ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
حتى
لا نزيف التاريخ بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله* كيف
نكتب التاريخ كتابة صحيحة ؟ تمهيد : كانت
كتابة التاريخ نتيجة تطور طويل
المدى ، بدأ منذ أن أخذ الإنسان
يلتفت إلى ماضيه ويسجل حوادثه ،
وتفرض الكتابة التاريخية أن
يكون الكاتب أو الباحث قد اختار
حقبة من حقب الماضي ، أو ناحية
من نواحيه بهدف دراستها وجلاء
غامضها ، وقل بين كُتاب التاريخ
في أيامنا هذه من يتناول الماضي
البشري بكامله ، إذ يبدأ العمل
التاريخي عادة برغبة أولية في
العناية بموضع من موضوعات
التاريخ ، وبالتالي فاختيار
الموضوع أو الناحية من وجوه
الماضي يعتبر المرحة الأولى من
مراحل الكتابة التاريخية
الجادة الممنهجة . المرحلة
الأولى ـ اختيار موضوع البحث : هذه
المرحلة تستلزم من الكاتب أن
يقرأ عن الموضوع الذي يرغب في
الكتابة عنه أو البحث فيه قراءة
جيدة ، وليبدأ بقراءة الكتب
العامة التي تعرض لمثل تلك
الموضوعات ، وحتى يكون موضوعه
موضوعًا مبتكرًا مفيدًا يضيف
جديدًا للعلم ، لابد أن يسترشد
بخبرة أهل الاختصاص حتى يوجهوه
وينصحوه ، وبذلك يتأكد قبل
الشروع في المرحلة الثانية أن
الموضوع الذي اختاره في حاجة
ماسة لبحث ، وأنه لم يبحث من قبل
بطريقة علمية سليمة ، وميل
الباحث وحبه لعلم التاريخ
وفروعه من أهم الأمور التي تحدد
اختيار الموضوع ، فقد يميل إلى
موضوع في التاريخ السياسي أو
التاريخ الاقتصادي أو التاريخ
الاجتماعي أو التاريخ الحربي أو
تاريخ الفنون الجميلة .... إلخ .. وفي هذه
المرحلة يستطيع الباحث أو
الكاتب أن يختار عنوانًا لبحثه
، وأن يضع تقسيمًا مبدئيًا
للمشكلات الرئيسية التي يريد
بحثها ومحاولة حلها عن طريق
البحث والدراسة ، ولابد أن
يتأكد الباحث في هذه المرحلة
بأن مادة موضوعه متوافرة في
المصادر والمراجع المختلفة ،
وأن ظروفه الخاصة تمكنه من
السير فيه . المرحلة
الثانية ـ البحث عن المصادر : بعد ذلك
يبدأ الباحث في البحث عن
المصادر المتعلقة بموضوع بحثه
أو كتابته ، وهذه المصادر هي
المنبع الأصيل الذي لا ينضب
والذي يمدنا دائمًا بمادته
العلمية ، وهذه المصادر على
أنواع عديدة ، تختلف قيمة كل نوع
منها حسب الفترة أو الناحية
التي نحن بصدد الاهتمام بها ،
فثمة الأبنية و النقوش
والتماثيل والمخلفات المادية
مثل : الأواني والملابس
والمسكوكات (النقود) وما إليها . ويمكن
القول بإيجاز : إن كل أثر مادي أو
أدبي ، خلفه لنا الماضي هو مصدر
من مصادر التاريخ ، على أن أهم
هذه الآثار بدون شك ـ إلا في
العصور المتباعدة في القدم ـ هي
الوثائق المكتوبة وخاصة
المؤلفات التاريخية التي سجل
فيها السلف الأحداث المعاصرة
لهم أو السابقة عليهم . ونظرًا
لهذا التقدير المتزايد لاعتماد
التاريخ على المصادر اعتمادًا
أساسيًا ، هو الذي يدفع
المؤرخين وسواهم من المهتمين
بالماضي ، إلى التفتيش عن هذه
الآثار ، وجمعها ، وحفظها من
التلف والضياع والتبديد ،
وتيسير الوصول إليها للاستفادة
منها ، ومن هنا تنافست المتاحف
والمكتبات في جميع أرجاء العالم
في البحث واقتناء الآثار
المخطوطة وغير المخطوطة ، وإلى
اقتنائها وصيانتها من العبث
والضياع ، ومن هنا أيضًا كانت
الفهارس الوافرة الضخمة لوصف
هذه الآثار المخطوطة وإرشاد
الناس إليها ، والوسائل
المستحدثة لتسهيل نقلها
وتصويرها ، وجعلها في متناول من
يريد الإطلاع عليها . وعندما
يعمد الباحث في التاريخ إلى
البحث عن المصادر المتعلقة
بموضوعه ، يجب عليه أن يستقصي
هذا البحث إلى أبعد حد ممكن ،
فلا يصح بأي حال من الأحوال أن
يزدري رأيًا قرأه في مصدر من
المصادر ، أو يحتقره ، أو يسخر
منه ، أو يهمله ، لأن أقل الآراء
لدى النظرة الأولى قد يصبح بعد
التدقيق والتحقيق أشدها خطورة
وأغناها بالمعلومات . وأهم
المصادر التي يعتمد عليها
الكاتب في التاريخ لجمع المادة
العلمية لموضوعه هي الآثار
الباقية من القرون الخالية ،
وما عليها وما تحتويه من نقوش
وكتابات ومعلومات ، ويتمثل هذا
المصدر في الآواني الفخارية
والمسكوكات النقدية القديمة
والنقوش والكتابات على الأبنية
الأثرية مثل المساجد
والبيمارستانات (المستشفيات)
والأسبلة والمدارس والمنازل
القديمة وشواهد القبور وغير ذلك
كثير . إن هذه
المصادر كلها سجل حي لما حدث في
الماضي ، ومن الممكن عن طريق
قطعة صغيرة من الخزف المكسور أن
نعرف الكثير والكثير عن المقدرة
الفنية والحضارية لدى شعب من
الشعوب ، ونعرف أيضًا مدى
الصلات والعلاقات التجارية
وغيرها التي ربطته بشعوب أخرى ،
كما نستطيع عن طريق العملات
النقدية الذهبية والفضية ودرجة
نقاوتها أن نعرف شيئًا عن أحوال
الناس الاقتصادية ، وهل كانوا
في رخاء أم في فقر ومجاعة ؟ ، هل
كانوا في يسر أم عسر ؟ ، وكذلك
العلاقات التجارية والحربية
والثقافية وغير ذلك من أمور
تساعدنا في البحث والكتابة . ويلي في
الأهمية الوثائق ، فهي كالآثار
تحتوي على مادة تاريخية غير
قابلة لتغيير أو التحريف أو
التزييف (في معظم الأحيان) ، وقد
تحتوي الوثائق على السير
الشخصية التي كتبها مشاهير
الرجال عن أنفسهم ، أو الرسائل
التي تبادلها المعاصرون دون أن
يدركوا أنها سوف تصبح الآن
وثائق تاريخية مهمة ، أو تقارير
قام بكتابتها بعض موظفي الدولة
ورفعوها إلى الولاة والحكام
يصفون فيها أحوال المدن أو
القرى أو الولايات أو المقاطعات
، وغيرها من النواحي السياسية
والاجتماعية والاقتصادية
وغيرها .. وقد
تكون الوثائق على شكل مذكرات
كتبها التجار تحتوي على أسعار
مختلف السلع المتداولة وأنواع
العملات النقدية وأسماء
العملاء ، وفي هذه المرحلة
يستطيع الكاتب أن يطلع على كتب
الببليوجرافيا ، وهي كتب تخصصت
في التعريف بالكتب والمخطوطات
وتواريخها ، وكذلك يستطيع
الرجوع لفهارس دور الكتب في
كافة أنحاء العالم ، وما كتبه
السابقون من مراجع تاريخية . ولا
مانع من أن يطلع الباحث على
مذكرات القادة والزعماء ، أو
الحوارات التي أجريت معهم ، أو
ما كتب عنهم ، كذلك يمكن الإطلاع
على الصحف والمجلات والدوريات
العلمية المحكمة ، والبرامج
والتسجيلات الإذاعية
والتليفزيونية ، والأفلام
الوثائقية والتاريخية ،
وبالطبع يمكن أن يستفيد من
الإنترنيت والمواقع التاريخية
والأثرية التي قد تضيف إليه في
موضوعه ، كل ذلك بشرط أن يحكم
عقله ومنهجه العلمي في كل ما
يتعامل معه من مصادر . المرحلة
الثالثة ـ التجميع : نقصد
بمرحلة التجميع في الكتابة
التاريخية تجميع المواد
المعتبرة التي تضم وقائع صحيحة
وسليمة ، ولما كانت الوقائع لا
تعد ولا تحصى ، وكانت كثرتها
العظمى ثانوية القيمة ، فلا بد
من ضابط يرجع إليه في عملية
تمييز المهم وغير المهم ، ولو
عهد إلى أثنين من كُتاب التاريخ
أن يصفا لنا حركة من الحركات
التاريخية ، أو حادثًا من
الحوادث ، أو واقعة من الوقائع ،
فمن الراجح ألا يتفقا في القول
بأهمية نواح منه بعينها . لقد كان
قدماء المؤرخين يستهويهم من
شئون البشر كل ما كان شاذًا غير
عادي ، أو دراميًا ، أو حماسيًا .
وقد صوروا في أروع أساليبهم
الأدبية الجليل وغير الجليل من
أعمال الناس ، أما المؤرخ
العلمي الحديث فهو يختار مما
بين يديه من مادة علمية تاريخية
الحقائق التي يرى أنها تعينه في
بيان تطور المجتمع الإنساني
وتلقي ضؤًا على الموضوع الذي
اختاره كموضوع لبحثه ، ويجب
الإشارة هنا إلى تجميع المواد
من الوثائق يتطلب دربة وملكة
فنية عالية ، ومعرفة علمية
فائقة بفقه اللغة ، حتى نتمكن من
قراءة النقوش والمخطوطات
المختلفة ، وتلك جزئية مهمة لا
حاجة بنا الآن إلى الإفاضة في
تفاصيلها . والطريقة
التي تعودنا عليها في جمع
المادة العلمية هي طريقة
البطاقات ، وفيها نحضر بطاقات
من الورق مقاس 20 x
12.5 ويكتب عليها ما يقتبسه الباحث
من مصادر بحثه أو ما يجده ذو
فائدة لموضوعه ، ويراعي الباحث
ضرورة كتابة : اسم المؤلف ،
وعنوان المصدر ، ورقم الجزء ،
ومكان النشر ، و تاريخ النشر ، و
رقم الصفحة التي أخذ منها
الاقتباس ، وكل ذلك يكون في أسفل
البطاقة ، ولا يكتب غير اقتباس
واحد في كل بطاقة . ويجب
على الباحث التاريخي أن يراعي
الدقة التامة في عملية النقل من
المصدر ، ويكون النقل حرفيًا
دون تعديل أو اختصار ، سواء كانت
المادة مكتوبة باللغة العربية
أو بلغة أجنبية ، ولتسهيل العمل
يجب أن يكون التدوين بقلم الحبر
الجاف ، وبخط واضح حتى يمكن
قراءتها ، ويجب على الباحث
أيضًا أن يهتم في هذه المرحلة
بالمصطلحات التاريخية ، وأن يعي
كل كلمة وتعبير ويقرأ السطور
وما بين السطور ، وينقل من
المصادر في البطاقات كل ما يهم
موضوع بحثه . وإذا
طرأت عليه أثناء عملية جمع
المادة العلمية أية تعليقات أو
خواطر أو أفكار ، فيجب عليه أن
يثبت ذلك كله في مكان منفصل على
أحد جانبي البطاقة ، وحبذا لو
كان ذلك بلون حبر مخالف لما كتب
به البطاقة ، حتى لا تختلط
ملاحظاته بكلمات المصدر الذي
ينقل عنه ، ويجب أن يكون النقل
باللغة الأصلية ، وبألفاظ النص
، وتعبيراته ، وبأخطائه إن وجد (يمكن
الإشارة إلى أي خطأ وتصحيحه في
الهوامش إن أمكن بعد ذلك ، وذلك
خلال الكتابة النهائية للبحث) . ويلجأ
بعض الباحثين الآن إلى جمع
مادتهم أو كتابتها على ملفات
على الكمبيوتر ، ولا بأس من ذلك
، وإن كان جمع المادة على بطاقات
أفضل للباحث في نواح كثيرة . المرحلة
الرابعة ـ عملية النقد : عملية
النقد تتلو عملية الجمع أو
التجميع أو تصاحبها ، فالباحث
في التاريخ لا يأخذ الوثائق على
علاتها ، بل يعمد بأساليب من
النقد والتمحيص إلى فحص الوثائق
فحصًا جيدًا من أجل أن يبين
قيمتها ومدى إمكان الاعتماد
عليها في استخراج أخبار الماضي
، والنقد ينقسم إلى قسمين
رئيسيين هما : 1 ـ
النقد الخارجي : يتجه
النقد الخارجي إلى تثبيت نص
الوثيقة ، والتعرف على مؤلفها ،
وعلى زمان ومكان كتابتها . 2 ـ
النقد الداخلي : وهو
الذي يتناول روايات النص لفهم
معناها ، ومدى تسرب الخطأ إليها
، أو تأثير الميول والأهواء
فيها . والعمل
النقدي يتطلب من الباحث معارف
متنوعة بالخط والورق والحبر
وسواها من وسائل الكتابة والنسخ
، وبعد تحقيق النص نتساءل عن
المؤلف من هو ؟ ، هل هو ذلك الذي
تدعي الوثيقة أنها من تأليفه أم
شخص آخر ؟ ، هل الوثيقة التي
معنا صحيحة أم مدسوس فيها أم
مزورة ؟ ، وهل هي من نتاج مؤلف
واحد أو أكثر من مؤلف ؟ ، وسبب
هذا البحث كله هو أن الناس
دائمًا لا يتورعون عن التلاعب
بما لديهم من نصوص أو وثائق ،
يحاولون تبديلها بالإضافة
إليها والحذف منها وذلك غايات
متباينة بعضها برئ وبعضها غير
برئ ، ويصاحب هذا التساؤل عن
المؤلف تساؤلات عن زمانه ومكانه
، وعن زمان الوثيقة الأصلية
ومكانها . هذه هي
أهم مراحل النقد الخارجي ، وهي
تمهد لمراحل النقد الداخلي ، إذ
أننا بعد عملية التثبت من النص ،
والتعرف على مؤلفه وزمانه
ومكانه ، نبادر إلى رواياته
المختلفة لنتفهم مقصود المؤلف ،
ولا يكفي في أحوال كثيرة تفسير
ظاهر النص ، بل يحتاج الباحث إلى
قراءة ما بين السطور ، والنفاذ
من الفظ الخادع أحيانًا إلى لب
المعنى المقصود ، وهذا لا يتأتى
إلا بالدربة والخبرة وطول
الممارسة والقراءة الواعية
العميقة . وتتبع
محاولة فهم النص محاولة أخرى هي
تقدير قيمة المؤلف وصحة شهادته
، هل كان قريبًا من الحوادث التي
يروي أخبارها أم بعيدًا عنها ؟ ،
وهل هو عدل أمين في تحقيقه ونقله
؟ ، أم منحاز له أغراض تدفعه
عوامل داخلية وخارجية للبعد عن
الحق ؟ لقد
قرأنا بعض المؤلفات يدعي فيها
أصحابها أنهم عاشوا أحداثًا
معينة ، أو أنهم التقوا بشخصيات
تاريخية أو بأعلام مشهورين ،
ولكن مع التدقيق البسيط نكتشف
أنهم غير صادقين في زعمهم
وادعائهم . المرحلة
الخامسة ـ التحقيق : مرحلة
التحقيق فيها يكون عمل المؤرخ
هو أشبه ما يكون بعمل وكيل
النيابة (القضاء الجالس) في
الدوائر القضائية الذي يستدعي
شهود الواقعة فيحقق معهم
بعقلانية وألمعية وهدوء ، ويدقق
في شهاداتهم ويحقق فيها ،
والمؤرخ في الحقيقة لا يقف عند
عمل وكيل النيابة ، بل يتجاوزه
إلى عمل المحامي (القضاء الواقف)
متخذًا وجهة الادعاء تارة ووجهة
الدفاع تارة أخرى ثم يصل أخيرًا
إلى عمل القاضي الذي يثبت واقع
الحادث قبل أن يقدم على الحكم
فيه . والباحث
التاريخي يتناول الروايات
التاريخية بعد نقدها وتمحيصها
فيقارنها ويقابلها بسواها من
الروايات ، وما يزال يقابل
ويقارن ، ويقارب ويوازن ،
مقدمًا في ذلك كل الشك على
التصديق المطلق ، والاتهام على
البراءة ، إلى أن يكون فكرة عن
الواقعة وكيفية وقوعها ، فإذا
فعل هذا وجد أنه لا يستطيع أن
يجزم في أحكامه إلا في أحوال
نادرة ، وأنه يضر في أكثر
الأحوال إلى ترجيح رأي على رأي ،
أو إلى مجرد ذكر الروايات دون
اتخاذ موقف منها إلى أن تظهر
روايات وتحقيقات جديدة تقوي
عنده الشك أو الترجيح ، أو تمكنه
من الإثبات أو الإنكار ، وعليه
فإن البحث التاريخي يحتاج إلى
المراجعة الدائمة وإلى الدقة
والتجرد والموضوعية . المرحلة
السادسة ـ الاستنتاج : من
الملاحظ أن الأحكام التي يطلقها
كاتب التاريخ على الحوادث هي
الحقائق المقررة التي تتبين له
أو تتضح أمامه من الماضي ، وهي
أشبه ما تكون بالحجارة المتفرقة
التي تحتاج منا إلى جمع وصف
وترتيب كي يتكون منها البناء
الذي نريده كاملاً أو أقرب ما
يكون إلى الكمال . نقول :
إنه كثيرًا ما تكون بعض هذه
الحجارة مفقودة بسبب سكوت السلف
عن الكلام المباح فيها أو ضياع
آثارهم ، فتظهر ثغرات وفجوات
يجد الباحث ضرورة لسدها وملء
فراغها ، وسبيله إلى هذا الملء
الاجتهاد والقياس ، أي استنتاج
ما يمكن أن يكون قد حدث بالفعل
بالاستناد إلى ما حدث فعلاً في
ظروف مماثلة أو مشابهة ، أو
الاستناد إلى قوانين طبيعية أو
اجتماعية أو اقتصادية أو
أخلاقية يمكن ه أن يستمدها من
دراسة العلوم الأخرى . ونؤكد
هنا على أن القياس والاستنتاج
والاجتهاد يجب أن تكون جميعًا
متصفة بالعقلانية واحذر
والاحتياط ، كي لا يجنح بالمؤرخ
الخيال ، وكي لا يبعد عن الواقع
التاريخي . والمؤرخ
يجد أنه يحتاج في سبيل
الاستنتاج والاجتهاد إلى أن
يكون لنفسه نظرية شاملة واضحة
يفسر بها نشوء الأحداث البشرية
وتطورها ، ومما يساعده على ذلك
نظره في العلوم الفلسفية
والاجتماعية ، واختباراته
العقلية والروحية ، كما يستمدها
من الحقائق التي يكشفها البحث
التاريخي ذاته . وهكذا
تتفاعل في التاريخ الإنساني
النظرة الفلسفية والتحقيق
العلمي ، شأنهما في العلوم
الأخرى ، تفاعلاً خصبًا مثمرًا
مفيدًا لها جميعًا . ويجب
الإشارة هنا إلى أن هدف النقد
والتحقيق والاستنتاج في البحث
التاريخي هو استخراج حقيقة
الماضي بجزئياتها وكليتها ، وهي
مراحل علمية في جوهرها ، ولكن
لابد من أن تتخللها جهود
تعليلية فلسفية خصوصًا في مراحل
الجمع والتأليف . المرحلة
السابعة ـ العرض والنشر : نأتي
إلى المرحلة الأخيرة في الكتابة
التاريخية ، وهي مرحلة أدبية
فنية يلجأ إليها الباحث عندما
يعمد إلى عرض ما توصل إليه ونشره
بين الناس من أجل أن يستفيدوا
منه في حاضرهم ومستقبلهم ، وهنا
تتجلى ملكة الباحث التاريخي في
حسن الأداء وروعة التعبير ،
ونقل فكره وإبداعه البحثي إلى
الناس بأبلغ الوسائل وأجملها
وأشدها تأثيرًا على نفوسهم
وعقولهم ، ولئن كان التاريخ
علمًا من حيث تحقيقه ، وفلسفة من
حيث ما يحاول من تفهم كلي وربط
للأحداث وتعليل للأسباب
والنتائج ، فهو أدب وفن من حيث
العرض والأداء والبيان . لا نقصد
هنا أن التاريخ يعتبر أدبًا فقط
، أو تتغلب فيه العناية
بالتعبير والأسلوب على الدقة في
التدقيق والتحقيق ، فإن صفة
التأريخ الأدبية يجب ألا تتجاوز
صفته العلمية وألا تسلبها
مقامها الأول ومرتبتها
الأساسية . الباحث
التاريخي البارع هو الذي يعرف
كيف يكسو العلم الدقيق بالأسلوب
الرفيع الواضح ، وهذا توفيق لا
يتأتى إلا لنفر قليل من
الموهوبين الذين خلدوا أسماءهم
في سجل الكتابة التاريخية ،
وبلغوا بها أعلى قممها ، والذين
يعودوا الناس إلى مؤلفاتهم
القيمة عصرًا بعد عصر فيكتسبون
منها ذوقًا وأدبًا وغنى نفسيًا
مثل ما يكتسبون منها فكرًا
وعلمًا ومعرفة وحكمة . يجب على
الباحث أثناء الكتابة أن يختار
فقط ما يلزمه من المادة العلمية
التي قام بجمعها ، وعملية
التصفية أو الغربلة أو التنقية
هذه عملية مهمة لأنها تتوقف على
مقدرة الباحث إذ يجب عليه أن
يستبعد بعض المادة التي جمعها
لعدم أهميتها أو لشيوعها وكثرة
تداولها ، واستبعاد غير الضروري
منها ، وهذه عملية في غاية
الأهمية إذ اعتاد كثير من
الكتاب حشو ما جمعوه من مادة
علمية دون تمييز أو ترتيب ، ودون
إدراك لما يجب أن يستخدموه وما
يستبعدوه منها . على
الكاتب في هذه المرحلة أن يبدأ
بحثه بمقدمة قصيرة يوضح فيها
المنهج والطريقة التي سوف
يتبعها في بحثه ، ومن الأمور
الضرورية في هذه المرحلة : البعد
التام عن السطحية ، والقرب من
التعمق ، وعدم الاستطراد ،
وإعادة ذكر ما سبق كتابته
مفصلاً في مكان آخر ، وعليه
فأثناء الكتابة يجب أن يجعل
الفصل الواحد من بحثه وحدة
متماسكة مرتبطة بما قبلها وما
بعدها ، وحذف ما ليس له علاقة
وارتباط بالفصل الذي يكتب فيه
حتى لا يحدث قطع لتسلسل الموضوع
، مما يترتب عليه إعطاء القارئ
فكرة مشوهة أو مبتسرة . والخلاصة
: أن الباحث يجب عليه عند
الكتابة أن يراعي سلامة الأسلوب
ووضوحه مع عدم استخدام كلمات
وجمل وتعبيرات لا لزوم لها ، وأن
يتمسك بالترتيب الزمني في كتابة
الحقائق ، وأن يفسر في الحواشي (الهوامش)
المصطلحات والألقاب ، أو أي شيء
يشعر أنه قد يغمض على القارئ ،
كما يجب عليه أن يحترم آراء من
سبقه أو عاصره من أهل البحث
والرأي والفكر ، ومهما اختلف
معهم في الرأي أو المنهج ، فعليه
أن يقدر وجهات نظرهم مع التحفظ
الكافي . ويستعمل
الباحث عادة للكتابة أوراقًا
مسطرة ، يكتب على سطر ويترك
سطرًا ، وتكون الكتابة على وجه
واحد من الورقة مع ترك مسافة في
أسفل الصفحة لكتابة الحواشي (الهوامش)
عليها . والحواشي
Footnotes والحواشي هو ما يكتب أسفل
الصفحة موضحًا فيه مصادر البحث
بالتفصيل : اسم المؤلف ، عنوان
الكتاب ، رقم الجزء ، مكان النشر
، تاريخ النشر ، رقم الصفحة . كما قد
يحتوي الهامش على بعض التفسيرات
أو التوضيحات لما ورد في المتن ،
أو إشارة لإحالة على صفحات أخرى
من البحث وردت بها تفاصيل وافية
عن نقطة ما ، حتى لا يتكرر ذكرها
مرة أخرى ، ويجدر بالذكر هنا أنه
من اللازم إثبات المصدر أو
المرجع الأجنبي بلغته الأصلية
في الحاشية (الهامش) كما يجب
مراعاة الأمور التالية : ـ 1 ـ إذا
تعددت المصادر بخصوص نقطة معينة
فيجب أن ترتب المصادر حسب
ترتيبها الزمني ، الأقدم
فالأقدم تاريخيًا ، ومن حيث
أهميتها . 2 ـ إذا
كانت المادة مأخوذة من مصدر
عربي يكتب حرف (ص) ، وفي حالة
المراجع الأجنبية يكتب حرف (P) إذا كانت من صحيفة واحدة أو (PP) إذا تعددت الصفحات . 3 ـ إذا
تكرر ذكر المصدر والجزء والصفحة
في الهامش دون فاصل من مرجع آخر
نكتب (نفس المصدر والجزء
والصفحة) ويكتب Ibid في
حالة المصادر الأجنبية . 4 ـ بعض
الكلمات الأجنبية التي تستخدم
في الهوامش عند الاستعانة
بمصادر أجنبية : مخطوط : Ms ورقة من
مخطوط : Folio مخطوطات:
Mss طبعة : ed ملاحظة
: note . نفس
المصدر :Ibid صفحة :P أنظر ما
يلي : See
below صفحات : PP . أنظر ما
سبق : See
a above إثبات
بيان بالمصادر والمراجع : يكتب
بيان بالمصادر والمراجع التي
اعتمد عليها الباحث في كتابة
بحثه ، وتوضع في نهاية البحث ،
ويستحسن أن تقسم إلى : ـ 1 ـ
مجموعات الوثائق . 2 ـ
مصادر أصلية باللغة العربية . 3 ـ
مصادر أصلية باللغات الأجنبية . 4 ـ
مراجع حديثة ومقالات في المجلات
العلمية المحكمة . ويجب أن
ترتب المصادر كل على حدة
ترتيبًا أبجديًا حسب أسماء
المؤلفين ، ويثبت اسم المؤلف ،
وعنوان الكتاب ، وعدد الجزاء ،
ومكان النشر ، وتاريخه ، وتسقط (آل)
التعريف ، وكلمة (ابن) في ترتيب
الأسماء العربية ، أما في
الأسماء الإفرنجية فيذكر اسم (العائلة)
Surname أولاً . كانت
هذه أهم مراحل الكتابة
التاريخية التي يجب أن يمر بها
الباحث التاريخي أو الدارس أو
الكاتب للتاريخ ، هذه المراحل
يجب وضعها في الاعتبار عندما
نكتب موضوعًا أو بحثًا أو
رسالًة أو حتى عملاً دراميًا في
التاريخ القديم أو الوسيط أو
الإسلامي أو الحديث . مؤكدين
على أن التاريخ علم ولكل علم
قواعده وأصوله وأسسه ومناهجه
وطرائق كتابته ، إذن لا يحق لكل
من هب ودب على الأرض أن يتصدى
لكتابة التاريخ ، ولنتقي الله
فيما نفعل حتى نفيد الناس ولا
نضللهم . ـــــــ ـ
نراجع : . عاصم
الدسوقي ، البحث في التاريخ :
قضايا المنهج والإشكالات ،
مكتبة القدسي ، القاهرة ، 1986 م . . سيد
أحمد علي الناصري و حسنين محمد
ربيع ، كلية الآداب ، جامعة
القاهرة ، القاهرة ، 1977م . . حسن
عثمان ، منهج البحث التاريخي ،
الطبعة الرابعة ، دار المعارف ،
القاهرة ، 1976 م . . عبد
الرحمن بدوي ، النقد التاريخي ،
مكتبة النهضة العربية ، القاهرة
، 1963م . . أحمد
شلبي ، كيف تكتب بحثًا أو رسالة
؟ ، مكتبة النهضة المصرية ،
القاهرة ، 1976م . . جوزيف
هورس ، قيمة التاريخ ، ترجمة /
نسيم نصر ، منشورات دار عويدات ،
بيروت ، 1974م . ------------- *
باحث ومحاضر في الدراسات
العربية والإسلامية -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |