ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
حتى
نتجنب عودة حزب الشيخ "عليش"
وتابعه "الشربتلي" بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله* كان
الأمام محمد عبده يقول : إنني
قبل أن أكتب , أتوضأ ، و أصلي
ركعتين لله ، ثم أدعوه أن يجعل
كلامي مفيداً للناس ، صادقاً في
كل حروفه . لقد كان
يؤمن بأن الكلمة أمانة ، وصدقها
أمر واجب ، وأن الكلمة يجب أن
تكون طيبة في كل الأحوال ، كلمة
كالشجرة الطيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها
بإذن ربها في كل حين ، في نفس
الوقت الذي كان لا يتعامل بأي
حال من الأحوال مع الكلمة
الخبيثة التي لا أصل لها ولا فرع
، تؤذي صاحبها أول ما تؤذي ،
وتجتث بسهولة من فوق الأرض ، فما
لها من قرار .. والإمام
/ محمد عبده عمل بالصحافة ، وكان
يؤمن بأنها تعيش بالكلمة
الصادقة ، لأنها منبر للفكر
الحر ، والنقد النزيه المجرد من
الأغراض ، والذي يجب أن يكون
للتوجيه والإرشاد والبناء ،
وبالطبع لن يكون النقد بناءً
إلا بالكلمة الطيبة الصادقة . وعلى
أيام الأستاذ الإمام ، وفي
القاهرة ، كانت تعرف جريدة من
الصحف الصفراء ، والتي انتشرت
عندنا الآن ، الصحيفة اسمها (النهج
القويم) !!! يحررها
رجل اسمه الشيخ / محمد الشربتلي
، عرف بدأبه على ابتزاز المال عن
طريق التهديد بنشر الأكاذيب
والتشنيع على بعض الشخصيات أو
عباد الله المغلوبين على أمرهم
، ويبدو أن هذه النوعية من
المرتزقة من هذا العمل المشين
تعيش بيننا حتى يومنا هذا . بل أن
الشيخ / الشربتلي أشتهر
بالتجارة في الصحف الصفراء التي
تشبه صحيفته ، ولكن أصحابها
يعجزون عن تحريرها ، وقد اتخذ
هذا المحرر الذي هو دائماً تحت
الطلب ، اتخذ من مقهى البرلمان
في ميدان العتبة الخضراء بوسط
القاهرة مقراً لبيع وتوريد
المقالات التي يضعها في جيب
قفطانه ، وقد حدد لها سعراً
موحداً للمقالة وهو ريال ! (عشرون
قرشاً مصرياً فقط لا غير) . وكان من
أشهر أكاذيبه التي تندر بها
الناس في الجيل الماضي ، أنه وصف
قيام حريق هائل في أحد الأحياء ،
وبعد أن أتم وصفه البليغ للحريق
في صفحات عديدة ، كتب في النهاية
سطراً واحداً قال فيه : (وقد
جاءنا بعد كتابة هذا المقال أن
هذه الأخبار لا أساس لها من
الصحة ) !! وداء (الفبركة)
هذا داء عضال ليس في الشيخ /
الشربتلي فقط بل أنه مازال
مستشرياً لدينا ، المهم في
الأمر أن الشربتلي تمادى في
أكاذيبه حتى وقع في يد الأستاذ
الإمام / محمد عبده ، ونشر في
جريدته الصفراء أن الشيخ / محمد
عبده ينكر وحدانية الله !! فاهتز
الرأي العام في مصر اهتزازاً
شديداً ، وقامت قيامة الدنيا ،
وأوشكت أن تحدث فتنة عظيمة لأن
هذا الاتهام الخطير كان لأكبر
شخصية إسلامية في العصر الحديث
، وكان عملاً مذهلاً لا يصدقه أي
عقل أو أي منطق ، وليس في
استطاعتنا وصفه بأي لفظ . كان
محمد عبده ، ومن قبله أستاذه (الثائر
الأعظم ) جمال الدين الأفغاني
يتعرضان لهجوم بعض مشايخ الأزهر
الجامدين المتشددين بسبب
دعوتهما إلى التجديد والإصلاح ،
وكانت الإشاعات تتناثر في
القاهرة حول تصرفات الشيخين ،
وقد تزعم هذه الحركة عالم مغربي
من أساتذة الأزهر اسمه الشيخ /
عليش . والشيخ
/ عليش لا نعلم شيئاً عنه أكثر من
أنه رجل جاء من المغرب وجاور
بالأزهر ، وعرف عنه التشدد
والتعصب ، كما أنه كان عصبي
المزاج ، فيه حدة وغلظة ، يرفض
الحوار أو النقاش بالتي هي أحسن
، ويحرض المشايخ والمجاورين على
العراك واستخدام (المراكيب)
للضرب داخل صحن الأزهر ، وقد كان
(المركوب) هو سلاحهم الأساسي في
العراك . وهذه
الشائعات تتردد في كل عصر ، فكم
شائعة أطلقوها على المرحوم
الشيخ / أحمد حسن الباقوري ،
قائلين أنه كان يصنع جبته
وقفطانه من أفخر الأقمشة ،
ويتعطر بأفخر العطور !! ، وقالوا
عن المرحوم الشيخ / محمد متولي
الشعراوي أنه كان يأكل "الكباب"
و "الكفتة" في أحد المحلات
الموجودة بشارع القصر العيني
غرب القاهرة !! وكأن
اتخاذ الزينة ، وأكل اللحوم
جريمة شنعاء لا يصح أن يضبط أي
شيخ متلبساً بتعاطيها ، وقالوا
وقالوا وقالوا ، ويبدو أن الناس
تموت إذا لم تقل ، وإذا لم تجد ما
تقوله تطلق الأكاذيب والشائعات
، لتلف وتلف ثم تعود إليهم
ليصدقوها هم !! نعود
إلى الشيخ / عليش الذي كان
منهلاً غير عذب بالمرة للشائعات
والأقاويل ، وكان يشيع عن
الأفغاني ومحمد عبده الشائعات
التي تروج في مقاهي القاهرة ،
ويتناقلها الناس بين مصدق ومكذب
، وكانت هذه الشائعات المغرضة
الكاذبة تحدث بلبلة في عقول
العامة ، ومازالت هذه الظاهرة
غير الحميدة منتشرة في تجمعات
المثقفين أو من يسموا بهذا
الاسم في أيامنا ، وقانا الله
جميعاً شر ذلك . قال
الشيخ / عليش ذات مرة أن الشيخ /
جمال الدين الأفغاني يجلس في
مشارب البيرة بحي الأزبكية ،
ويجالس النساء السافرات
الفاجرات ! والحقيقة
أن الأفغاني في بعض الأمسيات
كان يضيق صدره ، فيترك مقعده
الشهير في مقهى (البوستة) بميدان
العتبة ، ويأخذ عصاه في يده
ويتجول حول حديقة الأزبكية ،
وتقوده قدماه أحياناً إلى حي
الملاهي حيث توجد صالات الرقص
والغناء ومشارب البيرة ، وغيرها
من الأماكن التي كانت في هذا
الحي ، وبالطبع دون أن يدخلها . وفي
إحدى جولات الشيخ لاستنشاق
الهواء في جو الصيف الخانق شاهد
امرأة رائعة الجمال تجلس أمام
منضدة عند باب مشرب من مشارب
البيرة ، فلمعت عيناه وشع منهما
اللهب ، فقد وضعت المرأة أمامها
قدحاً من البيرة ، وعلى طرف
منضدتها كرسي خال ، فجلس
الأفغاني عليه . وعجبت
المرأة من جلوس هذا الشيخ
المعمم أمامها فسألته إذا كان
يحب شرب قدح من البيرة (كانت هذه
المرأة صاحبة هذا المكان) ،
ولكنه لم يجب ، بل سلط عليها
عيناه فخفضت رأسها خوفاً ورعباً
، ثم أشار إلى ذراعها اليمنى
قائلاً لها : حرام أن يشوى هذا
الذراع الجميل في النار ! ، ثم
أشار إلى كفها وقال لها : حرام أن
تحرق هذه الكف الجميلة في النار
! ، ونظر إلى وجهها الناصع ، وهو
يقول لها : حرام أن يصبح هذا
الوجه الناصع الرائع في نار
وقودها الناس والحجارة ! فألقت
المرأة كوب البيرة على الأرض
محطمة إياه ، ثم هبت واقفة ، وهي
تصرخ في كل من حولها طاردة كل
رواد مشرب البيرة ، وأخرجت
عمالها من المكان ، وأغلقت
الباب بيديها ، وهي تقول
للأفغاني : لقد تبت على يديك
أيها الشيخ الصالح . وأخذ
الأفغاني عصاه ، وعاد إلى كرسيه
في مقهى البوستة ليعقد ندوته
المسائية كالمعتاد . ولكن
الشيخ / عليش قال : إن الأفغاني
يرتاد مشارب البيرة في مواخير
الأزبكية ، ويجالس النساء
الفاسدات ، وقد شوهد هناك ! وفي
أيامنا هذه جاء من يردد هذا
الكلام من جديد ، ويتهم
الأفغاني بأنه كان يشرب الخمر ،
وأنه فاسق مرتد ، وعميل خائن ،
كما قالوا عن محمد عبده أنه كافر
، بل أنهم صادروا أعماله التي
دافعت عن الإسلام دين العلم
والمدنية والحرية والاستنارة ..
وكأن الشيخ / عليش قد عاد من جديد
.. ولكن الأمر الخطير أن نسخ
عديدة من الشيخ عليش قد شاعت
وانتشرت ، هؤلاء الذين لا
يعجبهم العجب ، ولا حتى الصيام
في شهر رجب ، الذين يلعبون هذه
اللعبة من أجل مصالح أضحت
معروفة ومفهومة . أما
الأمام / محمد عبده فقد جاءت
إليه ذات يوم امرأة فرنسية
سافرة الوجه ، وسألت عنه في
الأزهر ، كي تستفسر منه عن بعض
الأمور حيث كانت تعد دراسة عن
الإسلام ، وهذا ـ في رأي حزب
الشيخ / عليش ـ فجور ما بعده فجور
! كما أن (
محمد عبده ) شوهد ذات يوم سائراً
على قدميه في شارع الموسكي
القريب من الأزهر ، وقد اشترى (باكو
بسكويت) ، وكان يأكل البسكويت
على قارعة الطريق جهاراً عياناً
، والبسكويت من طعام الفرنجة ،
وهذا يتنافى مع الشريعة ، ومع
وقار العلماء ! (وفقاً لرأي حزب
الشيخ / عليش وأتباعه) . وأضاف
نفس الحزب : أن ( محمد عبده ) يضع
في قدميه الأحذية الحديثة ، ولا
يضع قدميه في المركوب الأصفر
الذي كان يتميز به علماء الأزهر
في هذا العصر ! كانت كل
هذه الاتهامات التافهة التي لا
علاقة لها بجوهر الدين ، وبأُسس
العقيدة الإسلامية السمحاء ،
والتي كان يوجهها عليش وأمثاله
، هذه الاتهامات كانت تثير بعض
المشايخ والمجاورين أي طلاب
العلم في الأزهر ، أضف إلى ذلك
أنه كان يقصد بها إثارة الناس
العاديين ضد الأستاذ الإمام ،
ولكن جماهير المسلمين من الخاصة
والعامة ، أحبت الشيخ ووضعته في
العقول والقلوب ، لذلك لم
تتعاطف مع حزب عليش وأمثاله ،
فقد ظلت دائرة هؤلاء محصورة في
حيز ضيق خارج صحن الجامع الأزهر
حيث تدور المعارك بين المؤيدين
والمعارضين بالمراكيب ، وهي
السلاح الأزهري الشهير في
الأجيال الماضية . كانت
هيبة الأستاذ الإمام / محمد عبده
ووقاره تكفي لإحباط كل الشائعات
التي تثار من حوله ، كما كان
التحدي بين الأستاذ الإمام
وخصومه من بعض علماء الأزهر يتم
دائماً بانتصاره الساحق الماحق
على خصومه الذين كانوا أقل منه
كثيراً في العلم والمعرفة ،
فيعجزون عن مناقشته ومناظرته . ولكن
اتهام محمد عبده بإنكار
الوحدانية الإلهية كانت هي
القضية الخطيرة في تاريخ الفكر
الإسلامي الحديث ، رغم أنها ـ من
وجهة نظرنا الخاصة ـ لم تلق
عليها الأضواء الكاشفة مع
أهميتها البالغة جداً في تفسير
اتجاهات الصراع بين التقدم
والتخلف في بلادنا العربية
والإسلامية ، قبل محمد عبده
وبعده ، واستخدام الدين بطريقة
مستترة ومستمرة في كل محاولات
وقف حركة التقدم في البلاد
العربية والإسلامية . لقد ذكر
المستشرق الإنجليزي الشهير / (إدوارد
وليم لين ) الذي عاش خلال ظهور
الشيخ / رفاعة رافع الطهطاوي
أيام محمد علي ، أنه كان يسمع في
دكاكين الوراقين الذين يبيعون
الكتب المخطوطة قبل عصر الطباعة
، مطاعن كثيرة في عقيدة الشيخ /
رفاعة ! . وكانت
هذه الدكاكين تقع في حي الأزهر ،
ويجتمع فيها المشايخ
والمجاورون بحثاً عن الكتب ، ثم
يثرثرون في موضوعات كثيرة ،
أصبح أهمها ، موضوع (رفاعة بك)
الذي كان شيخاً أزهرياً ، ثم
أصبح مثقفاً إفرنجياً يرطن
بالفرنسية ، ويؤلف ويترجم في
موضوعات لم يعرفها الأزهريون من
قبل ! ويقول (إدوارد
لين) : إنه كان يسمع من هؤلاء
المشايخ مزاعم كثيرة تتعلق
بالحياة الشخصية لرفاعة ، فقد
زعموا أن الشيخ / رفاعة بعد أن
أبحر من الإسكندرية على ظهر
السفينة التي اتجهت به مع أعضاء
البعثة المصرية التي أرسلها
محمد علي إلى فرنسا ، شرب الخمر
حتى ثمل ، ثم علقوه على سارية
السفينة ، وعندما كان في باريس
أكل لحم الخنزير ، وراقص النساء
في المراقص ... ! وقد سجل
المستشرق الإنجليزي هذه
الحكايات الغريبة الكاذبة
المختلقة ، وكان بحكم تفكيره
الأوربي يعجب كل العجب من
تناولها أو ذكرها في معرض
الحديث عن رجل مثل رفاعة
الطهطاوي ، الذي كان يعد أكثر
المثقفين المستنيرين وعياً
وإدراكاً في عصره ، وكان يقود
حركة فكرية جديدة في بلادنا . وحدث
بعد عصر محمد عبده أن اتهم بعض
المثقفين في عقيدتهم بما هو
أخطر ، ومثال على ذلك قضية كتاب
الدكتور / طه حسين (في الشعر
الجاهلي) والذي ظل بسببه عند
أمثال الشيخ عليش متهماً في
عقيدته والعياذ بالله ، ولا
يعلم هؤلاء الذين يوجهون
الاتهامات جزافاً ، أن حساب
المرء مع الله وليس مع البشر ،
وليس مطلوباً منا أن نفتش في
ضمائر الناس أو في قلوبهم ، حتى
لو كانت الاتهامات الكاذبة
صحيحة ، ولكن واقع الحال يقول
إنها اتهامات جوفاء تافهة لا
تستحق الرد عليها بسبب وضوح
زيفها . إن
البشر لا يستطيعون مهما كانت
قوتهم ومراكزهم ومناصبهم
والإمكانيات المتاحة لهم ، لا
يستطيعون محاسبة البشر في أمور
عقائدهم ، لأن الله سبحانه
وتعالى هو الذي يملك هذا الحساب
يوم القيامة ، و إلا أصبح بعض
البشر آلهة في هذه الدنيا
يملكون حساب العقيدة ، ويصدرون
فيها الأحكام بالكفر أو الردة
أو الإيمان .. وهذا أمر لا يتفق
مع الواقع أو العقل أو المنطق . وقد حدث
مثل ذلك عندما أصدر الشيخ / علي
عبد الرازق كتابه الشهير (الإسلام
وأصول الحكم) ، وحوكم محاكمة
دينية ، وسحبت منه شهادة
العالمية الأزهرية ، ثم ردت
إليه ! . وكذلك
عندما حوكم الشيخ / حامد الفقي
رئيس جماعة السنة المحمدية بسبب
عقيدته الوهابية ، وسحبت منه
شهادة العالمية أيضاً ثم أعيدت
إليه بعد ذلك ! . وقد نسى
الناس أن هذا الشيخ كان من
الدعاة الصالحين ، وبالطبع كل
إنسان حر في اعتناق المذهب الذي
يريده ، فالمذاهب الفقهية هدفها
التيسير على الناس ، المهم هي
الثوابت التي لا يصح العبث بها
أو تجاوزها ، ولكن السياسة
استخدمت أسلحتها ضد الشيخ /
الفقي عندما حاول الكلام
والحديث عن دعوة الشيخ / محمد بن
عبد الوهاب في مصر ، وهي لا تخرج
عن دعوة الإمام / أحمد بن حنبل
إمام أهل السنة ، وتلميذه / تقي
الدين بن تيمية ، ولكن الملك /
فؤاد ملك مصر ، الذي ورث عن جده
محمد علي محاربة الوهابية أو
عقدتهم ووقف ضد الدولة السعودية
عندما اشتدت شوكتها في العصر
الحديث بقيادة الملك / عبد
العزيز بن سعود ، ولذلك حاربت
السلطة الحاكمة في مصر دعوة
الشيخ / الفقي واضطهدته ، ضاربة
بذلك حق أصيل من حقوق الإنسان
ألا وهو حرية الاعتقاد والتفكير
. أما
قضية الشيخ / أمين الخولي فقد
كانت أعجب وأغرب ، وكان سببها
رسالة جامعية أشرف عليها وقدمها
أحد تلاميذه وهو الدكتور / أحمد
خلف الله ، عن ( الفن القصصي في
القرآن الكريم ) ، واستخدم سلاح
الدين أيضاً في هذه القضية ، في
محاولة للنيل من عقيدة الشيخ
الجليل والعالم الكبير / أمين
الخولي , وليس للطعن في التلميذ
الذي استخدمت رسالته في الموضوع
، قبل مناقشتها أو إجازتها ،
كمخلب قط . ولكن
هذه الأقوال كلها تعتبر أقل
قيمة من قضية الطعن في شيخنا
الأستاذ الإمام / محمد عبده , رغم
أن بعضها مازال يثار حتى يومنا
هذا ، وتؤلف فيه الكتب ، وخاصة
في طعن عميد أدبنا العربي / طه
حسين . نعم ،
الاختلاف في الرأي ضرورة حيوية
، ولكن الاختلاف يجب أن لا يفسد
للود قضية ، ويجب ألا يكون
سوقياً أو مبتذلاً . ومما
لاشك فيه أنه توجد أسباب مهمة
وكثيرة جعلت الكتاب والباحثين
يغضون الطرف مع النظر عن
الاتهام الكاذب الذي وجهه الشيخ
/ محمد الشربتلي ، صاحب جريدة (النهج
القويم ) للأستاذ الإمام . ولكن
ليسمح لي القارئ المفضال أن
أنظر إلى الموضوع نظرة أخرى ،
وهذه النظرة الأخرى هي محاولة
لتفسير هذه الظاهرة المؤسفة
التي شاعت منذ بداية النهضة
الحديثة في بلادنا ، ثم استشرت
وازدادت في أيامنا الراهنة . لقد
اتهم : رفاعة الطهطاوي ، ومحمد
عبده ، وطه حسين ، وعلي عبد
الرازق ، وأمين الخولي ، وفرج
فوده ، ونجيب محفوظ ، ونصر حامد
أبو زيد ، والسيد القمني ، ومحمد
عابد الجابري .. إلخ .. كل هؤلاء
على اختلاف ظروفهم وأحوالهم
وأقدارهم أضافوا إلي فكرنا
الكثير الذي لا يصح أن ينكر . اعتقد
أن أهم أسباب هذه الظاهرة هو
الصراع الذي مازال دائراً
وقائماً ومستمراً بين التقدم
إلى الأمام ، والتخلف الذي
يجرنا جراً إلى الوراء ، ويعتبر
محمد عبده بقيمته وشخصيته أهم
أعلام هذا الصراع باعتباره مجدد
الإسلام في عصرنا الحديث . لقد
بدأت جريدة (النهج القويم) جداً
، في غمز الأستاذ الإمام ، ولكنه
لم يلتفت إلى ما تنشره لاعتقاده
بأنها لا تساوي الرد عليها . ولكن
الجريدة الصفراء نشرت مقالاً عن
حال الأزهر الشريف على لسان بعض
مشايخ الأزهر ، وأذاعت في الناس
أن الشيخ / محمد عبده أنكر
وحدانية الله ، وقال : إنه لا
يقوم عليها دليل !! نشر
الشيخ الشربتلي / التهمة في
جريدته ، فطلبته النيابة العامة
للتحقيق ، وأمرت بحبسه ، فقال :
إنه تلقى الخبر من رجل من كبار
علماء الأزهر ، وهو الشيخ /
سليمان العبد ! طلبت
النيابة الشيخ / العبد للتحقيق
معه ، وخاف الرجل من مغبة الأمر
، وأخذ يطوف على الوجهاء
والأدباء والعلماء ورجال
الحكومة ليدافعوا عنه ، حتى أنه
سافر إلى مدينة الإسكندرية
فقابل محافظها الشاعر الرقيق /
إسماعيل صبري ، وكان من أصدقاء
الشيخ / سليمان العبد ، ومن
أصدقاء الأستاذ الإمام ، وطلب
العبد منه الوساطة ، ولكن
إسماعيل صبري رفض التدخل في هذه
القضية الخطيرة . وأخيراً
لجأ الشيخ / العبد إلى الأمام
الأكبر الشيخ / حسونة النواوي
شيخ الجامع الأزهر ، واستنجد به
، فقال له : إن وقعتك مع الشيخ /
محمد عبده ، ولا يوجد أحد في مصر
ينقذك منه غيره ، فتعالى معي
إليه ، واعتذر له ، وإني لأرجو
أن يقبل اعتذارك !! وذهبا
معاً إلى الأستاذ الإمام ، فقال
لهما : أنا لا يهمني في الدنيا
شيء إلا ديني ، ولولا غيرتي على
ديني ما دخلت الأزهر ، ولا ألقيت
فيه درساً . ثم
التفت إلى الشيخ / سليمان العبد
الذي كان يعمل مدرساً بدار
العلوم ، وأفهمه أنه لا يستحق
هذه الوظيفة بسبب قلة علمه ،
وسوء دروسه . وكان
الأستاذ الإمام يتولى رئاسة
الامتحانات في مدرسة دار العلوم
العليا ، ويضع تقريراً سنوياً
عن هذه المدرسة لإصلاح مناهجها
، وتقييم أساتذتها . وقال
الأستاذ الإمام : إنني أعلم أن
عندك أولاداً كثيرين ، فغلب على
قلبي الشفقة عليهم ، ولولا ذلك
لأخرجتك من التدريس في دار
العلوم بسبب قلة علمك . ثم تدخل
الشيخ / حسونة النواوي وتحدث مع
الأستاذ الإمام طالباً العفو
والتعاهد على الصفاء والوفاء ،
ثم استدعي الشيخ / سليمان العبد
للشهادة أمام المحكمة في قضية
الشيخ / الشربتلي ، وسألته
النيابة عن صحة ما يدعيه صاحب
جريدة (النهج القويم) في تهجمه
على الأستاذ الإمام ، فأجاب بعد
حلف اليمين بأن علاقته بالإمام
علاقة صداقة ووداد وصفاء ووفاء
، وأن صاحب هذه الجريدة كاذب في
دعواه . ثم
استدعت المحكمة شهوداً آخرين
أيدت شهادتهم أقوال الشيخ /
سليمان العبد ، وكان أشهر هؤلاء
الشهود الشيخ / حمزة فتح الله
كبير مفتشي اللغة العربية في
وزارة المعارف العمومية (التربية
والتعليم الآن) ، الذي استنكر
بشدة ما نشره الشربتلي عن
الأستاذ الإمام ، وشهد ببراءة
الشيخ / سليمان العبد . وفي هذه
الأثناء كتب الشيخ / سليمان
العبد بياناً نشرته أغلب الصحف
المصرية ، قال فيه : "إني أعلن
فوق ما قلته أمام النيابة
العمومية كذب من ادعى أنني حرضت
على تنقيص أخي وصديقي الأستاذ
الشيخ / محمد عبده ، وإني أعتقد
فيه حسن الخلال ، وصفات الكمال ،
وليس بيني وبينه إلا كمال
الصفاء والوفاق أدامهما الله
بين رجال العلم وأمناء الأمة
"...وكان التوقيع : كتبه بقلمه
سليمان العبد بالأزهر . وبعد
ذلك بدأ محمد الشربتلي يستعطف
الأستاذ الإمام ، ويطعن في
الشيخ / سليمان العبد ، ويقول :
إنه أغواه وأغراه ثم تراجع بعد
ذلك عن أقواله أمام المحكمة ! وفي
صفاء نفس ، وطهارة قلب ، ونقاء
حي ، أصدر الشيخ / محمد عبده
المستشار السابق في محكمة
استئناف القاهرة حكمه على محمد
الشربتلي الذي طعنه في أهم شيء
يتهم به في الدنيا ، وهو دينه ،
قائلاً له : عفوت عنك لأنك تستحق
العفو بعد أن قبلت اعتذار الشيخ
/ سليمان العبد ، لأن الذي يقبل
اعتذار الأصل لا يرضى بعقاب
الفرع .! وهكذا
انتهت القضية التي ثارت مثل
زوبعة في فنجان ، وقبلت المحكمة
حكم الأستاذ الإمام ، وحفظت
القضية . ولكن ما
هي أسباب هذه القضية المثيرة
التي لم يسجلها تاريخ فكرنا
الحديث ، كما يحسن التسجيل ؟ لقد كان
السبب هو (رسالة التوحيد ) أشهر
كتاب ظهر في القرن الرابع عشر من
تاريخ الهجرة في مفهوم التجديد
الإسلامي . فقد كان
الأستاذ الإمام يقرأ (رسالة
التوحيد ) في دروسه المشهورة
بالأزهر ، وكانت هذه الرسالة
التي كتبها قد صدمت عقول كبار
المشايخ الذين عجزوا عن مسايرة
فكره ، وفلسفته ، واستنتاجاته ،
وحاولوا التهوين من شأنه
والإقلال من قدره . وعندما
بلغ الأستاذ الإمام بحث : إقامة
الدليل على وحدانية الله عز وجل
، قال للحاضرين في درسه ، ومنهم
بعض كبار علماء الأزهر : إنكم
تعلمون أن الإيمان بوحدانية
الله تعالى هو الأساس الأعظم
لدين الإسلام ، ولذلك جُعِلت
كلمة التوحيد عنوان للدخول فيه
، حتى إذا قالها المشرك في ميدان
القتال وجب الكف عنه . وواصل
الأستاذ الإمام كلامه قائلاً :
وسيكون موضوع درسنا الآتي إقامة
البرهان على هذه العقيدة ، وإني
سأحضر معي عند المجيء لهذا
الدرس مائة جنيه ذهباً ، وأعدكم
بأن من أقام أمامي البرهان على
الوحدانية قبل أن يسمعه مني ،
وأمكنه أن يجيب عما أورده عليه
من الاعتراض جواباً صحيحاً ،
فإني أدفع إليه هذا المبلغ ،
وليبلغ الشاهد منكم الغائب . لقد
اهتزت أركان الأزهر الشريف لهذا
التحدي الذي وصل إلى مسامع
مشايخ الأزهر في كل مكان يلوذون
به ، بل كان مثل الزلزال الذي
زلزل العقول ، وجعل المشايخ
يتهامسون فيما بينهم حول هذا
التحدي الغريب ؟! . ماذا
يفعلون ؟ ، إن الشيخ محمد عبده
يتحداهم في موضوع هو الحقيقة
الأولى من حقائق الإسلام ، وهي
التوحيد ، وهي قولنا : لا إله إلا
الله .. ! وجاء
اليوم الموعود ، وجلس الأستاذ
الإمام على كرسيه ، ووضع أمامه
كيس الجنيهات الذهبية ، ونادى
الحاضرين بلسان عربي مبين : هذه
هي الجنيهات المائة ، فمن كان
مستعداً لإقامة البرهان قبل أن
يسمعه فليتقدم .! ولكن
الصمت ساد القاعة ، قاعة الرواق
العباسي الذي كان الأستاذ
الإمام يلقي فيه دروسه في
الأزهر الشريف ، نكست الرؤوس ،
وصمتت الألسنة ، ثم علا صوته
يقول لهم : استمعوا لي.. وبدأ
يشرح بالبرهان القاطع الذي كتبه
في (رسالة التوحيد) معاني
الوحدانية ، ومفهومها ،
وبراهينها العلمية والمنطقية ،
وغير ذلك مما كتبه في رسالته
القيمة التي تستحق أن تكون
مرجعاً لكل باحث وقارئ . لم يكن
السبب في الصمت والذهول هو عجز
علماء الأزهر عن إقامة البرهان
على التوحيد ، فهذه قضية
إسلامية عميقة الجذور ، واضحة
المفاهيم ، وقد تعرض لها فلاسفة
الإسلام ومفكروه ، وعلماؤه
ومفسروه من كل الزوايا التي
يمكن أن نفكر فيها أو نبحث عنها . ولكن
المشكلة المهمة والأساسية هي أن
علماء الأزهر في تلك الفترة
كانوا يعجزون عن مناظرة الأستاذ
الإمام ، بسبب جمودهم الفكري
الذي هو بطبيعة الحال غير قادر
على مواجهة حرية الفكر والبحث
والحوار ، ولم يكن بسبب قصور في
العلم أو المعرفة . وعندما
يحدث العجز عن مواجهة الأفكار
بالأفكار ، يتم الصدام الذي
تستخدم فيه أسلحة غير فكرية في
غالب الأحيان ، ويكون أهون ما
فيها توجيه الاتهامات والقهر
والإرهاب ، وهذا هو ما حدث في
قضية (رسالة التوحيد ) أعظم ما
كتب الأستاذ الإمام / محمد عبده
، وقد استخدمت في إثارتها صحيفة
صفراء مجهولة الهوية اسمها (النهج
القويم) ، كان يصدرها تاجر
مقالات مكذوبة اسمه محمد
الشربتلي . لقد
كانت هذه القضية علامة مهمة في
فكر محمد عبده ، ويكفي أنها
أثيرت حول كتابه المهم (رسالة
التوحيد) ، وهي في نفس الوقت
إحدى العلامات البارزة في تاريخ
الفكر الإسلامي الحديث ، والذي
كان الأستاذ الإمام أحد قادته
العظماء البارزين . والمطلوب
منا ونحن نتأمل فكر الإمام أن
نبذل الجهد الصادق في مواجهة
حزب الشيخ / عليش ، وتابعه محمد
الشربتلي صاحب النهج غير القويم
، ذلك الحزب الذي شاع وانتشر في
حياتنا الراهنة بكل أسف . والله
ولي التوفيق ،،، بعض
الأسانيد 1
ـ عبد المنعم حماده ، الأستاذ
الإمام محمد عبده ، مطبعة
الاستقامة ، القاهرة ، 1945 م . 2
ـ محمد رشيد رضا ، تاريخ الأستاذ
الإمام (الأجزاء من 1 ـ 3) ، مطبعة المنار
، الطبعة الأولى ، القاهرة ، 1350
هـ . 3
ـ عثمان أمين ، رائد الفكر
المصري ، مكتبة النهضة المصرية
، القاهرة . 4
ـ محمد عبده ، رسالة التوحيد ،
الطبعة الأولى بالمطبعة
الأميرية ببولاق ، 1897 م ،
والطبعة الثالثة عشر ، مطبعة
المنار ، القاهرة ، 1368 هـ . 5
ـ أحمد أمين ، زعماء الإصلاح في
العصر الحديث ، مكتبة النهضة
المصرية ، القاهرة . 6
ـ مارون عبود ، رواد النهضة
الحديثة ، بيروت . 7
ـ إبراهيم أحمد العدوي ، قادة
التحرير العربي في العصر الحديث
، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ، 1958
م . 8
ـ عباس محمود العقاد ، محمد عبده
، طبعة وزارة التربية والتعليم
، القاهرة ، 1963 م . 9
ـ مصطفى عبد الرازق ، محمد عبده
، دار المعارف مصر . 10
ـ عبد المنعم شميس ، مجموعة
مقالات عن محمد عبده ، مجلة
الجديد ، هيئة الكتاب ، القاهرة
. ـــــــــ *باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |