ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 17/05/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


منهج التفكير العلمي وإنجازاته ..

بين الرازي وبرنار

أ.د. ناصر أحمد سنه*

في حضارتين متجاورتين متواصلتين متحاورتين متدافعتين علي مدار التاريخ.. يبرز في إحداهما "الرازي" كمؤسس من مؤسسي منهج التفكير العلمي والتجريبي، وإنجازاته العلمية، ومن ثم الثانية يتسلم المشعل ـ بعد قرون ـ "برنار" فيواصل المسير، ويراكم الخبرات، ويبدع الاكتشافات، ويثري الإنجازات.

 

أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (ت 313هـ)،"أبو الطب، وإمامه في الحضارة العربية الإسلامية"،"جالينوس العرب".. ولد في الري من أعمال إيران، ودرس الرياضيات والطب والفلك والفلسفة والكيمياء والمنطق والأدب. تعلم طب "علي بن ربن الطبري(800-870م) في سن متأخرة. للرازي نحو 200 كتاب ومقال ورسالة في الطب والفلسفة والصيدلة والكيمياء وغيرها، وظل ما تـُرجم من مؤلفاته إلى اللغة اللاتينية مراجع هامة في الطب حتى القرن السابع عشر الميلادي، ومن أهم كتبه:"تاريخ الطب"، و"المنصوري في الطب"، وقد خصصه لأمراض الجسم، ثم تممه بـ"الطب الروحاني"، وله "الحاوي في الطب"(ترجم إلى اللاتينية سنة 1279 م، وعرف باسمContinens :)، و"الجامع الكبير"، و"الجدري والحصبة"، و"القولنج"، و"الأدوية المفردة" (سليمان فياض: عمالقة العلوم التطبيقية وإنجازاتهم العلمية في الحضارة الإسلامية، مكتبة الأسرة، 2001م، ص 57-62).

 

حلُـم بالعمل في المسرح، لكنه اصبح طبيباً وفيلسوفاً. اشتغل في مجال علم التشريح، ويعد رائدا ومؤسسا لعلم الفسيولوجيا الحديث.. ذلك العلم الوسط بين العلوم العقلية والطبيعية. كلود برنار(1813- 1878م) باحث وفيلسوف فرنسي نهم للمعرفة، بحث كثيرا، وكتب كثيرا، واعتزل كثيرا في منزل أسرته في "بوجوليه"، جد دؤوب، رغم اعتلال صحته، يدفعه فضول كبير للعلم، ورغبة في إعادة النظر في أسس التفكير العلمي والطب التجريبي. له عدة كتب في ميدان البحث العلمي والتجريبي التي كان يقوم بها. أسيء فهمة عائليا، وعارضته زوجته "المتدينة" التي لم تكن قادرة علي تفهم الشرف الذي سيعود علي زوجها من وراء"وحشيته" تجاه حيوانات المختبر. وقد عبر عن مبادئه العلمية في كتابه الشهير:"مدخل إلى دراسة الطب التجريبي"(1865م). ثم اصبح هذا الكتاب كتاب الفسيولوجيا المفضل.

 

من اللافت أن أعمال الرازي تتسم بسلامة التفكير و"عقلانيته"، ففي "فضل العقل ومدحه" من كتابه "الطب الروحاني" يؤكد علي أهمية العقل:"فالعقل هو المرجع الذي نرجع إليه، فلا نجعله، وهو الحاكم، محكوما عليه، وهو الزمام ، مذموما، وهو المتبوع، تابعا، بل نرجع في الأمور إليه، ونعتبرها  به، ونعتمد فيها عليه". ولقد كانت أصالة البحث، والثقة بالنفس، والاعتداد بالرأي.. القراءة الكثيرة، الخبرة المتراكمة، والقدرة الفائقة لتصحيح الأخطاء العلمية والعملية لمن سبق..مرتكزات منهج الرازي الفكرى والعلمي. فنصيحته المتكررة لأهل العلم والمشتغلين بالبحث: أن يتثبتوا من كل يقرؤون، ولا يصدقوا إلا ما تؤكد صحته التجربة والبرهان، فالتثبت والتعقل والتجربة والبرهان والقياس والنقد البناء. فمنهج البحث العلمي ينبغي أن يتم تخليصه من الخرافات والأوهام، ومالا تثبته التجربة:"وبقيت زمانا أطلب بالتجربة والقياس تدبير الأمراض الحادة، حريزا آمنا معه ألا أجني على المريض بالخطأ، وإن أخطأت، ألا يطول، مدة العلة متى وجدت".

وهاهو "برنار" يؤكد علي الاستدلال التجريبي، وتطبيق هذا المنهج علي ظواهر الحياة. حصر القواعد التي علي التجربة الالتزام بها تفاديا لأكبر قدر ممكن من الأخطاء التي قد يرتكبها الباحث، كذلك أوضح المعايير البحثية التي ينهض عليها طب مؤسس علي الحقائق الفسيولوجية المؤكدة و"اليقينية"، فضلا عن التأمل الفلسفي حول الطب. وكان تأكيده على ضرورة الفرضية واستحالة إجراء تجارب بدون نظرية مسبقة يضعها العالم كمنطلق لعمله. وكان يرد في ذلك على كثير من المفكرين والعلماء الذين كانوا يعتقدون بعدم جدوى النظرية وأن لها دورا ثانويا فقط، كما كان يؤكد على أنه ينبغي للنظرية أن تكون دائما مصحوبة بالشك.

كان الرازي مؤمنا باستمرار التقدم في البحوث الطبية، ويري ان ذلك التقدم لا يتم إلا بدراسة كتب الأوائل، والانتفاع بها، والبناء عليها، فيذكر في "المنصوري":"هذه صناعة لا تمكن الإنسان الواحد إذا لم يحتذ فيها على مثال من تقدمه أن يلحق فيها كثير شيء، ولو أفنى جميع عمره فيها، لأن مقدارها أطول من مقدار عمر الإنسان بكثير، وليست هذه الصناعة فقط بل جل الصناعات كذلك، وإنما أدرك من أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية في ألوف من السنين ألوف من الرجال، فإذا اقتدى المقتدي أثرهم صار أدركهم كلهم له في زمان قصير، وصار كمن عمر تلك السنين وعنى بتلك العنايات. وإن هو لم ينظر في إدراكهم، فكم عساه يمكنه أن يشاهد في عمره، وكم مقدار ما تبلغ تجربته واستخراجه ولو كان أذكى الناس وأشدهم عناية بهذا الباب. على أن من لم ينظر في الكتب، ولم يفهم صورة العلل في نفسه قبل مشاهدتها، فهو وإن شاهدها مرات كثيرة، أغفلها ومر بها صفحا ولم يعرفها البتة".

ويؤكد الرازي علي"تراكمية العلم والبحوث العلمية":"فالصناعات لا تزال تزداد وتقرب من الكمال على مرّ الأيام، وتجعل ما استخرجه الرجل القديم في الزمان الطويل في متناول الذي جاء من بعده في الزمان القصير حتى يحكمه، ويصير سببا يسهل له استخراج غيره به فيكون مثل القدماء في هذا الموضع مثل المكتسبين، ومثل من يجيء من بعد مثل المورثين المسهل لهم ما ورثوا اكتسابا أكثر وأكثر".

وكان يري أن يتعلم الطلاب "صناعة الطب" في المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان، حيث يكثر المرضى، فيتعلمون جيدا، ومن ثم يجيدون "فن الصنعة"، ويزاول المهرة منهم هذه المهنة، ويقول "في محنة الطبيب وتعيينه"، نقلا عن جالينوس:"وليس يمنع من أجاد في أي زمان كان أن يصير أفضل من أبو قراط". ويقول  في "المرشد أو الفصول":"ليس يكفي في أحكام صناعة الطب قراءة كتبها، بل يحتاج مع ذلك إلى مزاولة المرضي. إلا أن من قرأ الكتب ثم زاول المرضى يستفيد من قبل التجربة كثيرا، ومن زاول المرضى من غير أن يقرأ الكتب، يفوته ويذهب عنه دلائل كثيرة، ولا يشعر بها البتة، ولا يمكن أن يلحق بها في مقدار عمره، ولو كان أكثر الناس مزاولة للمرضى ما يلحقه قارئ الكتب مع أدنى مزاولة، فيكون كما قال الله عز وجل: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) (يوسف: 105).

وكان الرازي طبيبا عظيما، وجراحا ماهرا، بل شيخا لأطباء زمانه، فيلسوفا، وعالما موسوعيا وباحثاً من نوع متميز.. أنموذجا يتسم بالحيوية الهائلة، والعبقرية الفذة، والشغف بالطب والعلاجات، وقدرة لا تنضب علي الاندهاش.. كثير التساؤل والقلق المعرفي، يري جديدا في كل مريض حتى وإن تشابهت الأعراض السريرية، وكان يختطف اللحظات ـ ما بين التزاماته في البيمارستان، وفحص مراجعيه في عيادته ـ لكي يقرا ويدون ويسجل مما مر به من حالات في يومه المشحون.

فنراه يسجل آراءه الخاصة، وشئون مرضاه، مع التفاصيل السريرية (الأكلينيكية)، وخبراته المتواصلة والمتراكمة، وتعتبر مادة "الحاوي في الطب " مذكرات شخصية رائعة في هذا الشأن، يجد فيه القارئ ملاحظات إكلينيكية عن أمراض ووعكات أصابت الرازي نفسه، كما دون فيها بيانات مفصلة عن من يعوده، لكنه كان يؤمن بأهمية بحفظ أسرار مرضاه فهي من أصول تلك المهنة، كما ذكر ذلك في كتابه "في محنة الطبيب وتعيينه".

وكما يفعل الباحثون المعاصرون من جمع المادة العلمية وتدوينها (عبر قصاصات/ او سجلات الخ) ومن ثم تبويبها،  كان الرازي يدون في "الحاوي" مقتطفات من الكتب الطبية التي قرأها.. لمن سبقوه ومن عاصروه، فكانت تلك السجلات من ضمن مكتبته الخاصة، وهو بذلك قد حفظ لنا مادة بعض الكتب التي فقدت أصولها اليونانية منذ قرون. ويوحي ترتيب المادة العلمية في هذه المذكرات بأنه كان يدون ملاحظاته في كراسات يضعها في حافظات، وكانت كل حافظة من حافظات الأوراق مخصصة لموضوع من الموضوعات الطبية، وترتيبها جميعا على نظام علمي وموضوعي خاص.. من الرأس إلى القدم.

وكان الرازي يدون-حتى تلك الآراء التي حكم ببطلانها، فكان يسجل هذه مشفوعة بنقد يكتبه بوضوح تام لا لبس فيه، بعد كلمته المأثورة: "لى". وكثيرا ما نقح المادة التي نقلها من المراجع، مسجلا تلك العبارات المنقحة عقب قوله "لى مصلح"، وهو بذلك قد ضرب لنا المثل في الأمانة العلمية ذاكرا ماله وما لغيره من الأطباء والفلاسفة.

 واستعان "الرازي" بمذكراته الخاصة تلك في تأليف وابتكار كتبه الطبية التي تمتاز بجمال الأسلوب وأصالة المادة، فنراه يضع أسس ما يسمي الآن"التشخيص المقارن" ومثال ذلك تفريقه الدقيق بين الحصبة وبين الجدري من أعراضهما وبثورهما.

وفي مجال أبحاث الطب والصيدلة التجريبية Experimental medical and pharmaceutical researches كان الرازي أول من استخدم القردة لأجراء تجاربه التشريحية، ومقارنة ذلك بجسم الإنسان، كذلك تجريب العقاقير الدوائية عليها، قبل وصفها للإنسان.

بعد ان يراكم الباحث خبرته ومهارته وحكمته علي مدار الأعوام، نراه يبدع في المساهمة في بناء نسق العلوم والمعارف والتقنيات.. نقدا وتفنيدا وإضافة وبناءا وابتكارا وإبداعا، والرازي كان يري أن صناعة الطب، مثل الفلسفة (وكان مؤمنا بفلسفة سقراط 469 ق. م- 399 ق. م، ويدافع عن سيرته الفلسفية)، "لا تحتمل التسليم المطلق للرؤساء في الطب ولا بالقبول بكل ما قالوه، ولا مساهمتهم، وترك الاستقصاء المتجدد اكتفاء بما قالوه، ولا الفيلسوف يحب ذلك من تلاميذه والمتعلمين منه"، فنجد له من الشجاعة العلمية الكافية، بما دونه وحصله من آراء وخبرات خاصة، ومشاهدات دقيقة، لنقد أساطين الطب وثقاته، فيما لا يتفق مع الحقيقة كما يراها، ولا يتحرج في أن يعلن اختلافه مع سابقيه، إذا أقنعته التجربة بذلك، وهو إذا يعلن خروجه عن المقبول والسائد من المهارات، إنما يفعل ذلك دون غرور أو تباهي، كما نجده لا يتردد في ان يعترف بخطئه وجهله أيضا دون تبرير أو خجل، وإنما يكتفي بالاستشهاد بالتجربة الحسية، والإشارة إلي النتائج، ولو أتت بالصدفة، في صدق علمي فريد، مما أسهم بنصيب وافر في بناء صرح العلم والمعرفة.

فمن ذلك أن الرازي كان يؤمن بأن الفصد مفيد في بعض الأمراض، وقد بني ذلك علي خبرته الواقعية فقد قسم عددا من المرضى المصابين بمرض السرسام (التهاب سحائي) إلى مجموعتين، ثم فصد أفراد المجموعة الأولى، وترك أفراد المجموعة الثانية بدون فصد (تسمي حديثا بالمجموعة الضابطةControl group، وهي أساس لا غني عنه في التجارب البحثية)، يقول الرازي:"وتركت متعمدا جماعة استدل بذلك رأيا"، ونراه يضيف:"وقد كان بمدينة مصر رجل بغدادي يتصرف في خدمة السلطان، وكان يلزمني تدبيره، وسنه يومئذ نيف وسبعون سنة، كنت أفصده في كل خمسة وعشرين يوما وما يقرب منها، في جميع الأزمنة".

 ومن الرائع أن الرازي في كتابه "الفصد والحجامة" يذكر:"وخبرني بعض من كنت أتعلم عنده الفصد، أنه عسر عليه إخراج عرق امرأة، فنهرها وزجرها ولكمها، فبرزت عروقها ففصدها للوقت، واعتذر إليها وأخبرها بحيلته تلك"، كما يقول: "وأخبرني من كنت أقرأ عليه أن المأمون افتصد" مما يشير إلي أن الرازي كان قد درس الطب على أستاذ طبيب، ولكنه تعلم الفصد عند فصاد من غير الأطباء، ممن كانوا يمارسون "أعمال الطب الجزئية".

وهو بعد كل ذلك يذهب في تأييد رأي جالينوس ( 130 م تقريبا- 200 م تقريبا) الذي كان قد خصص المقالتين الأولى والثانية من كتابه في "الفصد" لمناقضة رأي أرسطوطاليس وتلامذته من مدرسة الإسكندرية القديمة (القرن الرابع ق. م- القرن الثالث ق. م)، وكانوا جميعا يمنعون الفصد، ظنا منهم بأنه يجلب المرض، ولكن جالينوس بعدما فند ارائهم ذكر في المقالة الثالثة ما يراه من العلاج بالفصد.

ولكن نراه في كتابه "الشكوك على جالينوس" وهو كتاب غزير المادة، لم يطبع، وينقد الرازي فيه ثمانية وعشرين كتابا من كتب جالينوس، من أولها "البرهان"، وإلي آخرها"النبض الكبير"، في اتجاه نقدي جديد ومحمود بين أطباء الحضارة العربية الإسلامية، فكم من أجيال توارثت النظريات والآراء العلمية الخاطئة دون أن يجرؤ أحد على نقدها أو تعديلها، خشية الخروج على العرف السائد، يقول الرازي في مقدمة ذلك الكتاب: "إني لا أعلم أن كثيرا من الناس- يستجهلونني في تأليف هذا الكتاب، وكثيرا منهم يلومونني ويعنفونني أو كان يجزي إلى تحليتي تحلية من يقصد بإستغنام واستلذاذ منه كذلك، الى مناقضة رجل مثل جالينوس، في جلالته ومعرفته وتقدمه في جميع أجزاء الفلسفة، ومكانه منها؟ وأجد أنا لذلك- يعلم الله مضضا في نفسي. إذ كنت قد بليت بمقابلة من هو أعظم الخلق على منة، وأكثرهم لي منفعة، وبه اهتديت، وأثره اقتفيت، ومن بحره استقيت". ثم نسمع نبرته يرد كأستاذ عالم ناقد:".. وأما من لامني وجهلني في استخراج هذه الشكوك والكلام فيها، فإني لا أرتفع به، ولا أعده فيلسوفا، إذ كان قد نبذ سنة الفلاسفة وراء ظهره، وتمسك بسنة الرعاع من تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم"، ويستشهد بقول ينسب إلى "أرسطاطاليس": "اختلف الحق وفلاطن- وكلاهما لنا صديق ـ إلا أن الحق أصدق من فلاطن". وكان جالينوس نفسه سليط اللسان، ويتضح ذلك جليا لكل من يقرأ كتبه، وعنه يقول الرازي: "ولا أحسب نجا منه أحد من الفلاسفة ولا من الأطباء إلا مشدوخا، وجل كلامه عليهم حق، بل لو شئت لقلت كله حق".

وهذه مقدمة شيقة لما يسمي الآن بنقد الكتب وتقريظها، وتعبر عن الحقيقة إلى حد بعيد. فإن لجالينوس الفضل الأول في بناء صرح الطب، فقد أسهم بنصيب وافر في عامة فروع الطب، وخاصة في علمي التشريح ووظائف الأعضاء ، بالإضافة إلى ما حفظ لنا في نصوص كتبه من مقتطفات من تراث الأوائل الذي قد فقد أغلبه.

وفي نقده للجزء الأول من كتاب جالينوس" في تركيب الأدوية" يقول: "فأما كتاب" قاطاجانس" فالإنسان أن يلزمه ويعدله بالحق على تطويله وتكريره الكلام في تلك المراهم، كأنه لا يشفق على الزمان، أو ليس له شغل هو أولى به، وجل تلك المراهم مما لا نستعملها نحن قط ، على كثر عنايتنا لصناعة الجراحات، ومعالجة الرديئة منها، ولم نر أحدا من أصحاب الجراحات استعملها، إلا أن الإنسان أيضا يجب أن يمدحه غاية المدح ويقرظه لما علمنا في فيه من مداواة جراحات العصب، وهذا أمر عظيم من منافع هذا الكتاب". ثم نراه يحدد في كتابه "سر الأسرار" منهاج عمل الكيمائي وما عليه أن يسلكه كي يصل للنتائج المطلوبة وكيفية التحقق منها ومن ثم تعميمها بعد ذلك.

ومن أمثلة عدم تردده أو إخفائه ما أنتجته التجربة الحسية، ولو كانت عرضاً وبالمصادفة،  ما جاء في إحدى مدوناته في" الحاوي":"المرأة التي جاء بها إلينا أبو عيس الهاشم النحاس، كانت شحيمة... حدث بها في الولادة فالج ثم صرع ولم يكن في أمرها لَـبس,, وأمرتها بعد ذلك أن تلزم ترياق الأربعة، فأعطاها الصيدلاني بدل ذلك أنقرذيا، فبرأت برءًا عجيباً، فعجبنا منه وسائر الأطباء"، وهو بذلك يُـلزم نفسه باستخدام ما سمي حديثا "بالتشخيص بالعلاج"، كما يتضح ذلك أيضا في كتابه عن" القولنج" (د. محمد محمد المفتي: العين والأنامل.. ملامح المنهج والممارسة الطبية في عصر النهضة العربية الإسلامية، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي،  ط 1، 1992م، ص 49-62).

والبحث العلمي يحتاج إلي صبر كبير وعلو همة واجتهاد، ومن ثم ثقة وغبطة بما تم إنجازه، يقول الرازي في كتابه "السيرة الفلسفية": وأنه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خط التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة، وبقيت في عمل "الجامع الكبير" خمس عشرة سنة، أعمله الليل والنهار حتى في ضعف بصري، وحدث على فسخ في عضل يدي يمنعاني في وقتي هذا عن القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أدعها بمقدار جهدي واستعين دائما بمن يقرأ ويكتب لي". وفي موضع آخر من يذكر عناوين بعض مؤلفاته الطبية كنموذج لكتبه التي يفتخر ويعتز بها، قائلا :"وكتابنا في "الأدوية الموجودة" والموسوم "بالطب الملوكي" والكتاب الموسوم "بالجامع "..الذي لم يسبقني إليه أحد من أهل المملكة، ولا أحتذي فيه أحد بعد احتذائي وحذوي، وكتبنا في صناعة الحكمة التي هي عند العامة "الكيمياء"، وبالجملة فقرابة مائتي كتاب ومقالة ورسالة خرجت عني إلى وقت عملي على هذه المقالة في فنون الفلسفة من العلم الطبيعي والإلهي".

وكثيرا ما ذكر الرازي مؤلفه "الجامع الكبير" (في اثني عشر جزءا على الأقل) في كتبه الأخرى، مثل "المرشد أو الفصول"،"الأقراباذين المختصر"، ونراه يذكره ست مرات في كتابه "الشكوك على جالينوس"، مؤكدا أن مادة كتابه "الجامع الكبير": أحسن وأوضح وأوفى مما كتبه "جالينوس" نفسه في كتبه التي قام بنقدها، وكان الرازي يعد العدة لكتابة جزأين آخرين من أجزاء "الجامع الكبير"، أحدهما"الجامع في العين" والثاني "الجامع في الحميات"، إلا أنه توفي قبل أن يحقق ذلك.

ومن أمثلة ما ورد في "الشكوك على جالينوس" يبين الرازي في نقده لكتاب "البرهان" ما أهمله جالينوس من ملائمة العين لوظيفتها باتساع الناظرين في الظلمة وضيقها في النور، ومنها قوله ـ أي جالينوس ـ "أنّا إذا غمضنا إحدى العينين اتسع ثقب الناظر في الأخرى، فنعلم يقينا أنه يملؤه جوهر جسمي"، يقول الرازي ردا على ذلك مباشرة:"و(ولو) كان هذا الجوهر الجسمي لا يجرى إليه إلا في حال تغمض الأخرى، لم يكن يتسعان جميعا في حالة ويضيقان في أخرى. وقد نجد النواظر كلها تتسع في الظلمة وتضيق في الضوء، هذا أحد ما ذهب على جالينوس، فلم يدركه، ولا خبر بمنفعته، والمنفعة في ذلك انه لما كان النور شديد التأثير في حاسة البصر حتى أنه يؤذيها ويؤلمها بإفراط، والظلمة مانعة من الإبصار، احتاج البصر إلى اعتدال منهما يقع معه الإبصار بغير أذى، فهيئت العين هيئة يمكن معها أن يتسع ثقبها في حالة ويضيق في أخرى ، لكن إذا كان المبصر في موضع نير جدا، أضاق فوصل من النور بمقدار ما يبصر به ولا يؤذي. وإذا كان في هواء أقل نورا، اتسع ليصل من النور أيضا ما يقع به الإبصار. كرجل له بستان يجري إليه الماء في بربخ معلوم كيلا يفسد كثرته ولا يقصر قلته. فجعل على فم هذا البربخ لوحا وصماما، يزن به الماء ليدخل بقدر حاجته، فمتى نقص الماء، شاله عن فم البربخ بقدر الحاجة ومتى زاد مدة عليه بقدر الحاجة أيضا. وأما اتساع أحد الناظرين في حال تغميض الأخرى، فلأن الحاس الأول متى فاته من المبصر بعين واحدة ما فات، يروم أن يستدرك ذلك بالعين الأخرى، فيوسع لذلك ثقب العين المتهيء لذلك ليكشف الشبح من الجليدية بمقدار ما اقتسر عنه من العين الأخرى ، أو يقارب ذلك بأكثر ما يمكن. كالرجل الذي يجري إلى بستانه ما يكفيه من الماء في مجريين. فحدث على أحدنا حادث، فاستدرك سعة المجرى الآخر ما فاته من المجرى المنسد. فقد بان أن العلة في اتساع أحد الناظرين في حال تغميض العين الأخرى ليس هو أن جوهرا جسميا يجري الى الأخرى إذ كانا قد يتسعان ويضيقان في حال وهما مفتوحتان ليكون الاستدراك بالكشف عن الجليدية من المبصر ما فات في الآخر".

 

وفي كتاب "الشكوك على جالينوس " يقول:"ما يتضارب العلم مع العمل، فإن جالينوس يصور الحميات بصور ثابتة أو قريبة من الثابتة، محددا أوقاتها الأربعة: الابتداء والتزيد والمنتهى والانحطاط، وإذا طلب الطبيب ذلك بالفعل وقعت الشكوك المغلظة"، ولا يلاحظ ذلك إلا من كثرت تجربته واشتدت عنايته وزاد تفقده للأمراض، فكم من مرة رأى الرازي الحمى تبتدئ بنافض، وتصعد صعودها، ثم تصير بعد ذلك إلى حمى يوم فيبرأ المريض برءا سريعا. ويعدد الرازي حالات أخرى كثيرة غير هذه، ثم يقول في مرض أصابه فجأة : ومنذ قريب حممت وأنا على سفر، وظهر اليرقان بي، وهو شيء لم يعتريني قط، من غير يوم النوبة في العين، وفي الماء، وذلك إني لما رأيت الماء صبيحة تلك الليلة قلت: انظروا إلى عيني، لما رأيت اليرقان في الماء. فأخبروني بما فيها منه . ثم لم يكن إلا خيرا . وكم ترصدت في البيمارستان ببغداد وفي الري، وفي منزلي، سنين كثيرة هذه المعاني وأثبت أسماء من كان أمره جرى على حكم هذه الكتب، وأسماء من جرت حالته على خلاف ذلك (كل) على حدة. فلم يكن عدد من جرى أمره منهم على الخلاف بأقل عددا فينبغي أن يطرح ولا يعبأ به، كحكم سائر الصناعات بل شيء كثير لا ينبغي لعاقل محترس أن يثق معه بهذه الطريقة غاية الثقة ويركن إليها، ويطلق القول بتقدمة المعرفة، أو ينزع إلى العلاج والتدبر بحسبها. وذلك أن من جرى أمره على الخلاف قد كانوا على الستمائة من نحو ألفي مريض ومن ذلك أمسكت عن الإنذار بما هو كائن، إلا حيث كان الأمر من وضوح الدلائل وقوتها ما لم يلزمني فيه شك.

وكان للرازي إسهامات كبيرة في الكيمياء، ويعود له الفضل في تحويل الكيمياء القديمة (كيمياء جابر) إلى علم الكيمياء الحديث، وكانت مصنفاته أولى المصنفات الكيميائية في تاريخ هذا العلم، وعلى الرغم من أن أستاذه جابر بن حيان كان أول من بشَّر بالمنهج التجريبي؛ إلا أنه كان يخلط ذلك بأوهام الرمزية والتنجيم، أما الرازي فقد تجرّد عن الغموض والإيهام وعالج المواد الطبيعية من منظور حقيقتها الشكلية الخارجية دون مدلولها الرمزي؛ ولذا كان الرازي بطبيعة الأمر أوسع علمًا, وأكثر تجربة, وأدق تصنيفًا للمواد من أستاذه. ونستطيع أن نقول: إنه الرائد الأول في هذا العلم، وذلك في ضوء اتجاهه العلمي، وحرصه على التحليل وترتيب العمل المخبري، وكذلك في ضوء ما وصف من عقاقير وآلات وأدوات. عكف الرازي ـ إلى جانب عمله التطبيقي في الطب والصيدلة والكيمياء ـ على التأليف؛ وصنَّف ما يربو على 220 مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة، وأشهر مصنفاته في حقل الكيمياء "سر الأسرار" نقله جيرار الكريموني إلى اللاتينية، وبقيت أوروبا تعتمده في مدارسها وجامعاتها زمنًا طويلاً، بيًَّن في هذا الكتاب المنهج الذي يتبعه في إجراء تجاربه؛ فكان يبتديء على الدوام بوصف المواد التي يعالجها ويطلق عليها المعرفة، ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعين بها في تجاربه؛ وسماها معرفة الآلات، ثم يشرح بالتفصيل أساليبه في التجربة وسماها معرفة التدابير.

ولعل براعة الرازي في حقل الطب جعلته ينبغ في حقل الكيمياء والصيدلة؛ إذ كان لابد للطبيب البارع آنذاك أن يقوم بتحضير الأدوية المركبة، ولا يمكن تحضير هذه المركبات إلا عن طريق التجربة المعملية، ويبين (سر الأسرار) ميل الرازي الكبير واهتمامه العميق بالكيمياء العملية، وترجيح الجانب التطبيقي على التأمل النظري، ولا يورد فيه سوى النتائج المستفادة من التجربة، وقسَّم المواد الكيميائية إلى أربعة : معدنية، ونباتية، وحيوانية ومشتقة. كان الرازي من أوائل من طبقوا معارفهم الكيميائية في مجال الطب والعلاج، وكان ينسب الشفاء إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض؛ فهو أول من استعمل الكحول في تطهير الجروح، وابتكر طريقة جديدة لتحضير الكحول الجيد من المواد النشوية والسكرية المتخمرة، كما كان أول من أدخل الزئبق في المراهم.

كانت أكثر أبحاث "برنار" شهرة كانت حول إفرازات البنكرياس كذلك دراساته: حول التأثيرات المتعارضة للجهاز العصبي السمبثاوي وللعصب المعدي –الرئوي، دراسات حول الأعصاب التي تؤثر في الأوعية الدموية، دراساته حول تحول السكر إلي جليكوجين في الكبد، حول الغدد الصماء كالغدة الدرقية والغدد ذات الأفرازات الخارجية مثل غدد العرق والغدد المعوية ..الخ. في نهاية القرن التاسع عشر درس كلود برنار وظيفة البنكرياس والتحول الغذائي لمادة الجليكولجين في الكبد ضمن الخصائص الكيمائية للجهاز الهضمي وملحقاته.

أسس برنارد مفهوم" الوظيفة" Function أي الدور المؤدي من كل نسيج وكل عضو في إطار الفسيولوجيا البشرية من اجل استمرار الحياة، دور يقوم الكائن بتنشيطه أو ابطائه وفق احتياجاتهن واكتشف العديد من " الوظائف"(جان شارل سورنيا: تاريخ الطب، عالم المعرفة ، 281، مايو 2002م، ص 240-242). كذلك وصف برنارد "الوسط الداخلي" .. ذلك الوسط الفيزيو- كيمائي الغامر لكل أنسجة الجسم من داخل الأوعية الدموية ومن خارجها فاي تغيير في هذا الوسط في موضع محدد من الممكن أن مضاعفات في عضو بعيد ، تعتمد الحياة علي تركيب هذا الوسط الداخلي ومن ثم تمتاز الحياة بآليات متنوعة من أجل الحفاظ علي هذا التركيب.

 

المنهج التجريبي.. عود علي بدء

من المعلوم أن المنهج التجريبي يستهدف الفروق الفردية وتحديد موضع من هو محل الفحص بالنسبة للآخرين.. أي هو يُعني بلغة الكم والإحصاء، أما المنهج الإكلينيكي فيسعي "لفهم كنه" من هو محل الفحص.

ولقد عرف المذهب التجريبي تطورا كبيرا منذ القرن السادس عشر على يد جاليلي الذي أرسى فيه قواعد أساسية، مرورا بفرانسيس بيكون ودفيد هيوم وجون لوك وانتهاءً بكلود برنار الذي وضع صيغته المكتملة في صورتها الكلاسيكية. يقول برنار:"الحدث يوحي بالفكرة، والفكرة تقود إلى التجربة وتوجهها، والتجربة تحكم بدورها على الفكرة". هذه المقولة تلخص خطوات أربع تقليدية في التفكير العلمي والمنهج التجريبي هي: الملاحظة، والفرضية، والتجريب ثم القانون.

فالملاحظة: الملاحظة خطوة أولى تبدأ بمراقبة الظاهرة المدروسة، أعتمادا على الحواس والقدرات العضوية، ثم ينتقل إلى الملاحظة المعتمدة على الآلات والوسائل العلمية حتى تصبح أكثر ملاءمة لروح البحث العلمي. كما ينبغي على الملاحظ أن يأخذ بعين الاعتبار تداخل وتعقد الظواهر وتفاعلها حتى لا يصدر أحكاما متسرعة وتبسيطية، وأن يضع بين رغباته وعواطفه ومعتقداته من جهة و بين الظاهرة المدروسة من جهة أخرى مسافة كافية تصبغ على عمله طابع الموضوعية الدقة والموضوعية.

الفرضية: هي الفكرة أو مجموعة أفكار يقترحها العالم انطلاقا من ملاحظاته من أجل فهم وتفسير الظواهر التي يدرسها الظاهرة. وإذا كان يتقن فن الاستماع في مرحلة الملاحظة، فعليه في هذه المرحلة أن يجيد فن الحوار، فهو ينتظر من الظاهرة المدروسة أن تنسجم مع الفرضيات التي اقترحها حتى تكتسب هذه الأخيرة صلاحيتها وصدقها. ومن مواصفات الفرضية أن تكون نابعة من الموضوع المدروس، أي أن يكون لها سند واقعي، وليس من تصورات وخيالات يتم نسجها حوله. وكذلك قابليتها للتحقق التجريبي، وأن تكون عناصرها منسجمة فيما بينها وليست متناقضة.

التجريب: بعد الملاحظة والفرضية ينتقل العالم إلى مرحلة التجريب من أجل التأكد من صدق أو كذب ما اقترحه من فرضيات، كما يعتبر الكثير من الباحثين بأن التجريب هو بمثابة ملاحظة ثانية لكنها عملية وملموسة. حيث ينتقل الباحث من مجرد ملاحظ إلى عنصر فعال في العملية يساهم في صنع الظاهرة ميدانيا أي داخل المختبر باحثا في نفس الوقت عن الإجابات التي توفرها الظاهرة المدروسة عن فرضياته. إن مرحلة التجريب تقتضي التسليم ببعض المفاهيم الأساسية والتي تعتبر عماد التفكير العلمي وهي: الحتمية والتكرار وعزل الظاهرة المدروسة وتغيير الشروط والخلق العلمي والتعميم...

القانون: بعد عملية التجريب العلمي على الفرضيات المقترحة لتفسير الظاهرة، يقوم العالم باستخلاص النتائج التي يقوم بقراءتها وتأويلها والخروج بخلاصات تكون على شكل علاقات تعكس نتائج عمله في صيغة معادلات رياضية وهي ما يسمى بالقوانين التي تتحكم أو تفسر الموضوع المدروس، وإذا تمكن العالم من إيجاد الروابط التي تجمع بين تلك القوانين يكون قد توصل إلى نظرية حول موضوع بحثه.

نستنتج من خلال هذه الخطوات الأربع للمنهج التجريبي أن كلود برنار يؤكد على أن الفرضية هي نقطة الانطلاق في كل ممارسة علمية تجريبية، بل هي الشرط الأول لقيام أية معرفة. كمثل على حوار الفرضية والتجربة العلمية يمكن الحديث عن فرضية أرسطو الشهيرة بخصوص سقوط الأجسام ، فقد افترض المعلم الأول بأن الأجسام الثقيلة تسقط طبيعيا أسرع من الأجسام الخفيفة،اعتبرت هذه الفرضية صحيحة لمدة 2000 سنة،نظرا لقيمة أرسطو الفلسفية والعلمية التي كانت محط احترام الجميع. كما أن هذه الفرضية تؤكدها الملاحظة العادية وهي أن الأجسام الثقيلة تقسط أسرع من ورقة شجرة أو رشة، وعندما جاء جاليلو أخضع فرضية أرسطو للتجربة حيث قام بإسقاط كرات متساوية الحجم ومختلفة في الكتلة من قمة برج بيتزا المائل، فسقطت بسرعات متساوية أمام حشد كبير من مؤيدي نظرية أرسطو .وتم تكرار التجربة عدة مرات فأصبحت فرضية أرسطو في عداد التاريخ لما تبين أنها لم تستطع الصمود أمام تجربة جديدة، جرت في ظروف وفي ظل معطيات جديدة.

 

حد فاصل

وضع برنار بفطنة حدا فاصلا بين ما يتعلق بالعلم ومالا يتعلق به: "العلم ليس وسيلة لإثبات أو نفي وجود الله، لأنه حر من هذا السؤال، أما المادية التي تؤكد انه لا وجود وراء المادة فإنها تتخلي عن العلم". ولقد آمن برنار بوحدة العلم والترابط بين فروعه. فـ "الحقيقة الواحدة" التي هي هدف البحث العلمي لن يتم التوصل إليها إلا بالتوغل المتبادل بين كل العلوم والفسيولوجيا هي فرع وسط بين العلوم العقلية والعلوم الطبيعية يسعي إلي التوفيق بينها خاصة في الوقت الحاضر الذي حققت فيه تقدما كبيرا". مع ذلك لم يستطع برنارد التخلص من الأسئلة الملحة لرجال العلم: هل الحياة شيئ خاص لا تستطيع القوانين المادية تفسيره؟.

يوجد جانبان مثالي ومادي في كل وظيفة من وظائف الجسم الحي. يرتبط المثالي من الوظيفة بوحدة خطة الخلق أو تركيب جسم الكائن أما المادي فيعود بآلياته إلي خصائص المادة الحية، هكذا يتوسط برنارد في موقفه بين الحيويين والماديين المفرطيين في ماديتهم.

وفي كتابه مدخل لدراسة الطب التجريبي يذكر برنار: "لا يشكل الكائن الحي استثناء من التناغم الطبيعي الكبير الذي يجعل الأشياء تتكيف بعضها مع بعض. فهو لا يكسر أي توافق وهو لا يتناقض ولا يتواجه مع القوى الكونية عموماً، بل على العكس يساهم في السيمفونية الكونية للأشياء وليست حياته إلا جزءاً من الحياة الكلية في الكون".

ومع الثقة والاعتداد بالرأي كان الرازي متواضعأ متقشفا.. ومن كلماته في "السيرة الفلسفية":"ولا ظهر مني على شره في جمع المال، وسرف فيه، ولا على منازعات الناس ومخاصماتهم وظلمهم، بل المعلوم مني ضد ذلك كله، والتجافي عن كثير من حقوقي. وأما حالتي في مطعمي ومشربي ولهوي فقد يعلم من يكثر مشاهدة ذلك مني أني لم أتعد إلى طرف الإفراط وكذلك في سائر أحوالي مما يشاهده هذا من ملبس أو مركوب أو خادم أو جارية".

خلاصة القول: الحضارة العربية والإسلامية، من أغنى الأمم تراثا "حضارة علم ومعرفة.. حضارة أقرا"، استوعبت طرائق البحث العلمي ومبتكراته، وتصدرت مؤلفات تلك الحضارة ومبتكراتها وتقنياتها العالم لقرون عديدة، حتي صارت اللغة العربية.. لغة العلم في العالم. لقد أكدت تلك الحضارة علي منهج التفكير العلمي، ورفعت من قدر العلماء والباحثين، الذين حملوا مشاعل تنوير البشرية، وأضاءوا دياجير الجهل، وقادوا الإنسانية نحو التقدم والتحضر، ومن ثم بني عليها غيرهم وواصلوا المسير. إنها لأمانة في أعناق أحفاد "الرازي"، وتلامذة "برنار" أن يحملوا هذه المشاعل مرة أخرى، مساهمين في مسيرة الإنسانية نحو الخير والسلام.. كما فعلا أول مرة.

ــــــــــــــ

*كاتب و أكاديمي من مصر

nasenna62@hotmail.com

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ