ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 19/07/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


"يورغن هابرماس":

فيلسوف ألماني، برؤى نقدية عالمية

أ.د. ناصر أحمد سنه*

لم يحظ فيلسوف ألماني معاصرـ ضمن رموز المدرسة الفلسفية الألمانية العريقة ـ بمثل ذلك الاهتمام العالمي الذي حظي به "يورغن هابرماس". هذه إطلاله ـ في ظلال ذكري عيد ميلاده الثمانين ـ علي رؤاه وأفكاره، كعلامة فارقة في الفلسفة النقدية الألمانية، بل والعالمية.

وفق "برهان غليون" هناك عدة عناصر تبرر الاهتمام بفكر "هابرماس" والتعريف به: الطابع التوجيهي الذي تتميز به فلسفته النقدية، وسعيه لربط النظرية بالممارسة، وتطرقه لـ"مفهوم الفضاء العمومي" الذي يُشكل مفتاح الممارسة الديمقراطية في نظره.

فلنحو خمسة عقود..  كان "يورغن هابرماس" Jürgen Habermas (المولود في 18 يونيو 1929 في دوسلدورف، عاصمة ولاية شمال الرين ووستفاليا) رائداً للخطاب الفلسفي النقدي، الاجتماعي منه والسياسي، والصوت الأكثر حضوراً وتأثيراً على الحياة الثقافية الألمانية. فهو يُعد أحد أقطاب حركة الإصلاح الألماني، و"مدرسة فرانكفورت النقدية". وكونه عالم اجتماع وفيلسوفا، سمة ميّزت أسلافه من فلاسفة النظرية النقدية، والذين يستحضر دوماً تراثهم الفلسفي كأساس لكل فلسفة نقدية.. اجتماعية وسياسية ممكنة. وعموماُ يعتبر "هابرماس" نفسه "نتاج إعادة التربية" التي شهدها المجتمع الألماني خلال التطبيق المنهجي لسياسة "إجتثاث النازية" من قبل سلطات الاحتلال بعد استسلام ألمانيا النازية.

التفكير الفلسفيّ: عقلين

يرتبط التفكير الفلسفيّ بعقلين: "نظريّ" يتأمل في العلل والماهيات، وآخر "عمليّ" ينظر في التاريخ والواقع مجتهدا في ابتكار مناهج لتدبيرهما، ووسائل لتطويعهما. ولعل بدايات البحث الفلسفيّ تركّزت، على العقل النظريّ، فإنّ اهتمامه قد تحوّل أكثر إلى العمليّ، مستقرأ التاريخ، مسائلا وباحثا ومنقّبا، غير مكتف بالتفسير بل ساعيا إلى التقويم والتغيير. هذا الأمر هو سمة طابعة للفكر الفلسفي المعاصر، وشاهده "يورغن هابرماس".

"رغم التقدم الذي لا يمكن إنكاره، فمن يتأمل تاريخ البشرية يستبين له تلك الوتيرة المتكررة من "بطش القوة"، وتنامي "صور العنف والحرب"، ويمكن التغلب علي ذلك بـ "التحضر الذاتي/ الاعتراف المتبادل/ جوهر التفاهم والتواصل"، لغة البشرية والإنسانية، التي تكسر حالة الحرب التي يعيشها العالم". يبدو أن هذا هو الدافع الرئيس الذي يقف خلف أفكار "يورغن".

نراه يبرز ويناقش وينتقد أهم المحاور التي تهم الإنسان الحديث مثل: دور الفرد وآليات السيطرة، وأزمة الفرد و"وهم حرية ما بعد الحداثة"، و"كيفية التحرر من قبضة المؤسسات التي تمسخ الروح والجوهر الإنساني"،إلا أن "أطروحته الفلسفية المعروفة "بالخطاب النقدي الخالي من الهيمنة" تبقي الأكثر تأثيراً.  فـ"هابرماس" يشدد على أن الفعل التواصلي الديمقراطي "المستند علي إجماع" لا يستطيع أن يحصل على مشروعية حقيقية قائمة على سلطة العقل إلا في إطار خطاب نقدي خال "القيود السلطوية".

  

"هابرماس": "الحداثة مشروع لم ينته بعد، لأنه لم يتجسّد قطّ".

يعتقد "هابرماس" بوجود فرصة دائمة لإنقاذ "ما في التنوير من عقلانية" ويتحرر من التذبذب بين التفاؤل والتشاؤم، ويركز جل تفكيره على تحليل الفعل والبني الاجتماعية. وهو يدافع بشدة عن مشروعه" إعادة بناء تقليد التنوير الحديث"، ضد نقاد الحداثة الذين يعتبرهم من أعداء الحداثة لما في وجهات نظرهم من تضمينات رجعية. ويحتج على تشخيص هوركهايمر، وأدورنو، ونيتشه، وهايدغر، وفوكو، ودريدا وغيرهم. فهو يرى أن ما أنجزه فلاسفة القرن الثامن عشر هو محاولة رائدة منهم لتطوير العلم الموضوعي، والأخلاق الكونية، والقانون الكوني، والفن المستقل، وذلك بحسب المنطق الداخلي لكل من هذه المجالات: "حاولت هذه الجماعة من مفكري الحداثة الأبكار ترتيب الحياة الاجتماعية اليومية عقلانياً". ويبدو أن "هابرماس" لديه استعداداً كبيراً للدفاع عن تراث الحداثة الأوروبية، فهو المنافح الأول عن التراث العقلاني للتنوير، بالأخص عن فكرتي العقل والأخلاق الكليين. أما حجته في ذلك فهي أن مشروع الحداثة لم يفشل بل بالأحرى لم يتجسد أبدا ،ولذا، فالحداثة لم تنته بعد. رغم أنه تلميذ" أدورنو" الذي أعمل في هذا التراث آلة الشك.

هذا الموقف يضعه في اتجاه معارض مع أسلافه، إلا أن موقفه يتضمن الإصرار على جدل التنوير، أي أن عملية التنوير لها جانبان: يتضمن أحدهما فكر البناء الهرمي والاستبعاد، في حين يحمل الجانب الآخر إمكانية إقامة مجتمع حر يسعد به الجميع على الأقل. إن "نظرية ما بعد الحداثة" تفتقد حسب "هابرماس" إلى هذا العنصر الأخير. مع مساهمته في بيان ميكانيزمات الهيمنة في المجتمع الحديث يتمسك "يورغن" بالتقليد الفلسفي الكلاسيكي وعقلانية التنوير. بذل "يورغن" جهداً مكثفاً في تقصي فكر التنوير وتراثه من خلال تحليل نقدي لواقعه، وأمراضه، وفرصه المستقبلية. عليه، يقف "يورغن" تقريباً وحيداً في معارضة التيار الغالب في الفكر الفلسفي المعاصر: أتباع نيتشه الجدد من مفكري "ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية".

عند هؤلاء التنوير محض "حكاية زائفة كبرى للتقدم والحرية"، لا تجدي معها محاولات الإنقاذ، ولا بد للعقلانية الأوروبية أن تعلن إفلاسها. أما "هابرماس" فيعتبر أن الانتقادات الموجهة لمشروع التنوير من هذا المعسكر لا تقف على أرضية يعتد بها، وربما (عدمية). في سياق حوار لم يدم طويلاً مع "ميشيل فوكو" الذي اتهمه "هابرماس" "باللاعقلانية" ما دام قد أعجزه  شرح المقاييس التي يعتبرها "يورغن" ضمنية في أي إدانة للحاضر. أما وسيلته إلى إعادة بناء الحداثة فتتمثل في نظريته (العقل الاتصالي)، وتواجهه في هذا الخصوص: "إشكالية التفوق على تشاؤم الحداثة المتأخرة الذي انغمس فيه رواد مدرسة فرانكفورت (هوركهايمر وأدورنو)"، وذلك بتجاوز "محنة العقل المتمحور حول الذات" إلي نموذج (العقل الاتصالي).. أساسا وهيكلاَ مشتركاً لأخلاقيات الخطاب، وليس في العقل البحت.

نحو فكر عالمي لا يعرف "النمطية"

 يعتقد "هابرماس" ـ فيما يتعلق بالعلاقات المتبادلة بين الثقافات، أن الأفضل هو إنشاء اطر مؤسساتية تهدف إلى المواكبة الرسمية لأشكال الحوار التوافقي البناء والمثمر. لكن هذه اللقاءات الرسمية ـ ومهما بلغت أهمية الحوار الثقافي المتبادل على مختلف المستويات حول التفسير المختلف عليه لحقوق الإنسان ـ فإنه لا يمكنها لوحدها وقف آلية إنتاج "الأفكار النمطية المهيمنة" على التواصل بين ثقافات عصر العولمة.

لذا نراه يشير إلى أنه: "لا يمكن الوصول إلى انفتاح للذهنية إلا عبر تحرير العلاقات والتعاطي الموضوعي مع الإشكاليات المقلقة، وفي الممارسة اليومية للتواصل يجب العمل على بناء متواصل للثقة. وهذا ضروري كمقدمة من اجل إن تترجم هذه الشروح العقلانية على قياس كبير في وسائل الإعلام والمدارس وضمن العائلة. كذلك فان التصور المعياري الذي نملكه عن أنفسنا تجاه الثقافات الأخرى هو أيضا عنصر مهم في هذا الإطار. وإذا سعى الغرب إلى إعادة النظر في صورته عن نفسه، فإنه يمكنه مثلا أن يعرف النقاط الذي يجب عليه تعديلها في سياسته كي ينظر إليها على أنها تجسد مقاربة حضارية. وإذا لم تتم السيطرة السياسية على الرأسمالية التي لا تعرف الأخلاقيات والحدود، فسيكون من المستحيل وقف مسيرة الاقتصاد العالمي التدميرية".

من مترجمات "هابرماس": المعرفة والمصلحة، العلم والتقنية كـ"أيديولوجيا، و"الحداثة وخطابها السياسي"، و"الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي".

 

"هابرماس" و"نظرية التواصل/الاتصال"

تشغل (القوة) موقعاً أساسا في تصور "هابرماس" للعقل الاتصالي، ولذا فهو يحاول مقاربة القضايا التالية: مفهوم ذو معنى للعقل الاتصالي؛ مفهوم للنظام الاجتماعي؛ نظرية ملائمة للعقلانية؛ تشخيص المجتمع الحاضر. يعرف هابرماس (العقل الاتصالي) بأنه: عملية دائرية للفاعل المدشن المتحكم في مواقفه عبر فعالية هو عنها مسئول؛ والمفعول به المتأثر بالإزاحات من حوله باعتباره نتاج مجموعات ينتمي إليها ويتوقف تماسكها الاجتماعي على خاصة التضامن الجمعي. ثم باعتباره خاضعاً لعمليات الإدماج الاجتماعي التي من خلالها نشأ وترعرع. ويخُلص لوجود لحظة (عقلانية اتصالية) غير قابلة للإهلاك في صلب التشكيل الاجتماعي لحياة الإنسان.

فانطلاقا من عالم أفكار فلسفة الوجود لدى "هايدينغر"، ومن عالم أصول وتطور الإنسان لدى "غيلين"، كتب هابرماس رسالة الدكتوراه حول "شيلينغ"، وأثار الاهتمام بقيمة أفكاره. وقد قام ببناء جسر تواصل مع كتابات ماركس المبكرة، لأن انتقادات ماركس للمجتمع وفرت له إمكانية دعم فكرة شيلينغ حول "المعصية" وتوضيحها بشكل في غاية المادية. فهي تحدث عندما تنتصر مقاييس القوة على مقاييس اللغة، عندما لا تختار "المخلوقات التي تتمتع بالحرية" التفاهم، وإنما تلجأ بدلا من ذلك إلى العنف، كما كان الحال في مراحل عديدة من تاريخ البشرية>

في فلسفة اللغة سعي لإثبات أنها ليست مجرد سلاح لحرب كلامية عبثية تعم المجتمع لا يفهم فيها أحد الآخر، أو أنها قناع يخفي وراء القوة. فمن خلال الكلمات يمكن للإنسان نشر أكاذيب وممارسة القوة والسلطة: ولكن اللغة التي تقوم فقط على الكذب والخداع لا وجود لها إطلاقا:"حتى في التواصل المشوه البنيان، تختفي نواة الحقيقة".

ويذهب "هابرماس" إلى أن العمل ليس وحده ما يميز البشر عن الحيوانات، بل واللغة أيضاً، فالعمل يؤدي إلى ظهور المصلحة التقنية، وهي المتمثلة في السيطرة على العمليات الطبيعية واستغلالها لمصلحتنا. وتؤدي اللغة، وهي الوسيلة الأخرى التي يحوّل بواسطتها البشر بيئتهم إلى ظهور ما يدعوه "يورغن" "المصلحة العملية" وهذه بدورها تؤدي إلى ظهور العلوم التأويلية. ويذهب "يورغن" إلى أن المصلحة العملية تفضي إلى نوع ثالث من المصلحة وهي مصلحة التحرر، وهذه الأخيرة تسعى لتخليص التفاعل والتواصل في العناصر التي تشوهها عن طريق إصلاحها ومصلحة الانعتاق والتحرر تؤدي إلى ظهور العلوم النقدية.

وكتاباته هاهنا تدعو إلى ضرورة التحرر مما يدعوه "بفلسفة الوعي" تلكم الفلسفة التي ترى العلاقة بين اللغة والفعل كالعلاقة بين الذات والموضوع (أي التحرر من منظومة الفكر التجريبي). وثمة صورتين للفعل: الفعل الاستراتيجي، وفعل التواصل، فالأول يتضمن الفعل الغائي العقلاني، والأخير هو ذلك الفعل الذي يرمي للوصول إلى الفهم. ويترتب على فعل التواصل عدة أمور منها أن: العقلانية موجودة في لغتنا ذاتها، إن هذه العقلانية تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً لا يستبعد أحداً. كذلك ثمة نظام أخلاقي ضمني "الأخلاق الكلية" لا يتوجه إلى تحليل مضمون المعايير بقدر توجهه إلى طريقة التوصل إليها، عبر نقاش حر عقلاني.

 

"هابرماس".. و"الرأسمالية".

في نظر "هابرماس"  يعتبر "ماركس" أكبر داعية وناصر للتقنية،  كوسيلة لتحرير الإنسان من الإمراض الفاتكة والأوبئة.. الخ، فإنه أشار في مواطن متعددة إلى الأخطار التي تحدق بالطبيعة من جراء الاستغلال التقني الارعن لمواردها ، ويقول :"إن كل تقدم في فن الزراعة الرأسمالية ليس فقط تقدماً في نهب الأرض ، فكل تقدم في زيادة خصوبة الأرض لوقت محدود من الزمن هو تقدم في تخريب الموارد الدائمة لهذه الخصوبة «.. يفهم هابرماس العمل  كـ « نشاط عقلاني موجٌَه   لهدف وغاية « وهو ينقسم بدوره إلى نوعين : فعل أداتي يخضع لقواعد تقانية واختيار عقلاني ينتظم وفقاً لإستراتيجيات قائمة على معرفة تحليلية..

يشخص هابرماس الحداثة الأوروبية في ضوء "ماكس فيبر" بأنها: عقلانية أداتية تجلت في ازدياد الحسابية والبحث عن الربح والسيطرة المنظمة على كل جوانب الحياة الإنسانية على أساس قواعد قللت  من الاعتماد على القيم التقليدية المتوارثة.

 

مع فيبر، ضد فيبر

يذهب بعض الدارسين إلى أن لا إمكان للحديث عن مفهوم الحداثة عند هابرماس دون العودة إلى ماكس فيبر، من حيث أن فيبر هو ، وبتعريفه، "جرّاح" العصر الحديث الذي شرح مستندات الحداثة الشرعية والسياسية وحدد بدقة نوع الاختيارات الفلسفية والأخلاقية التي تأسست عليها، إنه العالم الذي استطاع أن "يلم شتات التصورات الفلسفية عن العصر الحديث في إطار نظري معرفي جامع". لهذا السبب كان من المتعذر فهم الحداثة عند هابرماس ما لم نفهم أن فيبر هو محاوره الخفي فيها، فكل جهد الرجل الفلسفي، في الحقيقة، هو محاولة في الإجابة عن الأسئلة المقلقة الحرجة التي وضعها فيبر على الحداثة، أسئلة من مثل:

كيف يمكن أن نعوض الفراغ الذي خلفه خسوف المؤسسات التقليدية في عصر الحداثة؟ كيف نؤسس لإمكانات أخرى في الإسناد، دون السقوط في النزعات الكليانية أو العدمية الأخلاقية؟ كيف نحرر العقل من سمته "القمعية" الغائية، وهي السمة التي تعد عند فيبر الماهية الثابتة للعقل الحديث ؟كيف تكون الديمقراطية ممكنة بعد أن قطع البحث السوسيولوجي بأنها مستحيلة، وأن قدر المجتمع الحديث أن يحكم من طرف نخبة "امتيازية" متسلطة؟

تفكير هابرماس في الحداثة إذن لا يفهم إلا بربطه بفيبر، وهذا ما ينبغي استحضاره عند قراءته، وهذا ما يبرر أيضا كون الرجل، وفي مناسبات عدة، يفتتح تناوله لقضاياه بعرض تصور فيبر عنها قبل أن يتحول لنقدها. من أهم عناصر حضور فيبر في فكر هابرماس مفهومه عن العقل، فالعقل عنده، كما عند فيبر، هو جوهر الحداثة نفسها، فالحداثة والعقل مفهومان متماهيان، فسيرورة الحداثة هي سيرورة العقلنة، والتجسيد التاريخي للعقل لم يكن ليحصل إلا مع مقدم أنوار العصر الحديث، وهذا هو ما يجعل هابرماس يرادف، في مناسبات عدة، بين المفهومين، فمن أسماء الحداثة عنده "العقلانية"، ولو أنها عقلانية مخصوصة مقيدة. ومن نقائض الحداثة عنده "اللاعقلانية"، إذ عند هابرماس، وعلى النقيض من مجموعة من التيارات الفلسفية الأخرى، لا إمكان مطلقا للتوفيق بين العقل الأنواري وأضداده، تحت أي مسمى كان هذا الضد.

تعني العقلانية عند هابرماس أمرين اثنين : المنافحة عن العقل باعتباره الملاذ، مع الوعي بضرورة تجديده، وذلك بنقل عنصر الثقل فيه من المسلك الأداتي إلى الحوارية التواصلية القائمة على النقد؛ ثم بالبحث في هذا العقل ذاته عن عناصر تمكننا من لحم التمزقات التي خلقتها الحداثة على مستوى المشروعية السياسية والأخلاقية، وذلك باجتراح أسس منه تكون كونية ومتعالية في طبيعتها  .غير أن فهم هذا الشق "التأسيسي" في فكر الرجل (التأسيس لنظرية في التواصل باعتماد مبادئ العقل الأنواري بقصد خلق مجال عمومي يشتق شرعي (لا يتأتى ما لم نستحضر الشق الآخر "النقدي" فيه (النقاشات التي فتحها مع ما يسميه هو إجمالا "بالنزعات اللاعقلانية.

واللاعقلانية عند هابرماس هي وصف ينطبق عنده على كل النزعات الفلسفية والسياسية التي تناهض الحداثة، إما في صورتها الوضعية، والتي تجسدت في النزعات التي تستبعد كل الأبعاد النقدية في العقل الأنواري وذلك بالتركيز وعلى بعده الأداتي "تقني" أو في صورة نزعات "نسبية" وشكية ترفض عقل الأنوار برمته. تسقط النزعة الأولى (الوضعية) فيما يسميه هابرماس بـ "التعطيل"، إذ أنها تحول العقل من قوة تشريعية وطاقة ثورية، إلى مجرد حساب وتطبيق باسم "منطق الأشياء"، وباسم "الموضوعية" التي تحددها "الحواسيب"وتسقط النزعة الثانية (الشكية) في التناقض، لأنها تدعو إلى نبذ العقل الحداثي الذي هو من منظورها "قمعي" في جوهره، ودليلها في ذلك ما انتهى إليه القرن العشرون من كوارث، ولكنها تتناسى، من منظور هابرماس، أنها تعتمد العقل ذاته في نقد هذا العقل "القمعي"، وأنها بانتصارها للاعقل، تفتح باب القمع والتطرف على مصراعيه، فالقمع والتطرف لا يحضران إلا حيث يغيب نور العقل.

العقل إذن عنده هو العمدة، وأساس النظرية الاجتماعية (مجتمع التواصل) والسياسية (الديمقراطية الحوارية)؛ وهو السلاح الأقوى في مواجهة النزعات اللاعقلانية، فلسفية كانت أو علموية. والحقيقة أن هذا الإيمان العميق بالعقل لا يفتر عن الرجل قط، بل نحن نجده يزداد مع تقدم مشروعه، وهذا ما يتبدى بوضوح في أعماله المتأخرة. ومحاولاته الجريئة لتأسيس عقل عملي معاصر، يكون أساسا "أخلاقيا" يحكم العملية التواصلية في المجتمع. ولعل هذا الطموح المعلن هو الذي دفع بعض الدارسين إلى نعته بـ"المثالية"و بـ"الكانطي الجديد" التي تعود أصول فلسفته إلى الميتافيزيقا الألمانية.

 

إعادة بناء العلوم

يقدّم هابرماس مفهوم “ إعادة بناء العلوم ” Reconstructive science لهدف مزدوج: لوضع "نظرية عامة للمجتمع" بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ولرأب الصدع الحاصل بين "التنظير و البحث الميداني". يميّز هابرماس في كتابه "المعرفة والمصلحة" بين أصناف من المعارف تقابلها أنواع من المصالح: أوّلها المعرفة العلمية التجريبية التحليلية (العلوم الرياضية والفيزيائية وتطبيقاتها)، وتمثل العلوم ذات البعد المصلحي التقني، وهدفها السيطرة على الطبيعة لصالح حاجات الإنسان، وعمادها في ذلك العقل الأداتي. ثانيها المعارف العملية، ممثلة في العلوم التاريخية والتأويلية (كل العلوم التي تحقق التفاعل البشري، علوم اللغة مثلا)، والتي تكون غايتها تحقيق التواصل والتفاعل بين الناس في إطار عمومي، وعمادها العقل التواصلي. وثالثها المعارف التحريرية (العلوم الاجتماعية والفلسفة)، والتي هدفها تمكين الناس من التحكم في دواليب السلطة والمجتمع وتحريرهم من الاستلاب بمعناه العام، وعمادها العقل النقدي، إذ النقد هو أفق الفكر.

 

حوار مع بابا الفاتيكان "بنيديكت" السّادس عشر 

في أوائل 2007، صحيفة إجناتيوس Ignatius نشرت حوارا بين هابرماس وبابا الفاتيكان "بنيديكت" السادس عشر، عنون بـ"جدلية العلمانية" عالج الأسئلة المعاصرة المهمة من مثل: هل الثقافة العامّة للمنطق والحرية المنظمة ممكنة في عصر ما بعد الميتافيزيقا؟ هل هذا الانحراف عن العقلانية يشير إلى أزمة عميقة للدين نفسه؟ في هذا النقاش، التغيير الأخير لهابرماس أصبح واضحاً. بشكل خاص التفكير ثانية بالدور العام للدين. تصريحات لعلماني صرف نصف قرن وهو يجادل ضد الحجّة الأخلاقية للدين، بعض تصريحاته كانت مدهشة، في مقالة 2004 المعنونة ب "عصر التحول" كرر:المسيحية، ولا شيء ما عدا ذلك، المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. إلى يومنا هذا، نحن ليس لدينا خيارات أخرى. نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر. كل شيء آخر ثرثرة ما بعد الحداثة"!!.

 

لمحة عن "يورغن هابرماس"

درس الفلسفة وعلم النفس وعلوم اللغة الألمانية والاقتصاد في مدن: غوتنغن، وزيوريخ، وبون.  في عام 1956 عمل هابرماس كمساعد أبحاث في معهد الأبحاث الاجتماعية بفرانكفورت. وبعد حصوله علي الدكتوراه بإشراف "فولفغانغ أبندورت" في "ماغدبورغ" دعاه هانس غيورغ غادامر إلى العمل معه في جامعة هايدلبيرغ. في 1964 أصبح بروفيسور في الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة فرانكفورت. بين 1971 ـ 1980 كان مديرا لمعهد ماكس بلانك لأبحاث ظروف حياة العالم العلمي التقني في ستارنبيرغ. ومن خلال الكلمة التي ألقاها لمناسبة حصوله على جائزة" أردونو" في العام 1980 حول "مشروع الحداثة غير المكتمل". أثار تدخله ضد مراجعة التاريخ للمؤرخ إرنست نولته في عام 1985 شجارا حادا بين المؤرخين، شكل جبهات متضاربة حول التعامل مع التاريخ الألماني.

 

الأعمال الرئيسية:

التحولات البنيوية للأوضاع الاجتماعية (1962النظرية والممارسة (1963(، منطق العلوم الاجتماعية (1967(، نحو مجتمع عقلاني (1967(، التكنولوجيا والعلم كإيديولوجية (1968)، المعرفة والمصالح البشرية (1968(، الهوية الاجتماعية"(1974)، التواصل وتطور المجتمع (1976)، براجماتيات التفاعل الاجتماعي (1976)، نظرية الفعل الصريحة (1981)، الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي (1983)، لمحات فلسفية - سياسية (1983)، الخطاب الفلسفي للحداثة (1985)، المحافظيّة الجديدة (1985)، تفكير ما بعد الميتافيزيقا (1988)، التبرير والتطبيق (1991)، بين الحقائق والمعايير: مساهمات لنظرية جدل القانون والديمقراطية (1992)، براجماتيات التواصل (1992)، تضمين الآخرين (1996)، جمهورية برلين (1997)، مجموعة مقابلات مع هابرماس، العقلانية والدين (1998)، الحقيقة والتبرير (1998)، مستقبل الطبيعة البشرية (2003)، أوروبا القديمة، أوروبا الجديدة، قلب أوروبا (2005)، الغرب المنقسم (2006)، جدل العلمانية (2007(.

 

 صفوة القول: على الرغم من الثقل العلمي لأفكار الرعيل الأول: (هوركهيمر، أدورنو، ماركوزه، إريك فروم...الخ). ومع فرادته وتميزه إلا أن تأثير رواد مدرسة فرانكفورت الذين اضطروا إلى الرحيل إلى الولايات المتحدة الأميركية فرارا من براثن النازية (1934- 1950) يبقي محورياً فيما يتعلق بنظرته النقدية التي تعتبر:"الدفاع العقلاني عن قيم وإنجازات عصر التنوير وتحرير الذات الآدمية من العصبية القومية والتطرف والتعصب". لقد نذر "هابرماس" نفسه للدعوة للحرية، والديمقراطية ودولة القانون، وحلم بدافع رومانسي يتجلى في المحبة والتفاهم، وبقي متحفظا تجاه الدعاوي: إلى خلاص العالم على طريقة السوق، و"عقلانية" الاعتماد على الحظ، و"حرية فارغة، وتقدم لا جدوى منه". لقد سعي لـ "تصالح الحداثة المتداعية من الداخل"، حيث يتم التوازن من جديد بين الرأسمالية والديمقراطية، بين العلوم والفن... بل يبدو الأمر وكأن "يورغن" قد وحد الجمهورية من خلال الخلاف الذي أثاره،  والذي غير من خلاله مبرراته ومبررات أعدائه على حد سواء. لقد صنع حقبة من التاريخ بإدراكه الشمولي: لا أحد يؤثر في الفلسفة الفكرية في ألمانيا كما يؤثر هو، بل ويعود له الفضل حتى في إعادة إرساء أسسها الأخلاقية.

ويبقي "يورغن هابرماس" هو الفيلسوف الذي فرض نفسه على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في ألمانيا كـ"فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدةوفق وصف وزير الخارجية الألماني "يوشكا فيشر".

 

هوامش ومراجع:

- انظر العدد الرابع من مجلة ألمانيا Magazin-deutschland.de  الصادرة في أغسطس 2009م. كذلك عدد من المواقع الإلكترونية ذات الصلة.

ــــــــــــــــــ

كاتب وأكاديمي مصري*

nasenna62@hotmail.com

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ