ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
مصطلح
"الناس " في القرآن الكريم الشيخ
د. همام حمودي
تكرر
كثيراً ذكر هذا المصطلح (الناس)
في القرآن الكريم، وعلى وضوح
مدلول هذا المصطلح وتداوله
اختلف بعض المفسرين في تأويله
وتحديد معناه، واستفاد
المفسرون من سياق ذكر هذا اللفظ
بصيغة السلب وحتى بدا ان
المتبادر من معناه هم المشركون،
وهم المخاطبون في فترة الرسالة
الاولى عندما كانوا في مكة، وقد
يقصد به المجتمع العام في
المدينة المنورة عندما تكون
هناك قرينة تصرفه بهذا الاتجاه. ان وجود
سورة كاملة باسم "الناس"
يتكرر ذكر الناس فيها خمس مرات
وذكر الحقيقة الالهية ثلاث
مرات، تكرار ذكر حقيقة الناس
مقترنة بصفاته سبحانه المتعددة
مثل، رب الناس، ملك الناس، اله
الناس، تجعلنا نقف طويلاً امام
هذا المصطلح واستخدامه القرآني
ومداليله وخصوصياته. وما يكشف
الاستخدام القرآني لمصطلح
الناس من مفاهيم وعبر ودروس. مصطلح
الناس لغوياً: يقول
الراغب: تحت كلمة "نِوس" :
الناسُ قيلَ اصُلهُ أناسٌ فحذف
فاؤهُ لما ادخل عليه الالف
واللام وقيل قُلِب مِن نَسِيَ
واصُله إنسيان على إفعلان، وقيل
أَصُلهُ مِن ناسَ ينُوسُ إذا
اضطَربَ [هذا في اصله اللغوي]. اما
قرآنياً فيقول الراغب، والناسُ
قد يُذكرَ ويُرادُ به الفضلاء
دون غيرهم في تناوله اسم الناس
تجوزاً وذلك إذا اعتبر معنى
الانسانية، وهو وجود الفضل
والذكر وسائر الاخلاق الحميدة
والمعاني المختصة به، فإن كُل
شيء عُدم فعِلُه المختص به لا
يكادُ يستحق اسمَهُ "كاليد"
فإنها إذا عَدِمِت فعلها الخاص
بها فإطلاق اليدِ عليها
كإطلاقها على يد السرير ورجلهِ،
فقوله {آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ
النَّاسُ (13)}"البقرة"، أي
كما يفعل من وجد فيه معنى
الانسانية ولم يقصد بالانسان
عَيناً واحداً بل قصد المعنى
وكذا قوله {أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ(54)}"النساء" أي من
وُجِدَ فيه معنى الانسانية أي
إنسان كان، وربما قُصِدَ به
النوعُ كما هو وعلى هذا قوله {أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ(54)}"النساء". الاستعمال
القرآني للمصطلح: بعد
الرجوع الى الآيات الوارد فيها
هذا المصطلح والتدقيق فيها يمكن
ان نصنفها او نضعها في ثلاث
مجموعات رئيسة في كل مجموعة
هناك محور او مفهوم رئيسي
يعتمده القرآن الكريم يمثل
بُعداً في هذا المصطلح . اولاً:
المجموعة الاولى من الآيات
تناولت الظاهرة الانسانية
وقوانينها وقواعدها وتختص
بالمجتمع البشري والانساني
عامة بغض النظر عن الزمان او
المكان او العقيدة الدينية،
فالآيات في هذه المجموعة والتي
يرد فيها ذكر "الناس" تتعلق
بالبشرية والجماعة الانسانية
بلا قيد او أي خصوصية، ويمكن
ادراج الموضوعات التي تم
تناولها في هذه المجموعة من
الآيات في استخدامها لمصطلح "الناس"
بما يقارب الموضوعات التي يختص
بها علم الانثروبولوجيا، او علم
الانسان، او علم الحضارات. ونجد في
المجموعة الاولى المواضيع
التالية: 1ـ
ظاهرة الفطرة الانسانية: {فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
(30)}"الروم" يؤكد
القرآن الكريم ان البشرية
والجماعة الانسانية ليست صفحة
بيضاء يمكن ان يكتب عليها ما
يشاء او تتكيف بالعيش حسب تأثير
الظروف الخارجية، سواء
الطبيعية منها او الانسانية كما
تقول به بعض المدارس النفسية.
وان الناس مجموعة ارقام وانابيب
اختبار يمكن ان تُملأ بما تشاء
وبأي لون تريد. القرآن
الكريم يؤكد ان المجتمع
الانساني "الناس" وجود له
طبيعته، وقواعده وثوابته، لا
يمكن تجاوزها وقد يمكن تحديها
او طمسها، او تجاوزها لفترة من
الزمن، ثم تعود لتفرض طبيعتها
وخصوصيتها، وقواعدها. 2ـ
ظاهرة ا لوحدة الانسانية {وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ (118)} "هود" المجتمع
البشري كان امة واحدة على منهج
وطريقة ومعيشة واحدة وتوجه
متقارب ثم تطور هذا المجتمع
وتعددت حاجاته وتنامت خبرته،
مما ادى الى انقسام المجتمع الى
امم ومجموعات حسب الخبرة وطبيعة
الظروف الحاكمة، فهو انقسام
وتعدد منشؤه العلم والمعرفة
والخبرة المتراكمة في التعامل
مع الطبيعة والاهداف والطموحات
المختلفة التي تكتنف النفس
الانسانية. اذن
فالمجتمع الانساني بدأ موحداً
ثم اختلف وانقسم وتصارع فيما
بينه بسبب هذه الخصوصيات. ويبقى
سؤال هل يمكن ان يعيش المجتمع
الانساني مرة اخرى ضمن هموم
وتطلعات واحدة بحيث يكون امة
واحدة وتحت ادارة واحدة او
مشتركة، القرآن يشير الى
الظاهرة الانسانية ونموها
ومآلها وامكانيته، ويشير الى
وحدة المجتمعات البشرية مرة
اخرى بعد ان يخوضوا الاختلاف
والصراع والتدافع ثم يعودون
ليشتركوا ويتوحدوا تحت عناوين
مشتركة ومفاهيم متقاربة، قد
تكون نوعاً من العولمة لكن تحت
راية عادلة ومنصفة يفرضها
التطور العلمي والاجتماعي. 3ـ
ظاهرة التعددية الانسانية {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}"الحجرات" يؤكد
القرآن الكريم وحدة الخلق
الانسانية من انهم كلهم من مصدر
ومصنع واحد هو الذكر والانثى من
البشر، وليس هناك مجتمع انساني
خارج ذلك، فهناك وحدة مصدر في
الجماعة البشرية. وهناك
تعددية مجعولة الهياً تبعاً
لطبيعة الخلقة الانسانية التي
يؤثر فيها المكان، والظرف
العام، تمثل هذا التنوع من
اختلاف الاشكال والالوان
واللغات وما شابه. هذه
التعددية المجعولة ربانياً
تمثلت بتنوع الشعوب والقبائل {وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ .}. وتشير
الآية ايضاً ان هناك وحدة
وتقارب هدف يتمثل في السعي
للوصول الى الكمال الانساني،
وتفجير الانسان لكل قدراته بشكل
يحفظ به الحقوق والواجبات
ويحترم احكام الواقع (النفوس)
والذي هو مجال للتنافس والتعارف
ويعتمد التفاهم والحوار. 4ـ وحدة
الدوافع والحاجات الانسانية {
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}"آل
عمران" اشارة
قرآنية صريحة ان كل المجتمعات
الانسانية سوف تسعى لتهيئة امور
وقضايا تسد فيها حاجاتها
ودوافعها ففي كل مجتمع سوف تجد
موضوعات مثل الجنس والزواج،
الاقتصاد والثروة، والبنوة
والرعاية والقدرة والغلبة
والامن والرفاه وهي مسائل كانت
سبباً في حركة وحيوية المجتمعات
ونموها وخرابها ايضاً. ان هذه
القضايا التي ذكرها القرآن
بخصوص المجتمعات البشرية اياً
كانت، وفي أي زمان، واي مكان
وتحت أي نظام سياسي تكون
فالمجتمعات مطلوب منها ان تحدد
طريقها وتتهيأ للتعامل مع هذه
القضايا [الجنس ، الامن ، الثروة]
وتضع لها طرقاً وقواعد عمل
وقوانيناً وعادات لكفايتها
وسدها واشباعها وان أي تخلف عن
تحقيقها، يعتبر تحدياً ومشكلة
وازمة تحتاج الى علاج وحل. فهي
وفق التعبير القرآني ما يحتاجه
المجتمع في هذه الحياة [مفاتح
الحياة الدنيا] فهي امر مطلوب
تفرضه الحياة الدينا
ومتطلباتها. 5ـ
ظاهرة الصراع والتدافع
الانساني والحضاري: {وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللَّهِ (40)}"الحج" يشير
القرآن الكريم الى ظاهرة
التدافع بين المجموعات البشرية
"الناس" ويعتبرها امراً
لازماً في هذه الحياة ويشير الى
اثارها الايجابية في ابقاء
المجتمعات حية ومتطورة، وان
التدافع بين البشر، يُحفز
الطاقات، ويشحن القدرات ويعمّق
التوجهات، وبذلك تتطور
الحضارات وتندثر ايضاً، وهناك
قوانين لهذا التدافع والصراع
وقواعد في نمو المجتمعات تعرضنا
لها في ابحاثنا السابقة. 6ـ
ظاهرة تراكم الفعل الانساني: {وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ
بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ
عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ
وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى (61)}"النحل" {ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ (41)} "الروم" {وَأَمَّا
مَا يَنْفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الْأَمْثَالَ (17)}"الرعد" يشير
القرآن الكريم الى سُنة مهمة
تحكم الفعل الانساني، وهي قاعدة
الامهال وتراكم نتائج الاعمال،
مما يعطي فرصة للانسانية لترى
اثار تجربتها وقيام حضاراتها،
ونضج خبرتها، وهذه السُنّة اساس
لنمو الانسانية وتعاظم معارفها
. ان
ظاهرة "الفساد في الحياة
الانسانية التي ذكرها القرآن
الكريم والتي تشير الى امور
متعددة منها تجاوز الواقع، وعدم
وضع الشيء في موضعه ومخالفة
الحقائق، والتعدي على الحقوق،
وبتعبير جامع عدم الالتزام
بالاوامر الارشادية
والتكليفية، ان ظاهرة الفساد (بهذا
المعنى) ملازمة للحياة
الاجتماعية ولذا فان ظاهرة
الاصلاح وارسال الانبياء ايضاً
ملازمة للحياة الانسانية
وللمجتمعات البشرية. ثانياً
المجموعة الثانية في استعمالات
القرآن المصطلح (الناس) تناولت
ظاهرة او قاعدة او سُنّة في
مجتمع خاص او ظرف خاص وعادة ما
يستخدم القرآن كلمة (من) (من
الناس) اشارة الى انها ظاهرة لا
تشمل عموم البشرية وانما هي
حالة او ظاهرة تختص بمجموعة
معينة وفي هذه
المجموعة سوف يتركز التصوير على
الفعل الانساني والسلوك
واحواله واوصافه وليس على
الوجود الانساني وافاقه
وخصوصياته كما في المجموعة
الاولى ويمكن القول ان موضوعات
المجموعة الثانية من الأيات
اقرب الى موضوعات علم الاجتماع
واقسامه ومن
الموارد والمواضيع التي
تناولها القرآن في هذه المجموعة
هي : 1ـ تنوع
توجهات المجتمعات البشرية
{
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
رَبَّنَا آَتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي
الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
رَبَّنَا آَتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ
لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (202)}"البقرة" هنا
القرآن يتحدث عن انواع
المجتمعات، ويصنفها صنفين
رئيسين مجتمعات تتحرك وتتوجه
الى الحاجات الطبيعية للأنسان
التي هي ضرورات وحاجات انسانية
يجب التحرك نحوها كما اشرنا
اليها. فالمجتمعات
تسعى وتطلبها باعتبارها حاجات
ضرورية وتكفل الله بها بعطائه
ومنّه بمدها ووفق القواعد
والسنن الطبيعية لكن عطاء الله
لا حد له {وَآَتَاكُمْ مِنْ
كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ (34)}"ابراهيم". مثل هذه
المجتمعات تنتهي بتحقيق هذه
المطالب وليس لها اثر في حياة
الخلود والحياة الحقيقية فكم من
مجتمعات عاشت سابقا وتعيش اليوم
وبحدود مطالب الدنيا وتنتهي
عندها {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي
الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
(200)}"البقرة". وهناك
مجتمعات اخرى وصنف اخر من الناس
يتحرك ضمن افق اكبر الى حاجات
اخرى تفوق الحاجات الحياتية
التي هي متاع الى حاجة وقضايا
تتمثل بصفات ربانية مثل الجمال
والعلم والقدرة والعدل وهذه
المجتمعات تعد مجتمعات باقية
فاعلة حية متطورة وتنمو ولا
تنتهي وقد تنتقل من حال الى حال
ومن طور الى طور لانها مرتبطة
بالحق والحقيقة والخير كله
بالله . 2ـ
ظاهرة النفاق في المجتمعات {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
آَمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ
مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ (10)}"البقرة" {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا
أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ
اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ
مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ
إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ
أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِمَا فِي صُدُورِ
الْعَالَمِينَ (10)}"العنكبوت" يتعرض
القرآن الى ظاهرة تختص عادة في
المجتمعات المؤمنة وهي ظاهرة
النفاق وهي حالة لمجموعة
انسانية تحاول ان تجاري المجتمع
في ظواهره المختلفة وتتلبس
بلبوسه وتتحدث بحديثه لكلنها
تعيش داخليا وفي مضمونها
الداخلي كله بالضد من هذا الذي
تلبست به، فهم جماعة يعيشون
التناقض في واقعهم، والتضاد بين
داخلهم السيئ، ومظهرهم
الخارجي المتلبس بما يرتضيه
المجتمع المؤمن. تحدث
هذه الظاهرة عندما يحكم ويهيمن
الأيمان على مجتمع دون ان يكون
هناك ايمان حقيقي عند كل افراده
وذلك بسبب غلبة
المجتمع المتدين، لكونه حاكماً
او بيده السلطة. ظاهرة
النفاق تنخر بالمجتمع لانها
سرطان قابل للنمو تضعف من وحدة
المجتمع وتماسكه واستقراره. والقرآن
الكريم يشير الى ظاهرة ملازمة
للنفاق وهي الخداع والفساد
وادعاء الاصلاح والاستهزاء
بالصالحين في طريقة تعامل
المنافقين مع الآخرين. وان
ظاهرة النفاق ظاهرة معقدة وتعرض
لها القرآن الكريم بالتفصيل [لعلنا
نوفق لبحثها] وهي تختلف عن ظاهرة
"التقية" التي اشار اليها
القرآن الكريم ايضاً لأن "التقية"
التي مارسها الصحابة في مجتمع
قريش كانت تتمثل بموقف او سلوك،
او ممارسة يستخدمها الانسان
المؤمن للتغطية على ايمانه
وخداع المقابل الذي يستهدفه
بالقتل او انتهاك الحرمات او
الاعتداء على حقوقه او متعلقيه. وظاهرة
التقية في أي مجتمع تكشف عن وجود
حالة من التسلط ومنع الرأي
الآخر، وعدم احترام الخصوصية. 3ـ
ظاهرة الأغلبية غير الجادة {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا
هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ
الْحَرِيقِ (9)}"الحج" تعيش في
اوساط بعض المجتمعات مجموعات لا
تعتمد الحوار والبينة والبرهان
والنقاش، وانما تستخدم الجدل
وقلة العلم والتهريج والشعارات
المثيرة، سبيلا في البيان
والحوار، وتروّج عادة للهو
والفساد والضياع طريقا يحرف
الناس عن الحق والخير، تعيش هذه
المجموعات على هامش الاحداث
والافكار، ولا تمتلك ارادة جادة
في اختياراتها، وانما تطفو على
الامواج، وتسيرها الرياح وتعيش
الجهل والفراغ، واللهو
والمتاع، في حياتها وتكون
خياراتها الفكرية والدينية
والسياسية تبعاً لأحد هذه
الامور: أـ
العادة الاجتماعية {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا
هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ الشَّيْطَانُ
يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ
السَّعِيرِ (21)}"لقمان" وهذا
الصنف من الناس يتلونون بلون
المجتمع، ويرددون ما تردده
الجهة المتسلطة على المجتمع،
ايا كان ذلك المتسلط ربانيا او
شيطانيا، فردا كان او هيئة،
فرعونا او نبيا، حزبا او زعيما،
يردد ما يرددون ويصطبغ باللون
الذي يصطبغون به وتتحقق فيهم
مقولة (الناس على
دين ملوكهم) وفي الحقيقة ان
اكثر الناس وليس كلهم على دين
ملوكهم وتبرز هذه الظاهرة في
المجتمعات التي تحكمها سلطة
تأخذ على الناس حرية الاعلام
والتفكير والنشر، ويتحكم بها
فكر القائد (لا اريكم الا ما ارى)
وهي صفة عامة في المجتمع
الفرعوني والديكتاتوري. ان هذا
الصنف من الناس هم موضع اهتمام
وتنافس الحركات السياسية
والفكرية لاستقطابهم وضمهم
لهم، وهذا الصنف يقدر عادة بين 60
ـ70% من المجتمعات
وهم الأغلبية عادة في كل
المجتمعات. ب ـ
التعامل النفعي والمصلحي {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ
أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)}
"الحج". يطرح
القرآن الكريم نموذجاً اخر
للتعامل غير الموضوعي مع
المناهج الفكرية والفلسفية في
الحياة والمعتقدات، يتمثل
بتحديد الموقف من المنهج او
المعتقد بقدر ما
يُدر له من فوائد، ويحقق له
من مصالح ومنفعة مباشرة، فان
كان هناك مردود مباشر فهو خير
وحق، وان كان هناك مردود سلبي او
لم يحقق ما كان يتوقعه من منافع،
فهو شر وباطل وانحراف، وقد يسمي
بعضهم هذا بالمنهج البراجماتي
"النفعي" وهو منهج فلسفي
وفكري تسير عليه امم وحضارات،
كما هي الحضارة الغربية
الليبرالية ويرى بعضهم انه
الاقرب الى الواقعية الانسانية. هذا
المنهج الفلسفي اذا تعامل مع
الحقيقة الالهية، وما يترتب على
الايمان بها، يطلق عليه القرآن
الكريم: نموذج يعبد الله على "حرف"
فهو اختيار تشوبه السطحية
والنفعية والذاتية ولا علاقة
لها بالحق والواقع. ج ـ
سطوة الرأي العام / السلطة
الرابعة {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
(173)}"آل عمران" {إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ
أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ
الدُّنْيَا قَلِيلٌ
وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ
اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ
فَتِيلًا (77)}"النساء" {وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ
أَنْ تَخْشَاهُ (37)}"الاحزاب" يشير
القرآن الكريم وفي مواضع عدة
الى ظاهرة انسانية تعيشها كل
المجتمعات يمكن ان نطلق عليها
ظاهرة العقاب الاجتماعي، وسلطة
الرأي العام، ويدخل في ضمن هذه
الظاهرة عوامل وحالات مثل:
الوجاهة والسمعة والاعتبار
والحيثية وهي قيم اجتماعية
يعتبرها بعض المختصين انها
حاجات اجتماعية يسعى لها
الانسان، وتتمثل في المقبولية
عند الاخرين وطلب رضى الاخرين
والحرص على الصورة الحسنة له في
المجتمع. هذه
القيم والمعايير تشكل حاجات
تدفع الانسان لان يكون قريبا من
المجتمع وليس بعيدا عنه ويحذر
من رفض المجتمع له او وصفه وصفا
غير مناسب أو غير او محترم. لذلك
تجد الانسان عادة يلبس ما يلبسه
الناس، ويحاول ان يرى نفسه او
شكله او مظهره بما يريده الناس
او يقبلونه منه، فالمقبولية
الاجتماعية حاجة واقعية لا
اختلاف بين المختصين عليها. وفي
السياقات السياسية والاجتماعية
تصبح هذه المقبولية سلعة وهدفاً
يمكن ان يشكل نوعا من العقاب او
الثواب تدفع باتجاه معين، او
تمنع عن سلوك معين ، وبذلك تتحول
هذه الظاهرة "المقبولية وعدم
المقبولية الاجتماعية" الى
سلطة لانها تثيب وتعاقب، وتأمر
وتنهي فهي سلطة مخيفة وغير
قابلة للتجاوز او الفرار منها. ان
الرأي العام سلطةً مخيفة اليوم،
عبر شيوع وسائل الاعلام ودخولها
كل بيت عبر وسائل الانترنيت
والحاسوب بل هي بيد كل فرد
يمارسه في ايذاء الاخر
وانتهاك سمعته، واصبحنا اليوم
نعيش في قرية صغيرة جداً يمكن
لمن يعيش في المشرق ان يسفه
صاحبه في المغرب وينتهك
خصوصياته عبر الانترنيت. لذا كان
الانبياء والمصلحون والقادة
الاجتماعيون وبأعتبارهم من
عوائل معروفة ومحترمة عادة
يمارس ضدهم هذا النوع من العقاب
اكثر من غيره من تشويه السمعة
وتحريض الرأي العام ونشر
الاكاذيب والاشاعات من اجل
التأثير على سلوك الانبياء او
القادة السياسيين او المصلحين. فالرسول
محمد صلى الله عليه وسلم كان قبل
البعثة الصادق الامين، لكنه
اصبح بعد نزول الوحي عليه في
مجتمع قريش الكاذب والساحر
والمجنون ويأتيه الجن كل ذلك من
اجل منع تأثيره الاجتماعي
ومكانته وخشية تأثيره في قلوب
الناس. كما نجد
ان الرسول الكريم كان حريصا وهو
في وسط مجتمعه في المدينة
المنورة وبين اصحابه في حفظ
حيثيته الاجتماعية وموقعيته
والتي اشار اليها القرآن الكريم
بقوله: { وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ (37)}"الاحزاب"،
وهو امرٌ مطلوب من كل صاحب رسالة
وحامل راية الاصلاح، لكن بشرط
ان لا يتحول هذا الخوف والخشية
من الناس الى تنازل عن مستلزمات
الدعوة والبيان والابلاغ
وارشاد الناس الى المسلك الصحيح
او ان يصبح القرب من الناس
وقبولهم هدفاً بحد ذاته قد يؤدي
بصاحب الدعوة الى التنازل عن
بعض اهدافه ودعوته ليحصل المزيد
من الاتباع. ان هذا
التنازل عن المبادئ من اجل كسب
ود الناس سُنّة جارية في كثير من
الدعوات الاصلاحية التي تبدأ
رافضة الواقع الفاسد واذا بها
او بقادتها مساومون ومدافعون
ومبررون لما يجري من فساد وخراب. ان "سلطة
الناس" مخيفة ومؤذية وحساسة
وتحملها والوقوف بوجهها لا يقوى
عليه الا الخُلصّ والشجعان
والثوريون القلائل من البشر
لاحظ الآيات المباركة بهذا
الصدد {الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ
اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا
اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ
حَسِيبًا (39)}"الاحزاب" دـ
الرياء وكسب رضا الناس { إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ
اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
وَإِذَا قَامُوا إِلَى
الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى
يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا
قَلِيلًا (142)}"النساء" هذه
السلطة المخيفة التي ترفع
الشخصيات وتضعها تدفع الفرد لان
يسعى لارضائها والبحث عن
المواقع والصفات والسجايا
والشكليات التي يبدو فيها قريبا
مما يريده الناس وهذا المجتمع،
ففي مجتمع الايمان يبتلى هذا
المجتمع بالمنافقين وهم من تلبس
بزي المجتمع لكنه في واقعه
معادٍ له. {يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلَا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ
يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى
مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطًا (108)}"النساء"
ومن
جانب اخر تبدو ظاهرة اخرى وهي
ظاهرة المرائين وتعد ظاهرة اقل
خطرا لكنها ايضا ظاهرة غير
مرضية اشار اليها القرآن لكن لم
يركز عليها كما ركز على موضوع
النفاق لانه اشد خطورة. هذه
الظاهرة تناولها القرآن والسنة
كمرض اخلاقي يصيب الشخصية
المسلمة عندما يصبح الدافع
المحرك لهذه الشخصية رضا الناس،
وليس الله ورضاه والقرب منه ان
مداراة الناس والتعامل الطيب
معهم وحسن الخلق وما شابه من
السجايا والصفات دعا لها الشرع
وحث عليها لكن الاسلام لم يجعل
رضا الناس هدفا بل اعتبره من
الشرك الخفي الذي يجب الحذر منه. ان
موضوع السمعة والمقبولية
استخدمها الشرع كنوع من العقاب
والقصاص وهي من الوسائل الرادعة
للانسان من ان يقترف الاعمال
المشينة اجتماعيا ففي الوقت
الذي تدفع فيه الى مظاهر معينة
كالرياء وهو في الحساب الاخلاقي
الفردي وبناء الذات أمر غير
محمود فهو ايضا يعتبر هذا الضغط
والرهبة من الرأي العام عاملا
مساعداً لحفظ هوية المجتمع
ولردع من يخاف من الناس اكثر من
خوفه من الله سبحانه.
وان يحرص على الحفاظ على
الظاهرة العامة للمجتمع المسلم
والتي تحافظ على هويته وحيثيته
وتمنع من تحلله وتساهم في قوته
وبقائه وحيويته وكل المجتمعات
تسعى للحفاظ على هويتها وقيمها
وعاداتها لانها تمثل شخصيتها
الوطنية ولذا نجد كثيرا من
المواد الدستورية والقانونية
تتعرض لمسألة الاداب العامة
والهوية القومية والقيم
الاجتماعية لذلك المجتمع. {الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ فَلَا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
(3)}"المائدة" ثالثاً:
المجموعة الثالثة
في هذه
المجموعة من الآيات الكريمة
يذكر القرآن "الناس" بوصف
غير ايجابي وغير محبذ مثل {
وَأَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ (103)}"المائدة"
{أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (40)}"يونس" {
أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ
(60)} "يونس" فهنا
نجد وصفاً للاكثرية. وكما
اشرنا في بداية البحث فان الناس
في القرآن تعني اما المجتمع
البشري بصورة عامة او مجموعة
بشرية خاصة كأن يكون هذا
المجتمع او ذاك والذي تشير اليه
الآيات بهذا الوصف السلبي بعضها
يتعلق بالمجتمع الانساني العام
أي البشرية وبعضها يتعلق
بالمجتمع المخاطب بهذه الآية،
واستناداً على وجود قرائن لهذا
التخصيص. 1ـ لا
يشكرون {إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
(243)}"البقرة" {وَإِنَّ
رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ
(73)}"النمل" الكتاب
الكريم يثبت حقيقة وينبه اليها
كثيرا وبصيغ مختلفة هو ان لله
فضلاً على الناس وان فضل الله
على الناس كثير، ونعمه متعددة،
وان البشرية تعيش وتنعم بفضل
الله، لكن المشكلة في "الغفلة"،
الغفلة عن هذه النعم والغفلة عن
هذا الفضل والتعامل التقليدي
وغير الواعي مع هذا الفضل
الالهي هذه الغفلة تجعل الناس
او البشرية بعيدة عن الشكر وغير
موفقة لايجاد علاقة الشكر
والامتنان مع الله. ان
ادراك النعم والفضل والخصوصية
الالهيه التي سخر بها الطبيعة
والكون ليكون في خدمة الانسان
وخلق الانسان ليكون قادرا على
استثمار الطبيعة والكون وبأفضل
صورة بما يمتلك من قدرة ذهنية
متقدمة وبناء جسدي متميز يجعله
سيد هذا الكون. ان هذا
التناسق في الخلق والتوازن في
الطبيعة والترابط ما بين
الانسان والطبيعة وبقواعد
دقيقة ومحكمة وكلها تتجه ليتحقق
صالح الانسان، وعلى افضل ما
يتمناه، بل افضل مما يمكن ان
يتمناه او يدركه هذه الحقيقة
وهذا الواقع الذي يعيشه الانسان
كل لحظة ويتعامل على اساسه في كل
حركه وتصرف كما تشير اليه
الابحاث الطبية والبايولوجية
لهو الطريق الواسع والصراط
الجميل للوصول الى الله
ولمعرفته، وبناء علاقة متينة مع
صاحب هذا الفضل، والتعامل مع
هذا الوجود على اساس الشكر وبكل
ابعاد الشكر، ان دعاء
الامام الحسين في عرفة الذي
يشير الى هذه الحقيقة ويصفها
بكل تفصيل ودقة يضعها في مقدمة
دعائه ثم شكره وبعدها استغفاره
على تقصيره في اداء الشكر او في
المغفرة له بسبب معصية الغفلة
عن كل هذه النعم. {اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
(61)}"غافر" 2ـ لا
يعلمون: استعمل
القرآن الكريم هذا الوصف
للاشارة الى اهمية الموضوع
وحساسيته وما يتطلبه من اهتمام
ووقفة جادة ودقيقة لادراكه،
الموارد التي ذكر فيها الناس ثم
وصفهم بان اكثرهم لا يعلمون
كانت تتعلق بالموارد التالية: ـ
الايمان بقدرة الله الغالبة {
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(21)}"يوسف" ـ
الايمان باليوم الاخر والبعث
وخصوصياته وميقاتها {يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (187)}"الاعراف" ـ غلبة
هذا الدين {أَمَرَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ (40)}"يوسف". ـ وعد
الله لا يتخلف { وَعْدَ اللَّهِ
لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ (6)}"الروم". ـ ثبات
السنن الالهية {فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ (30) }"الروم". ـ
عمومية الرسالة المحمدية {
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(28)}"سبأ" ـ تقدير
الرزق { قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (36)}"سبأ". ـ
اعجوبة الخلق { لَخَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ (57)}"غافر". ـ قدرة
الله الحاكم على مسيرة الانسان {
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ (26)}"الجاثية". عند
التطلع الى المواضيع التي جاء
ذكرها في هذه الموارد تجدها
مواضيع اساسية وعقائدية ودقيقة
وادراكها بحقيقتها وابعادها
امر ليس ميسراً لكل الناس، ما لم
يخرجوا عن غفلتهم، وقد يتم
معرفتها لكن العلم بها والاحاطة
بهذه الحقائق المهمة والوصول
الى حقيقة العلم بها والتعامل
مع الواقع على اساس هذا العلم
امر يحتاج الى توفيق من الله. حقيقة
مفهوم مصطلح العلم والعالمون
يحتاج الى بحث خاص. 3ـ لا
يؤمنون {
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ
إِلَّا كُفُورًا (50)}"الفرقان". { وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ
حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}
"يوسف". { المر
تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ
وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يُؤْمِنُونَ (1)}"الرعد". {
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ
مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً
أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ
مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يُؤْمِنُونَ (17)}"هود". اذا
استعرضنا الآيات المذكورة
آنفاً نجد ان هنالك قرينة
سياقاً يجعلنا نميل الى ان ذكر
الناس هنا يختص بالمجتمع "القرشي"
ولا يشمل كل البشرية لان موضوع
الخطاب والجهة الموجهة لها هذا
النعت، والسياق في الآيات يشير
الى ان "الناس" مقصود بها
هنا هم اؤلئك الذين كانوا
يواجهون الرسالة او المجتمع
الذي كان معاصرا لنزول الآيات،
ولكن هذا لا يجعل الآية
وموضوعها خاصاً بهذا المجتمع
فحسب وكما يقول علماء الاصول
والتفسير "فالمورد لا يخصص
الوارد" أي موضوع النزول لا
يخصص موضوع الآية النازلة.
فيمكن تكرار حُكمها او ارشادها
في الموارد والمواضيع المشابهة. اما
الموضوعات التي ورد فيها هذا
النعت (لا يؤمنون) فهي تتعلق
بمجملها بالقرآن الكريم ،
وآياته ، وحقيقة الايمان به فان
اكثر الناس لا يؤمنون بانه هو
الحق وانه من ربك، وان هناك
إصراراً من مجتمعك على الكفر به
كما تشير الآيات {
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ
إِلَّا كُفُورًا (50)}"الفرقان". {وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ
مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
(89)}"الاسراء". اشرنا
ان الآيات القرآنية المتعلقة
بالمبادئ الاساسية لعقيدة
الاسلام وهي التوحيد وحقيقته،
واليوم الآخر، والنبوة
الخاتمة، والتي تحتاج الى
المزيد من التدرج المعرفي بها
كي يقدد عالماً بهذه الحقائق.
والبشرية عموما مشغولة بشؤونها
الحياتية واليومية والمعاشية
والمادية تجعل من هذه القضايا،
قضايا وجدانية وشعورية ليس من
اليسير الاحاطة بها الا ان تمر
بالبشرية ـ فردا او جماعة ـ
ازمة، او ظرف خاص، او حرج يفرض
عليها التفكير في الحياة
ومبدئها ومآلها ونهاية الكون
وقيم الحياة ما شابه. {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
(42}"الانعام" من هنا
كان القرآن دقيقاً في وصفه
وحكيماً في نقده وتشخيصه فقال
لا يعلمون وعدم العلم
يمكن علاجه وازالته بالتنبه
وعدم الغفلة، وتعميم المعرفة،
وتسهيل وصولها والتشجيع على
كسبها على خلاف لا يؤمنون فان
الموضوع مختلف لانه موقف
واختيار اتصف بالرفض وانكار
للواقع وليس الموضوع هو عدم
المعرفة او الجهل. ومن
الواضحات ان
الحساب والعقاب يوم القيامة
قد تعلقاً بالعلم، ورفع القلم
عما يجهلون كما في الحديث وبذلك
فان باب العلم والتعلم وادبه،
باباً فيه سعة لكنها مسؤولية
على البشرية ان تتعلم وتحاسب
على عدم سعيها للعلم وان سير
المجتمعات الى كمالها ومسارها
التكاملي وتراكم خبرتها جعل من
تحصيل العلم حقاً بل واجباً على
الدولة والمجتمع في آن واحد.
وتيسير التعلم وتحصيل المعرفة
هي خصوصيات التقدم وقيام
الحضارات ولذا فاختيار صفة
العلم وعدمه {لا يعلمون} هي دعوة
للتعلم وتحصيل المعرفة وتجاوز
عقبة الجهل المانعة من السير
نحو الحق والكمال والجمال. محاور
بين الله ـ والناس هنالك
مجموعة محاور طرحها القرآن
الكريم كقضايا اساسية ومحورية
جعلها الله سبحانه للناس،
للبشرية والانسانية فهي قضايا
ألهية من جانب وهي قضايا لحياة
الناس وخيرهم من جانب اخر ومنها:
1ـ
الهدى .. القرآن، الكتاب { وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ (28)}"سبأ" الرحمة
الالهية واللطف الرباني الذي
خصه الله للبشرية بارسال
الانبياء من ادم الى خاتمهم
محمد "ص" والذي جعل رسالته
عامة للبشرية جمعاء للناس
جميعاً. {شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
(185)}"البقرة". هذا
التأكيد على الهدى، انه للناس
جميعاً، فالهدى رحمة مطلوبة،
والكتاب، ارشاد رباني مطلوب لكن
لا يمكن الاستعناء به والاكتفاء
به كما نادى به الخوارج واخرون
"حسبنا كتاب الله"، بل لابد
كما اشار القرآن الكريم من امام
للناس، ليمكن بهما، بالكتاب
والامام هداية الناس لامامهم. ان غاية
الهدى الالهي والكتاب، هو كي
يكون حاكماً على الناس ومنشأً
لحل مشاكلهم وخلافاتهم وخلافهم
ومرشداً هادياً في حياتهم. {وَأَنْزَلَ
مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ(213) }"البقرة". {يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ (26)}"ص". {لَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ (25)}"الحديد" فالناس
بحاجة الى هدى رباني، وبحاجة
الى جعل إلهي للامام، وهذا
الجمع بين الآيتين في موضوع
الناس كهدف وكموضوع لهذه
المطلبين وهذين اللطفين. 2ـ
الامامة {وإذ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
(124)}"البقرة" من
القضايا المهمة التي طرحها
القرآن الكريم موضوع "الامامة"
او بالدقة "امامة الناس"
والتي هي من خصوصية الجعل
الالهي بمعنى ان الله تعالى كما
جعل البشر "الناس" قبائل
وشعوباً جعل الله ايضاً لهؤلاء
الناس اماماً. امامة
الناس مهمة فوق مهمة التبليغ
والارشاد، ومقام فوق مقام
النبوة كما تشير الآية الكريمة،
لانها جاءت بعد الامتحان الالهي
لنبي الله ابراهيم . {وإذ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
(124)}"البقرة" وفيها
ايضاً كما تشير
الآية مقام العصمة، وهي عهد
الله بين الناس {قَالَ لَا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. الامامة،
لطف الهي، لانه جعل، وانها
لعامة الناس وللبشرية جمعاء،
وليست خاصة بالمؤمنين وان لها
مهمات كبيرة في الدنيا والاخرة،
ومنها مهمة الشهادة على
البشرية، {وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيدًا عَلَيْهِمْ (89)}"النحل" {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143)}"البقرة". القرآن
الكريم يشير الى ان حشر الناس
يوم القيامة يكون على اساس
هوياتهم الثقافية واتجاهاتهم
الفكرية وتتجسد عبر قياداتهم
ومرشديهم وائمتهم {يَوْمَ
نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ (71)}"الاسراء". والامامة
هي العنصر الاساس في تشكيل
الامم، فلا امة بدون امام
يمثلها ويرشدها ويعبر عنها
ويمثل هويتها. 3ـ بيت
الله {إن
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ (96)}"آل عمران". {وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (125)}"البقرة"
جعل
الله الكعبة الحرام مكاناً
للناس وجعلها بيته، وهي اول بيت
وضع للناس، صحيح هو لله لكنه
للناس "الكعبة" مكان لقيام
الناس وعبادتهم وامنهم وهي
مثابة تجمع الناس العابدين، هذه
هي مهام بيت الله، وهو محور يجمع
الناس حوله، الكعبة، للناس
جميعاً لقيامهم وعبادتهم. الآيات
السابقات تشير ان الامر بقدر
ارتباطه بالله، فان مردوده
وموضوعه هو الناس، وبقدر ما تعم
منفعته وارتباطه بالناس فانه
محسوب ومنسوب الى الله. البيت
كرمز إلهي، هو ايضاً تحقق بجعل
الهي كما هو حال الهدى، وحال
الامامة، فهنا ايضاً جعل الهي
جاء عبر نداء الهي للناس كافة
وجاءوا ملبين ليتجمعوا في مكان
واحد ووقت واحد الا هو مكة، وفي
بيت الله، ولابد لهم من امام
لهذا الجمع امام مجعول ايضاً من
ا لله. {وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى
كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}"الحج" ان
الجمع بين هذه المحاور، [الامام
والهدى وبيت الله] والتي هي كلها
ضمن البرنامج الالهي للعناية
بالبشرية جمعاء، وهدايتها
وتكاملها . {لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ (165)}"النساء"، وبها
تتحقق الحجة الالهية على
البشرية جمعاء، ولا حجة لهم او
مبرر لتخلفهم يوم الحساب. ولابد
لهم من امام يرشدهم ويفعّل
الهدى فيهم ويشهد عليهم، ويكون
معهم في دنياهم واخرتهم. ولابد
لهم من مكان "بيت" يجتمعون
فيه ويكلمون الله بشكره
وعبادته، ومعهم امامهم. الخاتمة
هنالك
في القرآن الكريم تجليات لطائفة
من الالفاظ والمصطلحات في مواضع
متعددة، تلفت نظر القارئ
المنتبه الى فحصها بدقة وعناية،
وتزداد اهمية النظر في تلك
الكلمات والمصطلحات بازدياد
تكرارها، مع لحافظ ان كل ظهور
لأية كلمة يحمل معنى مضافاً او
خصوصية اخرى تختلف بعض الشيء عن
صور تمظهرها المتعددة، والتي
يحسبها القارئ المتسرع انها
استنساخات مكرورة لحقيقة
واحدة، ومصطلح (الناس) في القرآن
من جملة تلك الكلمات التي انصب
عليها بيانه الكريم والمهم لا
سيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار
انهما ـ القرآن والناس ـ من منشأ
واحد، فالذي خلق الانسان هو
الذي علّم القرآن ثم انزله هدى
للناس، ولعل في تكرار حضور
اجيال الناس منذ البدء حتى قيام
الساعة ما يصلح تفسيراً او
تأويلاً لتكرار المقابل لها في
عالم التشريع والبيان تعِلّةً
لحضور كلمة الناس وتكرارها في
القرآن. وقد مرّ في البحث كيف ان
كلمة (الناس) قد تعددت دلالاتها
بحسب المورد والسياق، وكيف أن
كل استعمال لها منوط بمعالجة
جانب من جوانب حياة الناس في
الاولى والاخرى، او منوط
بالاشارة الى منحى من مناحي
الخلقة والتكوين توصيفاً
وارشاداً لجماعات الناس في هذه
النشأة، على أن البحث ـ وان بذل
الجهد في التقصّي ـ الا ان
المجال من الاتساع بحيث لا يمكن
ايراد القول الفصل فيه، ما دامت
حياة الناس تجري وتتبلور
وتتمظهر في شتى مساريها
ومشاريها. وعلى ان هناك دلالات
منفردة ـ غير ما ذكر آنفاً ـ
لكلمة (الناس) في القرآن الكريم
تجدها مبثوثة في احناء
التفاسير وكتب التأويل. فمن ذلك
ان (الناس) في قوله تعالى {أم
يحسدون الناس على ما آتاهم الله
من فضله} واردة في خصوص شخصه صلى
الله عليه وآله وسلم، باعتباره
الا نموذج الامثل للناس، فكأن
كل الناس قد حُشدوا في شخصه
الكريم، نظير قوله تعالى في
ابراهيم عليه السلام {إن
ابراهيم كان أمة..}. ولعل من
المناسب ان نقتبس مقطعاً
تفسيرياً لمصطلح الناس وتكراره
في سورة الناس ومغزى هذا
التكرار وهل هناك معاني مختلفة
في هذا التكرار. إن كل
واحدة من كلمات "الناس"
المتكررة في السورة تختص بمرتبة
من مراتب الكمال الآدمي، بمعنى
أن الإنسان في قوله تعالى: {برب
الناس} عبارة عن الأطفال
المميّزين، حيث انهم يدركون
النعم الأولية لله تعالى، وهي
الإيجاد والتربية والرشد
والنموّ. وفي {مَلِكِ
الناس} المقصود من الناس
العقلاء الذين ينظرون الى عالم
الكون بنظر أدق وأوسع، فيرون
النظام البديع وروابط أجزاء
العالم بعضها ببعض، ويشاهدون
سلطان الله عليها. وفي {إلهِ
النَّاسِ} المقصود بالناس
المؤمنون المتعبّدون لله تعالى
الذين يرون في الموجودات آيات
عظمته وقدرته فيعبدونه. وفي {صُدُورِ
النَّاسِ} المقصود بالناس هم
العلماء الروحانيون لأن
الوسوسة من الشياطين تكون
للعلماء، فإن الشياطين يسعون
الى إغوائهم وإذلالهم، وأما
الجهّال فالعامل الأساسي
لإذلالهم جهلهم، وليس شيء أقوى
من الجهل في الإضلال، فلا يحتاج
الجاهل الى الوسوسة، كما قال
عليّ عليه السلام: [الجهل أصل كل
شيء] و [الجهل معدن الشرّ]، وفي
الدعاء : [أنا الجاهل عصيتك
بجهلي، وارتكبت الذنوب بجهلي،
وسهوت عن ذكرك بجهلي، وركنت الى
الدنيا بجهلي..]. والناس
في آخر السورة هم شياطين الإنس
في مقابل شياطين الجن، الذين
يهتمّون بإضلال الخلق. فعلى
هذا ليس تكرار كلمة الناس في
السورة مجرد تكرار، بل {الناس}
في كل مورد بمعنى يغاير معناه في
المورد الآخر. [دروس في التفسير،
احمد الفهري، ص273ـ274]. ــــــ المصدر
: المكتب الإعلامي للشيخ د. همام
حمودي -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |