ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
النظام
العقابي في نطاق الشريعة
الإسلامية (
رؤية مقارنة ) بقلم
: يسري عبد الغني عبد الله* مدخل :
في هذه
السطور نحاول أن نفرق بين
التدابير الاحترازية والعقوبة
وبمعنى آخر نوضح أوجه الاختلاف
بينهما ، ثم نشرح كيف يكون
العقاب هو النتيجة المنطقية
لارتكاب الجريمة ، وبعد ذلك
نتحدث عن النظام العقابي في
نطاق الشريعة الإسلامية ،
موضحين أن للعقاب أهدافاً
ووظائف ، والمقصود بأهداف
العقاب هو البحث في أساس
مشروعية حق العقاب ، ومن وظائف
العقوبة : الوظيفة الأخلاقية ،
والوظيفة النفعية الاجتماعية ،
وقد عقدنا مقارنة بين ذلك وبين
ما جاء في نطاق الشريعة
الإسلامية . مؤكدين
على أن العقوبة في الشريعة
الإسلامية لها خصائص منها : أن
العقوبة جزاء ومسؤولية ، وأنه
لا جريمة ولا عقوبة بغير نص صريح
واضح . بين
التدابير الاحترازية والعقوبة :
التدابير
الاحترازية هي إجراءات تتخذ
حيال الجاني بهدف إزالة أسباب
الإجرام لديه ، وتأهيله
اجتماعياً ، وهذه التدابير تطبق
في الحالات التي تستحيل فيها
تطبيق عقوبة على المجرم ، لعدم
توافر شروط المسؤولية الجنائية
تجاهه ، أو في حالات أخرى تكمل
العقوبة ، وذلك في الحالات التي
لا تجدي فيها العقوبة في إصلاح
المحكوم عليه ، وتهذيبه . أوجه
الاختلاف : وهناك
أوجه للاختلاف بين التدابير
الاحترازية ، والعقوبة ، يمكن
لنا أن نوضحها فيما يلي : - أولاً :
- العقوبة تتضمن عنصري الزجر
والإيلام ، بينما التدابير
الاحترازية تهدف فقط إلى إزالة
أسباب الإجرام ، وبالتالي فهي :
علاجية أو وقائية تعبر عن مضمون
تربوي أو إصلاحي أو تهذيبي
،بينما تعبر العقوبة عن مضمون
أخلاقي . ثانياً
: - عند توافر المسؤولية
الجنائية تطبق العقوبة ، حيث
تعتبر العقوبة نتيجة قانونية
لارتكاب الجرم ، أما التدابير
الاحترازية فهي تطبق عادة في
حالات انعدام المسؤولية ، وتطبق
بمناسبة الجريمة المرتكبة ،
وليس بسببها . ثالثاً
: - العقوبة تكون محددة المدة ،
أما التدابير الاحترازية
فتتوقف مدتها على درجة تأهيل
المذنب ، وعلاجه من أسباب
الإجرام . رابعاً
: - لا يعد التدبير سابقة جنائية
، على العكس من ذلك العقوبة حيث
يتحمل المحكوم عليه آثار جنائية
في الحاضر والمستقبل. خامساً
: - الدعوى الجنائية علنية ، أما
بالنسبة للحكم بالتدبير فيمكن
أن تقيد علانية جلسات نظر
الدعوى بالقدر الذي يتلاءم مع
الظروف النفسية للجاني . (1) العقاب
نتيجة منطقية للجريمة : العقاب
هو النتيجة المنطقية لثبوت
الجريمة ، أو بمعنى آخر هو
الجزاء الجنائي للجريمة . وعليه
تكون وظيفة العقاب وظيفة
أخلاقية ، أي أن الجزاء إنما وضع
لتحقيق العدالة ، وذلك لأنه
مقابل الذنب الذي اقترفه المجرم
بارتكابه جريمة عن قصد أو
اختيار ( أي عن إدراك ووعي ) . وقد
أقرت المدرسة التقليدية القيمة
النفعية للعقاب ، وأنه يصلح
لمنع المجرم من العودة إلى
الإجرام . وعلى
العكس من ذلك نجد المدرسة
الوضعية تنكر حرية الاختيار ،
وبالتالي تنكر فكرة العقاب ،
وأخذت بما يسمى ( تدابير الأمن )
كوسيلة لمكافحة الإجرام سواء
كان الجاني مسئولاً مسؤولية
جنائية ، أو كان عديم الأهلية ،
أو ناقصها ، وبذلك لم تأخذ بفكرة
العدالة في المجال الجنائي ،
وإنما أخذت بما يسمى ( الحماية
الجنائية ) . أما
المدارس التوفيقية التي تلت
المدرسة الوضعية ، فقد أخذت
بالتوفيق بين فكرتي العقاب
والتدابير ، فاحتفظت بالعقوبات
للمجرمين المسئولين مسؤولية
جنائية ، بينما اختصت غير
المسئولين جنائياً ، وناقصي
الأهلية بنظام التدابير
الملائمة لكل طائفة منهم . ونذكر
هنا أن المؤتمر الدولي للدفاع
الاجتماعي الذي عقد في العاصمة
البلجيكية ( بروكسل ) سنة 1910 م ،
أقر فكرة الازدواج ، بين
العقوبات والتدابير ، وذلك
بالنسبة إلى طوائف معينة من
المجرمين الشواذ من الناحية
العقلية ، ومعتادي الإجرام ،
فالعقوبة تستوفي أغراض العدالة
، وبالتدابير تتحقق الغايات
النفعية أي أغراض الدفاع
الاجتماعي . (2) النظام
العقابي في نطاق الشريعة
الإسلامية : الشريعة
الإسلامية تعتمد على حرية
الاختيار في محاسبة المجرم عن
الجرم الذي اقترفه ، ولذلك فهي
تتخذ من العقوبة أداة رادعة كي
لا يعود المجرم مرة أخرى
للإجرام ، وكذلك ردع غيره مما
تسول له نفسه اقتراف مثل هذا
الجرم أو غيره ، أي يتحقق الردع
الخاص ، ومعه الردع العام . وبمعنى
آخر أن الشريعة الإسلامية تتوخى
من العقوبة غرضها في الردع
الخاص ، والردع العام ، ومن أجل
هذا قررت العقوبات البدنية ،
وجعلتها محوراً للنظام العقابي
، حتى يرتدع بها الجاني فلا يعود
، وغير الجاني فلا يقدم على
الجرم ابتداءً . يقول
المولى سبحانه وتعالى : { من قتل
نفساً بغير نفس ، أو فساد في
الأرض ، فكأنما قتل الناس
جميعاً ، ومن أحياها فكأنما
أحيا الناس جميعاً . } [ المائدة :
32 ] . والمعنى
: أنه من قتل نفساً بغير أن تكون
قتلت نفساً ، أو بغير أن تفسد في
الأرض فساداً يستوجب القتل ،
كمن قتل الناس جميعاً، ومن
أحياها أي ومن كان سبباً في
إحيائها ، كان كأنه أحيا الناس
جميعاً .(3). ويقول
جل شأنه : { يا أيها الذين آمنوا
كتب عليكم القصاص في القتلى ،
الحر بالحر ، والعبد بالعبد ،
والأنثى بالأنثى ، فمن عفا له من
أخيه شيء فاتباع بالمعروف ،
وأداء إليه بإحسان ،ذلك تخفيف
من ربكم ورحمة ، فمن اعتدى بعد
ذلك فله عذاب أليم ، ولكم في
القصاص حياة يا أولي الألباب
لعلكم تتقون } [ البقرة : 178 - 179 ] . والمعنى
: يا أيها المؤمنون كتب الله
عليكم في القتلى القصاص ، أو
القود وهو أن يفعل بالجاني مثل
ما فعل بالمجني عليه ، ففي حالة
العفو ، وإبدال الدية بالقصاص ،
على من عفا أن يحسن المطالبة بها
، وعلى المعفو عنه أن يحسن
أداءها ، ذلك التخيير بين
الاقتصاص ، وقبول الدية تخفيف
من ربكم ورحمة ، فمن تعدى ذلك له
العذاب الأليم . قال
الأصوليون : قوله الحر بالحر ،
والعبد بالعبد ، والأنثى
بالأنثى ، لا يدل على منع قتل
الحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ،
والمؤمن بالكافر ، وإنما نزلت
الآية الكريمة لما تحاكم حيان
من العرب إلى الرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ، وكانت بينهما حروب
، فأقسم أحد الحيين أن يقتل بكل
عبد حراً ، وبكل أنثى ذكراً ،
فنزلت الآية تأمرهم بأن يكون
الحر بالحر ، والعبد بالعبد ،
والأنثى بالأنثى . (4) وفي سن
القصاص حياة للناس ، لأنه يرد
العادين ، فلا يشيع القتل بين
العالمين . أي أن
من يقتص منه ، يكون عبرة لمن
يحاول قتل الآخرين ، فلا يفكر في
ذلك الباتة . العقاب
بين الأهداف والوظائف : المقصود
بالهدف من العقاب هو البحث في
أساس مشروعية حق العقاب . وقد
ذهبت المدرسة التقليدية إلى
القول بأن الهدف من العقوبة هو :
تطهير المجرم من إثمه ، وتكفيره
عن خطيئته ، وتهدئة شعور السخط
العام ، وتحقيق العدالة ، وفي
النهاية يؤدي إلى حماية المجتمع
من الانحراف . ويمكن
لنا أن نحصر الوظائف التقليدية
للعقوبة في وظيفتين رئيسيتين : - الوظيفة
الأولى : وظيفة أخلاقية : مقتضاها
التكفير والتطهير من جهة ،
وتحقيق العدالة الإنسانية من
جهة أخرى ، أي يكفر الجاني عن
إثمه الذي ارتكبه من جهة ،
وإرضاء الشعور العام من جهة
أخرى ، وهذا يقتضي أن تنطوي
العقوبة على معنى الإيلام ، وأن
تكون متناسبة في شدتها مع درجة
المسلك الإجرامي . الوظيفة
الثانية : وظيفة نفعية للمجتمع : وهي
الدفاع الاجتماعي ، أي حماية
المجتمع من شرور الإجرام
والانحراف ، وذلك عن طريق منع
المجرم ذاته من العودة إلى
الإجرام ، بزجره أو بإصلاحه حتى
لا يعود إلى طريق الانحراف ،
وبالتالي منع غير المجرم من أن
يقتدي بمرتكب الجريمة عن طريق
الترهيب والردع العام ، وبذلك
يجب أن تكون العقوبة متناسبة في
شدتها مع درجة جسامة الجريمة
المقترفة . والوظيفتان
السابقتان تدعوان إلى ضرورة
وأهمية محاولة إصلاح وتقويم
المجرم ، أي تحويله إلى عضو صالح
في المجتمع ، لأن التكفير عن
الذنب يجب أن يقترن في فحواه
بمحاولة التقويم والإصلاح .(5) أهداف
ووظائف العقوبة في نطاق الشريعة
الإسلامية : وفي
نطاق الشريعة الإسلامية نجد
استناد العقوبة إلى معنى
المنفعة الاجتماعية ، والعدالة
. فالحدود
التي هي العقوبة المقررة حقاً
لله عز وجل . فيها حق الله تعالى
غالب على حق العباد ، ولذلك
فالعدوان عليها هو عدوان على
الصالح العام ، وذلك كحد السرقة
، وحد الزنا ، وحد الحرابة ، وحد
البغي ، وحد الردة ، فالعقوبة في
هذه الحدود تستند إلى معنى
المنفعة الاجتماعية ، والتي
هدفها الأول حماية المجتمع من
الانحراف والإجرام . فالقصاص
على سبيل المثال يستند في أصله
إلى معنى العدالة ، فهو يتمثل في
مقابلة ضرر تضرر مثله ، وفي ذلك
إرضاء لشعور المجني عليه أو
لذويه ، أو إرضاء للشعور العام ،
وهو مقابل عادل برد فعل جريمة
لدى كل منهما . يقول
المولى جل شأنه : { وكتبنا عليهم
فيها أن النفس بالنفس ، والعين
بالعين ، والأنف بالأنف ،
والأذن بالأذن ، والسن بالسن ،
والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو
كفارة له ، ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الظالمون .} [
المائدة : 45 ] والمعنى
هنا : لقد أنزل الله تعالى
التوراة فيها هداية إلى الحق ،
وفرض على اليهود فيها أن النفس
تقتل بالنفس ، والعين تقلع
بالعين . . . إلخ ، وأن الجروح
قصاص ، أي ذات قصاص ، أي يقتص من
جانبها بأن يفعل به مثل ما فعله
بالمجني عليه إن أمكن ، فإذا عفا
صاحب الحق فهذا كفارة للجاني
يسقط عنه به ما لزمه .(6) وهذا هو
أروع صور العدالة في العقاب ،
فلعلنا نعي ذلك جيداً وندركه . وبذلك
نستطيع القول : إن هناك اتفاقاً
بين الشريعة الإسلامية ، وبين
القوانين الجنائية الوضعية ، من
أن العقاب هو العدالة . خصائص
العقوبة : وبعد أن
تحدثنا عن أهداف ووظائف العقوبة
، وكيف كانت في نطاق الشريعة
الإسلامية ، نجد أنه من المفيد
أن نختتم كلامنا بحديث موجز عن
خصائص العقوبة : - أولاً :
العقوبة جزاء : في تعبر
عن مقابل جريمة معينة ،
ومسؤولية مجرم عن هذه الجريمة ،
وهذا يقتضي ألا توقع عقوبة
بالمعنى إلا حيث توجد جريمة لها
أركانها ، ونص عليها القانون ،
وحيث ثبت قيام مسؤولية المتهم
بهذه الجريمة جنائياً ، كما
تقتضي أن تقاس العقوبة من حيث
شدتها بما يتناسب مع مقدار حجم
الجريمة ، ودرجة مسؤولية المجرم
عنها . ثانياً
: شرعية العقوبة : بمعنى
أنه لا جريمة ، ولا عقوبة بغير
نص صريح واضح ، ويلزم في شرعية
العقوبة أن تكون واحدة بالنسبة
لجميع المجرمين ، بمعنى أن
الجميع يتساوون عند تشابه ظروف
الجريمة ، والمسؤولية في الخضوع
لذات العقوبة ، دون اعتبار
لتفاوتهم من حيث المكانة
الاجتماعية ، ويعتبر هذا مظهر
عام من مظاهر مبدأ مساواة الناس
أمام القانون . (7) ثالثاً
: شخصية العقوبة : بمعنى
أنها لا تصيب إلا شخص المجرم
الذي ثبتت إدانته بالأدلة
القاطعة التي لاشك فيها ، تصيبه
هو فقط دون غيره من الناس ، وذلك
لأن الإنسان لا يسأل إلا عما جنت
يداه ، أي ما أحدثه هو بنشاطه
الواعي ، وإرادته الكاملة ، من
الوقائع الإجرامية ، وفي هذا
احترام لمبدأ الحرية الفردية ،
ما دام العقاب لا ينبغي أن ينال
شخصاً آخر غير الجاني . (8) وكل هذه
الخصائص للعقوبة نجدها واضحة ،
صريحة في نطاق الشريعة
الإسلامية . والله
ولي التوفيق ، ــــــــــــــــ الأسانيد
و الهوامش (1)
نادرة محمود سالم ، السياسة
الجنائية المعاصرة ومبادئ
الدفاع الاجتماعي من منظور
إسلامي ، مكتبة النهضة العربية
، القاهرة ، 1995 م ، ص 101 ، وما
بعدها بتصرف من عندنا . (2)
الأمم المتحدة ، مؤتمر الدفاع
الاجتماعي ، المنعقد في بروكسل
، سنة 1910 م ، فاعليات المؤتمر ،
ضمن مطبوعات الأمم المتحدة ،
بمكتبة كاتب السطور . (3)
محمد فريد وجدي ، المصحف المفسر
، مكتبة دار الشعب ، القاهرة ،
1974 م ، تفسير سورة المائدة . (4)
محمد فريد وجدي ، مرجع سابق ،
تفسير سورة البقرة . (5)
نادرة محمود سالم ، مرجع سابق ،
ص 104 ، وما بعدها ، بتصرف من
عندنا . (6)
محمد فريد وجدي ، مرجع سابق ،
تفسير سورة المائدة . (7)
نادرة محمود سالم ، مرجع سابق ،
ص 106 ، وما بعدها ، بتصرف من
عندنا . (8)
عبد المهيمن بكر ، القسم الخاص
في قانون العقوبات ، القاهرة ،
1999 م ، ص 15 ، وما بعدها ، بتصرف من
عندنا . ـــــــــــ *باحث
ومحاضر في الدراسات العربية
والإسلامية وخبير في الدفاع
الاجتماعي -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |