناس اختاروا
" عثمان بن عفان " ذا
النورين ( رضي الله عنه ) وبايعوه
بالخلافة ، وكانت الكلمة
الأخيرة في كل مرة للمسلمين أي
للشعب . الأمر
الثاني :- تصريف الحاكم لأمور
الشعب ؛ ويكون ذلك بمشاورته ،
والأخذ برأيه - مادام صالحاً -
،وكان رسول الله المعلم القائد (
صلى الله عليه وسلم ) كثير
المشاورة لجميع أصحابه ،
ليستخرج منهم الرأي فيما لم
ينزل به وحي من السماء ، خاصة
فيما يتعلق أو يتصل بالأمور
الحياتية ، وكان يقول لهم "
أنتم أعلم بشئون دنياكم " . ففي
غزوة بدر الكبرى أخذ النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) برأي الصحابي /
الحباب بن المنذر ( رضي الله عنه
) ،حين اقترح عليه أن ينزل في غير
المكان الذي استقر فيه الجيش
الإسلامي ، وتحول الجيش فعلاً
إلى المكان الذي أشار به ، وحدث
أن أخذ الرسول ( صلى الله عليه
وسلم ) برأي أكثر من صحابي في
غزوات ومواقف أخرى . وكلنا
يعلم أن الصحابي الجليل / سلمان
الفارسي ( رضي الله عنه ) هو صاحب
فكرة حفر خندق حول المدينة لرد
هجمات الأحزاب المشركة ، فقد
استحسن الرسول (صلي الله عليه
وسلم )والصحابة هذه الفكرة
وأخذوا بها . كما أخذ
الرسول (صلي الله عليه وسلم )
برأي زوجته السيدة / أم سلمة (رضي
الله عنها ) في صلح الحديبية
،حين أشارت عليه بأن يخرج إلى
أصحابه ،ثم يذبح هديه ( أضحيته )
،وفعل المسلمون مثله،وهذا دليل
على أن رأي المرأة يحترم ويعمل
به،إذا وافق الصواب هذا
،وقد سار الخلفاء الراشدون سيرة
نبيهم ومرشدهم ومعلمهم محمد (صلى
الله عليه وسلم ) ،فكانوا
يستشيرون أهل الرأي والخبرة في
الأمور السياسية وغيرها ،
وامتدت المشاورة إلى الحاكم
،وإلى طريقة اختياره ،واختيار
الولاة ،وتسيير الجيوش ،وتوزيع
الغنائم . ويجدر
بالذكر أن " أبا بكر "
الصديق ( رضي الله عنه ) عندما
تولى الحكم ،أعلن للناس أنه ليس
بخيرهم ،وطلب منهم أن يعينوه
إذا أحسن ،وأن يقوموه إذا أساء
،وأن يطيعوه ما أطاع الله فيهم
،مؤكداً لهم أنهم في حل من طاعته
إذا مشى في طريق المعصية . وفي عهد
الفاروق / " عمر بن الخطاب "
( رضي الله عنه ) جعل من الصحابة
مجلساً للشورى ،فكان لا يضع
قراراً ،ولا يلغي قراراً قائماً
،إلا بعد عرض الأمر على المجلس
،لمناقشته ،والوصول إلى أفضل
رأي ممكن فيه ،وأنفع قرار
للصالح العام ،وعرف عن الفاروق /
" عمر بن الخطاب رضي الله عنه"
أنه كان يرحب ولا يرفض أي انتقاد
يوجه إليه من أحد أفراد الشعب . ونتذكر
قول رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) : " ما تشاور قوم قط ،إلا
هدوا لأرشد أمورهم " [ رواه
البخاري ] . وبهذا
المبدأ حقق الإسلام فكرة إشراك
الناس في الحكم وإعدادهم
للقيادة ،واقتناعهم بما يتخذ له
من الآراء ،والعمل على تنفيذها .
والكل
في حق الحياة سواء :- إن
المتأمل في مبادئ الإسلام يجد
أنه دعا إلى النهوض بالعقل
الإنساني والنهوض بالمرأة ،
والرقيق ،والفقراء والمساكين
،أي أنه دعا إلى التسوية
الشاملة بين جميع أفراد الجنس
ابشري ، لا يفترق في هذه التسوية
فردعن فرد لدينه ،أو لقومه ،أو
للونه ،أو لوضعه الاجتماعي ،لقد
أوجد الإسلام بهذا ديمقراطية
عالمية إنسانية ،مخالفة لتلك
الديمقراطيات المحلية ،ونفذها
على أحسن وجه بين الجماعة .
أرأيت كيف كان محمد ( صلى الله
عليه وسلم ) منفذاً لأوامر ربه
،ومسوياً بين الأشراف والأرقاء
؟ أرأيت
كيف غضب حين قال أبو ذر الغفاري (
رضي الله عنه ) لعبد زنجي ( ويقال
أنه قال هذا لبلال بن رباح مؤذن
الرسول صلى الله عليه وسلم ( رضي
الله عنه ) :" يا ابن السوداء
" ،قال له محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) :طف الصاع ،طف الصاع ،ليس
لأبن البيضاء على ابن السوداء
فضل إلا بالتقوى أو العمل
الصالح . أنظر
إليه وهو يقرر في حجة الوداع
دستور المسلمين في هذا الصدد
،فيقول : " أيها الناس :أن ربكم
واحد ،وأن أباكم واحد ،كلكم
لآدم ،وآدم من تراب ،أكرمكم عند
الله أتقاكم ،وليس لعربي على
عجمي ،ولا لعجمي على عربي ،ولا
لأبيض على أسود ،ولا أسود على
أبيض ،فضل ،إلا بالتقوى ،ألا هل
بلغت ؟ ! الهم فاشهد .ألا فليبلغ
الشاهد منكم الغائب " . فلما
بلغ الرسالة ،وأدى الأمانة
،وأهدى الأمة وكشف الغمة ،وأعلم
الناس بأن الله الخالق الأعظم
واحد لا شريك له ،وأن الإنسان هو
أعظم مخلوقاته الذي من الواجب
أن تحترم حقوقه دائماً وأبداً
،بعد ذلك انتهت مهمته السامية
في عالمنا الفاني وفارقه راضياً
مرضياً مطمئناً ،تاركاً فينا
ثروة عظيمة ،لو تمسكنا بها ما
ضللنا أبداً ،وكانت نوراً
هادياً ،وسراجاً منيراً إلى سبل
الرشاد والهدى ،تلك الثروة هي
كتاب الله المجيد ،وسنة رسوله
الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) تلك
الثروة العظيمة التي لا نجد لها
شبيهاً أو مثيلاً من عمل
الإنسان فقد ناقضة كل ما كان
عليه أهل الحجاز من عادات
وتقاليد وأعراف وعقائد ،وكذلك
ما رآه فلاسفة اليونان والرومان
والهنود ووصلوا إليه من ثقافات . وعلى
الجملة : فقد كان الإسلام ثورة
الإنسانية شاملة على كل أوضاع
التي كانت تستعبد الإنسان في كل
مكان ،وتقر استعباد الإنسان
لأخيه الإنسان ،وقد خلقهما الله
تعالى متساوين في جميع الحقوق
والواجبات . كان
الإسلام بحق هو دين الخلود ،دين
الإنسانية والسلام ،دين الحق
والإخاء ،الدين الذي كفل حقوق
الإنسان قبل أن يتاجروا بها في
زمن العولمة الغير سعيد ،دين
العدالة والشورى ،الدين الخاتم
للأديان والرسالات ،الدين
المكمل لما جاء به الأنبياء
والرسل من قبل : إبراهيم ،وإسحاق
،ويعقوب ،وموسى ،وعيسى ( عليهم
سلام الله ) ،وبذلك اختتمت سلسة
الرسائل ،واكتمل بناء النبوة
،فقد أتم الله نعمته علينا
،وارتضى لنا الإسلام ديناً . وجاء
الصديق : انتقل
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
إلى الرفيق الأعلى ،فخلفه من
بعده " أبو بكر " الصديق
،وهو ذلك الصديق الصدوق الذي
كان أول مكن أسلم من الرجال
،وأول من صدق بالرسالة المحمدية
في وقت تكذيب الناس لها ،هو الذي
عرض نفسه لشدائد الأهوال ،وضحى
بماله في سبيل الله ،وفي سبيل
نصرة الدين الحنيف . لقد
تولى أبو بكر الصديق (رضي الله
عنه ) رئاسة المؤمنين بالمبايعة
،فبايعه في سقيفة بني ساعده بعد
جدل عنيف وخصومة ولجاج ،نفر
قليل من الناس ،ثم تابعهم سائر
المسلمين ،وبذا تمت البيعة
،ولزمت الطاعة ،فقام خطيباً
موضحاً أسلوب الحكم الذي سوف
يسير عليه ،فأبان أنه حكم شورى
،وأنه ليس إلا واحداً من
المسلمين ،يخطئ ويصيب ،فيحتاج
إلى رأي وإلى عون المؤمنين
ليرشدوه ،وليقوموا عوجه . قال
الصديق ( رضي الله عنه ) : "
أيها الناس قد وليت عليكم ولست
بخيركم ،فإن رأيتموني على حق
فأعينوني ،وإن رأيتموني على
باطل فسد دوني . أطيعوني ما أطعت
الله فيكم ،فإن عصيته فلا طاعة
لي عليكم . " . وورد
عنه أنه قال في خطبة أخرى :"
إنما أنا متبع ولست بمبتدع ،فإن
استقمت فتابعوني ،وإن زغت
فقوموني ." بهذا
الأسلوب الحكيم الذي انطلق من
القرآن الكريم ،وسنة رسول الله (صلى
الله عليه وسلم ) المطهرة ،بهذا
الأسلوب ساس الصديق المسلمين
،حتى توفاه الله راضياً مرضياً
عنه ،بعد أن وضع الدور الأول في
البناء الإسلامي الشامخ ،هذا
البناء الذي وضع لبنته الأولى
الرسول الكريم محمد ( صلى الله
عليه وسلم ) . الفاروق
عمر ،رجل نسيج وحده : وبعد
الصديق خلفه الفاروق / عمر بن
الخطاب ( رضي الله عنه ) بتوصية
من أبي بكر ،ما لبث أن وافق
عليها المسلمون فبايعوه
مختارين . وقام
يقول : " إن رأيتم في اعوجاجاً
فقوموني بحد السيف في ما لم أسمع
." ذلك هو
عمر ،الذي وصفه أستاذنا / عباس
محمود العقاد في كتابه القيم :(
عبقرية عمر ) بأنه نسيج وحده .عمر
الفاروق الذي جاء يسأل عنه رسول
قيصر الروم ليفاوضه في شأن
الصلح ،فوجده نائماً تحت شجرة
،لقد وجد خليفة المسلمين الذين
دوخوا كسري ،ورجال قيصر
،وأنزلوهم من صياصيهم ،وقلاعهم
الحصينة صاغرين ،وجد عمر نائماً
في العراء تحت شجرة ،يتوسد
حذاءه ،فبهت رسول قيصر ،وقال :(
حكمت ،فعدلت ،فأمنت ،فنمت يا
عمر) . ذلك هو
القاضي عمر ( رضي الله عنه )
الفاروق الذي فرق بين مرحلتين
أساسيتين مهمتين في تاريخ
الدعوة الإسلامية الغراء
،مرحلة السرية ومرحلة العلنية
التي بدأت بإسلامه جهاراً
عياناً ،عمر العبقري العادل
الذي بنى الإمبراطورية
الإسلامية لا حباً في المجد أو
الفتح أو الجاه أو السلطان أو
التوسع أو الغزو ،ولكن تأميناً
لدعوة الإسلام ،ولنشر نور الله
في العالمين ،ولم ينل عمر من
الفتوحات أو من دنياه كلها سوى
لقيمات يقمن أوده ،لقيمات لا
تكاد تغني اليوم سائلاً عن
سؤاله . أرأيت
كيف كان عدل عمر ،واحترامه
للحرية الفردية ،ولحقوق
الإنسان بوجه عام ؟ ! والقدس
موعدنا :- أنظر
إلى ما عمله عمر مع نصارى بيت
المقدس الشريف في فلسطين
العربية وسكانه ،وما أخذ على
نفسه وعلى المؤمنين من عهود
ومواثيق ،لتعلم أن الغاية من
الفتوحات الإسلامية لم تكن
توسعاً أو سيطرة أو هيمنة ،بل
تأميناً للدعوة الغراء ،ولحرية
العقيدة ،ولحرية التفكير التي
كان لا يسمح بها ،ومن كان يعلنها
أو يفكر فيها يعد من مرتكب
الجرائم الشنعاء التي لا تغتفر
عند حكام ما قبل الإسلام . نعود
لنقول :أنه عندما افتتح
المسلمون بيت المقدس الشريف طلب
البطريك ( صوفونيوس ) إلى القائد
/ عمر بن العاص ( رضي الله عنه )
قائد جيش المسلمين أن يطلب حضور
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
ليتسلم بشخصه بيت المقدس المطهر
،وليوقع معاهدة الصلح والسلام
بين الطرفين ،فلم تأخذ عمر
العزة أو الكبرياء ،بل استجاب
لطلب المغلوبين في تسامح وتواضع
،رغم أن بعض المسلمين اعترض على
ذهابه إلى فلسطين ،وأصر عمر على
الذهاب من المدينة المنورة إلى
بيت المقدس بفلسطين العربية على
ظهر دابة بتناوبها هو وخادمه
،متحملا مشاق الطريق وصعابه
،فما أن وصل إلى البيت حتى سلمه
البطريك مفاتيحه ،فقام بزيارة
كنيسة القيامة ،وفي أثناء ذلك
حان وقت صلاة الظهر ،فهم
الفاروق عمر بالخروج من رحاب
الكنيسة ،ولكن البطريك حاجه
قائلاً :إن الإسلام لا يمنع من
الصلاة في أي مكان ،وطلب إليه أن
يصلي في الكنيسة ،فاعتذر عمر عن
فعل ذلك ،لا كرهاً للصلاة في
الكنيسة ،وهي بيت من بيوت الله
يذكر فيها أسمه ،بل لأنه خشي أن
يأتي المسلمون من بعده في يوم من
الأيام ،ويتخذ هذا المكان
مسجداً لهم ،قائلين :هنا صلى عمر
. ! لله درك
يا أبن الخطاب ، ما أعدلك ،وما
أبعد نظرك ،ورؤيتك الحكيمة . !! ثم أعطى
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
أهل إيلياء هذا العهد الخالد
والذي جاء فيه : " هذا ما أعطى
عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء
من الأمان ،أعطاهم أماناً
لأنفسهم ،ولكنائسهم ،ولصلبانهم
،لا يكرهون على دينهم ،ولا يضار
أحد منهم . " . الإسلام
وحق تقرير المصير للشعوب : وانظر
معي كيف كانت الشعوب المضطهدة
تستقبل المسلمين بترحيب شديد
،واستبشار في المستقبل ،بل
يدعون أهل الإسلام إلى الدخول
إلى بلادهم دون حرب أو مقاومة
لهم ،ويفتحون لهم الأبواب على
الرحب والسعة ،كما فعل ( المقوقس
) عظيم القبط في مصر ،وكما فعلت
كثير من الشعوب ،والكثير من
حكام الأقاليم كي ينقذوا أنفسهم
وبلادهم من براثن الجعل
،والتخلف ،والعبودية ،والحكم
الغاشم ،وحكم الدخلاء الغاصبين
. نقول -
وبالله التوفيق - إن العرب لم
يكونوا في أي وقت من الأوقات
غاصبين أو مستعمرين ،أو طامعين
في الهيمنة أو السيطرة ،ولم
تحدوهم الباتة رغبة في الملك أو
المادة أو الجاه أو السلطان
،كان الأجداد من العرب على
إيمان تام بدعوة الإسلام
،القائمة في الأساس على الحب
والتسامح والإخاء ،والتي لبها
العدل والمساواة ،يحاولون ما
وسعهم الجهد إزالة الغوا شي
والعوائق التي كانت تقف حجر
عثرة أمام الضعفاء لتمنعهم من
الاستمتاع بالحياة الحقة ،التي
أساسها الأمن والأمان
،والإنصات لكلمة الهدى والرشاد
. لذلك لم
يكن المسلمون الأولون ،وهم أكبر
حجة في فهم معنى الإسلام ،يعدون
جيشاً للسيطرة ،أو للاستعمار
،ولكن كانوا يتركون من فتحت
بلادهم يديرون أمورهم بأنفسهم
كيفما شاءوا ،وإذا أسلموا
ودخلوا في دين الله لم يكن لأحد
عليهم من سلطان ،إلا سلطان كتاب
الله الكريم ،وسنة رسوله الهادي
البشير ( صلى الله عليه وسلم )
،وما للمسلمين بعضهم على بعض من
حقوق النصح بالتي هي أحسن
،والشفقة والإحسان . من أين
لك هذا ؟ - مبدأ إسلامي : والفاروق
/ عمر بن الخطاب هو واضع قاعدة
:" من أين لك هذا ؟ " حين كان
يحاسب عماله محاسبة شديدة
،ويراقبهم أشد المراقبة ،ويطلب
منهم عندما يعودون في عطلتهم أو
لزيارة أهلهم في المدينة
المنورة ،أن يدخلوا نهاراً لكي
يرى ما الذي يحملونه معهم ،وكان
يطلب منهم - من العمال والولاة -
كشف حساب سنوي عن ثروتهم ،في
الوقت الذي كان يعرف بدقة
أوضاعهم المادية قبل أن يتولوا
مناصبهم ،وعندما يتأكد من أي
تجاوز يرسل مندوباً عنه للوالي
أو العامل ليقوم بعملية حصر
كاملة لثروته ويقاسمه أمواله
،ويرسل نصفها إلى بيت المال
،وقد يعزله عن منصبه ،كما فعل مع
الكثيرين من عماله . كان عمر
الفاروق يؤكد دائماً على أن
الوظيفة الحكومية تكليف لا
تشريف ،وأن عمال الدولة لم
يرسلوا ليكونوا تجاراً يبغون
الثروة والجاه والربح ،أو
يستغلون نفوذ الإمرة والسلطان
من أجل مصالحهم الخاصة . إذن عمر
الفاروق هو واضع تلك القاعدة
التي وضعت لها بعض الدول في
العصر الحديث قوانين لمحاكمة
كبار المسؤولين عن كسبهم غير
المشروع ،أو استغلالهم للنفوذ . الإسلام
والوحدة الوطنية : في عهد
الفاروق عمر تسابق ابن قبطي
مصري ،مع ابن لعمرو بن العاص
والي مصر من قبل عمر بن الخطاب (
يقال أن هذا السباق سباق خيل أو
سباق عدو ) ،وعمرو بن العاص هو
فاتح مصر ،والعارف بكل شئونها
،وكانت نتيجة السباق أن فاز به
ابن المصري القبطي ،فاغتاظ إبن
الأمير ،وصفع المصري أو ضربه
أمام الناس ،قائلا له :أنا ابن
الأكرمين !! - هنا أقسم المصري أن
يشكو إلى عمر بن الخطاب الذي
فعله ابن عمرو ،وبالفعل وصلت
الشكوى إلى عمر ،فأسرع باستدعاء
عمرو وابنه مقبوضاً عليهما ،كما
استدعى المصري القبطي وابنه علي
نفقة بيت مال المسلمين معززاً
مكرماً ،وبمجرد أن حضر الجميع
أعطى عمر للمصري درته ،وقال له :اضرب
ابن الأكرمين ،فلما فعل قال له :اضرب
الأمير ،فرد عليه المصري :إن
الأمير لم يضربني ؟ - وفي رواية
أنه قال:اضربه لأنه لم يربي ابنه
،وإن لم تفعل سأضربه أنا . وبعد
ذلك يوجه الفاروق عمر كلمته
المشهورة إلى الأمير /عمرو بن
العاص : ( متى استعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحراراً . !! ؟ ) هذه هي
الوحدة الوطنية في أعظم صورها
،عندما تكون نسيج واحد ،لا فرقة
ولا تفرقه ،لا عنصرية ولا عرقيه
ولا طائفية ،عندما يكون الدين
لله تعالى والوطن لنا جميعاً . الإسلام
بين حرية الرأي والتكافل
الاجتماعي : مازال
عمر معنا ،ننهل من مواقفه
الإنسانية النبيلة الرائعة
،ولا غرو في ذلك ،لأن عمر أحد
تلاميذ المدرسة المحمدية
،مدرسة محمد النبي المعلم ،
الهادي البشير ( صلى الله عليه
وسلم ) ،المدرسة التي علمت
البشرية احترام العقل ،واحترام
جميع حقوق الإنسان . أرأيت
كيف رضخ عمر الفاروق لقول امرأة
حين أراد تحديد المهور لما رأى
تغالي الناس فيها ،فقالت له
امرأة :كيف نصيخ ( نستمع ) لرأيك
والله يقول : { وإن أتيتم إحداهن
قنطاراً } ،فاستسلم عمر ،وقال :أصابت
امرأة ،وأخطأ عمر !. وقصة
إنقاذ عمر للأطفال الجياع
معروفة :حيث نرى عمر أمير
المؤمنين يجلس أمام النار ليسوي
الطعام سريعاً لأطفال جياع
،والدخان يتصاعد في ووجهه
وعينيه ، من يفعل ذلك في أي عهد
من العهود ؟ ! تفقد
عمر الفاروق ذات يوم ( ليلة )
أحوال رعيته ،وكان يخرج كل ليلة
يعسعس في أنحاء المدينة ،يتفقد
أحوال الناس ،ويطمئن على
أحوالهم متخفياً حتى لا يعرفه
أحد فيعرف الأمور على حقائقها
من الناس ،ومن الواقع المعاش ،
الفاروق يرى امرأة توقد تحت قدر
،ورأى أطفالها حولها يبكون
جياعاً ،فاقترب منهم ،فسألها
عما بهم ،وعما بالقدر .فقالت له :يبكون
من شدة الجوع ،أما القدر فبه ماء
وحصى ،اعللهم به حتى يناموا . تألم
عمر أشد الألم وهرول مسرعاً إلى
بيت المال ( بيت الدقيق ) ورجع
يحمل دقيقاً وسمناً على ظهره
،فألقى بشيء منهما في القدر
،وصار ينفخ النار بفيه ،والدخان
يتخلل لحيته ،والدموع تنزل من
عينيه ،حتى أنضج الطعام ،فأكل
الأطفال حتى شبعوا ،ولم يتركهم
إلى أن لعبوا وضحكوا ، وناموا
هانئين ،قريري العين . وانظر
إلى عمر الحاكم العادل الذي
يدرك مسؤولياته جيداً تجاه
رعيته ،لا يفرق بين مواطن وآخر
،فقد غضب أشد الغضب حين رأى
شيخاً ذمياً يتسول ،قال عمر :إننا
لم ننصف الرجل ،نأخذ منه جزية
وهو قوي ،ثم نتركه وهو ضعيف .!ثم
أمر عمر على الفور أن يعطى الرجل
هو وأمثاله من بيت المال ما
يكفيه . تلك
كانت عدالة الفاروق عمر ،وتلك
كانت ديمقراطيته ، التي لم تكن
شيئاً ابتدعه من عندياته ،بل
تنفيذاً أصيلاً لروح الدين
ومبادئه . لذلك لم
يكن عمر بدعاً في هذا ،بل شاركه
فيه كل من أتى بعده من الخلفاء
والأمراء الذين حافظوا على جوهر
الدين وأسسه بتنفيذ أوامر الله
،والالتزام بكل ما أقره في
كتابه المجيد ،والبعد عن كل ما
نهى عنه ،أولئك الذين حافظوا
على قيم الإسلام ومبادئه والذين
إذا حاولنا أن نحصيهم أو نحصي
مآثرهم الاجتماعية لطال بنا
المقام طولاً يخرجنا من موضوعنا
الأصلي ،وعليه فقد اكتفينا بما
ذكرنا من أمثلة تبرهن على
معرفتنا العميقة الفعلية
العملية كمسلمين بالعدالة
الاجتماعية ،والديمقراطية
العامة الشاملة في عصور لم تعرف
سوى الظلم والجور والاستبداد . إن
الحديث عن الفاروق عمر ذو شجون
وكنا نود الاستفاضة في مواقفه
الإنسانية ،وفي سياسته الحكيمة
والتي ساس بها الأمة الإسلامية
أعظم سياسة فحقق لها الخير
والأمن والاستقرار ،كنا نود ذلك
ولكن أساتذة كرام ،وبحاثة عظام
كفونا مؤنة ذلك ،من أمثال
أستاذنا / عباس محمود العقاد في
سلسلته القيمة ( العبقريات )
وبالذات ( عبقرية عمر )
،وأستاذنا الدكتور / طه حسين في
كتابه ( الشيخان ) رغم تحفظاتنا
على بعض ما جاء فيه ،وأستاذنا
الدكتور / محمد حسين هيكل باشا
في كتابه ( الفاروق عمر ) ،فليعد
إليهم من أراد لتعم الفائدة
بإذن الله . ونظرة
على الآخر : لست
أريد هنا أن أعقد مقارنة
مستفيضة بين تلك العدالة
الشاملة ،والحرية الكاملة
،وبين الكبت والتعسف
والاستبداد الذي كان يئن منها
العالم في ذلك الحين ،وبعد ذلك
الحين . أنظر
معي الذي حدث ويحدث في فلسطين
العربية المحتلة ،وفي الشيشان
،والبوسنة والهرسك و كسوفا
وبورما والفلبين والصين والهند
وكشمير إلي أخر الأماكن التي
يتعرض فيها المسلمون لسوء
المعاملة . ونقلب
في كتب التاريخ لنجدها مليئة
بصور القهر الإنساني والجبروت
والطغيان ،ولنجد ونتبين أن ظلم
الناس والتحكم فيهم كان ديدن (
طبع ) حكام أوربا ،حتى بلغ أن قال
بعضهم - الملك لويس الرابع عشر
ملك فرنسا - في القرن السابع عشر
وأوائل القرن الثامن عشر من
الميلاد :" أنا الدولة "
،وقال آخرون :" أنا ظل الله في
أرضه " ، وظل ذلك الوضع سائداً
حتى جاءت الثورة الفرنسية التي
أعلن فيها الفرنسيون مبادئهم
الثلاثة ( الحرية / الإخاء /
المساواة ) تلك المبادئ التي
اعتمد عليها الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان الصادر عن هيئة
الأمم المتحدة ،ونقول دون
مبالغة أو تهويل أن مبادئ
الثورة الفرنسية أو بنود ميثاق
حقوق الإنسان ما هي إلا جزء من
المبادئ والقيم السامية التي
أعلنها الإسلام الحنيف منذ 1440
عاماً . الإسلام
الدين الذي لم يعرف تعذيب
الإنسان ، أو القسوة في معاملته
بتركه للوحوش الجائعة تنهش في
لحمه ، أو صلبه ، أو وضعه فوق
الخازوق ، أو رميه في الزيت
المغلي ، أو تقطيع أوصاله . الإسلام
لم يعرف حرق الكتب أو مصادرتها ،
لم يعرف محاكم التفتيش ، ولم
يعرف الحجر علي الآراء والأفكار
، نعم نحن نعترف بوجود بعض
التجاوزات في بعض الفترات
التاريخية ، لأسباب سياسية ،
ولم يكن في الإسلام الذي نادي
بحرية الرأي ، و الفكر، و
المعتقد، دخل فيها ، فالعيب
فينا وليس في الإسلام . بين
قيادة الجماعة وأصول الأحكام :- نقول :
لقد وضع الإسلام قواعد عامه
لقيادة الجماعة ،ولأصول
الأحكام وضع قواعداً أغلبها
يرجع إلى مكارم الأخلاق ،وتحقيق
العدالة ،وإزلة المنكر ،وجعل
الحكم شورى بين المسلمين ،ولكن
تفاصيل تلك الشورى متروكة
للمسلمين من أجل أن يقرروا أصلح
الأنواع التي تتناسب مع الزمان
والمكان ،والظروف والأحوال
،ولما يستجد من الأحداث
والمتغيرات ،ولما يرتبط بالعلم
إسلامي عند اتساع رقعته من أمم و
عادات وتقاليد وأعراف . فقواعد
الإسلام في هذا الباب ،وفي كثير
غيره عامة ومرنة ،تتسع لكثير من
الأمور الجديدة التي تستدعيها
طبيعة العمران والمدنية ،ولقد
كان الإسلام حكيماً في ذلك
،وحكيماً في أنه لم يترك للناس
التصرف في معنى الأخلاق الكريمة
تحت عامل الجهل أو الشهوة . وتلك
الأخلاق القويمة ،والمبادئ
العليا الكريمة لم يتركها
الإسلام لأي فرد كي يتصرف فيها
كما يحلو له ،ويزيفها أو ينحرف
أو يضل في تحديد قيامها
ومفاهيمها تحت عامل الجهل
والأنانية والصالح الشخصي . هذه
الأخلاق العظيمة وتلك المبادئ
النبيلة التي دعا إليها الإسلام
الحنيف ،وآمن بها المسلمون حق
الإيمان ،وجعلوها منهاجهم
فعلاً وقولاً ،والتزموا بها في
جميع تصرفاتهم ،وهذا هو سر
انتشار الإسلام ،واتساع رقعته
،ولعل نظرة واحدة إلى خريطة
العالم لكفيلة بأن تؤكد ذلك . الزحف
الأخضر يرعبهم ! أنظر
إلى الإسلام تجده قد انتشر في
شبه الجزيرة الهندية ،انتشاراً
عظيماً ،وذلك بعد سقوط الدولة
المغولية ،وفي الصين ،وفي
إندونيسيا وما يجاورها ،وفي جزر
المحيط الهندي وسواحله ،وهم
أيضاً كثيرون في أواسط أفريقيا
وشرقها، و غربها ، وجنوبها ،كل
ذلك من غير أن يكون له ظهير من
قوة أو سلطان ،وإنما هي سماحة
الدين الإسلامي ، والتجاء
المسلمين إلى وسائل الدعوة
بالحسنى ،وبالتي هي أحسن ،وهذا
ما أمر به القرآن الكريم . إن
الإسلام يتغلغل الآن في شتى
بقاع المعمورة الأرضية ،في
أمريكا الشمالية ،وأمريكا
الجنوبية ،واستراليا ،وأوربا
،وأسيا ،وأفريقيا ،الإسلام
الحنيف يتغلغل الآن بالسلم
والإقناع كما كان دائماً وأبداً
،ويستمر إلى الأمام بخطوات
واسعة ،قوي المؤمنون أو ضعفوا
،ولقد شهد بذلك كل رجال الدين
والسياسة والتاريخ على السواء
في الشرق والغرب ،شهد على ذلك
العدو قبل الصديق . وبعد
انهيار الاتحاد السوفيتي
والشيوعية الحمراء ،وترنح الدب
الروسي ،يقول الغرب الآن : الزحف
الأخضر - أي الإسلام -هو أخطر ما
يواجهنا الآن ،بعد أن تخلصنا من
الخطر الأحمر ( يقصدون الشيوعية
) . وهم
يرددون ذلك الآن جهاراً عيناً
في كتبهم وإعلامهم ،محاولين بكل
الوسائل والطرق تشويه صورة
الإسلام والمسلمين ،ولا يخفى
على أحد الدور الجهنمي الذي
تلعبه آليات اللب الصهيوني ضد
العرب والمسلمين . ونعود
إلى الوراء فنتذكر ما قاله زعيم
النازية الألمانية " هتلر "
في كتابه " كفاحي " مصرحاً
بأن المبشرين مع ما ينفقون من
أموال ،وما يبذلون من تضحيات لم
ينجحوا في إيقاف هذا التيار
الجارف .وكان " هتلر " يقصد
بهذا التيار الجارف ،انتشار
الإسلام الحنيف . ولعل
كلام " هتلر " السابق هو
الذي دعا بعض الساسة إلى أن
يمنعوا المسلمين من دخول الكثير
من المناطق الإفريقية
الاستوائية ،وكذلك منع سكان هذه
المناطق من الاتصال بالمسلمين . وما
يحدث وما حدث في يوجوسلافيا
السابقة ،وفي الشيشان لأكبر
دليل على هذا الذي يجابهه أهل
الإسلام من قهر واضطهاد خوفاً
منهم ، ومن دينهم الحنيف الذي
يرفض العنصرية ،والعرقية
،والطائفية ،والتعصب ،والهيمنة
،والتوسع ،والسيطرة
،والاستغلال . إن من
يقرأ الإسلام ويعرف مدى كفالته
لحرية الإنسان في التفكير ،في
الاعتقاد ،في البحث ،في
الابتكار والإبداع ،في التعبير
عن الرأي ،في النقد البناء ،في
الحل والترحال ،في اختيار
التعليم والتعلم المناسبين له
،في اختيار العمل أو المهنة
المناسبة له ،في التمتع بالحياة
،في تكوين أسرة صالحة ،في مسكن
مناسب الحرية
و التعددية والطريق إلي الرخاء:- ،وعلى
الجملة فإن حرية الإنسان في أن
يعيش حياة ملؤها الخير والسعادة
والأمن والأمان ،تلك هي الحرية
والتي تختلف قلباً وقالباً عن
تلك التي يتشدق بها هؤلاء الذين
يصدعون رؤوس الناس بالكلام عن
العلمانية ،والتنوير
،واللبرالية ،من يفهم الإسلام
جيداً ،ويستمع إلى مهاترات
هؤلاء ،يكتشف أن الإسلام العظيم
سبق جميع المذاهب والأفكار التي
تدعو إلى العلم والمعرفة ،تدعو
إلى العقلانية ،وإلى نبذ
التفكير الخرافي ،تدعو إلى
الديمقراطية والحرية ،ويعلم في
نفس الوقت أننا - بكل أسف - ونحن
في القرن الحادي والعشرين ما
زلنا نعيش ونتخبط في دياجير
التعسف والعبودية ،والظلم
الإنساني ،وأن من يهيمنون على
الضعفاء في عالمنا يزنون الأمور
بمكيالين ،المهم عندهم مصالحهم
ومنافعهم الخاصة . مرونة
الإسلام : - الإسلام
دين يسر لا عسر ،ولأنه من عند
الله تعالى الخالق للبشر
،العارف بنفوسهم ومقدرتهم ،فهو
لا يكلف نفساً إلا وسعها ،لها ما
كسبت وعليها ما اكتسبت ،وعليه
فقد وضع الإسلام القواعد العامة
،وترك أمرها إلى أهل الذكر من
المسلمين ،أي أهل العلم والفكر
والخبرة والدراية ،الذي يجب
علينا أن نسألهم فيما يعن لنا من
معضلات ومشكلات ،ولا غرو في ذلك
،ولا عيب ،ولا ضرر ولا ضرار ،فمن
لا يعلم عليه أن يسأل ويحاول أن
يعرف ويقرأ ويدرس ويستفسر ويفهم
،ففوق كل ذي علم عليم ،ومهما
تعلمنا ودرسنا فما علمناه
وعرفناه أقل القليل . نقول :ولهذا
قام في الدين الإسلامي من أجل
المحافظة على روح الإسلام
السمحة ،وحسن تطبيعه ،مصدران
آخران مهمان في التشريع بعد
القرآن المجيد والسنة النبوية
المطهرة ،هما :القياس والإجماع
،حتى إذا ظهرت حادثة لم يشملها
نص صريح من كتاب الله الكريم أو
سنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم )
تمكن المؤمنون من إيجاد الحكم
المعقول لها ،مسترشدين في ذلك
بالأقيسة المناسبة ،وبإجماع
أهل الذكر ،وهم الأكفاء الذين
تمكنوا من قواعد دينهم الحنيف
حق التمكن ،وسمت أخلاقهم
وأفعالهم ،يقولون الحق ولا
يخشون في الله لومة لائم ،من أجل
أن يأتمنهم الناس حق ائتمان في
أقضيتهم ومنازعاتهم . ومن هنا
ظهرت المذاهب الإسلامية
،واختلفت ،وتعددت ،إلا أنها في
التحليل الأخير تسعى كلها - بدون
أدنى استثناء - إلى خير الناس
،والتيسير عليهم في العبادات
والمعاملات ،و إلى الحق كل الحق
،دون أن تخرج عن الأسس التي جاءت
في كتاب الله الشريف ،وسنة
رسوله الكريم ( صلى الله عليه
وسلم ) ،فهي خاضعة من حيث المبدأ
إلى التشريع السماوي الخالد
،كما تخضع السنة المطهرة أيضاً
له . ولذلك
علمنا المصطفى ( صلى الله عليه
وسلم ) أن نرجع في كل ما نرويه
عنه أو نسمعه نقلاً عنه إلى كتاب
الله الكريم ،فإن وافقه أخذنا
به ،وإذا لم يوافقه تركناه . عن
الشورى وقواعد التشريع :- تعتبر
الشورى من أهم أسس الحكم في
الإسلام ،فالشورى من القواعد
التشريعية العامة ،التي أمرنا
أن نعمل بها في شئون المسلمين ،و
في شئون الدولة بوجه عام ،ولكن
ترك تحديدها وتفصيلها للمسلمين
الذين هم أعلم بشئون دنياهم
ومجتمعاتهم ،ليكونوا نوع
الشورى التي تتناسب مع أوضاعهم
الاجتماعية ،ومع ظروفهم الخاصة
،وهنا صح للمسلمين أن ينشئوا
مجالس نيابية بجانب ولي الأمر
الذي تجب طاعته إن حكم بينهم
بالعدل ،وطالما كان مثالاً
للحاكم الصالح ساندوه وأيدوه
وعاونوه ،أما إذا أخذته العزة
بالإثم ،وانحرف عن جادة الصواب
،فعليهم أن يسحبوا ثقتهم منه
،وبالتالي فلا طاعة له عليهم . كذلك
من حق المسلمين أن ينشئوا بجانب
هذه المجالس مجالس أخرى ،تراقب
الأولى ،وتراجع بدقة وإحكام ما
تقرره ،حتى تكون قراراتها أدعى
إلى الطمأنينة ،وأقرب إلى
السداد ،فالمهم هو صالح الناس
،والعمل على خيرهم وسعادتهم . ويجوز
للجماعة الإسلامية أن تطمئن إلى
قرار وتفكير أهل الذكر ،أي أهل
المعرفة والدراية والعلم
،فتحضر النواب في من ترى فيهم
كفاءة في مناحي الأنشطة
المختلفة سواء أكانت اجتماعية
،أو اقتصادية ،أو ثقافية ،أو
سياسية ،ويمكن أن نجعل هؤلاء في
مجلس نسميه مجلس الشورى ،أو
مجلس الحكماء أو مجلس الشيوخ . ويجوز
للأمة أن تجعل الانتخابات حرة
طليقة ،يحيطها سياجاً من
النزاهة والأمانة ،فيختار
الناس بمحض إرادتهم من يريدون
،ودون أدنى حرج . كل هذا
وغيره من الأمور التي لم يشأ
الإسلام أن يدخل في تفاصيلها
،بل تركها إلى ضمير الشعب ، وإلى
دينه ،إلى خضوعه لقواعد الإسلام
الأساسية ،والتي أمر بها من عدل
،ورحمة ،وحب ،واحترام للحقوق
الفردية ،وحقوق الإنسان بوجه
عام ،والحقوق العامة
،والالتزامات والعهود ،أضف إلى
ذلك دعوة الإسلام إلى الأمانة ،
والنزاهة ،والتعاون ،والتضامن
،والتكافل ،وعدم الأنانية
،وإنكار الذات ،وكذلك الخيرية
والوسطية . الجوهر
هو الأهم :- لم يحدد
الإسلام شيئاً أسمه خلافة أو
إمارة أو إمامة بل ترك ذلك
للمسلمين فجاءوا واختاروا
الخليفة ولقبوه ،وكان هذا اللقب
مدلولاً لغوياً للكلمة التي تدل
على مركزه الذي فيه . وجاء من
بعده عمر فلقب بخليفة رسول الله
،وكان ذلك حقاً ومدلولاً لغوياً
أيضاً ،ولكن وجده السلمين
طويلاً فاستبدلوا به لقب ( أمير
المؤمنين ) واستمر هذا اللقب
سائداً من غير أن يكون له أساساً
في كتاب الله تعالى ، وفي سنة
رسوله ( صلى الله غليه وسلم ) مما
يدل على أن صورة الحكم أو شكله
مسألة ثانوية جداً في الإسلام
،المهم هو الجوهر ،المهم العدل
بين الناس ،وكفالة جميع حقوقهم
الإنسانية ،والأخذ برأيهم من
أجل خيرهم ،وأمنهم ،واستقرارهم
،وسعادتهم . ولهذا
جاز لنا أن نلقب من يلي حكمنا
بأي لقب شئنا ،نلقبه كما نشاء
،نلقبه بالرئيس أو الحاكم أو
الراعي أو السلطان أو الملك أو
الشاه أو الإمبراطور أو العاهل -
كل هذه ألقاب لا يعتني بها
الإسلام ،ولا يهتم بها في شئ
،لأن ذلك متروك للمسلمين ،الذين
عليهم أن يستفيدوا تمام
الاستفادة من القواعد الأساسية
التي وضعها الإسلام للحكم
،فيكون ولي الأمر دستورياً ،وأن
يكون الشعب هو مصدر السلطات
،وأن تكون سلطة الشعب خاضعة
لقوانين الدين الحنيف ،ومستمدة
من روحه ،ومن تشريعاته التي
وضعها الله تعالى حفظاً لكيان
المسلمين ،وصيانة للعدل المطلق
الذي قرره الشرع من أن يتصرف به
الناس ،وتلعب به الأهواء
،وعملاً على إفشاء السلام ،ونشر
الطمأنينة ،وإشاعة الحب والخير
والتواد بين الناس ،وعلى رفع
مستوى الفقراء والمعوزين وغير
القادرين على السعي والعمل
،وتوفير فرص العمل المناسبة
للناس ،وتوفير المأكل والملبس
والمسكن لهم ،فالفقراء لهم نصيب
معروف مقدر في أموال الدولة يجب
أن تؤديه لهم ،وكذلك لهم في رقاب
الأغنياء حقاً معلوماً ينبغي أن
يكون . تلك هي
القواعد العمة التي تتشدق بها
الديمقراطيات الحديثة اليوم
،ولو دققنا النظر فيما يقولون
ويكتبون لعرفنا أن كلامهم ما هو
إلا مبادئ الإسلام الأولى ،
التي لم تترك تحت رقابة الضمائر
والنظم والقوانين فقط لا غير
،بل تحت رقابة الله العليا
،الله تعالى الذي يعلم السر
والعلن ،يعلم خائنة الأعين وما
تخفي الصدور ، إنه نعم الرقيب
العليم . تلك هي
ديمقراطية الإسلام ،وهذا هو
عمقها ،وأثرها في النفوس
والسلوك و التصرفات ،كأداة
تطهير لها ،لا بالرياء أو
النفاق أو أختل أو الخداع أو
الشعارات البراقة أو الادعاءات
الكاذبة ، ولا المظاهر المضللة
،ولكن حكم الإسلام لا يعترف إلا
بالوقائع ، والحقائق ، بالعقل
المفتوح ، والقلب المفتوح ،
والفكر المفتوح ، كل ذلك يكون
انطلاقه من حسن النية ، وسلامة
الطوية ، والإخلاص في تحمل
الأمان . فليسم
المسلمون ولي أمرهم ما شاءوا من
أسماء ،وليقيدوا الشورى بما
شاءوا من قيود وضمانات
،ولينتخبوا من أولي الذكر ما
يشاءون ،ممن يتوسمون فيهم خيراً
لخدمة الله والدين والوطن . فتلك
حالة تختلف باختلاف الزمان
والطباع والتقاليد ولا تتقيد
بالقاعدة المبادئ التي أشرنا
إليها .ما دام الإسلام الحنيف
قائماً على الدعوة إلى الحق
بالحسنى ،وعلى أن لا إكراه في
الدين . وما دام بحق دين العالم
الذي يرمي إلى أن يكون الناس
كلهم مؤمنين ، فكيف يتأتي لكل
هذا العالم الشاسع ،الترامي
الأطراف ،المختلف الأمزجة
والثقافات والعادات - أن يكون
دولة واحدة تخضع لحاكم واحد فقط
لا غير ؟ !! لماذا
لا يتعدد خلفاء رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) بتعدد أقطار
الإسلام . ويكون الملك والسلطان
الأعظم عليهم جميعاً كتاب الله
الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه ،يربطهم
جميعاً باسم الله ،ويجمعهم على
كلمة التقوى والإيمان .ذلك أولى
بالإسلام العالمي وأجدر . عودة
للعظة والعبرة : - والآن
إذا رجعنا إلى الوراء ونظرنا
إلى حكم الفاروق عمر ( رضي الله
عنه ) ومن وليه ،وإلى حكم أبي بكر
( رضي الله عنه ) كذلك أمكننا أن
نسميه حكم الفرد الصالح الذي
ألمعنا إليه في كلامنا السالف
عن نظم اليونان ،بيد أنه يختلف
عنه في بعض المسائل الجوهرية . إن حكم
الفرد الصالح اليوناني كان حكم
فرد يستند إلى رأي جماعة من
عقلاء الأمة فحسب ، أما حكم
الفرد في الإسلام فكان يرجع في
التحليل الأخير إلى قواعد العدل
المطلق ،وإلى المساواة في أجل
معانيها ،وفي أكمل صورها كما
قررها الإسلام . والديمقراطية
اليونانية بما فيها من حكم
الفرد الصالح هي كالديمقراطيات
الحديثة ،والتي تفرعت عنها
ديمقراطيات محلية ،لم تنجح إلى
لحظتنا الراهنة في أن تنهض إلى
المستوى العالمي أو تصل إلى
مجاله ،والذي يليق
بالديمقراطيات الإنسانية
،فأنظمة الحكم في أي مكان ،وفي
أي زمان ،إن لم تضع العدل ،وحقوق
الإنسان وكرامته في مقدمة
مراميها وأهدافها فلا صفة بها . أما
الإسلام فنجد فيه النظرة
الإنسانية الكاملة المتكاملة
،المهم أن نعي هذه النظرة جيداً
،ونحاول أن نطبقها عملياً
وفعلياً ،وقد سوى الإسلام بين
جميع أفراد الإنسانية ،فلا فرق
بين زنجي وغير زنجي ،لا فرق بين
عربي وغير عربي ،لا فرق بين
هاشمي وغير هاشمي ،لا فرق بين
أقارب الرسول ( صلى الله عليه
وسلم)وأقارب من عاداه إلا
بالتقوى ،والعمل الصالح . ذلك هو
العدل الإنساني المطلق
،فلنسميه بأي اسم نريد غير
تسمية الديمقراطية ،لأنها كلمة
- كما نعرفها اليوم - ضيقة ،لا
تصف ،ولا تحد ،ولا تعي . كلمة
نتاجر بها ونتشدق ليل نهار ،وكم
من الجرائم ترتكب باسمها !!
،ونؤكد هنا على أن الإسلام
بعدله الشامل الجامع المانع
،وقف بعض من لا يفهمونه حائلاً
دون انتشاره ،ولكنه سينتشر ويعم
المعمورة في يوم من الأيام ،نعم
نحن الآن - كمسلمين - نبلغ حوالي
مليار مسلم ،أي أننا سدس عدد
البشر في العالم أجمع ،نأمل أن
نزيد ونزيد ،وهذه مهمة مؤسسات
الدعوة الإسلامية في بلادنا
الإسلامية ،والتي من المطلوب
منها أن تعيد النظر في أبجديات
الخطاب الإسلامي ،وأساليب
وطرائق الدعوة من أجل أن تواكب
ظروف وآليات ومستجدات عصرنا
الراهن ،عصر تكنولوجيا
المعلومات ،عصر الفضائيات ،عصر
الانفجار المعرفي . نعود
لنقول أنه : سوف ينتشر دين
الإسلام كما وعد رب الإسلام في
كل أنحاء المعمورة ، وسيكون ذلك
عندما يرقى الإنسان ،وتزول عنه
عصبية الجاهلية الأولى . وسيأتي
يوم يوقن فيه الإنسان أهمية أن
يكون إنساناً بمعنى الكلمة
،سيأتي اليوم الذي يتسع فيه أفق
الإنسان ،ويكبر عقله ،وترتفع
إنسانيته ،فيتخلى عن قانون
الغاب والظلم والجشع
والاستبداد ،ويتمسك بقانون
الإسلام ،قانون العقل والرحمة
والنبل الإنساني والعدل المطلق
. وإلى أن
يأتي هذا اليوم ،يوم الإنسانية
السعيد ،فستظل الأرض مهلكة
،وستظل مكاناً للتطاحن
والتنازع والحروب ،حتى تشتد
الأزمة ،وتعصف العاصفة ،وتضيق
الأمور ،وتشتد الظلومات هنا
توقظ الشدائد الإنسان ،وتنبهه
القوا رع ،فيؤمن بسبل السلام
والإسلام ،ويحترم أخاه الإنسان
. وفقنا
الله جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه
،إنه نعم المولى ونعم النصير . ــــــــــــــ *باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية ------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |