ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 19/05/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


ظواهر الفوضى والعنف

واشكالية التخلف في المجتمع الفلسطيني

 ومجتمعات المشرق العربي

دراسة حالة فينومينولوجية ونفس اجتماع  

(1)


بقلم : علي نجم الدين

مقدمة

يعالج البحث مفهوم الفوضى (  ( Anarchyوبداياتها وأسبابها وجذورها ونتائجها وتأثيرها على الجوانب الخلقية والقيمية والسلوكية للمجتمع العربي ونظمه وأنماط معيشته ، وانعكاساتها على ظواهر أخرى يعانيها المجتمع العربي كالواسطة مثلا وكأنها – الفوضى – سلسلة متواصلة لا تنتهي من حياة الفرد والنظام العربي ، مما حدانا إلى التساؤل … هل الفوضى ظاهرة سلبية أم إيجابية وهل تلبي حاجات ومتطلبات الفرد والمجتمع في سبيل إشباع الرغبات والشعور بالانتشاء والإحساس بالأمان في ظل حياة متناقضة … وهل هي ظاهرة أم مشكلة أم قيمة اجتماعية ...؟

إن علم المشكلات ( العلل ) الاجتماعية لم يظهر إلى الوجود إلا حديثا جدا ( منذ 50 عاما) لأسباب حتمتها معطيات الحربين العالميتين ( الأولى والثانية ) ، واقتصر في بداياته على المجتمعات الغربية لمعالجة إفرازات ونتائج الحروب والدمار والانهيار المادي والمعنوي والبشري والحضاري ، وإعادة البناء من جديد كما يقول معن خليل عمر ( علم المشكلات الاجتماعية ) فهذا العلم يقوم "بتشخيص الأمراض الاجتماعية الناجمة عن التغيرات الاجتماعية التي تحدث بشكل دائم ومستمر، سواء بتأثيرات خارجية أو داخلية ، أو نتيجة تناقض التغيرات الاجتماعية كالتكلّس السياسي والتفّرد النفوذي والعزلة الثقافية والانكفاء نحو الماضي"… فهل المجتمع العربي كذلك ...؟

لذا فان الفرضية التي انطلقنا منها لدراسة مشكلة الفوضى ومفهوم الوقت أو الزمن تنطلق من إفرازات التخلف العام والشامل ، وخاصة التخلف الاجتماعي الذي يعانيه المجتمع العربي منطلقين من الأسرة وما تشرّبه للفرد وتعجنه بمعجنها وتقولبه ( كلبنة ) من لبنات المجتمع ، التي تعكس انساق وأنماط تركيبته وانبنائه النظمي والقيمي ، التي تغذيها وترسّخها الدولة وتصبح انعكاسا لأمراضها بعد أن كانت أمراض مجتمع ، وتناولنا المجتمع الفلسطيني باعتباره جزءا متمما للمجتمع العربي في المشرق العربي بشكل عام ، ولانه يعيش حاليا فترة خطيرة تتعرض فيه بناه ونظمه وانساقه وقيمه الى تشويه وتمزيق ، مما اوجد عللا وامراضا ومشكلات اجتماعية . اننا نثير تساؤلات عدة حول طبيعة التنشئة الأسرية وبيئة الفرد الاجتماعية الأوسع من خلال تأثيرها على القيم والأخلاق والتربية والسلوك … ومدى العلاقة بينها وبين الفوضىالتي تكون في النهاية نتيجة حتمية في حياته رغم بيئاته المتعددة واهم انعكاساتها جغرافيا وبشريا …!

إن هذه الدراسة رغم الاختلاف في التفسيرات واختلاف مناهج الدرس والبحث والتحليل والاستنتاج ، هي محاولة لتحليل الأسباب واستكشاف المسببات ، وليست جلدا للذات كما هو متبع في اغلب الكتابات النقدية – الاجتماعية ، وصولا إلى نتائج إن أمكن ، ولو أنها حتما ليست كاملة أو شاملة ، ولكنها تأتي ضمن جهود تشخيصية وتحليل للمستوى البنيوي للمجتمع العربي من جهة ، وتحليل امراضه وعلله ومشكلاته التي اصابت بناه وانساقه ، وتتبع وتحليل واظهار الاسباب لهذه الظواهر من خلال الفهم واستخلاص النتائج للأبعاد البشرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية من جهة أخرى ، ووضع قضايا المجتمع العربي في إطار تحليلي نقدي ضمن البعدين التاريخي – الاجتماعي والسيكولوجي الكامنتان وراء أزمة الفوضى ومفهوم الزمن كإفراز طبيعي " جراء إشكالية تخلف المجتمع العربي … واستكناه أزمته الحالية التي يعيشها من خلال… استهزائنا بأهمية الفكر ودوره في الوصول إلى الهدف (التغيير )… (شرابي ، 1999، ص/7)… الذي نتج عنه انحراف وغوغائية شاملة وفوضى عارمة ، اصطخبت فيها ممارساتنا الاجتماعية في غياب الوعي الذاتي لمجابهة التحديات والواقع .

ان المشكلات الاجتماعية هي الميدان الفعلي والعملي لعلم الاجتماع التطبيقي من حيث تشخيصها وطبيعتها وتحليل اسبابها ومصادرها وتاثيراتها واستعراض نماذجها ، من خلال الحياة اليومية للفرد العربي على اعتبار ان المشكلات والظواهر الاجتماعية تشكل اضطرابات وهموما مزمنة لذا يتطلب البحث فيها اهتمامات متجددة ومستمرة لسبب بسيط وهو ان المشكلات والظواهر الاجتماعية هلامية المظهر والملمس ، وهي متشكلة ومتلونة وزئبقية الحركة كيف اتيتها واردت البحث فيها من خلال حتميتها ونسبيتها ووظيفتها في المجتمع المصاب بها وخاصة في وقتنا الحاضر ، الامر الذي يتطلب منا ان نكون بعيدين عن التفسيرات الغيبية او الذاتية ، بل علينا اتباع العمق التاريخي والانساني بمنهجية عقلانية – علمانية وعلمية في دراستها وتحليلها .

وعليه فقد قسّمنا البحث الذي جاء في ستة فصول اشتملت على المفاهيم النظرية لتفسير ظاهرة الفوضى وعلاقتها بالتخلف الاجتماعي ومفهوم الزمن واستغلاله ، وأخيرا تأثير العولمة في مواجهة التخلف والعنف ، واسقاط هذه المشكلة او الظاهرة على المجتمع الفلسطيني كدراسة وتحليل ، حيث أنهيناه بخاتمة وقائمة بالمراجع والمصادر ، بالإضافة إلى المحتويات والمقدمة .

 

الفصل الأول

التفسيرات النظرية للفوضى

يمر المجتمع العربي حاليا بمرحلة انتقالية صعبة ( ومأزقية-Predicament  ) في ظل أجواء العولمة والحداثة وسياسة العالم الجديد ، خاصة ونحن في بداية الألفية الثالثة والتي تتصف بالانفتاح الثقافي والعلمي والتقني والاقتصادي ( اقتصاد السوق ) وازالة الحواجز وتنويع وزيادة الإنتاج من أجل مزيد من الرفاهية وإشباع حاجات الإنسان .

 

ولقد شكّل النصف الثاني من القرن العشرين كما يقول سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة العربي (العدد / 494 ) إرهاصة –Interaction  كبرى للألفية التي عشناها بقفزاته الكبرى في مجالات العلم والتقدم التكنولوجي ، ووسائل الاتصالات والمواصلات وفي مجالات الأبحاث الطبية والزراعية والصناعية على مستوى العالمين الأول والثاني ، وأما نحن ( العالم الثالث والعالم العربي خاصة ) فقد انشغلنا بمخاصمة القرن العشرين وان كنا بالكاد متعايشين معه ، بينما العالمين الآخرين مشغولين بالتحضير والاستعداد والتهيئة للألفية الثالثة ... واستطاعا أن يحفرا بصماتهما على صرح الحضارة العالمية بشكل منفرد ، حيث بذلت الجهد في الإبداع والابتكار والإنتاج والتحضّر، والتي كلفتها سنين طويلة من تراكم البحث والدرس والتغيير والثبات والتقدم والتعثر والحرب والسلام والصراع والاستقرار … وتربعا أخيرا  على عرش الحضارة العالمية بلا منازع ، بينما نحن لا ندري عن ذلك شيئا أو لا نريد أن ندري . 

 

إن المجتمع العربي يعاني من حالة فوضى مستفحلة في بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وتركيبته الشخصية وأنماط سلوكياته ، نتج عنها كما يقول حليم بركات (المجتمع العربي المعاصر ) حالة اغتراب مستعصية تتجلى في تبعيته الاقتصادية والسياسية والثقافية ، وهو مجتمع عاجز يترنح بين الخضوع والعزلة والمواجهة ، وذي إمكانيات متعطلة… قاسى ويقاسي من حرمان وهضم حقوق ، وهو متداعي تسيطر عليه الجماعات الوسيطة ويمر بمرحلة انتقالية للتغلب على الفقر والتخلف وهو متحرك وممزق ودائم الصيرورة … بمعنى انه دائم الفوران ، لم يستقر ويثبت بعد ليرى نفسه وذاته ، بعد سنين طويلة ظاهرها الفوضى وباطنها التخلف ، والذي يقول عنه هشام شرابي (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي )… إنه مجتمع يعاني من تخّلف من نوع أخر فهو ليس تخلفا اقتصاديا أو إنمائيا أو تربويا بل  يكمن في أعماق الحضارة الأبوية والتي تسري في كل أطراف المجتمع والفرد وتنتقل من جيل إلى جيل كالمرض العضال… حتى أن شرابي يحسم الأمر ويسدّها في وجوهنا فيقول " إن هذا المرض (التخلف) لا تكشف عنه الفحوص وتعجز عن تفسيره الأرقام والإحصائيات والنسب ، وهو ذي حضور دائم لا يغيب عنا لحظة في حياتنا ، نتقبّله من غير وعي ونتعايش معه حتى الموت بعجز وبلاعقلانية .. حتى تجسّد ذلك في إصابة المجتمع بالشلل والتراجع والانكسارات المتكررة مما سبب …و(أدى)…إلى انهيارات داخلية ، اذ نواجه مرضا عضالا ( ومزمنا- Remediless ) حسب طرح هشام شرابي فلا شفاء منه خلال وقت قصير إلا بالموت والتحلل ، أو بالتفكك وإعادة التركيب والبناء من جديد ، ولكن كيف سيكون تدرجنا إن اخترنا الحل الأخير ونحن معجونون بالفوضى وعدم احترام الزمن واستثمار الوقت…؟ هذا الجانب هو الذي تناولناه في بحثنا واستعرضناه كمشكلة (مزمنة) وحينما نقول مزمنة فإننا نعني بأن المجتمع العربي وخلال مسيرته الطويلة كان من المفترض أن يثبت ويستقر في نهاية مراحله التراكمية – الانبنائية ، ويحجز له مكان على مدرج الحضارة العالمية ، ولكن ما هو ملاحظ بأن المجتمع العربي لم يبدأ بالخروج حتى من اسفل الهرم الحضاري بسبب تركيبته وبنائه الاجتماعي والقيمي ونظمه وعاداته وتراثه وشخصيته وأنساقه الاجتماعية ونظمه السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتصف بالتخلف والتخبط والجهل والفوضى .

 

وقد قدّمت النظريات المتداولة في شتى المجالات العلمية والنفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية تفسيرات وتأويلات عدة ، رغم الاختلاف في التفسيرات واختلاف مناهج الدرس والبحث والتحليل والاستنتاج لكنها كانت جزئية ، حيث انطلقت من التراث التاريخي والقيم والعادات المتوارثة والدين والأخلاق والقيم السائدة أحيانا ، ومن بناه الأنثروبولوجية والاقتصادية أحيانا أخرى ، لكنها في النهاية لم تقدّم تفسيرات وتعليلات منسقة وشاملة تربط بين النظريات والواقع ، وصولا إلى تفسيرات أدق واعمق لظاهرة الفوضى واستثمار الوقت (الزمانية - Time Exploitation) في المجتمع العربي .

 

ورغم اهتمام الباحثين بدراسة الظاهرة( الفوضى والتخلف ) بالإضافة إلى اهتمام الجهات المعنية  فلم يزل المجتمع العربي يعاني من وطأة هذه الآفة رغم التغيرات الجذرية التي شهدها العالم العربي عبر عشرات بل ومئات من السنين ، والغريب ( وهذا ليس استكثارا بل لحداثة كينونتها) فان دولا أسيوية كسنغافورة وهونغ كونغ وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان أصبحت اليوم في عداد دول العالم الأول والثاني اقتصاديا وتكنولوجيا وثقافيا ، حيث وصلت إلى ما يسمى بالمجتمع المدني والتعددية السياسية والحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطات والعدالة الاجتماعية والحرية الفردية ، وأضحت أمثلة لدول القانون والنظام والانتظام وقضت بنسبة كبيرة على التخلف والفوضى والعنف .

 

فإذا كانت عملية إدراك وتحليل الظواهر البيئية المحيطة بنا صعبة والتي لها علاقة جدلية بالتغيرات الاجتماعية ، فان عملية إدراك ذواتنا وتحليلها اصعب بكثير ، كما يقول مروان دويري...بسبب تأثير المحيط الخارجي وتأثرنا به وإنكار عيوبنا ونواقص ما تشرّبناه من قيم وعادات وأخلاق من آبائنا ( النظام الأبوي – الأسرى) من جهة ، وما رسّخته وترسّخه أنظمة الحكم العربي في عملية قولبة وصناعة مجتمعاتها من جهة اخرى .

 

إن قيمة الوقت واستثماره ( الزمانية ) لدى الفرد العربي ما زالت تحمل سمات مميزة تعكس التخلف والإحباط واللامبالاة في تقدير قيمة الوقت وإهداره وعدم استغلاله ، لذا فإننا نتساءل كيف ينظر الفرد العربي لمفاهيم الحياة الدنيوية والمادية والأخروية – الأبدية … وهل يعيش يومه أم يحمل قلق وهموم غده ومستقبله الغامض ( والمجهول ) … ولماذا يطمع بالحياة الأخروية الأبدية … وما هو المغزى من حياته ووجوده في هذا العالم … وهل الحياة لديه هدف أم وسيلة … وهل هي مجرد متعة أم أنها سلسلة متصلة ومتواصلة ، وان كانت كذلك فما هو التراكم المادي والحضاري الذي أنتجه في صرح الحضارة الإنسانية …وأين بصماته المميزة في عالم اليوم …؟

اننا لا نهدف من خلال دراستنا وتحليلنا للمشكلات والعلل والظواهر الاجتماعية للمجتمع العربي في المشرق العربي ان نجعل المجتمع خاليا منها ، وايصاله الى الحالة المثالية ، لأن ذلك غير وارد بل ومستحيلا في الحياة الاجتماعية لأي مجتمع .

 

 ان المجتمعات الانسانية بحكم تطورها وتغيرها تحدث فيها اعتلالات واوهان وامراض وظواهر ومشكلات اجتماعية تصيب انساقه وبناه وتنظيمه ومعاييره وقيمه وخاصة في وقتنا الحاضر، اذ نلاحظ ان مشكلات المجتمع في تزايد وتفاقم بسبب التغيرات الحاصلة والتنافس المستعر بين افراده من اجل المزيد من الثروة والقوة والسيطرة والنفوذ من جهة ، وبسبب ازدياد اعداد مستشفيات الامراض العقلية والنفسية والعصبية من جهة اخرى .

 

بالرغم من قلة ومحدودية المصادر التي عالجت هذه القضية ، ومدى انتشارها واسبابها ونتائجها من جهة ، ولما كانت الحياة الاجتماعية مستمرة في تغيرها وتطورها  من جهة اخرى ، فان مضامينها تكون متشعّبة ومتسعة ومتغيراتها متعددة ، حتى تعذّر على البحّاثة وخاصة علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي ان يصلوا الى نتائج حاسمة حولها ، من حيث كينونتها كمشكلة او آفة او ظاهرة او مرض او ازمة ، وخاصة فيما يتعلق بالتراث المتنوع والمتنافر بسبب التحولات الاجتماعية ، فهي ( النظرية) إما مكمّلة لسابقاتها أو جديدة بطرحها ، ولهذا بقي علم الاجتماع قاصرا عن تناول جوانب وظواهر الأحداث الاجتماعية بسبب سرعة تطور الحياة الاجتماعية واستحالة بناء نظرية اجتماعية واحدة تدرس كل أحوال المجتمع وحركاته وتطوراته .

 

ولم يزل علماء الاجتماع والنفس من بحّاثة ومتخصصين يكابدون للوصول إلى نتائج حاسمة حول ظاهرة الفوضى ... فكان من المتعذر بلورة نظريات غرارية – منوالية .. ( معن خليل عمر، 1997 ، ص/ 12) ، لكن علينا البدء في تحديدها من حيث أنها مشكلة اجتماعية انحرفت عن القيم والمعايير والنظم السائدة ... وكنمط من السلوك تحول إلى مشكلة مع تعاقب الزمن ، وأسبابها إما أن تكون من الفرد أو من التركيب الاجتماعي" ( غسان التل ، 1999، ص / 2 -4) … والتي تتحدد من وجهة نظر المجتمع أو لأحد قطاعاته المهمة بوضع غير مرغوب فيه والسعي للتخلص منه أو احتوائه أو تقليصه بطرق ووسائل معروفة له سلفا وبإمكانات تنظيمية ومادية متاحة يمكن تعبئتها لهذا الغرض (غسان سلامة وآخرون ، 1996، ص /330 ) … ولهذا فهناك علاقة جدلية بين التغيرات والمشكلات الاجتماعية.. بتأثير العوامل الخارجية والداخلية كسبب ونتيجة ، ناهيك على أنها تخدم شريحة أصحاب المصالح في المجتمع… وبالتالي تنشأ (الفوضى) بسبب التناقض بين قيم ومعايير المجتمع السائدة… بغض النظرعن حجم الجماعة الاجتماعية التي تقررأنها تشكّل مشكلة أم لا ، إلا أن هناك معايير ومحكّات أخرى تقرر أن هناك مشكلة وهي الدين والقانون ووسائل الإعلام والأدب بأنواعه ... (معن خليل عمر ، 1997 ، ص/27) .. بالإضافة إلى علماء الاجتماع والنفس والصفوة المثقفة في المجتمع ) .

 

ان التغير الاجتماعي يمثل الإطار المرجعي للفوضى التي تنشأ كعلة أو كمشكلة اجتماعية ، باعتباره (التغير الاجتماعي ) سنة الحياة ، وهو مستمر ومتدرج بحيث لا يستطيع المرء ملاحظة ما يحصل من تحولات وتغيرات والتي قد تكون مبرّمجة ومخططة ، وأحيانا دون تخطيط مسبق  هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فان التغير لا يحدث في كافة أقسام المجتمع بنفس الدرجة والسرعة والنوع والاتجاه والوتيرة ، فهناك أقسام بطيئة في تحولها وأخرى متساوقة ، ويمثل الأولى الجوانب المعنوية كالثقافة والقيم والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية ، وأما الثانية فتمثلها الجوانب المادية مثل التطور التقني في وسائل الإنتاج والاتصالات والمواصلات وأساليب المعيشة والإدارة والحياة اليومية … فبين هذا التفاوت والاختلاف في تطور أقسام المجتمع .. تخلق مشكلات عديدة من ضمنها الفوضى .. (المصدر السابق ، ص/12) .

 

وما دمنا في سياق الحديث عن طبيعة المشكلة الاجتماعية( كالفوضى) فمن الصعب تحديد نقطة بدايتها والحسم بين العوامل التي سبقت والتي تلت في نشوئها وانتشارها .. لأنها جميعا في تفاعل وتواصل .. ( مروان دويري، 1997 ، ص/ 6 ) … لكن هناك أسباب أدت إلى انتشارها مثل الفشل في العثور على معيار أو منظم اجتماعي يوجه سلوك الفرد أمام الكم الهائل من السلوك الاجتماعي  والفشل الثقافي…الناتج عن الصراع بين ثقافتين نتيجة التغيرات الطارئة… والإحباط … الناتج عن عدم وجود بدائل سلوكية  ..( المصدر السابق ، ص/62-65 )... بدل السلوك أو التقليد أو المعتقد المتروك ، بالإضافة إلى غياب المكافآت المادية والمعنوية ، الأمر الذي يخلق عدم توازن وانسجام بين أقسام النظام الاجتماعي الخاص بالسلوك والقيم والمعايير ، وهذا ينتج صراع بين ما يقوم به الفرد من سلوك يومي وبين توقعات مجتمعه ، بالإضافة إلى نشوء صراع قيمي جراء تنافس السلوك الفردي من اجل اكتساب منافع وتحقيق طموحات على حساب النوازع الخلقية والأدبية ، بالإضافة إلى السلوك المنحرف الناتج عن نقص في تربية وتنشئة الفرد ، وأخيرا هناك الوسم أو الوصم الاجتماعي … وهذا من شأنه أن يعمّق انحراف السلوك الفردي والتمادي به … في حالة حكم المجتمع على الفرد بأنه منحرف عن النظم والقيم السائدة .

 

إن النظريات التي نستطيع ( استشرافها ) من خلال قراءاتنا وتحليلنا فيما يتعلق بالبناء الاجتماعي ونظرياته المختلفة والتي تناقش الاطر التي ترسخ الانسجام وتفعيل انساق البناء الاجتماعي وخصائصه والتي يؤدي فقدانها الى نشوء الصراع الاجتماعي وفوضى ... وهذا سببه تعارض المصالح ... ( مبادئ علم الاجتماع ، 1992 ، ص/ 113 ) وهيمنة احد الانساق وخاصة في الانظمة المحورية كعالمنا العربي على باقي الانساق ، فان البناء الاجتماعي يتصف بعدم الاستقرار والثبات والاستمرارية وبالتالي تنعدم وظائفه ( البناء الاجتماعي ) وتعم الفوضى والعنف والصراع الاجتماعي بانماطه المتخلفة ، ومعالجة ذلك تتم بتفكيك البناء الاجتماعي واعادة تكوينه من جديد ضمن الاطر النظرية ( والغربية المنشأ ) والتي صممت للمجتمعات الغربية في اطار زمني ومكاني معين لتخليصه من مشكلة (الفوضى)  وهي :-

 

1- النظرية الظاهراتية (الفينومينولوجي) :- وتهدف إلى تشريح النسيج العلائقي بين الأفراد (المتفاعلين) والتعرّف على نشأته وتطوره ، حيث تفترض هذه النظرية أن عقل الفاعل (الفرد)"ليس مجردا بل مكتسبا من خلال قواعد اجتماعية اكتسبها من محيطه الاجتماعي …( الخبرة الاجتماعية)… وتخزينها واستخدامها عند الضرورة … معتمدا على التخلل الذاتي للفاعلين ( الأفراد)ثم تشكيل نموذج …أو(صيغة) لصفاتهم " (المصدر السابق ، ص/260) … وبما أن هذه النظرية تبرز مدى ودور المحيط الاجتماعي في اكتساب الفرد الخبرة الاجتماعية، إذن يمكن إدراج ( عوامل التربية البيئية) التي تمثل الأسرة والمدرسة والمجتمع وحتى الشارع والأصدقاء والجيران والمعارف والعلاقات المرجعية ، في تشكيل اتجاهات ونمط التنشئة وطبيعة السلوك ونمط العلاقة التي يتربى عليها الفرد وصقل تركيبته ونمط حياته وتجاذبه الوجداني ، وذلك استنادا لطول الفترة ( الزمنية) التي يعيشها الفرد وتكيّفه في هذا المحيط .

 

إذن والحالة هذه تكون البيئة مرآة عاكسة لسلوك الفرد ، وبالتالي فان الفوضى ( مكتسبة) اكتسابا ، وارثا اجتماعيا متوارثا ، إذ أن الفاعل( الفرد) يكّون نموذجا( وصيغة ) مختزلة لما يراه ويلاحظه من سلوك المتفاعلين معه وحوله ، خاصة وأنها( الفوضى) تعتبر نموذج سلوكي مختزن (محفوظ للاستعمال والاستخدام ) ومكتسب ماضوي ، باعتبار أن الفاعل يعتمد (ويتكئ) على الماضي جراء تراكم الخبرة المكتسبة ، والتي لا تكون تراكمية بل تنافرية التكون وغير متنوعة وتسير في خط واحد ، مما اسبغ على النظرية نمط "الفردانية لاستبطانها على سلوك الفاعل الماضوي والتحكم في سلوكه الحاضر غير العقلاني " ( المصدر السابق ص/265) …لذا فهذه النظرية تتصف بأنها تخدم الوصم التعصبي لخدمتها وتفسيرها لأسباب التخلف الاجتماعي الذي يعقب الفوضى ويفرز العنف الحتمي .

 

2- نظرية الحياة الاجتماعية اليومية:- وتهتم بدراسة الفعل الاجتماعي العملي (والسلوك) اليومي للفاعل( الفرد) بشكل دوري ومستمر ودائم " ومعرفة انعكاسات ( الفعل الاجتماعي ) على الأفراد من حيث … وهل لهم رغبة بفعله وراضون به… أم انه مفروض عليهم … وما أهميته عندهم… وكيف توصلوا إليه ووجدوا حالهم في ظله…؟ " (المصدر السابق ، ص/ 295) .

 

إن التساؤلات التي تثيرها هذه النظرية هي نفس تساؤلات ظاهرة الفوضى وهل  أنها الرغبة والإرادة في الفعل الاجتماعي … أم أنها خضوع إلزامي للمعايير والقيم الاجتماعية ، بعكس ما تراه نظريات البناء الوظيفي والماركسية البنائية " حول إلزام وإجبار المؤسسات والأنساق للأعضاء بأداء فعل رسمي تقره وحدها " (المصدر السابق ، ص/266) …وإلا ما الذي ساعد وأقر ظاهرة الفوضى في حالة انتفاء دور المؤسسات…؟ إذن هي بفعل الأسرة والمدرسة والشارع والمؤسسات الأولية ، وأنها موروثة منذ الولادة وكرسّتها سبل وأنماط التنشئة الاجتماعية ، فان كان ذلك( وهذا مؤكد) أن للمؤسسات الأولية الدور الأهم والأساس في إكساب الفرد صفات وأفعال اجتماعية (وسلوكيات ) ثابتة ، لذا فلكون السلوك (ظاهر) يعتمد على الملاحظة والتسجيل الواقعي والتحليل والتفسير ، بعكس النظريات التقليدية التي لم تفسّر الواقع بأنه "يأتي بناءا على الادراكات والمشاعر والأحاسيس وليس على المؤثرات الاجتماعية وآلياتها الضبطية وروادها الخلقية والدينية وهذا هو السائد في مجتمعنا العربي " ( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/312) و(دويري ، 1997 ، ص/16) .

 

3-النظرية العضوية ( البيولوجية ) :- تقيس هذه النظرية الواقع الاجتماعي بمقياس الكائن الحي الذي له رغبات وحاجات تحتاج إلى إشباع ، حيث يفترض أن يقوم أفراد "المجتمع بالتعاون مع بقية الأجزاء بهدف المحافظة على ديمومة وحياة المجتمع " ( التل ، 1999، ص/5) …تماما كوظائف الجسم الحي كمحصلة سوسيو ـ بولوجية .

 

ويلاحظ أن هذه النظرية شبيهة بنظرية التبادل الاجتماعي التي تتصف بوجود المتحكّمات وآليات الضبط العضوي ( الاجتماعي ) لبقية أجزاء الجسم من اجل الحفاظ على التوازن والاتزان ، ولكن الفوضى جاءت ( لتنسف ) آليات النظام والانتظام في انساق وتركيبة المجتمع وخلخلته، حيث استفاد من هذه النظرية منظرو الفاشية والنازية والصهيونية في تطبيق مفهوم (المجال الحيوي) على الأرض والبشر ، الأمر الذي " ولّد صراعات وحروب طاحنة في أوروبا… والعالم الثالث وفي الشرق الأوسط خاصة… كانت من ثمرتها الحربين العالميتين الأولى والثانية وأدت بالتالي إلى انبثاق مفهوم الطبقات والمراتب والتقسيمات الطبقية للدول القومية الحديثة " (عبد الفضيل ، 1997، ص/15 ) . 

 

4-نظرية البناء - الوظيفي : - وهي تتناول المجتمع كتنظيم لنظم متخصصة تعتمد على بعضها البعض بهدف تنظيم الحياة الاجتماعية ، حيث تعتمد على " عدة مؤشرات فرعية مثل الوظيفة ومصادر الدخل والتقسيم الاجتماعي للعمل والمنافسة والسوق الحر " ( التل ، 1999، ص/5) …وتركّز هذه النظرية (السوسيوبولوجية) الأمريكية المنشأ على مكان الإقامة ونوعه بالإضافة للمؤشرات السابقة ، أما فيما يتعلق بظروف وأوضاع المجتمعات العربية فتعتمد على " الانتساب والأصل القبلي والملة والمهنة والجهة ( المحلة ) ومكان العمل" (عبد الفضيل ، 1997 ، ص ، 21 ) …ويضيف اليها معن خليل عمر " رأي الناس ومدى رضاهم عنها (الفوضى) وتأثيرها عليهم ومعايشتهم لها وتهديدها لمعتقداتهم ومدى خدمتها لمصالحهم …( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/ 69)  وما الذي يدفع الجماعة للذهاب في مسالكها … هل هو فشل النسق الاجتماعي في مساعدة أفراده … أم هو عدم توازن أقسام النسق الذي ينتج اختلالا وفوضى بداخله ومن ثم تسبّب اعتلالا وانحرافا أوليا…انها ظروف وأوضاع المجتمع العربي السالفة الذكر .

 

5-النظرية السلوكية الثقافية :- وتفسر طبيعة الشخصية والنفس الإنسانية من حيث اكتسابها لثقافة معينة، وبالتالي تعكس سلوكا معينا لا يتماش مع الثقافة السائدة ، إذ لا يمكن فصل هذا العامل عن العامل الاجتماعي خلال مراحل التطور وخاصة عند " تعرض أفراد المجتمع إلى مؤثرات ثقافية متعددة وغير موجهه أو ذات تعارض مع الثقافة الأساسية والتقليدية" (على كمال ، 1983 ، ص/ 20) .

 

لكن معن خليل عمر ينطلق من هذا المفهوم من منطلق التفاعل الرمزي الذي يفسّره " بأنه قياس للسلوك الاجتماعي… سواء (سوي أو منحرف)… يوصم به الفرد ويهتم بالإشارات والرموز وما ينتج عنها" (معن خليل عمر ، 1997 ، ص/70) … وعليه فالثقافة لا تؤثر على الشخصية البشرية (كفرد) بل على أخلاق وتراث المجتمع ككل إن لم يكن على معظم فئاته وشرائحه ، وخاصة المجتمعات الحديثة ، إذ يوضح علي كمال هذا الجانب بحيث يظهر تأثيرها واضحا عليها (كالمجتمعات الحديثة) أكثر من المجتمعات البدائية ، لارتباطها من حيث المسؤولية المعاشية وتعقيدات الحياة

 

6- النظرية الصراعية :- وهي تفسر المتحكّمات وآليات الضبط الاجتماعية وعلاقتها بالعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية من " اجل الحفاظ على قوام وترابط وديمومة الكيانات الاجتماعية ، إذ عليها توجيه عناصر المجتمع نحو التماثل مع أحد مكونات النسق مثل المعايير الاجتماعية والقيم والقوانين والتعاليم الدينية" (المصدر السابق ، ص/70) …وهذه النظرية شبيهة بالنظرية العضوية ، إذ تعزو حدوث ضعف النظام الاجتماعي إلى تخلف المعايير ، فلا هي تخدم المجتمع ولا تحقق طموحات أفراده ، ولا تتماشى مع ثقافاتهم… فتقيّدها وتلجمها فيبتعدوا عنها ، فيغدوا الأفراد منحرفين وتحصل خلخلة ضبطية ، ويؤدي ذلك إلى عدم سيطرة النظام الاجتماعي على الأفراد ، وعدم قدرته على إنجاز وظائفه ، فتدب الفوضى بين الأفراد وخاصة في النظام الاقتصادي " باتباع وسائل غير مشروعة للكسب وتحقيق الثراء بالإضافة إلى حدوث انحرافات اجتماعية كالرشوة والواسطة وشراء المناصب والفساد الإداري والأخلاقي والمحسوبية " (سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996 ، ص/ 310)  ... أما سياسيا فيتم توجيه النظام والحركة كما يسير نظام القيم والسلوك الذي يجعل الفرد ينزع إلى الفوضى ، وخاصة عند إلزام وإجبار الناس على إنجاز واجباتهم دون تحقيق مطالبهم ، فتعم الفوضى ويدب الصراع بين أقسام المجتمع وطبقاته .

 

7- نظرية ( مدرسة ) المحافظين الجدد :- برأينا أن هذا المصطلح لا ينطبق على محتويات وتفسيرات النظرية المتعلقة بما يسمى ( بالعقد الاجتماعي ) المبرم بين الناس والنخبة الحاكمة لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع ، بحيث " إذا رفض أحد الطرفين الالتزام بالعقد انفرط وبرزت بالتالي المشكلات الاجتماعية وتصدّعت الآداب العامة وتخلخلت مفاصل البناء الاجتماعي مما يؤدي إلى الانحرافات السلوكية (والفوضى) " ( معن خليل عمر ، 1997 ، ص/ 70) …هذا التحليل والربط السالف الذكر للنظرية ينطبق على أوضاع الناس في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ( أيام الثورة الفرنسية والثورة البلشفية) .

 

8-وهناك نظريات أخرى اجتماعية تفسيرية ، وتقديرية ، وبيئة بشرية ، وإحصائية ، ونسق وسلوك وفعل وإصلاح اجتماعي ، ونفس بيولوجي ، واجتماع معرفي ، لكن ما يهمنا هو النظريات ذات المدى المتوسط والتي تتناول مواضيع دقيقة ومهمة وتنطلق من مساحة واسعة في الحياة الاجتماعية ، والتي يطلق عليها ( نظريات القاعدة- الأرضية ) والتي تدرس الحياة اليومية للناس وتطرح مفاهيم وقضايا بأسلوب سلس يفهمه غير المتخصصين في علم الاجتماع  ، والتي من خلال إسقاطها ( النظريات ) على واقع المجتمع العربي نراها هي الأكثر ملائمة لدراستنا أو بالأحرى التي تبنيناها ، رغم الاختلافات المتعددة والمتنوعة بين المشكلات الاجتماعية ورغم أنها واحدة في الاسم ، فمنها ما ينحصر بتحديد الأسباب وإدراك الناس وحكمهم على أنها مشكلة ، حيث تعود الأسباب إلى اختلاف الثقافات والمعتقدات والقيم والمعايير ، إلا أن هناك معايير مشتركة من بينها الهجرات (داخلية وخارجية ) وصعوبة تكيّف الفرد في مواجهة متطلبات التغيرات الاجتماعية ، وعدم مسايرة النظم الاجتماعية لتطورات المجتمع ، والصراع بين المتطلبات والتوقعات للمجتمع وعجز المؤسسات الاجتماعية عن تحقيق أهدافها ، بالإضافة إلى التغير الاجتماعي وعلاقته بالمدة الزمنية التي يستغرقها في تغيير النظام الاجتماعي وأنساقه " إذ تعتبر الطبقية والثقافة السائدة والتراث والمصالح الذاتية من أهم معوقاته … بالإضافة للحروب وما تخلّفه من تناقض في نظام القيم وما تسببه من تفاوت اجتماعي ووهن تنظيمي " ( معن خليل عمر ، 1998 ، ص/97-112) .

الفصل الثاني

الفوضى في المجتمع العربي

1:2- بدايات الفوضى في المجتمع العربي :-

 

تكاد تجمع اغلب المصادر الاجتماعية والسياسية والتاريخية على أن المجتمع العربي قد عانى من الضعف والتدهور في انظمته السياسة وقيمه الاجتماعية وأرثه الحضاري منذ القرن العاشر الميلادي .. انظر ( سعد الدين إبراهيم وآخرون ، 1996، الفصل الثالث- وبرهان غليون ،1994 ، الفصل الثاني- وغسان سلامه واخرون ، 1989، الفصلين الأول والثاني )… لما لذلك من أهمية لماضي وحاضر ومستقبل الوطن العربي ، على اعتبار أنها بمجموعها تشكّل حلقات متصلة من التخلف الحضاري والتي أوصلته إلى حالة من التخبط والفوضى والتخلف الاجتماعي وإهدار الوقت ، فالبيئة الطبيعية – الصحراوية - ما زالت بصماتها واضحة المعالم بشكل مباشر من خلال .. اللغة والأدب وأنماط التفكير والعادات والتقاليد والقيم الموروثة (والمرأة ) بالإضافة إلى اتصاف البيئة الصحراوية بشح العطاء ورتابة الحياة ..( مروان دويري ، 1997، ص/ 38 ) … حيث بلورت قضايا وأفكارا منمّطة ومتطابقة لمتغيرات الظاهرة (الفوضى) والتي سببت توازن غير مستقر وبتوافق مع البيئة الطبيعية والبشرية المعاشة .

 

ومنذ القدم ( ما قبل الجاهلية ) وولاء الفرد في المجتمع العربي في علاقة ذوبانية واحتماء دمجي (Fusional Protection Relation &) بالعائلة أو العشيرة أو المذهب أو الطائفة أي تحول المرء الى شئ وتركّز الأنوية والتشييئ (Chosification) وهو تبخيس لقيمته وانسانيته واحترامه لذاته وكيانه ويفقد شخصيته واستقلاله ، والتي تعني عودة المرء الى طفل صغير يحتمي بوالديه وذوبانه في جسدهما (رمزيا وتخيليا ) لينعم بالسكينة والاطمئنان والامن النفسي ، ويبتعد عن مثيرات القلق والألم من منطلق انهما ( والديه او اشخاص ) يعبران له عن مصدر الحماية والحب ، وبالتالي يتمتع المرء بقوة للتصدي للاخطار وخاصة عند وقوع الكوارث او الاخطار لأ حساسه بالعجز عن ردها ذاتيا ، وبالتالي يفقد المرء استقلاليته وذاته ، وهنا ينتفي مفهوم المكان او الوطن او المجتمع لديه ، لذا فان فكرة المجتمع أو الوطن مجردة لا تتخذ أي معنى  إلا في ارتباطها بالنماذج الأولية للقرابة والدين … أما في إطار التقاليد الاجتماعية فان سلطة الأب وشيخ القبيلة والزعيم الديني… فهي التي تحدد ولاء الفرد … ويوفر تقليد الواسطة مرونة وحيوية ( في حياة الفرد المعاشية)… فهي تضمن حماية الفرد والمجتمع ( الجماعة ) ومصالحهما المادية بما في ذلك الفرد الأدنى مرتبة في المجتمع… وهي بذلك تعزّز شعور الفرد بالهوية … ولا تعمل فقط على تنشئته اجتماعيا ليرقى بسيادة السلطة … بل إنها تدرّبه على التعامل معها .. ( هشام شرابي ، 1993، ص/64-65 ) … بالإضافة إلى ذلك فإنها أفرزت (ونسجت ) لدى الفرد شبكة تبادل علاقات منمطة (ومنمذجة) من تنشئة وترويض للنمط الدماغي المتماثل مع العصبية القبلية ، كإطار وجماعة مرجعية وتذويت لشخصيته وتقديرها  .

 

إن هذا المشهد في حياة المجتمع العربي وأنظمته السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والاجتماعية ، قد تأثرت بهذا الجانب - النمط الأبوي - في تحليل لماضيه وما نلمسه في حاضره ونستشرفه لمستقبله ، فحول علاقة الفرد بأسرته من جهة وبالمؤسسات المجتمعية من جهة أخرى ، فهي إما أن تتصف .. بالتكامل أو بالتناقض.. وتقوم على التفاعل والتأثير المتبادل … حيث يتناقض الولاء المجتمعي والولاء القومي مع الولاء العائلي في مرحلة التنشئة الأسرية ، في الوقت الذي يحّض فيه الدين على تمجيد الأسرة … فنجده (الدين).. يتعارض مع القبيلة ، كذلك يشير الفكر القومي أحيانا إلى التناقض ورفض الولاء الاجتماعي مقابل الولاء القبلي ، الذي يتصف… بالتماسك والتواكل والعصبية والتوحّد … حيث عكس ذلك- بعد ظهور الإسلام- طبيعة تركيب العائلة أيام الجاهلية كما أسلفنا ، واستمرت إلى اليوم حيث تعتبر الأسرة / القبيلة (النواة المركزية) للنشاطات الاقتصادية والاجتماعية وأبوية السلطة وهرمية التراتب … رغم توسع نظام الخدمات وسيطرة الدولة (وبيروقراطيتها)… ومع هذا فلم تزل تشكّل وحدة ومركز كالسابق .. ( حليم بركات ، 1996، ص/ 171- 179 ) …ونسق مغلق (ومعجّن) ضمن مسيرته الحياتية ، الأمر الذي عزّز السلوك التعبيري والمتوافق مع شرعنة وتبرير العلاقة الدمجية ( الذوبانية) مع العصبية/القبلية ( Tribalism ) .

 

إن العصبية القبلية والتراتب الطبقي والهرمي للأفراد والجماعات الطائفية /العشائرية- الاثنية  والسلطوية/السياسية والرؤية الغيبية والتخلف العام في مختلف مناحي الحياة ، بالإضافة إلى تفاقم معضلة ( الانتماء العربي ) كانت من الأسباب الرئيسية في خلق حالة من التخلف العام بالتوازي مع استمرار الظروف التي خلقتها التنشئة وظروف البيئة الطبيعية.. (المصدر السابق ، ص/ 45 - 49)… حيث انعكس ذلك في اتباع سلوك التفافي ( Detour Behavior ) متكيّف مع المحيط الاجتماعي من حيث تشكيل الوعي والإدراك ومحدودية الحس -والمفترض - أن يتصف بالدينامية .

 

وبعد ذلك بدت قرون الإسلام الأولى لمخيلة المسلم الخلقية كأنها دراما مثيرة مؤلفة من ثلاثة فصول "عصر النبي وخلفائه الأولين وهو عصر الأمة الذهبي الذي كانت فيه على ما ينبغي أن تكون، والعصر الأموي الذي اصطبغت فيه مبادئ الدولة الإسلامية بنزعة الطبع البشري إلى الحكم الملكي المدني ، وأخيرا العصر العباسي الأول الذي عادت فيه مبادئ الأمة فتأكدت من جديد …(خاصة بعد بروز الانقسام الكبير بين السنة والشيعة والذي نشأ أصلا عن نزاع سياسي حول خلافة الرسول ، ثم امتد تدريجيا إلى ظلال الفوارق في العقيدة والشرع والعرف ) … كما أصبحت درسا في شرور التفرقة التي تعانيها الأمة في حياتها المشتركة " (حوراني ،1997، ص/ 17 ) … فمنذ أواخر حكم الخلافة العباسية ومرورا بحكم الدويلات في بلاد الشام والأندلس والعراق ، وانتهاء بحكم المماليك والأتراك العثمانيين وسيطرتهم على مقدرات الوطن العربي والتي تعرضت لعوامل الضعف والتآكل التدريجي ، بالإضافة إلى الصبغة العسكرية في إدارة الأقاليم والولايات في المشرق العربي خاصة ، الامر الذي صبغها بالطابع الإقطاعي وابتعاد الحكام والسلاطين عن الرعية ( Subjects ) من خلال نظمها وقوانينها ، والتي صاغتها من خلال وسطاء كان لهم الدور الرئيسي في نشر الجهل والفقر والتسلط وانتشار الفوضى وانعدام الأمن وشيوع الرشوة وبيع المناصب ، مقابل الحرص ( من قبل الرعية) على تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة ، حيث يضطر الناس الى " اباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل ومراغمة الحس واماتة النفس " ( الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص/ 59 ) ... في ظل هذه الظروف التي نستطيع أن نطلق عليها زوال الحكم العربي منذ فجر الإسلام الأول ، بمعنى أن الفوضى ضربت جذورها بشكل راسخ منذ بداية عصر العباسيين الثاني ولحد الآن ، جراء تشكيل واكتساب الفرد لإدراك وعي نكوصي ومنكفئ (Regression) وتعني عودة المرء من مرحلة نضج متقدم واستقلال ومسؤولية ، الى مرحلة الاتكال والتبعية كرد فعل على مأزق لا يؤمن له اشباعا لحاجاته ، خاصة في مرحلة انعدام الأمن الحياتي والنفسي وانعدام التوازن المستقر في بناء النسق الاجتماعي بعد سيطرة العنصر غير العربي على مقاليد الحكم والإدارة والجيش .

 

فعلى الرغم من .. أن المجتمع العربي لم يشهد قيام أنظمة سياسية ذو سلطة وطنية أو قومية طيلة وجوده في بيئاته المختلفة …إذ أن… الدولة الإسلامية التي أقيمت لا تعد دوله وطنية أو قومية ، بل كانت دولة من الطراز الشمولي القائم على المذهب أو الدين… فقد كان ( الدين)… في صراع دائم مع العصبية والقبلية المتصارعة والمتنافسة فيما بينها وبين أي سلطة مركزية ... (بركات ، 1996، ص / 45) 0

 

لقد كان من المفترض أن تنشأ في المجتمع العربي انساق ومستويات اجتماعية واقتصادية وثقافية متطورة ، عندما انتقل من عصر الجاهلية إلى عصر الإسلام وصولا إلى الدولة القومية – الأمة ( لعروبة القرآن وقومه الأولين) اخذين بعين الاعتبار انحدارهم القبلي من جهة ، وارثهم التاريخي والاقتصادي (كموسم الحج إلى الكعبة وتجارة قريش ) من جهة أخرى ، إلا أن الذي حدث هو العكس ، فالمجتمعات الغربية مثلا تطورت اقتصاديا واجتماعيا وفكريا في فترة عصر النهضة وتحديدا في القرن الثامن عشر ، واستطاعت أن توجد وتطور قوى إنتاج مادية وبشرية أحدثت طفرات ( توصيفات) مجتمعية وطبقية جديدة  ، كإفراز من ضمن النتاج الفكري والثقافي والحضاري والذي انطلق من مصالحها من جهة ، وبتوجيه من السوق الداخلي من جهة أخرى ، أدى ذلك إلى نشوء قوى محركة والتي أنتجت بدورها الدولة القومية… بينما حدث العكس في المجتمع العربي فهو استمر في إنتاج نفسه وبتوجيه خارجي وليس من داخل المجتمع ... كيف…؟

 

لمّا كانت القبيلة تشكّل وحدة التنظيم الاجتماعي والتي تربط أعضائها بصلات الدم والقرابة والمصالح المشتركة وأنماط وأساليب الحياة المعيشية والقيم والعادات والتقاليد والسلوك والأعراف المشتركة ، واستمرار الصراع على الخلافة بين شيعة علي بن أبي طالب وأنصار معاوية ثم بين الأمويين والعباسيين وحركات الانقسام بين مختلف التيارات الدينية والسياسية ، جعلت المجتمع العربي - الإسلامي " يعي الصعوبات التي تعترض المشيئة الإلهية في حياته … وانه وان حدث التغيير فلن يفضي إلا إلى الأسوء ، ولا يمكن إصلاح الأسوء بإيجاد شيء جديد ، بل… ببعث… ما وجد من قبل … أي النظر إلى الماضي والذي ينطوي في جوهرها على فكرة (الانحدار-  Restitution)… والتي تعطينا معنيان ، فإما أن تؤدي إلى الفوضى ، أوهي الفوضى بعينها ، فالانحدار يعني أن الأمة الإسلامية فقدت زمام قيادتها وأهداف رسالتها ، واصبح المسلمون ينظرون إلى عصر الإسلام الأول العظيم وكأنه صورة ينبغي للعالم أن يكون عليه بسبب الضياع والتخبط والفوضى " (حوراني ،1997، ص/17- 18 ) .

 

لذا فقد كان المجتمع العربي-الإسلامي مذاك الوقت ( نهاية العصر العباسي الأول ) يعيش في مجموعات بشرية متصارعة ، تعمها الفوضى والانقسامات والولاءات العصبية وليس كمجتمع واحد ، لذا فان ولاء الفرد وخاصة في حالات إشباع الحاجات والرغبات والحصول على الأمن والحماية حتمت عليه التشبث بالعصبية والقبلية في سبيل تحقيق غاياته من جهة ، ومن جهة أخرى  وكما يقول المعلم ( ابن خلدون في مقدمته ص/111- ص/112)  " لأن الشارع ( ص ) لما اخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من انفسهم ...(أي انهم تأدبوا ذاتيا – وايمانيا داخليا ) ... بالترغيب تارة وبالترهيب ولم يكن تأديبا صناعيا... ( مصطنعا ) او تعليميا بل هي احكام الدين وادابه ... لكن بعد وفاة الشارع ( ص ) بقيت ... سورة بأسهم مستحكمة ...وتناقص الدين في نفوس ( قلوب ) الناس ...حتى اصبح الشرع ( شريعة الشارع – ص- ) علما وصناعة ويؤخذ بالتعليم والتاديب ...فاصبح الوازع اجنبيا " (خارجيا )... وكان النظام السياسي السائد يغذي هكذا علاقة في تعامله مع الرعية وكسب الأنصار والموالين له بأسلوب صراعي – استباقي ( Competition Agonistic) يتسم بالطابع الفوضوي وعدم مراعاته للقيم والعادات والأخلاق والنظم الاجتماعية ، ... حيث " من اخلاق البشر الظلم والعدوان ...وسببه هو الحكام والدولة ... بسبب القهر والسلطان وابتعادهم عن النظام ..." ( نفس الصدر السابق ص/112) وهذا ما استمر خلال عهود الاستعمار الأوروبي ، إلا ما كان يهدد وجود ومصالح الاستعمار ومن بعده اسرائيل ( سنفصل ذلك في الفصل الخامس )  فكان الاستعمار او الاحتلال يشهر النظام والقانون والانتظام إلى حين حيث كان له وجهان ، وجه حضاري يعكس ما وصل إليه الغرب والصهيونية من تقدم وتطور في جميع المجالات ، ووجه أخر كان يتلاءم ويتواءم مع الواقع العربي المعاش ويشجعه على اعتبار أن وجود الاستعمار كان وجودا مصلحيا ومؤقتا .

 

2:2 - فوضى الهوية العربية – الإسلامية :-

 

ان مفهوم الهوية يعكس الولاء والانتماء فالاول يعني ..الاخلاص والاحترام للسلطة او النظام الحاكم وهذا له علاقة مباشرة بطبيعة التنشئة الاجتماعية للفرد ، اما الانتماء فيعني الانتساب الحقيقي للدين ( العقيدة ) او للوطن فكرا وتجسيدا وعملا وهذا يعكس مدى حب الفرد واعتزازه بالانضمام اليه ، وللانتماء وسائل عديدة لتعزيزه مثل : التضحية من اجل الوطن والقيام بالواجب والمحافظة على مقدساته وتراثه وعاداته وتقاليده وقيمه .

 

ومن المعروف أن أهمية العروبة هي كونها لغة القرآن وبكونه نزل على الأمة العربية دون غيرها ، من هنا كانت أهمية العروبة بمدى أهميتها للإسلام .. وليس باعتبارها قومية ذات أهمية بحد ذاتها … فإذا تتبعنا التاريخ منذ ظهور الاسلام وحتى اليوم يمكن أن نلاحظ أن الازدهار العربي لم يدم طويلا في الشرق ، وخاصة بعد نهاية حكم الأمويين ، وذلك… بتسلل غير العرب وتقلّدهم لمناصب الدولة العليا وفي إدارة الحكم وأجهزة الدولة … وحتى فترة الاستعمار الحديث… بمعنى… أن الهوية العربية منذاك الوقت أصبحت هوية ثانوية أمام الهوية الإسلامية الرئيسية ( دويري ، 1997، ص/ 47) .

 

هذه التراكمات شكّلت بدايات الفوضى التي نشأت في جسم المجتمع والحكم العربي ، من خلال العادات والتقاليد والقيم والأخلاق وأنماط السلوك والمعيشة وأساليب الحياة والمأكل والملبس ومعاملة المرأة والآداب والفكر ونظم الحكم والإدارة والفنون والموسيقى، بمعنى أن كل ما نعيشه اليوم ليس عربيا- Crossbred البتة اللهم إلا اللغة ... فقد كان وما زال فارسيا أو تركيا .. (المصدر السابق ، ص/ 48 ) ...وحتى اللغة فنحوها وصرفها وموازينها فارسية .

 

أما فيما يتعلق بنظام (ونمط ) الحكم  فان المجتمع والشرع الإسلاميين لم يترعرعا إلا في عهد الخلفاء الراشدين وبفضل سلطتهم…إذن الخلافة… شرطا ضروريا للمحافظة على الشرع والمجتمع … لكن بعد نهاية العصر العباسي الأول (القرن10 الميلادي ) …أخذت وحدة الإسلام السياسية تتفكك أو على الأقل تتغير في شكلها … ذلك أن ( انقسام السلطة بين الخليفة العباسي والأمير التركي المملوكي أدى إلى حدوث فراغ قاتل لم يملأه سوى مماليك وعبيد وخدم مستوردين خصيصا لكي يحكموا عددا من أهم الأقطار العربية ويسودوا على الأمة ) ، قد اصبح أمرا نهائيا لا مرد له … فسلطة المماليك في مصر كأعلى نموذج قد اختلفت في تركيبها عن الخلافة … حيث استولت على الحكم استيلاء … وكانت الرابطة بين أفراد الطبقة الحاكمة هي رابطة المصلحة المشتركة … إما تدبير مصالح الدولة فكانت  (الشرائع ) كناية عن أوامر صادرة عن السلطان … ولهذا فلم يكن بوسعهم (السلاطين) ولا بوسع سواهم من حكام ذلك الزمان الادعاء (بالخلافة) وبأنهم كانوا يحكمون الأمة جمعاء … مما كان من شأنه أن يجعل من الشريعة مبدأ سلبيا لا غير ، أي أمرا على الحاكم أن لا يخالفه لا أمرا يوجه سلوك الرعية … وكانت هناك أخطار من الخارج تتحدى الشريعة في الوقت نفسه ، مثل هجرات القبائل العربية إلى الصحراء السورية عبر سيناء إلى وادي النيل وشواطئ إفريقيا الشمالية حملت معها العصبية القبلية وتقاليد الجاهلية الوثنية " (حوراني ،1996، ص/20- 22 ) … بالإضافة إلى تأثير الإرث الحضاري للفرس والأتراك والأمم الأخرى المتأسلمة ، حيث البس هؤلاء نظام الحكم ..." لباس الخلافة للتبرك ... ( من جهة ) ...واجبار العامة على تقديسها ... وتصويرها لهم ( بالاسم ) على ان مصدرها هو (الشريعة – الدين) فانحرفت عن مقاصدها الدينية والدنيوية واصبحت تستعمل ( الخلافة) في تحقيق الاغراض الدنيوية فقط ... بعد حكم هارون الرشيد " ( نفس المصدر السابق ، ص/ 181) الى يومنا هذا .    

 

ومما دعم من نمط هذا الحكم الإمام الغزالي بفتاواه المشهورة المتعلقة بطاعة السلطان "ووجوبها مع عدم الاهتمام في مسألة اختياره ( فوضويا ومشاعيا) التشديد من عندنا أو بالتفويض من رجل ذي شوكة ، إذ لهذا النمط الغريب في توليه الحكم من شأنه…أن يكفل بقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات وما أشبه فقط ... ومنعا من بطلان الأنكحة والأفعال الشرعية الأخرى وهي بذلك خير من الفوضى" (المصدر السابق ص/ 23 24)… بمعنى أن أمور الحكم والسلطة على المسلمين تؤول لمن غلب بالسيف أو بالعصبية ، وكأن مسألة بطلان الأنكحة مثلا عند الغزالي كانت أهم من شروط الخلافة…!

 

وعليه فان فوضى إدارة الدولة والمجتمع كانت بعيدة عن السياق الإسلامي " الذي كوّن منظومة متكاملة ومتوازنة … من خلال سلطات الإسلام الثلاث سلطة الاختيار ( وظيفة الخليفة ) وسلطة الإفتاء (وظيفة علماء الدين ) وسلطة القضاء (وظيفة القضاة ) … فزوال هذا التوازن هو الذي يفسر الانتقال إلى مرحلة التدهور والانحطاط و( الفوضى ) منذاك الوقت " (سعد الدين إبراهيم وآخرون ،1996، ص/ 90) … وهكذا افسد الحكام الإسلام " فانتشرت الفوضى… بين المسلمين برعاية الحكام الجهلاء ، حيث استمر هذا الجهل وهذا الفساد حتى يومنا هذا ".. ( حوراني ،1996، ص/ 159)... والدليل هو ما نقلته لنا الفضائيات عند دخول قوات الاحتلال الامريكي لبغداد من جهة والعراقيون يخلعون المغاسل ومقاعد الحمامات ويسرقون الاثاث والكتب والاثار وكل ما تقع عليه ايديهم من الوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة والمحلات التجارية ، هنا ينطبق عليهم وصف المعلم ابن خلدون للعرب في مقدمته ، انهم شاطرين بالسلب والنهب والسطو وحمل ما خف وزنه بشكل فوضوي وغوغائي .

 

إن الفوضى قد أصابت تطبيق الأحكام الشرعية المنبثقة من الدين وخاصة الدين الإسلامي ، حيث تعتبر(الأحكام الدينية ) هي النخاع الشوكي والعمود الفقري لسلامة المجتمع والدولة الإسلامية وخاصة فيما يتعلق بتربية الفرد المسلم ، حيث يصبح الدين كالقانون … لا يقوم الفرد والحاكم بالالتزام به إلا إذا فرض عليهما ، وهما على الدوام في محاولة للتحايل عليه وعلى أحكامه وشريعته … وبالتالي يتم تحديد فاعليته (الدين ) وتجاهل الجانب التربوي فيه وتقليص دوره في صياغة الإنسان ، كما يقود ذلك إلى تقليص دور العقل … حيث اصبح همنا هو البحث في السياسة لتأييد حاكم قائم أو تشويه حاكم قديم ( بفتاوى رجال الدين كالغزالي مثلا ) وعليه فلم يستوعب المسلمون درس الإسلام ولم يفهموه كرسالة تربوية … حيث ظل الإسلام خارجهم يسكن مصاحفهم الموضوعة على الرفوف ، وتمسكوا فقط بقواعد المعاملات الدنيوية … ولم يقتصر الأمر على ما أصاب الهوية العربية – الإسلامية وانتفاء تطبيق الأحكام الشرعية في تسيير أمور الدولة والرعية ، بل ولم يكتفي الحاكم أو الملك أو الرئيس أو صاحب العمامة بالهيلمان والسلطان والجبروت والمسوغات الدينية المفبركةFabrication- Vindicatoryحاليا في تبرير العلاقة بين الحاكم والمحكومين -الرعية - أو بما ورثه ، بل تجاوزوا وتمادوا بمسخها –الأحكام- حتى انهم تجرؤا وتدّخلوا في أركان الإسلام الخمسة مثلا ، والتي تعتبر انعكاسا لأيمان المسلم بالله ومن ثوابته المقدسة والمنزلة والتسليم بواسطتها بالله ولله ، وليس للحاكم أو صاحب العمامة أي علاقة بهذه الثوابت ، كفريضة الحج السنوية إذ يمنع المسلم حتى لو امتلك الشروط الشرعية ( كالبلوغ والرشد والاستطاعة والقدرة ) على أدائها نتيجة تدخل الحاكم وبناء على توصية – او فتوى- من صاحب العمامة بتطبيق التوزيع النسبي الخاص بالحجاج المسموح لهم بالتوجه إلى الديار الحجازية حسب عدد سكان كل قطر عربي أو إسلامي أو حتى أجنبي إلا بعد التنسيق مع السلطات السعودية ، ويشترط في هذه الحالة أن تكون المناسك ضمن قوافل جماعية بدءا من بلد الحاج ومرورا بأداء المناسك وانتهاء بالعودة ، وهنا نلمس مدى الفوضى والمحسوبية والواسطة في التمييز والتسجيل إلى الحج مما يلحق بالبقية الظلم والإجحاف ، فيضطر من لم يحالفه الحظ أو من لم  تشمله مكرمة الزعيم أو الرئيس أو الملك من الرعية ، فيقوم بمناشدة أهل الحل والعقد ومن بيدهم مناسك الحج ... ومساعدتهم في التسجيل للحج لهذا العام …علما بأنه قد سجل للحج في مديرية الأوقاف في محافظة…وبتزكية (وواسطة) من المفتي …الشرعي …ولم يأتنا أي رد على ذلك … لذا نرجو من سيادتكم مساعدتنا في إصدار تعليماتكم الحكيمة لقبولنا للحج هذا العام " ( القدس ، 1/2/2001، ص/4)… وهنا نريد أن نتساءل ماذا لو يتم قبول أو تسجيل المواطن ضمن قوافل الحج …علما بأنه ركن من أركان الإسلام الخمسة والذي بدونه يعتبر المسلم ناقص الإيمان …؟ ألا يعني ذلك أن السلطة السياسية تتدخل في عبادة الإنسان وتهبه أو تحرمه من الثواب و تجبره على دخول الجحيم (النار) ، وكأن الحاكم أو المفتي في هذه الحالة يضع نفسه بديلا عن الله وأنه يهب عطايا الإيمان والجنة لزبانيته وازلامه ومحاسيبه على حساب الرعية ، فأمكن لأصحاب المصالح أن يجدوا في تعاليم الدين تأويلا مصلحيا أو سياسيا لتأييد موقفهم وشرعية حكمهم أو وجهة نظرهم أو فتاواهم … حتى أن البعض تمادى واستخرج من الدين… تبريرات للجريمة ومسوّغ للظلم والقهر والجبروت وتسخير الدين… لخدمة الخرافات والأساطير والبدع ومعالجة الأمراض بالأدعية وحتى في هزيمة الأعداء ( كما هو متبع اليوم في خطب الجمعة ) – التشديد من عندنا - … واحترف البعض كشف الغيب  Chirmonacy-وقراءة الطالع-  Palmmistryومطاردة الجن والشياطين – Demons Pursuit .. ( عبد الحميد البكوش ، 1998 ، ص /32- 33 ) .

 

إن ما دعانا للتركيز على العقيدة الإسلامية ونظام الحكم هو أنها كانت لغاية القرن العشرين هي المصدر الوحيد في إدارة الدولة والمجتمع قبل أن تنبثق دول العالم العربي الحديث (العلماني )، لذا فقد عانت الرعية في ظل فساد أنظمة الحكم الإسلامية منذ ألف عام " من التطبيق الصارم لقواعد الدين على معاملاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وفي ظل تفريغ الشريعة من محتواها الإنساني الهادف لخير وسعادة البشر ، ففساد النظام السياسي ..  حولهم إلى مجتمع…خائف ومطيع لا حرية فيه ولا إبداع…ولم تنجح الصرامة بالتالي إلا في خلق… مجتمع من العبيد والجهلة…ولم يقتصر الأمر على الرعية ، بل امتدت عدوى ( الجهل )…إلى الحكام والفقهاء …الذين انقلبوا بين ليلة وضحاها وبعد أن اصطدمت مصالحهم الدنيوية بمصالح الحكام والسلاطين ، فأصبحوا ينادون بإقامة حكومة إسلامية وأصبح الحاكم فقيها يجاهد في الحفاظ على كرسيه بعد أن كانا  (الحاكم والفقيه) بالأمس حلفاء مصلحة " (المصدر السابق ، ص/33 ) .

 

لقد حدث للإسلام شيء قريب كالذي حدث " لأديان سماوية أخرى … حتى تجاوز الناس حدودهم في تفسير وتأويل تعاليم العقيدة ، فطرأ على فهمهم الكثير من التعقيد والاختلاف " (المصدر السابق ، ص/ 34) … مما جعلهم يضفون على المتخصصين ( الفقهاء ) صبغة القداسة ، حتى أن رجال الدين صدّقوا أنفسهم انهم ( ذو قداسة ) وتميزوا عن الرعية ، حتى بنمط ملابسهم التي تشيع في النفس الهيبة والسلطوية والإجلال والطاعة ، باعتبارهم في نظر الرعية يحتكرون فهم تعاليم الدين وحدهم ، حتى تمادت الرعية في هذه البدعة وقدّمت لهم ألاعطيات والنذور والهبات والأقطاعات ومن كل شيء عزيز وثمين كان لهم منه النصيب الأوفر والأول ، للحصول على البركة الكاذبة منهم ، والتي جعلتهم (رجال الدين ) يصدقون انفسهم  ويمتهنون الدين ويمتطون الرعية ، حيث ينطبق عليهم المثل القائل ( العمر على الله والعيشة على الأجاويد –Pauper ) .

 

إن الفوضى والحالة هذه هي نقيض النظام والانتظام من جهة ، وان اعتبرت قيمة بعد أن كانت أزمة اجتماعية تعني الغموض وانعدام التوازن والاستقرار من جهة أخرى ، أما كقيمة فلأنها موجودة في المجتمع من خلال الأعراف والثقافة والتقاليد والأخلاق والعادات والقوانين وأنماط الحياة ونظم الحكم ، لذا فان تأثيرها قد انعكس على سلوك وأخلاق وتقدم ورقي الإنسان العربي  .. وعادت بالمجتمع إلى حياة البداءة والغموض .. ( عبد العزيز قباني ،1992، ص/17 ) .

 

وباعتبارها مصدر ( وأم ) الآفات والظواهر والعلل الاجتماعية ( كما الخمر) في نظر الشريعة ، وبكونها( الفوضى) أزمة شاملة تبدأ من الأسرة والمدرسة والمجتمع وتنتهي بالحياة اليومية وطبيعة نظام الحكم وإدارة الدولة وما تشمله من مؤسسات ، حتى أنها تجاوزت الجوانب المادية للمجتمع والدولة أصبحت تسيطر ( تتحكم وتقود ) الفرد من حيث طبيعة العلاقات الجنسية والشهوانية والثقافية والاقتصادية والنقابية والعلاقاتية والطائفية وحتى الجيش ، الذي يتصف بالضبط والربط والنظام فلم يخلص منها ، وحتى في مجالات الفكر والفن والمأكل والملبس وطرق التعامل اليومية … وفي كل شيء ، ولهذا فهي تعيش معنا وبنا (وبداخلنا ) من الميلاد حتى الموت ، بل أصبحت من ضرورات الحياة في المجتمع حتى أنها ..تعتبر شيئا طبيعيا أو نظريا في الفعل ورد الفعل .. ( قباني ،1992 ، ص/150)… وهي ليست وليدة حقبة معينة بل لها صلة تاريخية بالماضي ، والدليل أننا نعيش الحاضر بها ، وهنا السؤال …هل هي موروث أم موروثة…؟ أم هي تقليد …؟ وان كانت كذلك فهل هو مكتسب أم أصيل 000؟ وما علاقتها بأنماط التربية الاجتماعية والثقافية والقيم والأعراف والنظم …؟ وما هو موقف المجتمع منها...؟ بل ما هو موقف الدولة أيضا منها... ؟ وما هي الحلول الناجعة لمكافحتها واستئصالها ...؟ وهل هي عربية أم عالمية الطابع أم إقليمية المظهر…؟ ولماذا شعوب العالم الثالث ومن ضمنها أقطار الوطن العربي مبتلاة بها000؟ وأخيرا ما هي العوامل أو (الحبال السرية - Funiculus ) التي تغذيها وتمدها بالحياة والديمومة والاستمرارية حتى الألفية الثالثة ؟

 

 

3:2 - فوضى القيم والثقافة في غياب الضبط الاجتماعي والتربية في البناء الاجتماعي :-

 

ان التربية ( Breeding ) هي المسؤولة عن سلوك الافراد والجماعات ولها دور هام في ترسيخ القيم في نفوسهم وهي المحدد لاطار وانماط السلوك العام ، والتي تتضمن الاخلاص والولاء للنظام الاجتماعي القائم ، لهذا فان التربية تعتبر السلطة الاجتماعية الضابطة ( Social Control ) وهي انعكاس لنظام الجماعة التربوي وبيئتها التربوية وانماطها الثقافية والحضارية وتعكس احوالها السياسية ... فالتربية هي التي تكيف الفرد ضمن الضوابط الاجتماعية التي يفرضها المجتمع وهي اليوم من مسؤولية الدول والحكومات كاداة ضابطة لاستقرار المجتمع وتدعيم السلطة السياسية .. ( ابراهيم ناصر ، 1994 ، ص/99) .

 

إن الإطار الذي يحكم سلوك مجتمعاتنا العربية في الإطار العام لمفاهيم القيم والثقافة والتربية في البناء الاجتماعي – Social construction ( كنظم - Systems ) ينم عن فوضى عارمة ، حتى في قفزات الفرد والمجتمع عنها ، فمن هذه الأطر (كالقفز فوق القيم والثقافة والتقاليد والتربية ) تتم أو تأخذ الطابع اللاأخلاقي وعدم التدرج من خلال الارتقاء ثم الاستقرار في الوضع الطبيعي ، فهذا غير متبع ولا يؤخذ به .

 

ففيما يتعلق بالقيم وبغض النظر عن التعريف وتحديد دورها في حل المشكلات الاجتماعية ، تهدف إلى إيجاد الصيغ المقبولة .. للمشكلات الناجمة عن عدم ملائمة الوسائل الاجتماعية ، لتحقيق الأهداف الاجتماعية … وعن عدم وضوح الجزاءات وفصلها في الصراع الذي ينشب بين القيم والمجتمع ، وأخيرا يتحدد دورها في إيضاح أبعاد تدرج القيم في المجتمع .. (جليل شكور ، 1998 ، ص /84 ) 0

 

إن العلاقة بين نظام القيم ونمط التربية السائد في المجتمع فيما يتعلق بطبيعة النشأة الاجتماعية .. تعد إحدى مرتكزات العملية التربوية وتحقيقها يعد من أهم مقاصدها ووظائفها ، حيث يحتاج المتعلم في أي فئة عمريه ، أن يتعلم كيف ينبغي له أن يسلك في الحياة وليس فقط عن طريق المعرفة الخلقية وعاداتها عن طريق الممارسة … لما لها من دور هام في توجيه سلوك الفرد والجماعة … وتتميز بسمات وخصائص تحدد الصبغة الاجتماعية العامة للمجتمع وقبوله لها عن طريق التعلم بالملاحظة… وهذا يتعلق ببعدي الزمان والمكان واختلافهما كنسق ذاتي / نسبي من حيث القبول أو الرفض ، ثم هناك الهرمية والقابلية للتغيير المتدرج من حيث الأهمية ، بالإضافة إلى اتصافها من خلال التجربة بقطبين إما خير أو شر، وأخيرا صبغتها القومية والمثالية على اعتبار أنها ليست شئ .. ( صالح ابوجادو ، 1998 ، ص / 233-235) .

 

وما دمنا نستعرض سمات وخصائص القيم لنرى كيف يتعامل العربي معها إلى اليوم ..  فلا يزال في فكره ووجدانه يخضع للتأثير القوي للتراث العربي / الإسلامي … ولا يزال مضطربا في سلوكه ووجدانه بين المفاهيم التي ترتبط بالحياة المعاصرة اليوم .. وبين تلك التي ترجع إلى مفاهيم أخرى ترسبت في لا شعوره الجمعي / العربي عبر الأزمنة والعصور الغابرة .. (غسان سلامة واخرون ، ج/1، 1989 ، ص / 142 ) … ولنأخذ مثلا على ذلك قيمة الحرية ونلاحظ مدى علاقتها بالفوضى ضمن مفهوم إنسان العالم الثالث ومن ضمنه الإنسان العربي .. الذي يعيش في مجتمعات الغرب … الذي يبهره ويثيره ما فيها من حرية … ولكنه لا يقبل تطبيقها … في مجتمعه خشية منها على الجنس أي على (المرأة ) بل وعلى سائر قيمه المتخلفة … ومع هذا…( فالحرية ليست بلا حدود )…بل إن حدودها المسؤولية وحرية الآخرين ...( فهل هكذا يفهمها ويمارسها العربي …؟ ( لا نظن ذلك ) التشديد من عندنا لأن الحرية لا يمكن فهمها إلا من خلال النظام والانتظام ، وإلا أخذت طابع الفوضى والعشوائية وستتعرض حياة الآخرين إلى التجاوز والاعتداء ، وبعكس ذلك فان المجتمع يزداد نظاما وانتظاما .. (عبد العزيز قباني ،1997، ص / 118 ) .

 

يقول المعلم ابن خلدون في مقدمته ص/ 129- 131" في وصف العرب " ان المغلوب مولع ابدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر احواله وعوائده ... وان العرب ى يتغلبون الا على البسائط ... ويحبون السلب والنهب السهل ولا يحبون الزحف والمحاربة ولا يركبون الصعاب  " ...هذا ما ينطبق على المجتمعات العربية من المحيط الى الخليج وخاصة في المجتمع الفلسطيني ( وهو مثال دراسة حالة المجتمعات العربية في المشرق العربي)  خاصة بعد عام 1994 وخاصة فيما يتعلق في نمط تناول الطعام والزي ( الملبس ) والشعر والسلوك العام ( كالمشي ) وحتى في الحديث (عبرية مع انحليزية مشوهة)  وحمل واستخدام السلاح وحتى حفلات الزفاف ( اعراس السبت ) وانتهاءا بالادارة والسلك الوظيفي ..ان هذا السلوك يسمى التماهي او التشبه بالغالب او القوي او المنتصر او المعتدي ( Identification  Aggressor) من حيث السلوك والخصائص والادوات ونمط الاعتداء حيث تنتشر هذه الظاهرة بين الشعوب المستعمرة .

 

لنستعرض بعضا من قيم المجتمع العربي ونرى بعض سماتها التي تتصف .. بالقدرية والأتكالية والقناعة وبالقسمة والنصيب .. (شكور ، 1997، ص / 81 ) والمبالغة والكذب والتلفيق والترقيع والأوهام والخرافة والتبرير المشوه… مثل "( نار جوزي ولا جنة أبوي ) و(حبايب يا مرقة العدس ) و(الخبز الحاف بربي الأكتاف ) و(خليك الحيط الحيط وقول يا الله السلامة) و(شعره من … الخنزير بركة ) و(اربط الحمار مطرح ما بقل لك صاحبه ) و(إن جيت على ناس بتعبد العجل حش وأطعم) و( إن كنت بين العوران اعور عينك ) و(إن انجّنوا جماعتك عقلك ما بنفعك)" (معجم الأمثال الشعبية الفلسطينية ،1989) .

 

ومن سماتها كذلك التمسك بالعادات والتقاليد المتوارثة -على اعتبار أنها أساس حل لكل مشكلة اجتماعية- والعاطفية والترابط وحب المعاشرة ، كانعكاس لأهمية الجماعة على الفرد "والاهتمام بالشكل (الغلاف الخارجي ) .. للمواضيع على حساب المضمون ، والخوف من كلام الناس والمحافظة على شرف العائلة وسمعتها والطاعة واحترام السلطة .. ( شكور ، 1997 ، ص / 82 ) ...حتى أن العربي ينتحر ولا تلوث سمعته  وتسمى سوء السمعة Notoriety )  ( .

 

ومن تجليات تقمّص بعض القيم السلبية في مجتمعنا العربي ولما له من علاقة بالتخلف ، هو ما يتعلق بمستوى السلوك وخاصة ما يتعلق بشريحة أو فئة لبعض المثقفين ( كنموذج ) .. الذين يضطرون إلى الالتزام بنظام اجتماعي من اجل الانتظام والتكيف…( بعد تحرير السلوك للوصول إلى الأمن النفسي )… والذي هو تنازل من الأفراد عن القيم التي لا تأتلف ونظام المجتمع الجديد أو البيئة الجديدة مثلا…( كالجامعة أو السكن في حي راقي )… فالتنازل لا يعني أبدا اقتلاع القيمة المتنافرة ، بل دفعها إلى الوراء… ( إخمادها- (Suppression )… بحيث تكف عن التعبير بالسلوك بمنطق العقل والا بدا (السلوك) نافرا نشازا مصطنعا ( Artificial ) ومستهجنا مما يحط من قيم الذات واعتبارها.. (قباني ،1997 ، ص/ 59 ) .

 

كذلك هناك فوضى من حيث نوعية القيم السائدة وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الموقع الطبقي والقيم في حياة المدينة ، حيث .. تتمسك الطبقات الحاكمة البرجوازية بقيم النجاح والربح والكسب المادي والطموح والتحديث والاقتباس والسفر والاستنفاخInflation )  ) …بالمقابل… نجد أن الطبقات الكادحة تشدد على قيم العلاقات الشخصية في الجيرة والقيم العائلية والصبر والإيمان والاستسلام والأتكالية .. (بركات ، 1996 ، ص /99) .

 

لنستعرض صورة من صور القناعة المبنية على النصيب النابع من الحرمان من خلال مقطع من قصيدة " الكنز" للشاعر محمد صالح المنشورة في ( مجلة العربي / العدد /494 / لسنة / 2000) : -

 

ذات مرة أضعت كنزا

قطعة فضية من فئة القرشين

مستديرة ولامعة

 

لكنها قفزت فجأة

واختفت في ذلك الصدع

( تصور ما هو الكنز الذي أضاعه ؟ ) ثم يقول :-

تنتابني أحيانا أحلام غريبة 

إنني أجد ثروة في المنعطف هناك

حيث أعبر كل يوم

وأتطلع

 

يبدو أن رقما إلى يمينه أربعة أصفار

هو كل ما احتاجه

ما يكفي فقط لأحقق ذلك الحلم

وأكرس الوقت الطويل القليل الباقي

لنفسي

لكنني سأهجر بيتي

وأترك عملي

وأسافر

سوف أغيب طويلا

 

ويقول أحد الباحثين الاجتماعيين حول سر استمرارية الفوضى والأمراض الاجتماعية الأخرى حيث " يتم اكتساب القيم إما عن طريق التفاعل مع أشخاص أو جماعات ، وإما نتيجة الخبرات الفردية السابقة … فالأولى نتيجة لعملية التنشئة التي تعتبر الأهم وخاصة في مرحلة دور الأسرة في التكوين من خلال محافظتها على الثقافة واستمراريتها ، وتشكيلها همزة وصل بين الفرد والمجتمع وإكساب الطفل اللغة والعادات والتقاليد والمعتقدات ومعايير السلوك والنسق القيمي في المجتمع …بالإضافة إلى المؤسسات الاجتماعية الأخرى كالمدرسة والنادي والجمعية ووسائل الإعلام ومؤسسات السلطة الرسمية والأحزاب السياسية ، وأما الثانية…وهي القيم المكتسبة عن طريق الخبرات الفردية السابقة … فهي نتيجة مشاهدة ومعايشة الفرد لطبيعة العلاقات بين الوالدين أو الكبار من أفراد أسرته ومجتمعه " ( شكور ، 1998 ، ص/ 87 ) . 

 

وعلى افتراض أن الفوضى ترسّخت كقيمة اجتماعية فان القيمة نظام وتنميط للحركة وحفز وإلزام للإرادة … وتحديد سلوك ، وهي صفة … تحوز على التقدير والاحترام والإعجاب … أو تحوز على التنفير كالجبن والسرقة ، ولهذا فهي إما حافزة للاتصاف…(للتمسك )… بها وإما صارخة…( منفّرة)… منها… وهي قناة تعبر من خلالها إرادة الحياة إلى الواقع…( كالتنافس والاصطراع والاحتراب )…إشباعا لحاجات الذات المادية والمعنوية ، وتحقيقا لوجودها في أهدافه وغاياته … وهي إيجابية وفقا لمقاييس البيئة ومفاهيمها …(كالتميز والتفرد )…وهي معيار- تقيس به البيئة ذات الفرد - سلوك بقياسها ومقدار تعبيرها عن الدرجة والمرتبة الأخلاقية المجتمعية …فكلما كان معنى…المضمون إيجابا زاد الاحترام والتماهي … وسلبا فتغدو منّفرة … وهي بمثابة الضمير للفرد … تطالبه وتلّح وتدفعه للأمام أو تثبط عزيمته وتهبط به إلى الأسفل ، فتلجئه إلى المخادعة ومن وراء الستار لإقناع الذات بتحقيق مطلبها …لأنها متمكنة منها بفضل البيئة أو بالوعي الثقافي السائد … فالبيئة هي التي تحدد أولويات القيم الجاذبة بإيجابياتها أو سلبياتها … وهي تمييزية حتى لو كان ذلك ينتهك من جوهر الإنسان ، وان عجزت الذات من خلال القيمة عن تحقيق التميز والتفرد لسبب ما فان القيمة تزور(تبتعد) عنها والوسيلة الموصلة بعد ذلك لا تهم … لان البيئة الاجتماعية ( Social Environment ) هي التي تحدد أفضليتها وفقا لمفاهيمها كالجريمة والعنف وحتى ممارسة المهنة .. فان كانت قيم ممارس المهنة سلبية فإنها… تنعكس على تعامله مع المجتمع … حتى الأمراض النفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بقيم المجتمع مثل… العجز والفشل والإحباط والخوف ، أو… حتى الحرية … التي يختلف في مفهومها وتفسيرها سواء من اجل خدمة المصلحة أو تعارضها أو حتى مفهوم الديمقراطية … فالقيمة لا تفن ولا تنعدم … ولكنها تضمر وتنزوي في خلفيات النفس…( اللاوعي)… تنتظر ظروفا ملائمة لتعود إلى النمو الفاعل في الواقع كواقع مجتمعنا العربي .. ( قباني ،1997، ص/61- 68) …إذن والحالة هذه فان الفوضى هي قيمة تماما كغيرها من القيم .

 

ان البناء الاجتماعي يعني طبيعة النسق المعقد للقواعد العلاقات المتبادلة والتصرف والسلوك المتوقع من كل فرد ، والتي تربط بين الاجزاء لتشكل كلا متماسكا وهذا التعريف ينظر للمجتمع على انه :-

1- كائن حي ولا بد من ايجاد حالة من التوازن بين اجزائه واعضائه .

2- على انه يتكون من اجزاء تدخل في تكوين الكل وهو البناء الاجتماعي والاجزاء هم الافراد والكل هو المجتمع .

3- على انه نتيجة التفاعل بين الافراد عن طريق ادائهم لادوارهم في مراكزهم المحددة لهم ضمن البناء الاجتماعي .

 

ان البناء الاجتماعي والحالة هذه يختلف عن التنظيم الاجتماعي ( Social Organization) الذي يعني ترتيب اوجه النشاط ضمن البناء الاجتماعي .. لكن ماذا سيحدث لو هيمن او سيطر احد اوجه او احد انساق التنظيم الاجتماعي ( كالنسق العسكري مثلا ) على بقية انساق البناء الاجتماعي وان افراد هذا النسق المهيمن غير مؤهلين وليست لهم الكفاءة والمؤهلات العلمية والخبرة لادارة بقية انساق البناء الاجتماعي .....؟ ان ذلك يخلق :-

1- عدم الانسجام في نمط العلاقات الاجتماعية ( Social Relatios ) مما يخلق ما يسمى بالصراع ( Conflict ) .

2- تفكك اجزاء البناء الاجتماعي المتشابك .

3- يتصف البناء الاجتماعي في مثل هذه الحالة بالجمود والثبات وهو عكس الاستقرار والاستمرارية .

4- ينتج ما نسميه بفوضى الحراك والتدرج الاجتماعي (Mobility & Social Stratifiction) .

5- واخيرا تأتي النتيجة بما يسمى بالوهن التنظيمي او التفكك الاجتماعي ) Social Disorganization )

يتبع

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ