ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 24/05/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الدولة المدنية وخطاب الحركات الإسلامية

بقلم: سعيد بنسعيد العلوي*    

أولا: جملة مقدمات ضرورية

الدولة المدنية (أو دولة الحكم المدني كما يقول فلاسفة العقد الاجتماعي) هي الدولة كما تمثل في الفكر السياسي الحديث من جانب أول وهي الدولة على النحو الذي يشرع لها الفقه الدستوري المعاصر من جانب ثان. وإذا كان من الطبيعي أن تصرف جهود الباحثين في حقل العلوم السياسية إلى شرح الآليات التي تعمل الدولة الحديثة بموجبها وإلى الكشف عن الضوابط القانونية التي تحكم تلك الدولة وتحدد مسارها, فإن من المنطقي كذلك أن يتجه عمل مؤرخ الفكر إلى إلقاء الأضواء الكاشفة على جملة الشروط الاجتماعية والسياسة والمعرفية -وبالتالي التاريخية- التي جعلت انبثاق هذه الدولة أمرا ممكنا. وتاريخ الفكر يعلمنا أن ولوج أزمنة الحداثة تحقق عبر مسيرة طويلة نسبية حدث بموجبها القطع مع العصور الوسطى في مستويات عدة من المعرفة والوجود والفكر السياسي الحديث، على النحو الذي تجليه فلسفة التعاقد الاجتماعي، ويعبر عنه ظهور مفاهيم جديدة غير مألوفة (أو أنها النقيض المطلق لما كان موجودا في دولة العصور الوسطى) مثل المواطنة، والمساواة في الحقوق والواجبات، والتحالف على أسس منفعية مصلحية واضحة، والقول بآدمية السلطة السياسية، والنضال بكل سبيل ضد السلطة السياسية المطلقة والمقدسة وإقرار مبدأ دوران السلطة، واعتبار الديمقراطية مثلا أعلى في الوجود السياسي. يمكن القول بكيفية إجمالية: إن ميلاد الدولة المدنية أو الدولة -في التصور السياسي الحديث- هو أحد تجليات الحداثة وتعبير عن سيرورة التحديث. هذه مقدمة أولى ضرورية لحديثنا.

 

المقدمة الثانية الضرورية لموضوعنا كذلك، فهي تتصل بمنطوق الحركات الإسلامية المعاصرة، والقصد بهذه الحركات عندنا (ونحن من دعاة الحديث عنها بالجمع لا بالمفرد, كما يذهب البعض بدعوى أن المضامين تظل واحدة أو متقاربة تقارباً شديداً وإن اختلفت الأشكال التعبيرية) هو الحركات السياسية المعاصرة التي شهدها العالم الإسلامي المعاصر, والتي جعلت من نظام الحكم في الإسلام من حيث إنه مثل أعلى أو نظام معياري (خارجا عن تحققه الفعلي -كُلاّ أو بعضا- في مراحل معينة من تاريخ الإسلام أو في عصر مرجعي افتراضي أو فعلي) نظرية ملزمة في الوجود السياسي الإسلامي المعاصر. هذه الحركات الإسلامية هي ما ينعت، عادة، بحركة الإسلام السياسي. هذه الحركات يقال عنها حينا: إنها حركة الاحتجاج السياسي بواسطة الدين الإسلامي، أو إنها الإسلام الاحتجاجي. ويقال عنها طورا، في الأدبيات السياسية الغربية: إنها الإسلام الجهادي. كما أن هذه الحركات تتخذ عند أنصارها خاصة، نعوتاً مختلفة (السلفية، التكفير والهجرة، الدعوة، العدالة، الصراط المستقيم...) هذه الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة هي من التنوع والاختلاف بحيث إنها تبلغ درجة التعارض الشديد أحيانا من حيث قبول النظام السياسي في البلاد التي تنتسب إليه والدعوة إلى التغيير والاستيلاء على السلطة التنفيذية، في ظل التشريعات القائمة وفي اجتهاد في التوافق مع مبدأ الدوران السلمي للسلطة.

 

كما أن تلك الحركات تدعو -أحيانا أخرى- إلى رفض الأنظمة السياسية القائمة والدعوة إلى الإطاحة بها واعتبار الانقلاب والعنف السبيل الأوحد للوصول إلى السلطة السياسية الكاملة. يمكن القول -من زاوية أخرى- إن الحركات الإسلامية المعاصرة -مع الاختلاف القائم بينها- كيفيات مختلفة في الإجابة عن سؤال واحد هو ذلك الذي يتصل بنظام الحكم الإسلامي الكفيل بتحقيق النقلة النوعية التي لا يفتأ الفكر السياسي الإسلامي المعاصر يتطلع إليها منذ الشطر الأخير من القرن التاسع عشر ومطالع القرن الماضي, أي مع بدايات الوعي الفعلي بالاختلاف عن الغرب القوي المتقدم والغازي المستعمر. الحق أن ذلك الوعي كان يعني وعياً مزدوجاً في الواقع، وعيا يصح نعته بوعي التأخر المزدوج. التأخر بالنسبة للعصر الذهبي للإسلام، وهو الزمان المرجعي المعياري، زمن الخلافة الراشدة. والتأخر بالنسبة لركب الإنسانية المتقدمة، تأخر ليس له -في نهاية الأمر- سوى سبب وحيد هو التنكب عن جادة الصراط المستقيم والابتعاد عن الإسلام على الحقيقة.

 

أما المقدمة الثالثة (والأخيرة) الضرورية لحديثنا في الدولة المدنية في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة - فتقوم في الانتباه إلى أمر واضح وبسيط معا يتصل بالحركات السياسية الإسلامية المعاصرة. ولهذا الأمر سمتان اثنتان في الواقع. السمة الأولى هي أن الحركة السياسية الإسلامية المعاصرة - تلك التي قلنا عنها في فقرة سابقة: إنها عرفت بدايتها منذ الشطر الأخير من القرن التاسع عشر - قد استكملت كل العناصر الضرورية لصياغتها النظرية المعاصرة في ثلاثينات القرن الماضي مثلما أنها عرفت نقلة كيفية جديدة وحاسمة في نهاية الستينات من القرن المتقدم كذلك. مرحلتان اثنتان ونقلتان نوعيتان تتصلان بمسيرة كل من الفكر والمجتمع في العالم الإسلامي إجمالاً، وفي العالم العربي باعتباره بعضاً من العالم من جهات عديدة خاصة، وتتصل بمسيرة الفكر والمجتمع في مصر على نحو أخص. مرحلة أولى تجليها حركة الإخوان المسلمين وفكر زعيمها ومؤسسها حسن البنا. ومرحلة ثانية يترجم لها حدث ارتسم في الوعي الإسلامي المعاصر بقوة، هو حدث إعدام سيد قطب ويترجم لها فكر هذا الشيخ في كتاب صغير من مؤلفاته الكثيرة، مؤلف هو إلى إعلان العقيدة أو إلى البيان الاحتجاجي والمجاهرة بالدعوة العنيفة أقرب منه إلى الخطاب المعرفي. ولما كان تاريخ الفكر يتعلق بالكتابة والنصوص أولاً وأساساً فإن مؤرخ الفكر تستوقفه -بطبيعة الموضوع- نصوص تتوافر فيها جملة من المواصفات والشروط مثلما أنها تكون شهادة أمينة على زمان كتابتها. ومؤرخ الفكر الذي يروم التأريخ للحركات السياسية الإسلامية المعاصرة تستوقفه مجموع رسائل وخطب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر كما يستوقفه البيان الاحتجاجي أو إعلان العقيدة الذي كتبه في الشهور الأخيرة من حياته سيد قطب, ونشر بعد وفاته تحت عنوان "معالم في الطريق". أما السمة الثانية - وهي وثيقة الصلة بالسمة الأولى أو لنقل: إنها الوجه الآخر المعبر عنها -فهي أن حضور الفكر- في فكر الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة - حضور ضحل، هزيل، فليس يقبل المقارنة مع كبريات النصوص السياسية في الإسلام. هذه السمة هي ما جعلتنا، في حديث سابق عن "الإسلام السياسي" ننتهي إلى التقرير بأن احتفال مؤرخي الفكر بهذه الحركة كان احتفالا يسيراً، هامشيا قليل الغناء في الغالب، في حين أن انشغال علماء السياسة وعلماء الاجتماع السياسي بحركة الإسلام السياسي كان اهتماماً كبيراً بل ومهيمنا على اهتمام المتشغلين بقضايا التحول الاجتماعي والوجود السياسي في العالم العربي الإسلامي، وفي العالم الإسلامي المعاصر. والرأي الذي انتهينا إليه - في محاولة فهم هذا الواقع (ضعف اهتمام مؤرخ الفكر بالإسلام السياسي في مقابل الاهتمام الشديد عند علماء السياسة ورجال الاجتماع السياسي) - هو أن الإسلام السياسي ظاهرة سياسية اجتماعية، وتعبير عن أزمة وجود وتطور أكثر منه نتاج فكر؛ لذلك كان النتاج الفكري فقيراً من الناحية النظرية, وكان في الغالب بيانات وخطب ودعوة يكفي في إذاعتها المنشور القصير، والبيان القطعي القصير، والموقع على شبكة الإنترنت.

 

محاولة استجلاء أنماط حضور الدولة المدنية وتمثل طبيعتها عند كل من حسن البنا وسيد قطب، ومحاولة تقصي الكيفيات التي يتم بها وعي الحداثة في النصين السابق ذكرهما، المحاولتان سبيل لتبين معنى الدولة المدنية في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة, وقد كانت "مجموعة رسائل الإمام حسن البنا" من جانب أول، وكتاب "معالم في الطريق" بلورة لذلك الخطاب ذلك ما نسعى إليه، في وقفة أولى، عند رسائل وخطب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وفي وقفة ثانية عند النص الثاني المؤسس لحركة الإسلام الجهادي، أو الإسلام الاحتجاجي، أو الإسلام السياسي في معناه المتداول منذ سبعينيات القرن العشرين.

 

ثانيا: الدولة المدنية في خطاب الإخوان المسلمين

 

يتساءل حسن البنا في خطابه الافتتاحي للمؤتمر الخامس لجماعة الإخوان المسلمين عن الإسلام الذي يقصده الإخوان بالقول ويرى أن الأمر يستدعي –إجمالاً- مراجعة جديدة لمعنى الإسلام تعود به إلى طبيعته الأصلية، إلى الحقيقة الأولى التي يرى أنه له. تلك المراجعة الشاملة أو ما يقول عنه زعيم الجماعة إنه "الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين" تحمل على القول إن ذلك الفهم ينتهي إلى تقرير حركة إصلاحية تشمل مختلف جوانب الفكر والوجود. وهكذا يقرر البنا أن الإخوان المسلمين دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وجماعة رياضية "لأنهم يعنون بجسومهم ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف"، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية؛ "لأن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه، وفكرة اجتماعية. والإخوان المسلمين في قول حسن البنا (هيئة سياسية؛ لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد)(1). وهذه الصفة -التي يوردها رئيس الإخوان ضمن الصفات الأخرى السابق ذكرها فلا يجعلها في صدارة الترتيب، ولا ينهى القول الشارح لفكرة الإخوان المسلمين بها - هي في الحقيقة الفكرة المحورية التي تحكم النظرية كلها وهي العنصر الفاعل الحاسم في البناء النظري للجماعة. هي كذلك؛ لأن الفهم الذي يأخذ به الإخوان المسلمون في الإسلام للسياسة قاعدة الفهم ومداره. يقول الشيخ -في عبارة واضحة لا تستدعي شرحاً ولا تحمل على تأويل-: (الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون بجعل الحكومة ركناً من أركانه ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد (...) والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع)(2).

 

من المعلوم أن لفظ الحكومة، في الخطاب السياسي الإسلامي الكلاسيكي، لا يعني السلطة التنفيذية فحسب, بل إنه يفيد السلطة السياسية في معناها الشامل الذي يعني التنفيذ والتشريع معا، بل لعل المعنى الأصلي هو هذا الأخير أولاً وأساساً. وقد يلزم الانتباه -منذ البدء كذلك- أن "الإرشاد" في عبارة حسن البنا لا يعني مجرد التوجيه والتذكير بالكليات والمبادئ العامة التي يرى الشيخ أن الإسلام ينهض بموجبها، بل إن المقصود بالإرشاد اعتبار الفهم المحدد للإسلام عند الجماعة المعيار الوحيد الممكن. الإرشاد -في كلمة أكثر وضوحا ودقة معا- يعني التشريع. كذلك يلزم أن يستوقفنا -منذ البداية كذلك- هذا التقرير الآخر في خطاب الشيخ: (الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع). وهو يستوقفنا لسبب صريح، يتم الإعلان عنه بوضوح تام، ولسبب آخر أقل وضوحا أو لنقل: إن القول فيه يكون مواربا متخفيا خلف العبارة الأنيقة. أما السبب الصريح فهو أن الحكم يعتبر من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع. ونجد أنه لا بأس من التذكير بالفرق بين العقائد والفقهيات، وبين الأصول والفروع حتى تحسن متابعتنا لقول البنا.

 

العقائد هي القطعيات والمسلمات التي لا تقبل جدلا ولا تحتمل تأويلا ومجال القول فيها هو علم الكلام أو أصول الدين. ونحن إذ نتصفح كتب علم الكلام السني (الأشعري والحنبلي على السواء فنحن نجد أن (الخلافة أو الإمامة العظمى تدرج ضمن مباحث أصول الدين سواء بسواء بجانب القول في الذات والصفات الإلهية والنبوة والمعاذ، فهي من العقائد حتى وإن كان المتكلمة يعتذرون عن إدراجها في مؤلفاتهم الكلامية ويعللون ذلك بكونه مما جرى به العمل فحسب (على نحو ما يفعله أبو حامد الغزالي مثلا). أما بالنسبة لعلم الكلام الزيدي و الإمامي (والشيعي عموما) فإن القول في الإمامة العظمى هو من جوهر الدين بطبيعة الآمر. في علم الكلام تتقرر الكليات وتؤصل الأصول، وطبيعة المعرفة الكلامية -كما يريدها المتكلمة- قطعية لا تحتمل الظن، وهي برهانية لأنها فرضية استنباطية، فهي تتجه من العام الكلي المقرر إلى الجزئي الخاص الذي يستمد قوته النظرية من قوة المقدمات واليقينية المقررة. أما الفقهيات فهي -وإن كانت مبادئها الكلية تتقرر في أصول الدين- من الظنيات، وهي كذلك؛ لأن المنهج الذي تعمل بموجبه منهج استقرائي فالمسيرة فيه تركيب من الجزئيات إلى الكليات، وتصاعدية من الخاص والأدنى إلى العام والأعلى.

 

أما السبب الثاني (ذلك الذي قلنا عنه: إن البنا يكون فيه أقل وضوحا ومباشرية) فهو مخالفته المطلقة لنظرية شيخ أزهري آخر معاصر له وشهير بنظريته التي كانت أصداؤها لا تزال تعتمل في النفوس، نظرية على عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم". والفكرة الأخيرة لا تقوم فقط في إبعاد نظرية الخلافة (على النحو المعروفة به عند كبار منظريها في الإسلام) عن مجال علم الكلام وإلحاقها بمجال الفقه والتشريع فحسب بل إن فكرة الشيخ الثاني ترى أنها تتصل بمجال السياسة وحده. أما قول زعيم حركة الإخوان المسلمين فنحن نصفه بالمواربة؛ لأنه يجتنب تصدير القول بها وإلقاء الأضواء الكاشفة عليها، بل إنه يجعله من "تمام البحث" فيقول: "وبيان ذلك أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخلافة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولذلك قدم الصحابة -رضوان الله عليهم- النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه (...) والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام (...) لا تدع مجالا للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن مناهجها ثم ألغيت بتاتا على الآن", ثم إن الشيخ البنا ينتهي إلى التقرير بأن الإخوان المسلمين لهذا السبب (يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات)(3).

 

ليست الخلافة من العقائد فحسب، وليست السلطة السياسية عماد الفكرة الإسلامية الصحيحة وكفى، وليست دولة الإسلام على الحقيقة هي دولة الخلافة وبالتالي فإن ما عداها لا يكون معتبرا، بل إن الهدف البعيد للإخوان هو "إعادة الخلافة" ولذلك فإن الخلافة والعمل على إعادتها في عبارة حسن البنا يكون في "رأس مناهج" الإخوان المسلمين. إحياء دولة الخلافة أو إعادة الخلافة أو "الخلافة الثانية" (كما يقول تلميذ بعيد من أتباع الشيخ حسن البنا سلك بالنظرية مسلكا مختلفا، بل ومخالفا، هو الشيخ عبد السلام ياسين في المغرب) كلها صيغ وتعابير مختلفة عن قضية واحدة تشغل الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة فهي قوة الدفع فيها: قضية السلطة التنفيذية والسبيل إلى امتلاكها. يقول الشيخ حسن البنا: (إن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف)(4). وإذ يقرر ذلك فهو يقوم بإمضاء العقد التأسيسي لما يقال عنه اليوم: إنه الإسلام السياسي.

 

أما فيما يتعلق بالخطوات التي يلزم ضرورة أن تسبق "الخطوة المباشرة"، وهي الاستيلاء على السلطة التنفيذية ومن ثم "إعادة الخلافة" فإنها مجموع البرامج التي يدعو إليها الإخوان المسلمون وهي مختلف أشكال الإعداد الجسماني (= الرياضي) والثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والروحي وبالتالي فهي ما يشكل الأغلب من خطب ورسائل حسن البنا. ومن الطبيعي أن من شأن الخوض في التفاصيل المتعلقة بكل المناحي المذكورة أن يبعدنا عن موضوعنا، قضية الدولة الوطنية وحضورها في الوعي الديني – السياسي للإخوان المسلمين. لذلك فنحن نوجه اهتمامنا إلى العناصر التي تتصل مباشرة بمسألة الدولة والنظام السياسي في مصر في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين كما يمثلان في وعي مؤسس حركة الإخوان المسلمين ومنظرها الأول.

 

العنصر الأول في النظرية السياسة للإخوان المسلمين -ما يمثل التمهيد الضروري لها- هو أن الإخوان - بعدما يعلنون - كما رأينا- أن قعود المصلحين السياسيين عن المطالبة بالحكم يعتبر جريمة من وجهة نظر الإسلام - يقولون: إنهم لا يطلبون الحكم لأنفسهم, بل إنهم (إن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره)(5), بيد أنهم "لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها - لا الحكومة القائمة ولا الحكومة السابقة ولا غيرهما من الحكومات الحزبية من ينهض بهذا العبء".

 

العنصر الثاني في النظرية الإخوانية يكمن في الكيفية المعتمدة في الإجابة عن سؤال صريح يتوهم الشيخ البنا أن الكثير يطرحه: (هل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر؟)(6). والكيفية المعتمدة هي الأسلوب البيداغوجي الذي سار عليه زعيم الحركة في كتابته وانتهجه من بعده عدد من الدعاة الإسلاميين في مصر وفي غيرها من البلاد العربية. إنها كيفية تقوم في شرح معنى القوة الحقيقية (هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟). والمعنى الحقيقي للقوة الحقيقية التي يرى الإخوان المسلمون أن الإسلام يدعو إليها "القوة شعار في كل نظمه وتشريعاته"، يكمن في الأعماق، في التربية والإعداد. والجواب الأخير عن السؤالين المتقدمين يأتي واضحا بعد الحديث عن القوة الحقيقية (القوة الروحية في نهاية التحليل): (وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها)(7).

 

العنصر الثالث في النظرية الإخوانية يتعلق بالدستور والموقف منه، ويتصل بالحكم الدستوري. والإخوان يريدون لرأيهم أن يكون واضحا لا مدعاة فيه للبس أو غموض. يكتب الشيخ في خطابه في المؤتمر الخامس في صورة استنتاجية (يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به (...) فنحن نسلم بالمبادئ السياسية للحكم الدستوري باعتبارها متفقة، بل مستمدة من نظام الإسلام)(8). ويعود للفكرة ذاتها في نبرة احتجاجية دفاعية معاً في نص يعتبر آخر ما كتبه الشيخ حسن البنا قبل اغتياله (وهذه في الواقع أعجب الاتهامات ولا ندري أي نظام حكم يعني هؤلاء المتهمون، إن نظام الحكم في مصر إما ديني، وهو الإسلام الذي ينص الدستور على أنه دين الدولة الرسمي، وإما مدني، وهو النظام الديمقراطي الذي يقوم على إرادة الشعب واحترام حريته والذي فصله الدستور تفصيلا، فهل الإخوان المسلمون يعملون على قلب أحد النظامين؟ اللهم لا وألف مرة لا: فإن أساس دعوة الإخوان هو الإسلام، ولا وسيلة لهذه الدعوة ولا حماية لها إلا بالدستور الذي يكفل الحريات، فكيف يوجه إلى الإخوان مثل هذا الاتهام؟)(9).

 

العنصر الرابع في النظرية السياسية الإخوانية هو رفض الحزبية والأحزاب السياسية واعتبارها مصنوعة من جهة أولى، ويمكن الاستغناء من جهة أخرى هي أحزاب مصنوعة (والعبارة للبنا بطبيعة الأمر)؛ لأن (العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني)(10). ولأنها كذلك فهي (لم تحدد برامجها ومناهجها حتى الآن)(11) وكل نظر الأحزاب السياسية المصرية في نظر زعيم الإخوان المسلمين (قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواع أكثرها شخصي لا مصلحي)(12). وحيث إنها كذلك فإن الإخوان المسلمين يعتقدون أن في الإمكان الاستغناء عنها ويرون (أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر(...) كما طلبوا من جلالة الملك حل هده الأحزاب القائمة حتى تندمج جميعا في هيئة شعبية واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام المسلمين)(13). ومن الطبيعي أن تلك الهيئة لا تكون شيئا آخر سوى حركة الإخوان. (أيها الإخوان لقد آن أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنقاذه القوى والجهود)(14), تلك هي غاية الدعوة وذاك مطلبها الأكيد: القضاء على الحزبية والأحزاب بهدف إقامة المؤسسة السياسية العليا والوحيدة الممكنة إسلاميا. أما الأحزاب الواجب إزاحتها من الساحة الإسلامية فلا يزال (أقطابها جميعا يفهمون الإسلام على أنه ضروب من العبادات والروحانيات لا صلة لها بحياة الأمم والشعوب الاجتماعية والدنيوية)(15).

 

لا يرى الإخوان المسلمين -في نهاية التحليل- تعارضاً بين رفض الحزبية والدعوة إلى حل الأحزاب السياسية من جهة والقول من جهة أخرى إن الحكم الدستوري (وروحه: التعدد والقول بالاختلاف في الرأي السياسي، والعمل على بلورة الرأي والعمل على الاستيلاء على السلطة التنفيذية بواسطة عمل الحزب والحزبية) "أقرب نظم الحكم القائمة في العالم إلى الإسلام" مادام في إمكان الهيئة العليا الواحدة التي تجتمع حول مبادئ الإسلام أن تقوم بذلك. لا يرون تعارضا في ذلك من جهة إدراكهم لمعنى الدولة المدنية والحكم المدني كما رأينا حسن البنا يعبر عن ذلك في خطابه الاحتجاجي السابق ذكره. فالدستور هو الإسلام، والاعتراض لا يكون على الدستور باعتباره قانوناً أسمى يكون الاحتكام إليه، وإنما الاعتراض على التشريعات والقوانين التي يجري العمل بها. والحكم المدني "هو النظام الديمقراطي الذي يقوم على إرادة الشعب واحترام إرادته والدي فصله الدستور تفصيلا". أما ما زاد على ذلك فغموض وإبهام يتعين رفعهما، يتعين إزالة القوانين حيث تكون مناقضة أو ناسفة للدستور الأسمى على الحقيقة ( = الإسلام). الأمر ينتهي إلى وجوب الأخذ باختيار حاسم بين الدستور وبين القانون "فكيف يكون موقف المسلم بينها؟ أيطيع الله ورسوله ويعصي الحكومة وقانونها، والله خير وأبقى؟ أم يعصى الله ورسوله ويطيع الحكومة فيشقى في الآخرة والأولى؟".

 

يمكن القول -في خاتمة الحديث عن الدولة المدنية في خطاب الإخوان المسلمين- إن معنى هذه الدولة ووعي الحكم المدني يمثلان في الصورة الإشكالية التي ينتهي التساؤل الأخير إلى صياغتها.

 

ثالثا: الإسلام والجاهلية أو الإسلام والدولة المدنية

 

نقطة الانطلاق في النظرة التي يأخذ بها الشيخ سيد قطب، المرجعية العليا في حركات الإسلام السياسي العربي، هي التمييز في الوجود الإنساني المعاصر بين الإسلام من جهة، والجاهلية من جهة أخرى. (نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية ... تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير معا فنحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيرا إسلامية .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية)(17). إثنينية مطلقة هي في جذريتها أشبه ما تكون بالمانوية في تفرقتها بين النور والظلام، بين الخير والشر، زوج كامل من جهة التصور والإدراك، بمعنى أن الطرفين يمثلان في نقيض تام لبعضها البعض (الإسلام/ الجاهلية). وقد يكون أقرب إلى إدراكنا اليوم أن نستدعي التفرقة المنطقية التي تقوم في التعريف بالسلب أو ما يصفه هيجل في منظومته المنطقية بالتعيين السلبي (الإسلام ليس الجاهلية) وليس -كما يقول متكلمة الإسلام- تبعد عن الذات كل ما عساه أن يلحق بها مما هو ليس منها.

 

يقول سيد قطب: (الإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات؛ مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي)(18), وحتى نعرف حقيقة المجتمع الإسلامي يلزمنا أن ندرك طبيعة (أو طبائع) المجتمع غير المسلم، أي المجتمع الجاهلي. المجتمع الجاهلي هو -في قول شامل- "كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده ... متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشرائع التعبدية، وفي الشرائع القانونية". وهو متى أردنا التفصيل وطلبنا الوضوح تمهيدا لإدراك كنه المجتمع النقيض (= المسلم) مجتمعات، إنه (المجتمعات الشيوعية أولا بإلحادها في الله -سبحانه- وإنكار وجوده أصلا (...) وتدخل فيه المجتمعات الوثنية .. وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وإفريقية (...) سواء استمدت هذه الأنظمة (...) وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعا)(19)، المجتمع الجاهلي هو إذن إما مجتمع انحراف عن الدين الإسلامي وتوهم الصدور عنه والحديث باسمه، أو مجتمع تحريف للدين الإسلامي، أو هو مجتمع الإلحاد والوثنية، وفي عبارة سيد قطب هو كل مجتمع "لا تكون فيه الحاكمية العليا لله -سبحانه-".

 

المجتمع الإسلامي مختلف عن ذلك، بل هو مخالفا مخالفة الضد للضد. إنه (المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام .. عقيدة وعبادة، وشريعة ونطاقاً، وخُلقاً وسلوكاً (..) هو وحده "المجتمع المحضر" والمجتمعات الجاهلية -بكل صورها المتعددة- مجتمعات مختلفة (..) هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه الله واحد ويخرج فيه الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك يتحررون التحرر الحقيقي الكامل)(20). المجتمع الإسلامي بمفرده المجتمع المتحضر، والمجتمع المتحرر، وهو كذلك؛ لأنه مجتمع الإيمان والعبودية لله على الحقيقة، هي الإقرار بأن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله وحده.

 

ما القول في الوجود الإنساني، في امتداده واتساع رقعته، وما القول في اختلاف الثقافات، وما القول خاصة في الإرث الثقافي المشترك بين البشرية جمعاء؟ جواب الشيخ قطعي يعمل على تأكيد اثنينية الإسلام / الجاهلية بكيفية أخرى: (إن حكاية أن "الثقافة تراث إنساني" لا وطن له ولا جنس ولا دين .. هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية دون أن تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية والميتافيزيقية لنتائج هذه العلوم)(21)، نعم للعلوم البحتة وللتكنولوجيا، فالأخذ فيها عن غير المسلم ممكن مباح (الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم عن غير المسلم، أو عن غير التقي من المسلمين، في علم الكيمياء البحتة أو الطبيعة أو الفلك أو الطب أو الصناعة (..) ولكنه لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته ولا مقومات تصوره ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه، ولا منهج تاريخه وتفسير نشاطه ولا مذهب مجتمعه ولا نظام حكمه ولا منهج سياسته (...) من مصادر غير إسلامية)(22). لا غرابة أن تكون أصول العقيدة وتفسير القرآن وكل مقومات التصور العقدي متساوية مع منهج التاريخ ومذهب المجتمع ونظام الحكم ومنهج السياسة. لا غرابة في ذلك من منظور الثنائية المطلقة التي يعمل بها صاحب "معالم في الطريق" فهو ما يفتأ يؤكد، بكيفيات مختلفة، أن كل شيء يصدر عن العقيدة ويرجع إليها في نهاية الأمر. وإذ نصير إلى هذه المساواة بين أصول العقيدة "ومذهب المجتمع ونظام الحكم ومنهج السياسة" فنحن نقف على مشارف الإجابة الواضحة -بل البديهية- عن السؤال المتعلق بصورة الدولة المدنية وحضورها في وعي الشيخ قطب ومريديه: كل ما كان من الأنظمة مستمدا من غير مبدأ الحاكمية العليا لله وحده فهو مرفوض بطبيعة الأمر (سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسنة والسخرة والشيوخ، أو استمدتها من هيئات مدنية "علمانية" تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله .. أي أن لها الحاكمية العليا باسم (الشعب) أو باسم (الحزب) أو باسم كائن من كان)(23) فلا مكان بالتالي لحكم مدني أو لدولة مدني في المنظومة القطبية. وإذ يستشعر الشيخ ترددا أو مهادنة من جانب المسلم في إدراكه لحقيقة الثنائية القطعية (إسلام / جاهلية) فإنه يجاهر بإدانة كل رأي يسعى إلى التماس تشابه أو تقارب ممكن بين نظام الحكم في الإسلام وبعض الأنظمة السياسية المدنية على نحو ما فعله الشيخ حسن البنا في حديثه عن الديمقراطية وعن الدستور. الموقف ذاك هزيمة "فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نلتمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة وفي بعض المذاهب القائمة، وفي بعض الأفكار القائمة فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق وفي العرب على السواء)(24) يرفض الشيخ الدولة في مفهومها الدستوري الحديث، ذاك الذي يردها إلى اجتماع عناصر أساسية ثلاث: الأرض أو التراب، والجنسية، والإرادة.

 

ذلك أن (وطن المسلم الذي يحن إليه ويدفع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يعرف بها لين جنسية حكم). ولا إرادة لمخلوق "ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله ثم إن صاحب "معالم في الطريق" لا يريد أن يكتفي باجتثاث العناصر التي تكون الدولة في التصور السياسي المعاصر فقط بل إنه ما يفتأ يذكر بأمرين اثنين لا يريد للمسلم الملتزم الحاكمية العليا لله وحده أن يفرط فيهما، ولا يريده للأمرين أن ينفصلا عن بعضهما البعض. الأمر الأول هو الحقيقة الجهادية في الإسلام، والمهزومون من المسلمين وحدهم "يقولون -وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان- أن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع". ذلك أن المطلب الأعلى في الإسلام هو "سيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية" وهذا لا يكون إلا بالجهاد، والأمر الثاني هو أن الحركة الإسلامية تجعل مهمتها الأولى "تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه". إنها حركة رفض شامل ودعوة إلى التغيير الكلي، هي طريق فريد (إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل نحت في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق. كلا! إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق)(25).

 

يمكن القول: إن سيد قطب قد أشبع القول في الإجابة عن السؤال المتصل بحضور الدولة المدنية في وعي الحركة السياسية الإسلامية الاحتجاجية المعاصرة إشباعا، ولا نحب أن نحسب الأمر، إذ عبر بكل الكيفيات المتنوعة التي عرضنا لها، في حاجة إلى فريد بيان.

 

خاتمة

 

يتأرجح الخطاب السياسي للحركات الإسلامية المعاصرة بين الاعتدال والتشدد، وفي الانتساب إلى كلا الصفتين منازل وأطوار. وكل المنشغلين بقضايا الإسلام السياسي ونشأته يلتقون عند القول بأن الشيخ حسن البنا يمثل الاعتدال في صورته الواضحة، ونحسب أن القسم الذي وقفنا عنده في تحليل خطاب الزعيم الأكبر لحركة الإخوان المسلمين يؤكد ذلك ويوضحه على نحو كاف. ونحن إذ ننظر في خطاب الإخوان المسلمين اليوم في الأردن، والكويت، وفي الحركة التي يقودها الشيخ النحناح في الجزائر، والحركة المماثلة التي يمثلها الشيخ راشد الغنوشي وأتباعه في تونس وفي خطاب الإخوان المسلمين في مصر بطبيعة الأمر، وإذ نقرأ خطب وأحاديث حزب العدالة والتنمية في المغرب فنحن نجد رجعا وامتدادا قويين لدعوة الشيخ البنا، إن لم يكن الأمر كذلك في نبرة الحديث وفي أسلوب الاحتجاج، فهو من جهة الروح التي تفعل فيه خطاب واحد.

 

إنه خطاب المرونة والتساهل وقبول الوقوف عند عتبة الدولة المدنية، بل إن الأمر لا يخلو أحايين من القيام بخطوة أو خطوات دقيقة ومحسوبة بعناية في اتجاه الدولة الحديثة. الشيء كذلك من حيث قبول الحزبية وما يتصل بها، ومن حيث قبول التباري الديمقراطي، ومن حيث عدم الاعتراض المطلق على شرعية السلطة السياسية القائمة. ومن الجلي بذاته أن الذي يطلع على البيانات التي يصدرها المنتسبون إلى الحركات الإسلامية الاحتجاجية المتطرفة يجدون ريح الشيخ سيد قطب قوية، كما يقول يعقوب في القرآن الكريم إنه يجد ريح يوسف. مع الاختلاف في النبرة بين خطاب (معالم في الطريق) وخطاب المنشورات المكتوبة على الورق أو الرقمية التي تذاع على الشبكة، ومع ميل هذه الأخيرة إلى العنف اللفظي والابتعاد عن الرصانة التي حاول الشيخ قطب أن يحافظ عليها، إلا قوة الدفع تظل واحدة، والنفس المحرك يظل واحدا.

 

يختلف الخطاب -اتزاناً في القول أو عنفا في العبارة- داخل التيارات المختلفة ضمن مجال الاعتدال أو في دائرة التشدد والغلو, وقد ينتهي الأمر بالقارئ إلى التقرير بأن الأمر يتعلق بتعارض قطعي ومطلق بين الرؤية التي يصدر عنها المنتسبون إلى هذا الفريق أو ذاك. ولاشك أن مؤرخ الفكر يجد في الظروف السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، بل والسيكولوجية التي تحيط بظهور كل من التيارين، ما يقدم في قراءته وفهمه الأدوات الكافية أو المساعدة على الفهم بيد أن الجذع يظل واحدا في الخطابين معا، هو ذاك الذي يتصل بإشكال مختلفة باسترجاع نموذج دولة الخلافة أو تأسيس دولة الخلافة الثانية في الأزمنة الحديثة.

 

يظل الإشكال في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة قائما، إشكال أساسه ومؤداه القدرة على التوافق أو عدم التوافق على الانخراط في الأزمنة الحديثة وقبول رهانها. يمكن القول -في كلمة جامعة- إن القدرة على التمثل الحق للدولة المدنية في الوجود الإسلامي المعاصر أو العجز عن ذلك معيار صائب في الحكم على القدرة على الجمع بين الإسلام على الحقيقة من جانب أول والحداثة ومقتضياتها (والدولة المدنية على الحقيقة أيضا) أحد تجلياتها. هذه القدرة ضعيفة، إن لم تكن منعدمة في خطاب الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة. ذاك سر تهافت ذلك الخطاب وتلك أزمته الخانقة.

ــــ

الحواشي

1- حسن البنا، مجموعة الرسائل، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، مصر، ص108-111.

2- المرجع السابق، ص123.

3- المرجع السابق، ص129-130.

4- المرجع السابق، ص123.

5- نفس المرجع والصفحة.

6- المرجع السابق، ص121.

7- المرجع السابق، ص122.

8- المرجع السابق، ص124-125.

9- قضيتنا، المرجع السابق، ص471.

10- رسالة في مؤتمر الطلاب الأول المنتسبين لجماعة الإخوان المسامين (1938).

*المرجع السابق، ص337.

11- رسالة إلى المؤتمر الخامس، ص131، المرجع السابق.

12- المرجع السابق، ص132.

13- المرجع السابق، ص131-132.

14- رسالة في مؤتمر الطلاب، سبق الإشارة إليه، ص338 من المرجع المذكور آنفا.

15- رسالة في المؤتمر السادس، ص152 من المرجع السابق ذكره.

16- رسالة من المؤتمر الخامس، ص126.

17- سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق (بيروت)، دار الثقافة (الدار البيضاء)، الطبعة الثامنة، (1983م)، ص21.

18- المرجع السابق، ص116.

19- المرجع السابق، ص98 و99.

20- المرجع السابق، ص116-119.

21- المرجع السابق، ص141.

22- المرجع السابق، ص143.

23- المرجع السابق، ص93.

24- المرجع السابق، ص172.

25- المرجع السابق، ص22.

----

* أكاديمي من المغرب.

ــــ

المصدر : آفاق - عن مجلة التسامح العمانية.

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ