ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
نحو
مشروع سلام إسلامي د
محمد السيد سعيد عرض
محمد حلمي عبد الوهاب في
الوقت الذي تكتفي فيه بعض
الأقلام بكتابة ردود حول
الاتهامات التي تملأ الإعلام
العالمي حول الإسلام والإرهاب
مختزلة إياه في تنظيمات من مثل
القاعدة وما على شاكلتها، تكتسب
بعض الكتابات القليلة جدا أهمية
خاصة وتنتقل من دائرة ردود
الأفعال إلى الفعل الأصيل الذي
يقدم بديلا للإشكال القائم
يتجاوز مسبباته وتتخطى سقف
الحدث نحو تقديم علاج ناجع
لموضوع الإشكال وسياقاته
الآنية. وإلى
هذا الإطار من التفكير الأصيل
تنتمي دعوة الدكتور محمد السيد
سعيد، لتدشين مشروع سلام
إسلامي، والذي عرضه على جزأين
في افتتاحية العددين 43، و44 من
مجلة رواق عربي، ومن شأن التعرض
لمقوماتها أن يوسع من دائرة
تناولها وانتشارها من جهة، كما
من الممكن أن تتعاضد الرؤى في
سبيل اكتمالها إلى أن تجد من
يتبناها بدلا من أن تظل حبيسة
الأدراج شأن العديد من
الأطروحات العلمية القيمة. غضب
مشروع على عكس
العديد من المثقفين الذين راحوا
ينتقصون من قيمة الغضب الإسلامي
بعد حادثة نشر الرسوم المسيئة
للرسول الكريم، يؤكد د. محمد أن
"من حق المسلمين أن يغضبوا
لدينهم وكرامة نبيهم وكرامتهم
كمؤمنين مما يشيع في العالم
الغربي وفي بعض النظم الثقافية
الأخرى من دعاية مقيتة ضد
الإسلام دأبت على إشاعة
الاعتقاد بأن المسلمين ميالون
للعنف والحروب والإرهاب
التزاما بما يمليه عليهم دينهم
من (الجهاد)!". متهما مثل هذه
الدعايات المنهجية المنظمة
بالعنصرية وأنها تنطلق من مصالح
سياسية ومن عقلية جاهلة بمنظومة
العقائد والأخلاق الإسلامية. وبنى
اتهامه هذا على دلائل وقرائن من
بينها أن "هذه الدعاية تتدفق
بقوة وتتوفر عليها إرادة سياسية
يأتي بعضها من دول وتتعاون فيها
أو تخططها قوى صهيونية
وإمبريالية تتآمر لتدمير شعوب
عربية بكاملها، وعلى رأسها
الشعب الفلسطيني وحماية
الامتيازات التي جنتها إسرائيل
وجعلتها فوق القانون الدولي
ومعفاة من أحكامه". وفي هذا
السياق ذاته لا يعمم الكاتب
حكمه السابق على الغرب كلية،
ويرى أن ثمة أعدادًا كبيرة من
البشر في جميع النظم الثقافية
الكبرى، بما فيها ما درجنا على
تسميته بالغرب، يناهضونها
ويرفضونها كدعاية عنصرية
ومعادية لحقوق الإنسان، وممهدة
أو محرضة على الحرب، ومعززة
لنظرية صراع الحضارات أو
الثقافات. وتبعا
لذلك، فجميع من تأثر بهذه
الدعاية ليسوا "حاقدين ذوي
نوايا سيئة"، أو كارهين "طبيعيين"
للإسلام والمسلمين، أو معادين
لهما بالسليقة أو بحكم "تحيزات
مسبقة"، وأكد الكاتب أن جانبا
كبيرا من المسئولية يقع على
مسلمين تعاملوا مع دينهم بصورة
خاطئة جذريا وصوروه بطريقة لا
تختلف كثيرا عما نسبه له بابا
الفاتيكان. الجهاد
آلية سلام في الإسلام مع
تزايد حدة الاتهامات الموجهة ضد
الإسلام وتزامنها في الوقت ذاته
مع شن تيار القاعدة لهجمات
إرهابية هنا وهناك، يلزم
المسلمين القيام بجهد مضاعف
لشرح الموقف الحقيقي للإسلام من
قضايا الحرب والسلم والأسباب
الحقيقية للعنف الدائر حاليا. فالإسلام
كدين لا شأن له بالحروب وموجات
العنف التي يشارك فيها مسلمون،
"ويؤكد هذه الحقيقة أن 28 فقط
من بين 55 حربا أهلية أو دولية
شارك فيها مسلمون منذ بداية عقد
الستينيات أو كان أحد طرفيها
مسلمين، وفي غالبية الصراعات
الأخرى كان المسلمون الطرف
الأضعف أو الطرف المعتدى عليه
من جانب آخرين، والصراع العربي -
الإسرائيلي هو نموذج حي، وإن لم
يكن وحيدا بالطبع على هذه
الحقيقة". كما أن
التنظيمات الإسلامية المتطرفة
لم تكن الوحيدة التي زجت بدينها
أو وظفته في صراعات سياسية
دولية أو أهلية، ويكفي
الاستشهاد بتوظيف الحركة
الصهيونية لعامل الدين في
صراعاتها والزج به في مشروع
سياسي. وفيما
يتعلق بالديانة المسيحية يكفي
أن نذكر "أن ميليشيا عسكرية
تسمى نفسها جيش الرب تيمنا
بالسيد المسيح وبالمسيحية كانت
-ولا تزال- مسئولة عن موجة غير
مسبوقة من العنف الهمجي في بلد
إفريقي كأوغندا، وأن رجال دين
أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية
شاركوا في واحدة من أكثر موجات
الإبادة الجماعية قسوة في تاريخ
العالم الحديث في رواندا
وبوروندي". ومن ثم
تعني مبادرة "مشروع سلام
إسلامي" أطروحة لبناء السلام
على المستويين (الإقليمي
والعالمي)، ولا شك أن هذه
الأطروحة يجب أن تكتسب قوة
سياسية ودفعا إعلاميا كبيرا
يساندها من أجل استعادة صورة
الإسلام، كموئل للرحمة ومسكن
للسلام الروحي والسياسي أيضا. أبعاد
مشروع السلام الإسلامي لا
يتأسس مثل هذا المشروع وفق
مقولات راديكالية كما لا ينشأ
من فراغ وإنما ينبني في الأساس
وفق عاملين مميزين: الأول:
الأصالة؛ حيث يتمسك الكاتب
بالإسلام وحضارته. الثاني:
الحداثة؛ أي أخذ المستجدات
الحديثة في الاعتبار. وأول
أبعاد هذا المشروع يتعلق
بإشكالية التجديد الفقهي،
والذي يكتسب أهمية كبرى لشيوع
الاعتقاد بأن الفقه درج على
ترديد ثنائية "دار الحرب،
ودار الإسلام" والعمل
بمنطقها. ويؤكد
الكاتب "أن الرؤية الإسلامية
للعالم لم تقم على هذه
الثنائية، كما أن الممارسة
الفعلية والتاريخية أبعد ما
تكون عن تكريس هذه النظرة
التبسيطية؛ فقد حارب المسلمون
بعضهم بعضا أكثر كثيرا مما
حاربوا غيرهم، كما أنهم تعرضوا
للعدوان الخارجي أكثر كثيرا مما
قاموا بالعدوان على غيرهم،
وبينما شاعت الحروب في التاريخ
كأسلوب لاكتساب الأراضي
والمغانم، لم يمنح المسلمون
أنفسهم حق الهجوم ابتداء على
غيرهم دون شرط أو قيد، بل طور
الفقهاء نظرة مميزة لقضية الحرب
وجعلوها استثناء". ومع ذلك
لا ينسى الكاتب التأكيد أن بعض
الفقهاء قد تصرفوا بالفعل "كمنظرين
للحروب أحيانا وهو ما فعله
مختلف المفكرين قبلهم، وفي أكثر
الأحيان، تصرف الفقهاء أو فكروا
كقادة قوميين وعبر المنقولات
والحمولات الذهنية العرفية لا
الدينية". وأشاد
الكاتب ببعض المفكرين العرب،
ككتابات الدكتور مصطفى السباعي
التي تنقض اتهامات البعض لفقهاء
الإسلام الأقدمين بأنهم لم
يعرفوا الفارق بين الحروب
الدفاعية والحروب الابتدائية،
وهو الفارق الذي ينسب إلى
القديس توما الأكويني في نظريته
المعروفة عن "الحرب العادلة".
مؤكدا "أن المنظومة الكلية
للفقه الإسلامي، فيما يتعلق
بالحروب، تضمنت في الجوهر ما
نسميه اليوم بالحروب العادلة،
ولذلك وضعت اشتراطات وقيودا
كثيرة على ممارسة البدء بالحرب
وعلى كيفية ممارستها". وعلى
الرغم من ذلك فإنه لا يمكن
التقليل من الفكر المتطرف الذي
يسود معظم أصحاب الاتجاهات
الإسلامية المتشددة، وتُلزمنا
هذه الحقيقة بإنجاز مهمة
استعادة صورة الإسلام من خلال
هذا المشروع، خاصة أن الفكر
الإسلامي طوال تاريخه يملك
مكوناته الأساسية، والتي
تتراوح ما بين القدم والحداثة
وتختلط مع غيرها أحيانا بصورة
تفضي إلى الخلط، بل وقد تبرر
الغموض والإيحاءات المناقضة. ومن ثم
"يتعين على الفكر والفقه أن
يستكملا هذه المقومات جزئيا من
خلال قراءة أكثر شمولا وعمقا
للرؤية القرآنية وجزئيا من خلال
استلهام وتقويم بعض المنجزات
الأساسية في مشروع الحداثة". السلام
فعل نضالي والمعنى
الأعمق للسلام من وجهة النظر
القرآنية "كونيا" بالفعل
ويظهر هذا المعنى بوضوح بالغ في
فكرة إضافية تُجلي مبدأ الإعجاز
الإلهي وتلزم الإنسان بنفس
القيمة، وهي فكرة التوازن الكلي
في الكون. ومع أن السلام مبدأ
كوني فإنه في الوقت ذاته مبدأ
بشري: أي يتعلق بتنظيم الحياة
الاجتماعية. "وتشرح لنا
الرؤية القرآنية فكرة التوازن
الكلي في المجتمع، بتعبير آخر،
وهو تعبير "التدافع": أي ما
يسميه الفقه الدستوري الحديث
بالضوابط والتوازنات Checks and balances. ففي هذا الإطار وضمن هذا السياق، يكتسب
الإنسان حريته: ليست له حرية في
تخريب توازنات الكون وانسجامه
الطبيعي، وهو حر في اختيار
مقترباته ووضع صياغاته الخاصة
فيما يتعلق بكل قضاياه البشرية:
أي الاجتماعية التاريخية فيما
عدا ذلك". وما بين
القانونين الإلهي والوضعي ثمة
توازن؛ "فالأول يشير إلى
التحليل والتحريم كوازع أخلاقي
وديني، والثاني يشير إلى
التكريم والتأثيم الاجتماعيين،
وفيما بين المستويين تقسيم
للمجالات من ناحية وشيء من
التكامل في التاريخ الاجتماعي
من ناحية أخرى". وفي
الرؤية القرآنية يكتسب العقل
إعمار الكون كأمانة أهمية خاصة؛
فالعقل الإنساني قبس من نور
الله والإعمار هو الدفاع عن
الحياة ومن ثم كان السلام فعلا
نضاليا، حيث "تتلازم فكرة
التوازن مع فكرة السلام بما
يعيننا على فهم أن النضال ليس
فعلا عسكريا أو بدنيا بل هو فعل
عقلي". والواقع
أنه لا سلام في الرؤية القرآنية
دون أن يكون العدل هدفه الرئيس؛
إذ "تكرس الرؤية القرآنية
الحق في شن الحرب ابتداء بغية
نيل العدل"، ووفقا لذلك لا
يوجد تناقض بين معنيي "النضال
والسلام"، وإنما ثمة تكامل
فلسفي وأخلاقي؛ "فالنضال هو
مقاربة السلام عن طريق الفعل، [كما
أن] هدف الفعل النضالي هو
استعادة التوازن في الكون
والعدل في الأرض". واستنادا
لذلك، تنحصر مشروعية الحرب في
معنى "الحرب العادلة". البعد
الاجتماعي ثاني
أبعاد مشروع السلام الإسلامي
يتمثل في الاهتمام بالبعد
الاجتماعي؛ ففي الأوضاع
الدولية الراهنة يعد الفقر
والمرض والجهل أحد أهم عوامل -إن
لم يكن بمثابة- الإعاقة الأولى
للسلام العالمي. ولا
يعني الفقر مجرد العوز المادي
أو العجز عن تلبية الحاجات
الأساسية الضرورية لتجديد
الحياة الإنسانية فقط، وإنما
يعني أيضا القصور في الخيال
والموهبة وفي الشروط الذاتية
لصنع اختيار متعلم وراق أخلاقيا
ومجتمعيا، أي "العجز عن صنع
أفضل اختيارات ممكنة تصون وتعزز
وتنمي مجموع الشروط الكلية
المناسبة للحياة الإنسانية بما
فيها الشروط البيئية (الكونية)". ومع عدم
تمكن فقهاء المسلمين القدامى
والمحدثين من فهم واستيعاب هذه
القضية بأبعادها الاجتماعية
بقدر كاف من العمق والمعرفة،
تبقى هذه المهمة أحد أبرز
مجالات التفاعل بين الفقه
والعلوم الاجتماعية
والإنسانيات. وترتبط
قضية التنمية والقضاء على الفقر
إذن بالسلام والعدل بصورة عميقة
للغاية، ومن هذا المنطلق فإن
مشروع السلام الذي يجب أن يحمل
اسم الإسلام يجب أيضا أن يطرح
رسالة "الإعمار" بمعنى
التنمية والنهوض بالمجتمع في
كافة مجالاته، والتي تشمل كلا
من (تطوير التنظيم الاجتماعي،
وتأكيد الضرورة الخاصة لتأمين
المساواة أمام القانون دون
تمييز على أساس النوع أو الجنس...
إلخ، والنهوض بالبيئة، والعمل
على إنهاء الفقر بكل أشكاله
وتعميم قواعد العدالة...) إلخ. قضايا
رئيسة في المشروع وفي
مشروع السلام الإسلامي تحتل
قضايا رئيسة مثل (القانون
الدولي، والعدالة الدولية،
والقضاء على الفقر) موقعا
مهمًّا؛ إذ يقدم هذا المشروع
نقدا صارما للنظام الدولي
الراهن انطلاقا من جملة المبادئ
المتجذرة في المفهوم الإسلامي
عن العالم وفي التراث المشترك
للبشرية. وقد
تكتفي وثيقة تصدر بعنوان مشروع
سلام إسلامي بالإشارة إلى
الحاجة لموقف عالمي أقوى في
الدفاع عن القانون وضرورة
تنميته والإضافة إليه وصولا إلى
تأكيد معنى حكم القانون في
المستوى الدولي كبديل لكل من
الفوضى والإمبريالية أو احتكار
صنع القرار وتكريس منظومة
الهيمنة في النظام الدولي. ومن
البديهي أن يرفض مشروع السلام
الإسلامي الخلل الكائن حاليا في
القانون الدولي وتطبيقاته وما
يعتريه من أخطاء جوهرية في بنية
السياسة ومفهوم المرجعية
الدولية مثلما هو الحال في
القضية الفلسطينية والمعايير
المزدوجة للتعامل مع إسرائيل
والعالم الإسلامي. وعلى
الرغم من أن المسئولية الأساسية
للعنف في المنطقة العربية تعود
إلى النظام الدولي ككل وإلى
الولايات المتحدة بصورة خاصة
فإن مشروع السلام الإسلامي يجب
أن يطرح أفكارًا خلاقة لصوغ
سياسات مواتية لإعادة بناء
المنطقة واستعادة السلام
والأمن بها؛ لأن المسلمين
يفضلون من حيث المبدأ تسوية
النزاعات والصراعات بصورة
سلمية، وبينما لا يمكن نزع
شرعية المقاومة والنضال من أجل
العدالة ولو بحروب التحرير فإن
الحرب بذاتها إسلاميا هي اختيار
تال وقابل للتأجيل، بل وقابل
للتجميد كذلك ما إن يتم إقرار
معنى العدالة وفتح فرصة حقيقية
للتفاوض الجاد من أجل السلام
العادل. عند هذا
الحد تنبثق أسئلة إجرائية
كثيرة؛ من يصوغ وثيقة هذا
المشروع؟ من يطرحه في المعترك
السياسي الدولي؟ من يقوم
بالحوار مع غيرنا من الشعوب
والمجتمعات باسم الوثيقة؟ كيف
يمكن أن نعطي هذه الوثيقة وزنا
يغري المجتمع الدولي بجديتها
وأهميتها في الدفع لوضع السلم
الدولي وفي النطاق الإقليمي على
قمة الأولويات؟. ثمة
معوقات كثيرة؛ فصياغة وثيقة
لمشروع سلام إسلامي يجب أن
يستند على تدفق كبير من أدبيات
الإسلام بدءا من الفقه ووصولا
إلى الفلسفة مرورًا بالمعارف
العلمية والإنجازات الفكرية،
وهو ما لم يتم بالفعل. كما أن
قضية السلام الدولي لم تلفت نظر
فقهائنا المحدثين بما يكفي
لإنتاج تيار قوي من الأدبيات في
مختلف ضروب الفكر الإنساني
والاجتماعي؛ إذ انصرفت جهود
الفقهاء لتبرير الجهاد أكثر من
الدعوة للسلام العالمي. لكن
صياغة وثيقة لمشروع سلام إسلامي
عملية أكبر وأعقد من قدرات
الفقهاء وحدهم؛ إذ يحتاج الأمر
لمعرفة متعمقة في القانون
الدولي وفلسفته ومنطلقاته
وأوجه قوته وضعفه وتطبيقاته
المتباينة، كما يحتاج لقدرات
علماء السياسة والاجتماع
والاقتصاد؛ أي إن صوغ وثيقة
لمشروع سلام إسلامي يجب أن تكون
مهمة أطقم من الفقهاء وعلماء
القانون والإنسانيات وعلماء
الاجتماع والاقتصاد والسياسة،
وغيرهم. ـــــــــ *مدير
تحرير مجلة "رواق عربي".
العدد 43 و 44 -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |