ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
دراسة
البروفسور "جيمس بيتراس" : الحرب
الأمريكية على العراق...تدمير
حضارة حديثة
جيمس
بيتراس ترجمة:
بشار عبدالله تحرّك حرب السبع سنوات الأمريكية على
العراق واحتلاله عديد من القوى
السياسية الرئيسية، وتؤججها
مصالح امبريالية مختلفة. ولكن
هذه المصالح لا تفسر في حد ذاتها
عمق التدمير الواسع، والمستمر
ومدى استدامته ضد مجتمع بأكمله،
واحتوائه داخل حالة حرب دائمة.
إن مجموعة القوى السياسية
المساهمة في صنع الحرب
والاحتلال الأمريكي الذي تلاها
هي كما يأتي( حسب سلم الأهمية): النفوذ الإسرائيلي إن القوة السياسية الأهم كانت القوة التي
لم تنل حظا وافرا من النقاش، ألا
وهي النفوذ الصهيوني، الذي يشمل
دورا طويل المد بارزا،
واليهوديين المتشددين اللذين
لا يحكمهما أي شرط، والمؤيدين
لدولة إسرائيل وهما المعينان في
أعلى مناصب وزارة الدفاع
الامريكية في عهد بوش (دوغلاس
فيث وبول وولفويتز)، فضلا على
المسؤول الرئيسي في مكتب نائب
الرئيس (إيرفينغ (سكوتر) ليبي)،
وزارة الخزانة (ستيوارت ليفي)،
ومجلس الأمن القومي (اليوت
ابرامز) وكتيبة خبراء
استشاريين، و كتبة الخطب
الرئاسية (ديفيد فرام)،
ومسؤولين درجة ثانية،
ومستشارين سياسيين لوزارة
الخارجية. وقد عززهؤلاء الأشخاص الصهاينة(المطلعين)
آلافُ الموظفين العاملين على
مدار الساعة داخل اسرائيل في
إحدى وخمسين منظمة يهودية
أمريكية، تشكل بمجملها رأس
المنظمات اليهودية الأمريكية
الأساسية. وقد بين هؤلاء علانية أن أولويتهم تتمثل
في دفع جدول أعمال إسرائيل،
الذي يعني، في هذه القضية،
الحرب الأمريكية ضد العراق
للإطاحة بصدام حسين، واحتلال
البلاد، و تقسيم العراق، وتدمير
وجوده العسكري وقدرته الصناعية
ومن ثم تنصيب نظام عميل منحاز
لإسرائيل/ والولايات المتحدة.
وفي حال تقسيم العراق وتطهيره
عرقيا، وهو ما نادى به اليمين
المتطرف، ممثلا برئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو و’الليبرالي’
الرئيس الفخري لمجلس العلاقات
الخارجية والعسكرية الصهيونية،
ليزلي جيلب، فسيكون هناك (أنظمة
حكم عميلة) عدة. كما أن كبار واضعي السياسات الصهيونية
الذين روجوا للحرب لم يتبعوا في
البداية سياسة مباشرة لتدمير
منهجي، في الواقع، للحضارة
العراقية بأكملها. بل كان دعمهم
وتصميمهم لسياسة الاحتلال
يشتملان على تفكيك أجهزة الدولة
العراقية بأكملها وتوظيف
مستشارين إسرائيليين لتقديم (الخبرة
الفنية) في أساليب الاستجواب،
وقمع المقاومة المدنية ومكافحة
التمرد. ومن المؤكد أن الخبرة
الإسرائيلية لعبت دورا في إثارة
الاحتراب الديني والعرقي في
الداخل العراقي، الذي كانت
إسرائيل قد أتقنته في فلسطين. إن
(النموذج) في الحرب والاحتلال
الاستعماري- غزو لبنان عام 1982-
وممارسة (التدمير الكامل)
باستخدام الورقة الطائفية، و
التقسيم العرقي والديني كان
ماثلا في المجازر البشعة في
مخيمي صبرا وشاتيلا ببيروت،
والتي ارتكبت تحت إشراف الجيش
الإسرائيلي. العسكريون المدنيون أما ثاني قوة سياسية وراء حرب العراق فهي
العسكريون المدنيون (أمثال
دونالد رامسفيلد، ونائب الرئيس
ديك تشيني) الذين سعوا إلى توسيع
نطاق الامبراطورية الاميركية
لتصل إلى الخليج الفارسي وتعزيز
موقعها الجيو- سياسي عن طريق
القضاء على أكبر سند قوي،
وعلماني، وقومي لحركة التمرد
المناهض للامبريالية في الشرق
الأوسط. لقد سعى العسكريون
المدنيون لتوسيع القاعدة
العسكرية الأميركية المطوقة
لروسيا وتأمين السيطرة على
احتياطي النفط العراقي بوصفه
نقطة الضغط مهمة على الصين. و كان العسكريون المدنيون أقل انجذابا
لعلاقات نائب الرئيس تشيني
السابقة بصناعة النفط، وأكثر
اهتماما بدوره بصفته الرئيس
التنفيذي لشركة تعاقد القاعدة
العسكرية العملاقة التابعة
لشركة هاليبرتون، وهي شركة
كيلوغ براون وروت، التي تساند
الامبراطورية الأمريكية من
خلال توسيع قواعدها العسكرية في
جميع أنحاء العالم. و كانت شركات
النفط الامريكية الكبرى، التي
تخشى تفوق منافسيها في أوروبا
وآسيا، حريصة بالفعل على
التعامل مع صدام حسين ، فيما كان
عدد من مؤيدي بوش في صناعة النفط
يشاركون في الاتجار غير المشروع
مع النظام العراقي المحاصر
اقتصاديا وتجاريا. ولم تكن
صناعة النفط تميل إلى تعزيز
الاستقرار في المنطقة مع اندلاع
الحرب. كانت استراتيجية العسكر الخاصة بالغزو
والاحتلال تهدف الى اقامة وجود
عسكري استعماري طويل الأجل في
شكل قواعد عسكرية استراتيجية
معززة بطواقم من المستشارين
العسكريين الاستعماريين ووحدات
قتالية مستدامة. وهو بذلك يكون
احتلالا استعماريا وحشيا لدولة
علمانية مستقلة ذات تاريخ وطني
عتيد وبنية تحتية متقدمة
ومتطورة، واجهزة عسكرية
وشرطوية كفوءة، فضلا على ما
يتمتع به من خدمات عامة واسعة
النطاق وجهود شاملة لمحو
الأمية، أدت بطبيعة الحال إلى
نمو حركات نضالية ومسلحة كبيرة
تناهض الاحتلال. في المقابل، وضع مسؤولون استعماريون
أمريكيون، ووكالة المخابرات
المركزية ووكالات الاستخبارات
والدفاع استراتيجية (فرق تسد) ]ما
يسمى بـ ‘ حل السلفادور’
المرتبط بسفير ‘ البقعةالساخنة’
السابق ومدير المخابرات
الوطنية الامريكية جون
نيغروبونتي[ وإثارة الصراعات
الطائفية المسلحة، وتعزيز
عمليات الاغتيال بين الاطياف
الدينية داخل البلد لإضعاف أي
جهد يسعى لاستحداث حركة وطنية
موحدة لمناهضة الامبريالية. أما
تفكيك البيروقراطية العلمانية
المدنية والجيش فكان من تصميم
الصهاينة في إدارة الرئيس بوش
لتعزيز قوة إسرائيل في المنطقة،
وتشجيع ظهور الجماعات
الإسلامية المسلحة، التي كان
يقمعها نظام صدام حسين البعثي
المخلوع. وكانت اسرائيل قد أتقن
مثل هذه الاستراتيجية في وقت
سابق: فقدسبق لها فعليا أن رعت
مجموعات اسلامية طائفية
ومولتها مثل حماس بديلا عن
منظمة التحرير الفلسطينية
العلمانية ومهدت الساحة
لاقتتال طائفي بين الفلسطينيين. وكانت نتيجة السياسات الاستعمارية
الامريكية أن تقوم بتمويل
ومضاعفة عدد النزاعات الداخلية
من خلال دعم الملالي، وزعماء
القبائل ورجال العصابات
السياسية وأمراء الحرب،
والمغتربين، ونشر فرق الموت.
لقد خدم مفهوم (حرب الجميع ضد
الجميع) مصالح قوات الاحتلال
الأمريكية. وأصبح العراق حاضنة للمسلحين، والشبان
العاطلين عن العمل، ومن هذه
الحاضنة تقرر أن يصار إلى تجنيد
جيش جديد من المرتزقة. فيما وفر
مصطلحا (الحرب الأهلية) و (الصراع
العرقي) ذريعة للولايات المتحدة
والنظام العميل في العراق
للاضطلاع بتسريح مئات الآلاف من
الجنود والشرطة والموظفين من
عهد النظام السابق (وخصوصا إذا
كان هؤلاء من الأسر السنية، أو
المختلطة أو العلمانية)، و
تقويض قاعدة عمالة المدنيين. و
تحت غطاء مصطلح (الحرب ضد
الإرهاب)، وجهت القوات الخاصة
الأمريكية ووكالة المخابرات
المركزية الأمريكية فرق الموت
لنشر الرعب داخل المجتمع المدني
العراقي، واستهداف أي شخص يشتبه
في أنه ينتقد الحكومة العميلة-
وخاصة في أوساط المتعلمين
والمهنيين ، و تحديداالعراقيين
القادرين إعادة بناء جمهورية
علمانية مستقلة. المحافظون الجدد والدومينو قادت حرب العراق مجموعة متنفذة من
المحافظين الجدد ومنظري
الليبرالية الجديدة التي تتمتع
بعلاقات قوية مع إسرائيل.
فهؤلاء رأوا في نجاح الحرب على
العراق ( ويعنون بالنجاح هنا
تقطيع أوصال البلد) بوصفه أول
قطعة (دومينو) في سلسلة من
الحروب لإعادة استعمار (الشرق
الأوسط ]في لغتهم: }إعادة رسم
الخريطة[{). وقد قنّعوا
أيديولوجيتهم الإمبراطورية
بقشرة رقيقة من الكلام البليغ
عن (تعزيز الديمقراطية) في الشرق
الأوسط ( مستثنين، بالطبع،
سياسات وطنهم، إسرائيل، غير
الديمقراطية في إخضاع
الفلسطينيين). وبخلطهم بين طموحات الهيمنة الاقليمية
الاسرائيلية و المصالح
الامبريالية الامريكية، بدأ
المحافظون الجدد و المنتقولن من
الليبراليين الجدد إلى الحزب
الديمقراطي، بدأو أولا بدعم
الرئيس الامريكي جورج بوش وفيما
بعد الرئيس اوباما في تصعيد
الحرب ضد أفغانستان وباكستان.
وأجمع هؤلاء على تأييد حملة
القصف الوحشي الاسرائيلي
للبنان، والهجوم البري والجوي،
والمذبحة التي راح ضحيتها
الآلاف المدنيين المحاصرين في
قطاع غزة، وقصف المنشآت السورية
والتحريض الكبير(من اسرائيل)
لخوض حرب استباقية، عبر هجوم
عسكري واسع النطاق ضد إيران. أما دعاة أمريكا لشن حروب عديدة متعاقبة
في آن واحد في الشرق الأوسط
وجنوب آسيا فيعتقدون أن ليس في
وسعهم سوى إطلاق العنان لقوتهم
التدميرية الشاملة التي كانوا
قد ضمنوا إتقانهم لها بعد
السيطرة الكاملة على أول ضحية
لهم، وهو العراق. لقد كان هؤلاء
على ثقة من أن المقاومة
العراقية ستنهار سريعا بعد 13
عاما من عقوبات تجويعية وحشية
فرضتها على جمهورية العراق
الولايات المتحدة والأمم
المتحدة. ومن أجل توطيد السيطرة
الامبريالية، قرر صانعو
السياسة الأمريكية أن
يُسكِتَوا على الدوام جميع
المنشقين من المدنيين
العراقيين المستقلين. فتحولوا
الى تمويل رجال الدين الشيعة
والقتلة من القبائل السنية،
والتعاقد مع عشرات الآلاف
المرتزقة في صفوف أمراء الحرب
من البيشمركة الكردية لتنفيذ
عمليات اغتيال انتقائية تستهدف
قادة حركات المجتمع المدني. من جانبها استحدثت الولايات المتحدة
ودربت جيشا عميلا لها يصل عدده
إلى حوالي 200،000 قوامه من
المسلحين الشيعة، واستبعد عن
هذا الجيش ذوو الخبرة من رجال
الجيش الذين ينتمون لخلفيات
علمانية أو سنية أو مسيحية.
والنتيجة الأولية المعروفة
لهذا البناء الأمريكي، تدريبا
وتمويلا لفرق الموت وجيش
الحكومة العميلة هو التدمير
الفعلي للسكان المسيحيين الذين
تعود جذورهم إلى العراق القديم،
الذي استبدلوا بمكونات أخرى،
بعد أن فجّرت كنائسهم، و اغتيل
أساقفتهم والمثقفون
والأكاديميون منهم أو أجبر من
أجبر منهم إلى الهجرة وقبول
العيش في المنفى. فقد كانت الولايات المتحدة و مستشاروها
الاسرائيليون يدركون تماما أن
المسيحيين في العراق قد لعبوا
دورا رئيسا في التنمية
التاريخية للحركات العلمانية
والقومية المناهضة للبريطانيين
والنظام الملكي، لذلك لم يكن
استهدافهم والقضاء عليهم
بوصفهم قوة مؤثرة خلال السنوات
الاولى من الاحتلال الاميركي
مجرد حادث طارئ. وكانت نتائج
سياسات الولايات المتحدة تهدف
إلى القضاء على أبرز قادة حركات
الديمقراطية العلمانية
المناهضة للامبريالية وطرح
شبكتهم من شركائهم القتلة ضمن (الفئات
الإثنية والدينية) بوصفهم (شركاء)
بالتزكية في ادامة الوجود
الاستعماري الأمريكي طويل
الأجل في العراق. ويمكنهم بوجود
عملائهم في الحكم، اعتماد
العراق نقطة انطلاق لتحقيق
مصالحهم الإستراتيجية الأخرى
ضمن مخطط لعبة (الدومينو) ويقصد
به (سوريا وإيران وجمهوريات
آسيا الوسطى…). لقد أدى التطهير الدموي المستمر في
العراق في ظل الاحتلال الأمريكي
إلى مقتل 1.3 مليون من المدنيين
العراقيين خلال السبع سنوات
الأولى التي أعقبت غزو بوش في
آذار / مارس 2003. وحتى منتصف عام
2009، فإن غزو العراق واحتلاله
كلّف الخزينة الأمريكية رسميا
ما يزيد على 666 مليار دولار. وهذه
النفقات الهائلة تؤكد بما لا
يقبل شكا على أن دور غزو العراق
واحتلاله هو دور محوري ضمن
الإستراتيجية الامبريالية
الأمريكية الأكبر لكامل منطقة
الشرق الأوسط ومنطقة جنوب ووسط
آسيا. أما سياسة واشنطن في تسييس
وعسكرة الخلافات العرقية
والدينية، وتشجيع القبائل
المتناحرة وتسليحها، وزج زعماء
الطوائف الدينية والإثنية في
اراقة دماء متبادلة كل ذلك أسهم
في تدمير الوحدة الوطنية
والمقاومة. وتعد تكتيكات سياسة (فرق تسد)والاعتماد
على المنظمات الاجتماعية
والدينية الرجعية الممارسة
الأكثر شيوعا وذيوعا في مسعى
غزو وإخضاع أي دولة قومية،
موحدة ومتطورة. وكان يتطلب
تقسيم الدولة الوطنية، وتدمير
الوعي القومي في صفوف جماهيرها
و تشجيع الولاءات الإثنية
والدينية، الإقطاعية
والإقليمية البدائية، كان
يتطلب تدميرا منهجيا لمنابع
الوعي القومي، والذاكرة
التاريخية، والفكر
العلمي،العلماني. وتسببت إثارة الكراهية الدينية والعرقية
في تدمير المجتمعات المختلطة
والتي يكون الزواج فيما بين
فئاتها أحد أبرز روابط توحدها،
وكذلك تدمير المؤسسات بكل ما
انطوت عليه من سنوات طويلة من
الصداقات الشخصية والعلاقات
المهنية بين مختلف المشارب
والخلفيات. وكانت التصفية
الجسدية للأكاديميين والكتاب
والمعلمين والمثقفين والعلماء
والمهنيين، وبخاصة الأطباء
والمهندسين والمحامين ورجال
القانون والصحافيين عاملا
حاسما في فرض سيادة الفئات
الإثنية والدينية في ظل
الاحتلال الاستعماري. وبهدف
اقامة علاقات طويلة الاجل
وإدامة هيمنة زعماء الفئات
الإثنية والدينية العملاء، كان
لا بد أن تقوم الولايات المتحدة
وحكومة العراق العميلة لها
بتدمير الصرح الثقافي الذي كان
قائما قبل الاحتلال، والذي كان
السبب الرئيس في دوام الدولة
القومية العلمانية المستقلة. وقد شمل ذلك التدمير تدمير المكتبات
ومكاتب الاحصاء، ومستودعات
سجلات الممتلكات و المحاكم
جميعا، والإدارات الصحية
والمعامل والمدارس والمراكز
الثقافية، والمرافق الطبية،
وقبل هذا وذاك تدمير كامل طبقة
المهنيين في الميادين العلمية
والأدبية والانسانية
والاجتماعية. فاضطر مئات الآلاف
المهنيين العراقيين وأفراد
عوائلهم إلى الهجرة الداخلية أو
الخارجية بسبب الخوف والذعر.
وتوقفت في الحال الموارد
اللازمة لتمويل المؤسسات
الوطنية العلمانية، و العلمية
والتعليمية. وانخرطت فرق في
عمليات القتل المنهجي لآلاف
الأكاديميين والمهنيين؛ فيما
جرى إبراز وتمييز من ليست لهم
قدرة على إعادة بناء الجمهورية. تدمير حضارة عربية حديثة كان للعراق العلماني، المستقل منظومة
علمية وثقافية هي الاكثر تقدما
في العالم العربي، بصرف النظر
عن الطابع القمعي لدولة صدام
حسين البوليسية. وكانت هناك
منظومة وطنية للرعاية الصحية،
وخدمات سخية توفر التعليم
العام، والرعاية الاجتماعية،
فضلا على مستويات غير مسبوقة في
موضوعة المساواة بين الجنسين.
وهذا بمجمله ما ميز الطبيعة
المتقدمة للحضارة العراقية في
أواخر القرن العشرين. كما سجل فصل الدين عن الدولة وتأمين
الحماية التامة للأقليات
الدينية (المسيحيين والآشوريين
وغيرهم) تناقضا مع الصورة التي
أسفر عنها الاحتلال الأمريكي
وتدميره للبنى العراقية
الحكومية منها والمدنية. لكن
قسوة الحكم الديكتاتوري لصدام
حسين وهيمنته بالتالي على حضارة
حديثة متطورة في الميدان العلمي
إلى حد كبير كانت تسير جنبا إلى
جنب مع الهوية القومية المناهضة
للامبريالية. وهذا ما أدى إلى أن
تصطبغ عبارات الشعب العراقي
ونظامه الحاكم بمعاني التضامن
مع محنة الشعب الفلسطيني الرازح
تحت الحكم الإسرائيلي
والاحتلال. إن مجرد (تغيير النظام) لم يكن كفيلا
باستئصال هذه الثقافة
الجمهورية العلمانية المتقدمة
بوصفها ركيزة متأصلة في العراق.
وكان مخططو حرب الولايات
المتحدة ومستشاروهم
الإسرائيليين يدركون تماما أن
الاحتلال الاستعماري في العراق
من شأنه أن يزيد الوعي القومي
العلماني، ما لم يصر الى تدمير
الدولة العلمانية، وبالتالي،
تبدأ القوة الامبريالية
باقتلاع وتدمير ركائز الوعي
القومي عن طريق التصفية الجسدية
للمثقفين، والموهوبين،
والعلماء لأن هؤلاء يمثلون
العناصر الأشد ميلا للفكر
العلماني في المجتمع العراقي.
وأصبح النكوص الأداة الرئيسة
للولايات المتحدة لفرض الحكومة
الاستعمارية العميلة، ذات
الولاءات البدائية، لما قبل
فترة تكوّن الولاءالوطني،
وتنصيبها في السلطة في بغداد
التي جرى تطهيرها ثقافيا، بعد
أن جردت من أطيافها الأسمى على
الصعيد الاجتماعي القومي. ووفقا لمركز دراسات الاهرام في القاهرة،
جرى تصفية أكثر من 310 عالما
عراقيا جسديا في خلال الثماني
عشرة شهرا الأولى من الاحتلال
الأمريكي – وهو رقم لم تشكك في
صحته وزارة التربية العراقية. فيما أورد تقرير مقتل اكثر من 340 مفكرا
وعالما بين الأعوام 2005 و 2007.
وتفجير معاهد تعود لوزارة
التعليم العالي مما خفض عدد
منتسبيها الى 30 ٪ عما كانت
عليه قبل الغزو. وفي انفجار واحد
في شهر كانون الثاني/ يناير 2007،
في جامعة المستنصرية ببغداد قتل
سبعون طالبا وجرح المئات. هذه
الأرقام دفعت منظمة اليونسكو
إلى التحذير من أن النظام
الجامعي في العراق على شفا
الانهيار. وبلغ عدد الشخصيات
العراقية التي هربت من العراق
من علماء وفنيين قرابة العشرين الفا. ومن بين الـ(6700) أساتذ في الجامعات
العرقية الذين فروا منذ عام 2003،
ذكرت صحيفة لوس انجليس تايمز أن
( 150) منهم فقط عادوا بحلول تشرين
الأول/ أكتوبر 2008. على الرغم من
مطالبة الولايات المتحدة
بتحسين الأمن، فقد شهد العام 2008
العديد من عمليات الاغتيال، بما
في ذلك غاز الأعصاب في البصرة
ثاني اكبر مدن العراق، ما أسفر
عن امتلاء شوارع المدينة بالجثث. إن البيانات الأولية حول الأكاديميين
والعلماء والمهنيين العراقيين
الذين اغتالتهم الولايات
المتحدة وحلفائها من قوات
الاحتلال والميليشيات وقوات
الظل التي تسيطر عليها مأخوذة
من قائمة نشرتها صحيفة باكستان
ديلى نيوز ( www.daily.pk) في 26 نوفمبر 2008. هذه القائمة
تخلق وضعا في القراءة غير مريح
بالمرة في واقع التصفية
المنهجية لمثقفين في العراق
بوجود فرامة اللحم التي أدخلها
الاحتلال الأمريكي إلى العراق. الاغتيالات تعد التصفية الجسدية لأي فرد عن طريق
الاغتيال أقصى شكل من أشكال
الإرهاب، الذي تكون له آثار
بعيدة المدى وتتضاعف في المجتمع
التي ينتمي إليه الفرد نفسه-
وهؤلاء الأفراد في هذه الحالة
هم يمثلون عالم مثقفي العراق،
وأكاديمييه ومهنييه وقادة
الإبداع في مجالات فنونه و
علومه. و وفي مقابل كل مفكر
عراقي اغتيل، ثمة الآلاف من
المثقفين العراقيين الذين فروا
من البلاد أو تخلوا عن أعمالهم
الحقيقية وبحثوا لهم عن أنشطة
أخرى أوفر أمنا لأكثر أمانا ،
وأقل تأثرا بالأحداث. كانت بغداد بمثابة (باريس) العالم العربي،
من حيث الثقافة والفنون والعلوم
والتعليم. وكانت جامعاتها خلال
سبعينيات القرن الماضي
وثمانينياته محط حسد العالم
العربي. لذلك فقد أثارت حملة (الصدمة
والرعب)- التي شنتها الولايات
المتحدة على بغداد- مشاعر
مماثلة لتلك التي أثرتها عملية
قصف متحف اللوفر وجامعة
السوربون وأكبر المكتبات في
أوروبا. كانت جامعة بغداد واحدة
من أعرق الجامعات وأكثرها
إنتاجا في العالم العربي. وكان
يحمل العديد من أكاديمييها درجة
الدكتوراه ويساهمون إنتاج بحوث
أصيلة لما بعد الدكتوراه لصالح
مؤسسات مرموقة في الخارج. لقد
درّست جامعة بغداد وخرّجت
العديد من كبار العلماء
والفنيين في الشرق الأوسط. حتى في ظل القبضة المميتة للولايات
المتحدة/ والامم المتحدة اللتين
فرضتا عقوبات اقتصادية جائرة
جوّعت العراق طيلة 13 عاما سبقت
الغزو في مارس/ آذار 2003، كان يؤم
العراق آلاف الطلبة الخريجين
والفنيين الشباب للتدرب على
الدراسات العليا. كما كان يتلقى
الأطباء الشباب من جميع أنحاء
العالم العربي تدريبات طبية
متقدمة في مؤسساته. كما قدم
العديد من أكاديميي العراق في
تلك المدة بحوثا علمية ودراسات
في مؤتمرات دولية رئيسة، نشرتها
مجلات مرموقة. الأهم من ذلك، أن
جامعة بغداد كانت تدرب وفي
الوقت نفسه تحافظ على درجة
عالية من احترام الثقافة
العلمية العلمانية خالية من
التمييز الطائفي- بجهود
أكاديميين من مختلف المشارب
والخلفيات العرقية والدينية. لقد تحطم هذا العالم إلى الأبد: ففي ظل
الاحتلال الأمريكي، وحتى شهر
تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، جرى
اغتيال ثلاثة وثمانين أكاديميا
وباحثا من التدريسيين في جامعة
بغداد، فاضطر عدة آلاف من
زملائهم، وطلبتهم، وأفراد
عوائلهم للفرار إلى خارج العراق. انتقاء الأكاديميين للاغتيال على أساس
القصاص تورد المقالة المنشورة في صحيفة ديلى
نيوز الباكستانية في تشرين
الثاني/ نوفمبر 2008 قائمة بأسماء
154 من كبار الأكاديميين في
بغداد، الذين لهم صيتهم الذائع
في اختصاصاتهم، واغتيلوا جميعا.
وإجمالا، هناك ما يقرب من 281
مثقفا معروفا من التدريسيين في
الجامعات الكبرى داخل العراق
وقعوا ضحية (فرق الموت) في ظل
الاحتلال الأمريكي. كانت لجامعة بغداد، قبل الاحتلال
الامريكي، كلية طبية هي الأولى
من نوعها في الشرق الأوسط برمته
في ميداني البحوث والتدريس
وكانت هذه الكلية تجذب مئات
الأطباء الشباب من الخارج
لأغراض التدريب المتقدم. لقد
جرى تدمير ذلك البرنامج على
أيدي منظومة فرق الموت التي
ظهرت مع دخول الولايات المتحدة
العراق واحتلالها له، ويشير حجم
هذا الدمار الذي لحق بالبرنامج
المذكور إلى ندرة فرص إحيائه. ومن هؤلاء الذين قتلوا، 25 ٪ وهم (21) من
أبرز الأساتذة والمحاضرين في
كلية طب جامعة بغداد، وهي أعلى
نسبة سجلت مقارنة بأي كلية أخرى. وأما ثاني أعلى نسبة من أعضاء هيئة
التدريس الذين قتلوا وذبحوا فهم(12)
من مشاهير اساتذة وباحثي كلية
الهندسة بجامعة بغداد، يليهم(10)
من كبار الأكاديميين المتخصصين
في العلوم الإنسانية، و بواقع
ثمانية أكاديميين من كلا
اختصاصي العلوم الطبيعية
والاجتماعية، وخمسة في ميدان
التعليم. أما ما تبقى من كبار
الأكاديميين في جامعة بغداد
الذين قتلوا فيتوزعون على كليات
الزراعة والتجارة والتربية
البدنية، والاتصالات،
والدراسات الدينية. وفي ثلاث جامعات أخرى ببغداد، جرى ذبح 53
من كبار الأكاديميين، بينهم 10
في مجال العلوم الاجتماعية، و 7
في كلية الحقوق، و 6 في كل من
الطب والعلوم الإنسانية، و 9 في
العلوم الطبيعية و خمسة في
العلوم الهندسية. وهناك نكتة
أطلقها وزير الدفاع الأمريكي
رامسفيلد في 20 أغسطس/أب 2002 أي
قبل الغزو تقول (… على المرء أن
يفترض أنهم (يعني العلماء) لم
يكونوا يلعبوا tiddlyتيدلي ونكس وهي(لعبة أطفال)) ( وهو تبرير
للتطهير الدموي لعلماء العراق
في الفيزياء والكيمياء. وهو
أيضا إشارة مشؤومة تتنبأ بإراقة
الدماء الأكاديمية التي وقعت
بعد الغزو. كما وقعت عمليات تطهير دموي مماثلة في
صفوف الأكاديميين في جامعات
المحافظات العراقية بلا
استثناء: فقد جرى اغتيال 127 من
كبار الأكاديميين والعلماء في
مختلف الجامعات ذات المستوى
العلمي الراقي، في محافظات
الموصل وكركوك والبصرة وغيرها.
وكانت الجامعات داخل محافظات
العراق من التي سجلت عددا أكبر
من ضحايا هيئاتها التدريسية، في
المدن التي تواجدت فيها القوات
الأميركية والبريطانية و
حلفائهما من المرتزقة الكردية
الذين كانوا في تلك المدن
يتمتعون بحرية أكبر ونشاط أشد
وهذه المدن هي: البصرة (35) قتلا،
والموصل (35)قتيلا، وديالى (15)قتيلا،
والأنبار (11) قتيلا. لقد نفذ الجيش العراقي وفرق الموت
المتحالفة معه معظم عمليات قتل
الأكاديميين في المدن العراقية
تحت ظل الوجود الأمريكي وسيطرة
قوات التحالف. وهكذا كان
استهداف الأكاديميين وقتلهم
المنهجي للأكاديميين يشمل
البلاد طولا وعرضا، ضمن حملة
تأديبية لتدمير المؤسسات
التعليمية والثقافية للحضارة
العربية الحديثة. وكانت فرق
الموت التي تنفذ معظم هذه
الاغتيالات مجموعات بدائية
متخلفة تضم متطرفين دينيين
وعرقيين تطلقها أو توظفها كأداة
تدميرية استراتيجيات الجيش
الأمريكي للقضاء على أي مثقف وعالم وطني يتمتع بوعي سياسي
قد ينجح في وضع برنامج لإعادة
بناء جمهورية حديثة، موحدة
ومستقلة، ذات مجتمع علماني. وكانت في معرض ذعرها ومحاولة منها لتفادي
الغزو الأمريكي، قدمت دائرة
الرقابة الوطنية العراقية
قائمة الى الامم المتحدةفي 7
ديسمبر 2002 حددت فيها أكثر من 500
اسم لعلماء عراقيين أساسيين.
مما لا شك فيه أن هذه القائمة
أصبحت عنصرا أساسا في إعداد
قائمة الجيش الاميركي الخاصة
بالقضاء على النخبة العلمية
العراقية. في خطابه سيء الصيت الذي ألقاه لدى الأمم
المتحدة قبل الغزو، سرد وزير
الخارجية الأمريكي كولن باول
قائمة تضم أكثر من 3500 عالما
وتقنيا عراقيا الذين يجب (
احتواءهم) لمنع استخدام خبراتهم
من بلدان أخرى. حتى أن الولايات
المتحدة كانت قد أنشأت ميزانية (من
مئات الملايين من الدولارات)،
وهي أموال مستمدة من أموال
العراق ضمن عقود (النفط مقابل
الغذاء)، واعتمدتها الأمم
المتحدة لإنشاء برامج (إعادة
تثقيف المدنيين) و لتدريب
العلماء والمهندسين العراقيين.
ولكن هذه البرامج الكبرى لم
تنفذ بجدية أبدا. فقد اختيرت طرق
أرخص تشمل على ما يطلق عليه
خبراء السياسة الأميركية ( فائض
العلماء والمهندسين والفنيين
العراقيين). إذ سبق أن قررت
الولايات المتحدة اعتماد
عمليات الموساد الإسرائيلي
السرية وتوسيعها بهدف اغتيال
علماء عراقيين أساسيين منتخبين
في ميدان الصناعة. حملتا (تطهير) و( اغتيالات ذروية)
أمريكيتان: 2006-2007 يتزامن ارتفاع موجة الإرهاب ضد
الأكاديميين مع تجديد الولايات
المتحدة هجومها العسكري داخل
بغداد والمحافظات. فمن العدد
الإجمالي لعمليات اغتيال
أكاديميين في بغداد التي سجلت
حتى الآن ذبح (110)مفكرين، وقعت
حوالي 80 ٪ منها أي ما يعادل (87)
قتيل بين العامين 2006 و 2007. ونجد
نمطا مماثلا في المحافظات، حيث
77 ٪ من مجموع 84 عالما قتلوا
خارج العاصمة خلال الفترة ذاتها. إنه نمط واضح: فمعدل قتل الأكاديميين
يرتفع مع قيام القوات الأمريكية
بتنظيم جيش عراقي وقوة شرطة
قوامهما من المرتزقة، وتوفير
الأموال لتدريب وتعيين خصم شيع
و وشخص سني قبلي وميليشيا
بوصفها لتكون بمثابة وسيلة تخفض
الخسائر البشرية الأمريكية
وتطهّر في الوقت نفسه شاقّي عن
عصا طاعة الاحتلال ومنتقديه. وهكذا تكثفت حملة الإرهاب ضد الأكاديميين
في منتصف العام 2005 وبلغت ذروتها
في المدة 2006-2007، مما أدى إلى
هجرة جماعية لعشرات الآلاف من
المفكرين والعلماء والفنيين
العراقيين وعائلاتهم إلى
الخارج. حتى أن مجمل كليات تدريس
الطب الجامعي أصبحوا لاجئين في
سوريا وغيرها. أما أولئك الذين لم يكن بمستطاعهم التخلي
عن ذويهم أو أقاربهم من كبار
السن واختاروا البقاء في
العراق، فقد اتخذوا تدابير
استثنائية من اجل إخفاء هوياتهم.
واختار البعض منهم على التعاون
مع قوات الاحتلال الأمريكية أو
النظام العميل أملا في حماية أو
السماح لهم بالهجرة مع عائلاتهم
إلى الولايات المتحدة أو
أوروبا، بالرغم من أن
الأوروبيين، وبخاصة
البريطانيون منهم، لا يرغبون في
قبول العلماء العراقيين. وبعد العام 2008، انخفضت عمليات اغتيال
الأكاديميين انخفاظا حاد- إذ
سجلت أربعة عمليات اغتيال في
ذلك العام. وهذا يعكس أعداد
المثقفين العراقيين الذين فروا
إلى الخارج وأقاموا فيه، أو
الذين تخفوا، دون أي تغيير من
جانب سياسات الولايات المتحدة
وعملائها المرتزقة. وكانت
النتيجة، دمار مرافق البحوث
العراقية. أما حياة من تبقى من
موظفي الدعم، بما في ذلك
الفنيون وأمناء المكتبات
والطلاب فقد شحت فرص تشغيلهم في
المستقبل. هكذا عُدّت الحرب الامريكية على العراق
واحتلاله، كما أعلن الرئيسان
بوش وأوباما (نجاحا)- دولة
مستقلة يبلغ عدد سكانها 23 مليون
مواطن، قد احتلت بالقوة، ونصبت
عليها حكومة عميلة تعمل متخفية،
وقوات استعمارية مرتزقة تأتمر
بضباط من القوات الاميركية،
وتطرح حقول النفط للبيع. كما
ألغيت القوانين الوطنية
العراقية كافة، التي تحمي
تراثه، وكنوزه الثقافية
وموارده الوطنية. وفرض المحتلون على البلاد (دستورا) يخدم
مصالح الإمبراطورية الأمريكية.
وهاهي اسرائيل وإمعاتها من
الصهاينة في إداراتي كل من بوش
واوباما يحتفلون بزوال خصم حديث…
وبتحويل العراق الى صحراء ثقافة
سياسية. وتماشيا مع الاتفاق
المزعوم المبرم بين وزارة
الخارجية الامريكية ومسؤولين
في البنتاغون لصالح محصلين
مؤثرين من المجلس الأمريكي
للسياسة الثقافية في كانون
الثاني / يناير 2003، فإن كنوز
حضارة ما بين النهرين المنهوبة
قد (وجدت) طريقها إلى مجموعات
النخبة في لندن، و نيويورك
وغيرها من المدن. والآن في مقدور
محصلي الكنوز وجامعيها أن
ينتظروا نهب ايران المتوقع. تحذير لايران إن الغزو الامريكي للعراق واحتلال حضارة
علمية وثقافية حديثة وتدميرها،
كما كان موجودا في العراق، إنما
هو مقدمة لما يمكن أن يتوقعه شعب
ايران في حال/ وعندما تشن
إسرائيل الولايات المتحدة
هجومهما المشترك. فخطر
الامبراطورية على المؤسسات
العلمية والثقافية للأمة
الإيرانية كانت غائبا كليا عن
السرد بين جموع الطلبة
الإيرانيين المتظاهرين ومولت
الولايات المتحدة المنظمات غير
الحكومية خلال فترة الاحتجاج
التي أعقبت ( ثورة أصابع أحمر
الشفاه). إن على الإيرانيين أن يأخذوا بنظر
الاعتبار أنه في العام 2004، واسى
العراقيون المتعلمون في بغداد
أنفسهم بتفاؤل كان في غير محله
مفاده ( نحن في الأقل لسنا مثل
أفغانستان). وها هي النخبة نفسها
الآن تقيم في مخيمات بائسة
للاجئين في سوريا والأردن،
ويصبح بلدهم أكثر شبها
بأفغانستان من أي مكان آخر في
الشرق الأوسط. لقد تحقق وعد
الرئيس بوش الذي قطعه في نيسان/
أبريل 2003، وهو وعد تقشعر له
الأبدان بتحويل العراق وجعله
صورة من (أفغانستاننا الجديدة
الحرة). كما أن من شأن التقارير التي تفيد بأن
الإدارة الأميركية كانت قد
استعرضت سياسة مستشاريها من
عناصر الموساد الإسرائيلي
بخصوص عمليات الاغتيال
الانتقائية للعلماء الإيرانيين
أن يحمل مفكرو طهران
الليبراليون الموالون للغرب
على محمل الجد درس حملة القتل
التي أسفرت عن تصفية العلماء
العراقيين والأكاديميين جسديا
خلال المدة 2006-2007. في الاستنتاج ما الذي تكسبه الولايات المتحدة (وبريطانيا
وإسرائيل) من تأسيس نظام رجعي
عميل، يقوم على هياكل اجتماعية-
سياسية واثنية- دينية قروسطية
في العراق؟ أولا وقبل كل شيء،
لقد أصبح العراق قاعدة عسكرية
للإمبراطورية. وثانيا، أن
النظام الحاكم في العراق هو
نظام ضعيف ومتخلف، بل عاجز عن
الهيمنة الإسرائيلية في
المنطقة اقتصاديا وعسكريا،
فضلا على غياب أي هاجس قد يدفعها
لمناقشة التطهير العرقي
المستمر للفلسطينيين العرب من
مواطني القدس والضفة الغربية
وقطاع غزة. وثالثا، أن تدمير
الأسس العلمية والأكاديمية
والثقافية والقانونية لدولة
مستقلة يعني زيادة الاعتماد على
الشركات الغربية (والصينية)
متعددة الجنسيات، وعلى بِِناها
التقنية التحتية- وهو أمر يسهّل
عملية التغلغل الاقتصادي
الامبريالي واستغلال كل ما هو
متاح. في منتصف القرن التاسع عشر، بعد ثورة 1848،
اعترف عالم الاجتماع الفرنسي
المحافظ اميل دورخيم Durkheim
Emilبأن
البرجوازية الأوروبية كانت
تواجه صراعا طبقيا متزايدا
وطبقة عاملة متنامية مناهضة
للرأسمالية. لقد لاحظ دورخيم أن
البرجوازية، مهما كانت شكوكها
ومآخذها الفلسفية على الدين
والحكم الديني، ستستخدم أساطير
الدين التقليدي لـ(خلق) تماسك
اجتماعي، وإضعاف الاستقطاب
الطبقي. كما دعا المثقفين والطبقة الرأسمالية
الباريسية المتفتحة إلى التخلي
عن رفضها العقيدة الدينية
الضبابية لصالح استخدام الدين
كوسيلة للحفاظ على الهيمنة
السياسية. وبالطريقة نفسها نجد
أن صانعي السياسة الأميركيين،
بما فيهم صهاينة البنتاغون، قد
استخدموا القبائل والملالي،
والقوى العرقية- الدينية أداة
لتدمير القيادة السياسية
الوطنية، العلمانية وثقافة
العراق المتقدمة من أجل توطيد
الحكم الامبراطوري – حتى لو دعت
هذه الإستراتيجية لقتل ما تشاء
من طبقتي العلماء والمهنيين.
فالحكم الإمبراطوري الأمريكي
المعاصر يقوم على دعم قطاعات
المجتمع التي تتصف بأكبر قدر من
التخلف في الميدانين الاجتماعي
والسياسي وبقدرتها على تطبيق
تكنولوجيا الحرب الأحدث. لقد اضطلع المستشارون الإسرائيليون بدور
رئيس في إرشاد قوات الاحتلال
الأمريكية في العراق إلى ممارسة
مكافحة التمرد في المناطق
الحضرية وقمع المدنيين، وهم
يعتمدون بذلك الارشاد على 60 سنة
من الخبرة. فقد كانت مجزرة دير
ياسين في العام 1948 والتي قتل
فيها مئات العائلات
الفلسطينية، كانت رمزا يشير إلى
الصهاينة في قضائهم على مئات
القرى الزراعية المنتجة. إن
سياسة استئصال الفلسطينيين هي
أمر أساس في مشورة إسرائيل
لصانعي السياسة في الولايات
المتحدة في العراق. وقد نفذ
رسالةَ هؤلاء الصهاينةُ
المعاونون في إدارتي بوش و
اوباما، الذين أمروا بتفكيك
كامل المدنية العراقية الحديثة
وبيروقراطية الدولة، واستخدام
فرق موت قبلية قوامها من
الأكراد والشيعة المتطرفين
هدفها تطهير الجامعات الحديثة
والمؤسسات البحثية لهذا الوطن
الممزق. يقوم الغزو الامبريالي الأمريكي للعراق
على تدمير جمهورية علمانية
حديثة. وأما الصحراء الثقافية
المتبقية( كما الاشارة
الانجيلية((البراري المُعوِلة))
تغمّس في دماء علماء العراق
القيّمين)، فيتحكم بها نصابون
المرتزقة، و بلطجية يظهرون في
زي (ضباط عراقيين)، وأميين
قبلييين ومذهبيين وعرقيين،
ورجال دين قروسطيين. وهم جميعا
يعملون تحت إشراف وتوجيه خريجي
ويست بوينت الذين يحملون ( بصمات
زرقاء للامبراطورية)، صاغها
خريجو جامعات برنستون وهارفارد
و جونز هوبكنز، و يال، وشيكاغو،
والحريصون على خدمة مصالح
الشركات الأمريكية والأوروبية،
متعددة الجنسيات. وهذا ما يسمى بـ( التطور المختلط غير
المتوازن): ويقصد به المزاوجة
بين الملالي الأصوليين وصهاينة
عصبة اللبلاب لصالح الولايات
المتحدة. ـــــــــــــــــــــــــــ * أستاذ جامعي أمريكي له مؤلفات في
اللوبي الصهيوني وأخرى في علوم
الاجتماع المصدر : مركز صقر للدراسات
2009-09-11
-------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |