ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 21/06/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


حتى نتجنب عودة حزب الشيخ "عليش" وتابعه "الشربتلي"

بقلم : يسري عبد الغني عبد الله*

كان الأمام محمد عبده يقول : إنني قبل أن أكتب , أتوضأ ، و أصلي ركعتين لله ، ثم أدعوه أن يجعل كلامي مفيداً للناس ، صادقاً في كل حروفه .

لقد كان يؤمن بأن الكلمة أمانة ، وصدقها أمر واجب ، وأن الكلمة يجب أن تكون طيبة في كل الأحوال ، كلمة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها بإذن ربها في كل حين ، في نفس الوقت الذي كان لا يتعامل بأي حال من الأحوال مع الكلمة الخبيثة التي لا أصل لها ولا فرع ، تؤذي صاحبها أول ما تؤذي ، وتجتث بسهولة من فوق الأرض ، فما لها من قرار ..

والإمام / محمد عبده عمل بالصحافة ، وكان يؤمن بأنها تعيش بالكلمة الصادقة ، لأنها منبر للفكر الحر ، والنقد النزيه المجرد من الأغراض ، والذي يجب أن يكون للتوجيه والإرشاد والبناء ، وبالطبع لن يكون النقد بناءً إلا بالكلمة الطيبة الصادقة .

وعلى أيام الأستاذ الإمام ، وفي القاهرة ، كانت تعرف جريدة من الصحف الصفراء ، والتي انتشرت عندنا الآن ، الصحيفة اسمها (النهج القويم) !!!

يحررها رجل اسمه الشيخ / محمد الشربتلي ، عرف بدأبه على ابتزاز المال عن طريق التهديد بنشر الأكاذيب والتشنيع على بعض الشخصيات أو عباد الله المغلوبين على أمرهم ، ويبدو أن هذه النوعية من المرتزقة من هذا العمل المشين تعيش بيننا حتى يومنا هذا .

بل أن الشيخ / الشربتلي أشتهر بالتجارة في الصحف الصفراء التي تشبه صحيفته ، ولكن أصحابها يعجزون عن تحريرها ، وقد اتخذ هذا المحرر الذي هو دائماً تحت الطلب ، اتخذ من مقهى البرلمان في ميدان العتبة الخضراء بوسط القاهرة مقراً لبيع وتوريد المقالات التي يضعها في جيب قفطانه ، وقد حدد لها سعراً موحداً للمقالة وهو ريال ! (عشرون قرشاً مصرياً فقط لا غير) .

وكان من أشهر أكاذيبه التي تندر بها الناس في الجيل الماضي ، أنه وصف قيام حريق هائل في أحد الأحياء ، وبعد أن أتم وصفه البليغ للحريق في صفحات عديدة ، كتب في النهاية سطراً واحداً قال فيه : (وقد جاءنا بعد كتابة هذا المقال أن هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة ) !!

وداء (الفبركة) هذا داء عضال ليس في الشيخ / الشربتلي فقط بل أنه مازال مستشرياً لدينا ، المهم في الأمر أن الشربتلي تمادى في أكاذيبه حتى وقع في يد الأستاذ الإمام / محمد عبده ، ونشر في جريدته الصفراء أن الشيخ / محمد عبده ينكر وحدانية الله !!

فاهتز الرأي العام في مصر اهتزازاً شديداً ، وقامت قيامة الدنيا ، وأوشكت أن تحدث فتنة عظيمة لأن هذا الاتهام الخطير كان لأكبر شخصية إسلامية في العصر الحديث ، وكان عملاً مذهلاً لا يصدقه أي عقل أو أي منطق ، وليس في استطاعتنا وصفه بأي لفظ .

كان محمد عبده ، ومن قبله أستاذه (الثائر الأعظم ) جمال الدين الأفغاني يتعرضان لهجوم بعض مشايخ الأزهر الجامدين المتشددين بسبب دعوتهما إلى التجديد والإصلاح ، وكانت الإشاعات تتناثر في القاهرة حول تصرفات الشيخين ، وقد تزعم هذه الحركة عالم مغربي من أساتذة الأزهر اسمه الشيخ / عليش .

والشيخ / عليش لا نعلم شيئاً عنه أكثر من أنه رجل جاء من المغرب وجاور بالأزهر ، وعرف عنه التشدد والتعصب ، كما أنه كان عصبي المزاج ، فيه حدة وغلظة ، يرفض الحوار أو النقاش بالتي هي أحسن ، ويحرض المشايخ والمجاورين على العراك واستخدام (المراكيب) للضرب داخل صحن الأزهر ، وقد كان (المركوب) هو سلاحهم الأساسي في العراك .

وهذه الشائعات تتردد في كل عصر ، فكم شائعة أطلقوها على المرحوم الشيخ / أحمد حسن الباقوري ، قائلين أنه كان يصنع جبته وقفطانه من أفخر الأقمشة ، ويتعطر بأفخر العطور !! ، وقالوا عن المرحوم الشيخ / محمد متولي الشعراوي أنه كان يأكل "الكباب" و "الكفتة" في أحد المحلات الموجودة بشارع القصر العيني غرب القاهرة !!

وكأن اتخاذ الزينة ، وأكل اللحوم جريمة شنعاء لا يصح أن يضبط أي شيخ متلبساً بتعاطيها ، وقالوا وقالوا وقالوا ، ويبدو أن الناس تموت إذا لم تقل ، وإذا لم تجد ما تقوله تطلق الأكاذيب والشائعات ، لتلف وتلف ثم تعود إليهم ليصدقوها هم !!

نعود إلى الشيخ / عليش الذي كان منهلاً غير عذب بالمرة للشائعات والأقاويل ، وكان يشيع عن الأفغاني ومحمد عبده الشائعات التي تروج في مقاهي القاهرة ، ويتناقلها الناس بين مصدق ومكذب ، وكانت هذه الشائعات المغرضة الكاذبة تحدث بلبلة في عقول العامة ، ومازالت هذه الظاهرة غير الحميدة منتشرة في تجمعات المثقفين أو من يسموا بهذا الاسم في أيامنا ، وقانا الله جميعاً شر ذلك .

قال الشيخ / عليش ذات مرة أن الشيخ / جمال الدين الأفغاني يجلس في مشارب البيرة بحي الأزبكية ، ويجالس النساء السافرات الفاجرات !

والحقيقة أن الأفغاني في بعض الأمسيات كان يضيق صدره ، فيترك مقعده الشهير في مقهى (البوستة) بميدان العتبة ، ويأخذ عصاه في يده ويتجول حول حديقة الأزبكية ، وتقوده قدماه أحياناً إلى حي الملاهي حيث توجد صالات الرقص والغناء ومشارب البيرة ، وغيرها من الأماكن التي كانت في هذا الحي ، وبالطبع دون أن يدخلها .

وفي إحدى جولات الشيخ لاستنشاق الهواء في جو الصيف الخانق شاهد امرأة رائعة الجمال تجلس أمام منضدة عند باب مشرب من مشارب البيرة ، فلمعت عيناه وشع منهما اللهب ، فقد وضعت المرأة أمامها قدحاً من البيرة ، وعلى طرف منضدتها كرسي خال ، فجلس الأفغاني عليه .

وعجبت المرأة من جلوس هذا الشيخ المعمم أمامها فسألته إذا كان يحب شرب قدح من البيرة (كانت هذه المرأة صاحبة هذا المكان) ، ولكنه لم يجب ، بل سلط عليها عيناه فخفضت رأسها خوفاً ورعباً ، ثم أشار إلى ذراعها اليمنى قائلاً لها : حرام أن يشوى هذا الذراع الجميل في النار ! ، ثم أشار إلى كفها وقال لها : حرام أن تحرق هذه الكف الجميلة في النار ! ، ونظر إلى وجهها الناصع ، وهو يقول لها : حرام أن يصبح هذا الوجه الناصع الرائع في نار وقودها الناس والحجارة !

فألقت المرأة كوب البيرة على الأرض محطمة إياه ، ثم هبت واقفة ، وهي تصرخ في كل من حولها طاردة كل رواد مشرب البيرة ، وأخرجت عمالها من المكان ، وأغلقت الباب بيديها ، وهي تقول للأفغاني : لقد تبت على يديك أيها الشيخ الصالح .

وأخذ الأفغاني عصاه ، وعاد إلى كرسيه في مقهى البوستة ليعقد ندوته المسائية كالمعتاد .

ولكن الشيخ / عليش قال : إن الأفغاني يرتاد مشارب البيرة في مواخير الأزبكية ، ويجالس النساء الفاسدات ، وقد شوهد هناك !

وفي أيامنا هذه جاء من يردد هذا الكلام من جديد ، ويتهم الأفغاني بأنه كان يشرب الخمر ، وأنه فاسق مرتد ، وعميل خائن ، كما قالوا عن محمد عبده أنه كافر ، بل أنهم صادروا أعماله التي دافعت عن الإسلام دين العلم والمدنية والحرية والاستنارة .. وكأن الشيخ / عليش قد عاد من جديد .. ولكن الأمر الخطير أن نسخ عديدة من الشيخ عليش قد شاعت وانتشرت ، هؤلاء الذين لا يعجبهم العجب ، ولا حتى الصيام في شهر رجب ، الذين يلعبون هذه اللعبة من أجل مصالح أضحت معروفة ومفهومة .

أما الأمام / محمد عبده فقد جاءت إليه ذات يوم امرأة فرنسية سافرة الوجه ، وسألت عنه في الأزهر ، كي تستفسر منه عن بعض الأمور حيث كانت تعد دراسة عن الإسلام ، وهذا ـ في رأي حزب الشيخ / عليش ـ فجور ما بعده فجور !

كما أن ( محمد عبده ) شوهد ذات يوم سائراً على قدميه في شارع الموسكي القريب من الأزهر ، وقد اشترى (باكو بسكويت) ، وكان يأكل البسكويت على قارعة الطريق جهاراً عياناً ، والبسكويت من طعام الفرنجة ، وهذا يتنافى مع الشريعة ، ومع وقار العلماء ! (وفقاً لرأي حزب الشيخ / عليش وأتباعه) .

وأضاف نفس الحزب : أن ( محمد عبده ) يضع في قدميه الأحذية الحديثة ، ولا يضع قدميه في المركوب الأصفر الذي كان يتميز به علماء الأزهر في هذا العصر !

كانت كل هذه الاتهامات التافهة التي لا علاقة لها بجوهر الدين ، وبأُسس العقيدة الإسلامية السمحاء ، والتي كان يوجهها عليش وأمثاله ، هذه الاتهامات كانت تثير بعض المشايخ والمجاورين أي طلاب العلم في الأزهر ، أضف إلى ذلك أنه كان يقصد بها إثارة الناس العاديين ضد الأستاذ الإمام ، ولكن جماهير المسلمين من الخاصة والعامة ، أحبت الشيخ ووضعته في العقول والقلوب ، لذلك لم تتعاطف مع حزب عليش وأمثاله ، فقد ظلت دائرة هؤلاء محصورة في حيز ضيق خارج صحن الجامع الأزهر حيث تدور المعارك بين المؤيدين والمعارضين بالمراكيب ، وهي السلاح الأزهري الشهير في الأجيال الماضية .

كانت هيبة الأستاذ الإمام / محمد عبده ووقاره تكفي لإحباط كل الشائعات التي تثار من حوله ، كما كان التحدي بين الأستاذ الإمام وخصومه من بعض علماء الأزهر يتم دائماً بانتصاره الساحق الماحق على خصومه الذين كانوا أقل منه كثيراً في العلم والمعرفة ، فيعجزون عن مناقشته ومناظرته .

ولكن اتهام محمد عبده بإنكار الوحدانية الإلهية كانت هي القضية الخطيرة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث ، رغم أنها ـ من وجهة نظرنا الخاصة ـ لم تلق عليها الأضواء الكاشفة مع أهميتها البالغة جداً في تفسير اتجاهات الصراع بين التقدم والتخلف في بلادنا العربية والإسلامية ، قبل محمد عبده وبعده ، واستخدام الدين بطريقة مستترة ومستمرة في كل محاولات وقف حركة التقدم في البلاد العربية والإسلامية .

لقد ذكر المستشرق الإنجليزي الشهير / (إدوارد وليم لين ) الذي عاش خلال ظهور الشيخ / رفاعة رافع الطهطاوي أيام محمد علي ، أنه كان يسمع في دكاكين الوراقين الذين يبيعون الكتب المخطوطة قبل عصر الطباعة ، مطاعن كثيرة في عقيدة الشيخ / رفاعة ! .

وكانت هذه الدكاكين تقع في حي الأزهر ، ويجتمع فيها المشايخ والمجاورون بحثاً عن الكتب ، ثم يثرثرون في موضوعات كثيرة ، أصبح أهمها ، موضوع (رفاعة بك) الذي كان شيخاً أزهرياً ، ثم أصبح مثقفاً إفرنجياً يرطن بالفرنسية ، ويؤلف ويترجم في موضوعات لم يعرفها الأزهريون من قبل !

ويقول (إدوارد لين) : إنه كان يسمع من هؤلاء المشايخ مزاعم كثيرة تتعلق بالحياة الشخصية لرفاعة ، فقد زعموا أن الشيخ / رفاعة بعد أن أبحر من الإسكندرية على ظهر السفينة التي اتجهت به مع أعضاء البعثة المصرية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا ، شرب الخمر حتى ثمل ، ثم علقوه على سارية السفينة ، وعندما كان في باريس أكل لحم الخنزير ، وراقص النساء في المراقص ... !

وقد سجل المستشرق الإنجليزي هذه الحكايات الغريبة الكاذبة المختلقة ، وكان بحكم تفكيره الأوربي يعجب كل العجب من تناولها أو ذكرها في معرض الحديث عن رجل مثل رفاعة الطهطاوي ، الذي كان يعد أكثر المثقفين المستنيرين وعياً وإدراكاً في عصره ، وكان يقود حركة فكرية جديدة في بلادنا .

وحدث بعد عصر محمد عبده أن اتهم بعض المثقفين في عقيدتهم بما هو أخطر ، ومثال على ذلك قضية كتاب الدكتور / طه حسين (في الشعر الجاهلي) والذي ظل بسببه عند أمثال الشيخ عليش متهماً في عقيدته والعياذ بالله ، ولا يعلم هؤلاء الذين يوجهون الاتهامات جزافاً ، أن حساب المرء مع الله وليس مع البشر ، وليس مطلوباً منا أن نفتش في ضمائر الناس أو في قلوبهم ، حتى لو كانت الاتهامات الكاذبة صحيحة ، ولكن واقع الحال يقول إنها اتهامات جوفاء تافهة لا تستحق الرد عليها بسبب وضوح زيفها .

إن البشر لا يستطيعون مهما كانت قوتهم ومراكزهم ومناصبهم والإمكانيات المتاحة لهم ، لا يستطيعون محاسبة البشر في أمور عقائدهم ، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملك هذا الحساب يوم القيامة ، و إلا أصبح بعض البشر آلهة في هذه الدنيا يملكون حساب العقيدة ، ويصدرون فيها الأحكام بالكفر أو الردة أو الإيمان .. وهذا أمر لا يتفق مع الواقع أو العقل أو المنطق .

وقد حدث مثل ذلك عندما أصدر الشيخ / علي عبد الرازق كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم) ، وحوكم محاكمة دينية ، وسحبت منه شهادة العالمية الأزهرية ، ثم ردت إليه ! .

وكذلك عندما حوكم الشيخ / حامد الفقي رئيس جماعة السنة المحمدية بسبب عقيدته الوهابية ، وسحبت منه شهادة العالمية أيضاً ثم أعيدت إليه بعد ذلك ! .

وقد نسى الناس أن هذا الشيخ كان من الدعاة الصالحين ، وبالطبع كل إنسان حر في اعتناق المذهب الذي يريده ، فالمذاهب الفقهية هدفها التيسير على الناس ، المهم هي الثوابت التي لا يصح العبث بها أو تجاوزها ، ولكن السياسة استخدمت أسلحتها ضد الشيخ / الفقي عندما حاول الكلام والحديث عن دعوة الشيخ / محمد بن عبد الوهاب في مصر ، وهي لا تخرج عن دعوة الإمام / أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ، وتلميذه / تقي الدين بن تيمية ، ولكن الملك / فؤاد ملك مصر ، الذي ورث عن جده محمد علي محاربة الوهابية أو عقدتهم ووقف ضد الدولة السعودية عندما اشتدت شوكتها في العصر الحديث بقيادة الملك / عبد العزيز بن سعود ، ولذلك حاربت السلطة الحاكمة في مصر دعوة الشيخ / الفقي واضطهدته ، ضاربة بذلك حق أصيل من حقوق الإنسان ألا وهو حرية الاعتقاد والتفكير .

أما قضية الشيخ / أمين الخولي فقد كانت أعجب وأغرب ، وكان سببها رسالة جامعية أشرف عليها وقدمها أحد تلاميذه وهو الدكتور / أحمد خلف الله ، عن ( الفن القصصي في القرآن الكريم ) ، واستخدم سلاح الدين أيضاً في هذه القضية ، في محاولة للنيل من عقيدة الشيخ الجليل والعالم الكبير / أمين الخولي , وليس للطعن في التلميذ الذي استخدمت رسالته في الموضوع ، قبل مناقشتها أو إجازتها ، كمخلب قط .

ولكن هذه الأقوال كلها تعتبر أقل قيمة من قضية الطعن في شيخنا الأستاذ الإمام / محمد عبده , رغم أن بعضها مازال يثار حتى يومنا هذا ، وتؤلف فيه الكتب ، وخاصة في طعن عميد أدبنا العربي / طه حسين .

نعم ، الاختلاف في الرأي ضرورة حيوية ، ولكن الاختلاف يجب أن لا يفسد للود قضية ، ويجب ألا يكون سوقياً أو مبتذلاً .

ومما لاشك فيه أنه توجد أسباب مهمة وكثيرة جعلت الكتاب والباحثين يغضون الطرف مع النظر عن الاتهام الكاذب الذي وجهه الشيخ / محمد الشربتلي ، صاحب جريدة (النهج القويم ) للأستاذ الإمام .

ولكن ليسمح لي القارئ المفضال أن أنظر إلى الموضوع نظرة أخرى ، وهذه النظرة الأخرى هي محاولة لتفسير هذه الظاهرة المؤسفة التي شاعت منذ بداية النهضة الحديثة في بلادنا ، ثم استشرت وازدادت في أيامنا الراهنة .

لقد اتهم : رفاعة الطهطاوي ، ومحمد عبده ، وطه حسين ، وعلي عبد الرازق ، وأمين الخولي ، وفرج فوده ، ونجيب محفوظ ، ونصر حامد أبو زيد ، والسيد القمني ، ومحمد عابد الجابري .. إلخ .. كل هؤلاء على اختلاف ظروفهم وأحوالهم وأقدارهم أضافوا إلي فكرنا الكثير الذي لا يصح أن ينكر .

اعتقد أن أهم أسباب هذه الظاهرة هو الصراع الذي مازال دائراً وقائماً ومستمراً بين التقدم إلى الأمام ، والتخلف الذي يجرنا جراً إلى الوراء ، ويعتبر محمد عبده بقيمته وشخصيته أهم أعلام هذا الصراع باعتباره مجدد الإسلام في عصرنا الحديث .

لقد بدأت جريدة (النهج القويم) جداً ، في غمز الأستاذ الإمام ، ولكنه لم يلتفت إلى ما تنشره لاعتقاده بأنها لا تساوي الرد عليها .

ولكن الجريدة الصفراء نشرت مقالاً عن حال الأزهر الشريف على لسان بعض مشايخ الأزهر ، وأذاعت في الناس أن الشيخ / محمد عبده أنكر وحدانية الله ، وقال : إنه لا يقوم عليها دليل !!

نشر الشيخ الشربتلي / التهمة في جريدته ، فطلبته النيابة العامة للتحقيق ، وأمرت بحبسه ، فقال : إنه تلقى الخبر من رجل من كبار علماء الأزهر ، وهو الشيخ / سليمان العبد !

طلبت النيابة الشيخ / العبد للتحقيق معه ، وخاف الرجل من مغبة الأمر ، وأخذ يطوف على الوجهاء والأدباء والعلماء ورجال الحكومة ليدافعوا عنه ، حتى أنه سافر إلى مدينة الإسكندرية فقابل محافظها الشاعر الرقيق / إسماعيل صبري ، وكان من أصدقاء الشيخ / سليمان العبد ، ومن أصدقاء الأستاذ الإمام ، وطلب العبد منه الوساطة ، ولكن إسماعيل صبري رفض التدخل في هذه القضية الخطيرة .

وأخيراً لجأ الشيخ / العبد إلى الأمام الأكبر الشيخ / حسونة النواوي شيخ الجامع الأزهر ، واستنجد به ، فقال له : إن وقعتك مع الشيخ / محمد عبده ، ولا يوجد أحد في مصر ينقذك منه غيره ، فتعالى معي إليه ، واعتذر له ، وإني لأرجو أن يقبل اعتذارك !!

وذهبا معاً إلى الأستاذ الإمام ، فقال لهما : أنا لا يهمني في الدنيا شيء إلا ديني ، ولولا غيرتي على ديني ما دخلت الأزهر ، ولا ألقيت فيه درساً .

ثم التفت إلى الشيخ / سليمان العبد الذي كان يعمل مدرساً بدار العلوم ، وأفهمه أنه لا يستحق هذه الوظيفة بسبب قلة علمه ، وسوء دروسه .

وكان الأستاذ الإمام يتولى رئاسة الامتحانات في مدرسة دار العلوم العليا ، ويضع تقريراً سنوياً عن هذه المدرسة لإصلاح مناهجها ، وتقييم أساتذتها .

وقال الأستاذ الإمام : إنني أعلم أن عندك أولاداً كثيرين ، فغلب على قلبي الشفقة عليهم ، ولولا ذلك لأخرجتك من التدريس في دار العلوم بسبب قلة علمك .

ثم تدخل الشيخ / حسونة النواوي وتحدث مع الأستاذ الإمام طالباً العفو والتعاهد على الصفاء والوفاء ، ثم استدعي الشيخ / سليمان العبد للشهادة أمام المحكمة في قضية الشيخ / الشربتلي ، وسألته النيابة عن صحة ما يدعيه صاحب جريدة (النهج القويم) في تهجمه على الأستاذ الإمام ، فأجاب بعد حلف اليمين بأن علاقته بالإمام علاقة صداقة ووداد وصفاء ووفاء ، وأن صاحب هذه الجريدة كاذب في دعواه .

ثم استدعت المحكمة شهوداً آخرين أيدت شهادتهم أقوال الشيخ / سليمان العبد ، وكان أشهر هؤلاء الشهود الشيخ / حمزة فتح الله كبير مفتشي اللغة العربية في وزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم الآن) ، الذي استنكر بشدة ما نشره الشربتلي عن الأستاذ الإمام ، وشهد ببراءة الشيخ / سليمان العبد .

وفي هذه الأثناء كتب الشيخ / سليمان العبد بياناً نشرته أغلب الصحف المصرية ، قال فيه : "إني أعلن فوق ما قلته أمام النيابة العمومية كذب من ادعى أنني حرضت على تنقيص أخي وصديقي الأستاذ الشيخ / محمد عبده ، وإني أعتقد فيه حسن الخلال ، وصفات الكمال ، وليس بيني وبينه إلا كمال الصفاء والوفاق أدامهما الله بين رجال العلم وأمناء الأمة "...وكان التوقيع : كتبه بقلمه سليمان العبد بالأزهر .

وبعد ذلك بدأ محمد الشربتلي يستعطف الأستاذ الإمام ، ويطعن في الشيخ / سليمان العبد ، ويقول : إنه أغواه وأغراه ثم تراجع بعد ذلك عن أقواله أمام المحكمة !

وفي صفاء نفس ، وطهارة قلب ، ونقاء حي ، أصدر الشيخ / محمد عبده المستشار السابق في محكمة استئناف القاهرة حكمه على محمد الشربتلي الذي طعنه في أهم شيء يتهم به في الدنيا ، وهو دينه ، قائلاً له : عفوت عنك لأنك تستحق العفو بعد أن قبلت اعتذار الشيخ / سليمان العبد ، لأن الذي يقبل اعتذار الأصل لا يرضى بعقاب الفرع .!

وهكذا انتهت القضية التي ثارت مثل زوبعة في فنجان ، وقبلت المحكمة حكم الأستاذ الإمام ، وحفظت القضية .

ولكن ما هي أسباب هذه القضية المثيرة التي لم يسجلها تاريخ فكرنا الحديث ، كما يحسن التسجيل ؟

لقد كان السبب هو (رسالة التوحيد ) أشهر كتاب ظهر في القرن الرابع عشر من تاريخ الهجرة في مفهوم التجديد الإسلامي .

فقد كان الأستاذ الإمام يقرأ (رسالة التوحيد ) في دروسه المشهورة بالأزهر ، وكانت هذه الرسالة التي كتبها قد صدمت عقول كبار المشايخ الذين عجزوا عن مسايرة فكره ، وفلسفته ، واستنتاجاته ، وحاولوا التهوين من شأنه والإقلال من قدره .

وعندما بلغ الأستاذ الإمام بحث : إقامة الدليل على وحدانية الله عز وجل ، قال للحاضرين في درسه ، ومنهم بعض كبار علماء الأزهر : إنكم تعلمون أن الإيمان بوحدانية الله تعالى هو الأساس الأعظم لدين الإسلام ، ولذلك جُعِلت كلمة التوحيد عنوان للدخول فيه ، حتى إذا قالها المشرك في ميدان القتال وجب الكف عنه .

وواصل الأستاذ الإمام كلامه قائلاً : وسيكون موضوع درسنا الآتي إقامة البرهان على هذه العقيدة ، وإني سأحضر معي عند المجيء لهذا الدرس مائة جنيه ذهباً ، وأعدكم بأن من أقام أمامي البرهان على الوحدانية قبل أن يسمعه مني ، وأمكنه أن يجيب عما أورده عليه من الاعتراض جواباً صحيحاً ، فإني أدفع إليه هذا المبلغ ، وليبلغ الشاهد منكم الغائب .

لقد اهتزت أركان الأزهر الشريف لهذا التحدي الذي وصل إلى مسامع مشايخ الأزهر في كل مكان يلوذون به ، بل كان مثل الزلزال الذي زلزل العقول ، وجعل المشايخ يتهامسون فيما بينهم حول هذا التحدي الغريب ؟! .

ماذا يفعلون ؟ ، إن الشيخ محمد عبده يتحداهم في موضوع هو الحقيقة الأولى من حقائق الإسلام ، وهي التوحيد ، وهي قولنا : لا إله إلا الله .. !

وجاء اليوم الموعود ، وجلس الأستاذ الإمام على كرسيه ، ووضع أمامه كيس الجنيهات الذهبية ، ونادى الحاضرين بلسان عربي مبين : هذه هي الجنيهات المائة ، فمن كان مستعداً لإقامة البرهان قبل أن يسمعه فليتقدم .!

ولكن الصمت ساد القاعة ، قاعة الرواق العباسي الذي كان الأستاذ الإمام يلقي فيه دروسه في الأزهر الشريف ، نكست الرؤوس ، وصمتت الألسنة ، ثم علا صوته يقول لهم : استمعوا لي..

وبدأ يشرح بالبرهان القاطع الذي كتبه في (رسالة التوحيد) معاني الوحدانية ، ومفهومها ، وبراهينها العلمية والمنطقية ، وغير ذلك مما كتبه في رسالته القيمة التي تستحق أن تكون مرجعاً لكل باحث وقارئ .

لم يكن السبب في الصمت والذهول هو عجز علماء الأزهر عن إقامة البرهان على التوحيد ، فهذه قضية إسلامية عميقة الجذور ، واضحة المفاهيم ، وقد تعرض لها فلاسفة الإسلام ومفكروه ، وعلماؤه ومفسروه من كل الزوايا التي يمكن أن نفكر فيها أو نبحث عنها .

ولكن المشكلة المهمة والأساسية هي أن علماء الأزهر في تلك الفترة كانوا يعجزون عن مناظرة الأستاذ الإمام ، بسبب جمودهم الفكري الذي هو بطبيعة الحال غير قادر على مواجهة حرية الفكر والبحث والحوار ، ولم يكن بسبب قصور في العلم أو المعرفة .

وعندما يحدث العجز عن مواجهة الأفكار بالأفكار ، يتم الصدام الذي تستخدم فيه أسلحة غير فكرية في غالب الأحيان ، ويكون أهون ما فيها توجيه الاتهامات والقهر والإرهاب ، وهذا هو ما حدث في قضية (رسالة التوحيد ) أعظم ما كتب الأستاذ الإمام / محمد عبده ، وقد استخدمت في إثارتها صحيفة صفراء مجهولة الهوية اسمها (النهج القويم) ، كان يصدرها تاجر مقالات مكذوبة اسمه محمد الشربتلي .

لقد كانت هذه القضية علامة مهمة في فكر محمد عبده ، ويكفي أنها أثيرت حول كتابه المهم (رسالة التوحيد) ، وهي في نفس الوقت إحدى العلامات البارزة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث ، والذي كان الأستاذ الإمام أحد قادته العظماء البارزين .

والمطلوب منا ونحن نتأمل فكر الإمام أن نبذل الجهد الصادق في مواجهة حزب الشيخ / عليش ، وتابعه محمد الشربتلي صاحب النهج غير القويم ، ذلك الحزب الذي شاع وانتشر في حياتنا الراهنة بكل أسف .

والله ولي التوفيق ،،،

بعض الأسانيد

1 ـ عبد المنعم حماده ، الأستاذ الإمام محمد عبده ، مطبعة الاستقامة ، القاهرة ، 1945 م .

2 ـ محمد رشيد رضا ، تاريخ الأستاذ الإمام (الأجزاء من 1 ـ 3) ، مطبعة

 المنار ، الطبعة الأولى ، القاهرة ، 1350 هـ .

3 ـ عثمان أمين ، رائد الفكر المصري ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة .

4 ـ محمد عبده ، رسالة التوحيد ، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق ، 1897 م ، والطبعة الثالثة عشر ، مطبعة المنار ، القاهرة ، 1368 هـ .

5 ـ أحمد أمين ، زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة .

6 ـ مارون عبود ، رواد النهضة الحديثة ، بيروت .

7 ـ إبراهيم أحمد العدوي ، قادة التحرير العربي في العصر الحديث ، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ، 1958 م .

8 ـ عباس محمود العقاد ، محمد عبده ، طبعة وزارة التربية والتعليم ، القاهرة ، 1963 م .

9 ـ مصطفى عبد الرازق ، محمد عبده ، دار المعارف مصر .

10 ـ عبد المنعم شميس ، مجموعة مقالات عن محمد عبده ، مجلة الجديد ، هيئة الكتاب ، القاهرة .

ـــــــــ

*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

Ayusri_a@hotmail.com

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ