ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ (الأحزاب) دروس في ذكراها "الحلقة
الأولى" محمد
مسعد ياقوت* "أحجار على رقعة الشطرنج" بعد معركة بني النضير [4 هـ ] – التي أجلى
فيها المسلمون يهود النضير إلى
خارج المدينة، بعدما خانوا،
وعزموا على اغتيال النبي – صلى
الله عليه وسلم – تحرك وفد
يهودي يجوب الجزيرة العربية
لتجهيز أكبر جيش عربي لاستئصال
الإسلام والمسلمين وقتل الرسول
واحتلال المدينة ونهب خيراتها. ونجح اليهود في إعداد هذا التحالف العربي
الذي دخلت فيه أهم قبائل العرب... وقد كان على رأس هذا الوفد اليهودي نخبة
من زعماء اليهود ممن يحقدون
على المسلمين حتى النخاع، وكان
منهم: 1- سَلامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ
النّضْرِيّ
2- حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ
النّضْرِيّ
3- َكِنَانَةُ بْنُ أَبِي
الْحَقِيقِ النّضْرِيّ 4- هَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيّ
5- َأَبُو
عَمّارٍ الْوَائِلِيّ.
6- وَسَلام بْن مِشْكَمٍ [ابن
القيم: زاد المعاد - 3 / 240]. وانضمت إلى هذا
التحالف اليهودي والوثني أهم
قبائل العرب: قريش وغطفان، و
فزارة ومرة، وأشجع واتجهت جيوش
الأحزاب نحو المدينة. وهكذا كان اليهود وراء تحالف الأحزاب،
فجابوا وساحوا في الجزيرة،
وانصاعت لنفثهم القبائل، فكانت
قبائل العرب أحجارًا على رقعة
الشطرنج اليهودية. اليهود يدعمون العقائد الوثنية: وتروي كتب السير، قصةَ خروج اليهود إلى
مكة لدعوة قريش إلى حرب رسول
الله – صلى الله عليه وسلم -،
وهي عجيبة من عجائب الدهر؛ أن
يتصعلك أهل كتاب عند أهل وثن،
وأن يتحبب أتباع دين سماوي إلى
أصحاب دين وثني، وأن يستعين
اليهود بالوثنية لضرب الإسلام. ولقد وجد صناديد مكة الفرصة سانحة بهذه
الزيارة اليهودية؛ أن يضفوا
الشرعية على عبادة الأصنام، وأن
يحصلوا على شهادة من علماء بني
إسرائيل على سلامة الدين
الوثني، وأحقية اللات والعزى
ومناة وقطعان الأصنام بالعبادة. فقالت قريش: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ
إنّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ
الأول، وَالْعِلْمِ بِمَا
أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ
نَحْنُ وَمُحَمّدٌ،
أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ
دِينُهُ؟". فقال زعماء اليهود وعلماء بني إسرئيل: "بَلْ
دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ
وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ..!!
" [ابن هشام
2 / 214].
وهكذا سجل التاريخ هذه المَعرة اليهودية،
وصور هذه العورة الإسرائيلية،
في هذا المشهد المخزي من أناس –
يدَّعون انتسابهم لموسى - خانوا
الشرائع السماوية، ودلسوا
الأمانة العلمية، وشهدوا زورًا
وكذبًا بصحة دين الأصنام
وأحقيته على دين خير الأنام. وهم الذين قال الله فيهم، مسجِلاً هذه
المساندة اليهودية لدين
الأوثان: أَلَمْ تَرَ إِلَى
الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا
مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ،
وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ
كَفَرُوا: هَؤُلاءِ أَهْدَى
مِنَ الّذِينَ آمَنُوا
سَبِيلاً، أُولَئِكَ الّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللّهُ، وَمَنْ
يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا [النساء:51] . إنه العار الذي لحق بالأمة اليهودية
صاحبة الكتاب السماوي، لـمَّا
تحالفت مع الوثنية ضد التوحيد،
ومع الأعداء ضد أبناء الوطن. الزحف نحو المدينة: وخرجت جيوش التحالف وقد أجمعت أمرها على
إفناء المسلمين، وتألفت هذه
الجيوش على النحو التالي: 1- جيش قريش، تحت قيادة أَبُو سُفْيَانَ
بْنُ حَرْبٍ: (4000 جندي). 2- جيش غَطَفَانُ, بقيادة
عُيَيْنَة بْنُ حِصْنِ, وفِيهم
بَنِي فَزَارَةَ. 3- جيش بَنِي مُرّةَ،, بقيادة الْحَارِث
بْنُ عَوْفِ (400 جندي)، وهي من
بني غطفان. 4 - جيش أَشْجَعَ, بقيادة َمِسْعَر بْنُ
رُخَيْلَةَ (400 جندي). 5- جيش بني أسد، بقيادة طليحة بن خويلد (4500
جندي) 6- جيش بني سليم، بقيادة سفيان بن عبد شمس
(700 جندي)، وقد التحقوا بجيش
التحالف في (مُرَّ الظهران)[انظر:
ابن هشام 2 /
215]. ومن ثم تجاوز عددهم العشرة آلاف, وكانت
القيادة العامة لأبي سفيان. إن هذا التجمع الوثني الكبير
– في هذا الوقت – يشي
بمدى الجهد الكبير الذي
بذله اليهود، علاوة على تلك
الأطماع التي ظهرت وسال لعاب
أصحابها، فالمدينة بالنسبة
لأعراب الجزيرة صيد ثمين وغنيمة
ضخمة، كما أن إفناء المسلمين
هدف أسمى بالنسبة للوثنيين
واليهود على حد سواء. أهمية الشورى والأفكار المستحدثة في
الحرب: ورُفعت إلى حضرة النبي – صلى الله عليه
وسلم - التقريرات
الاستخباراتية، التي تفيد
بتحرك جيوش التحالف صوب
المدينة، فاسْتَشَارَ
الصّحَابَةَ، ما العمل؟ وهو
النبي المصطفى الذي يتنزل الوحي
عليه من السماء. فأشار عليه
سلمان الفارسي بحفر خَنْدَقٍ
يَحُولُ بَيْنَ الْعَدُوّ
وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وهي
حيلة دفاعية يستخدمها الفرس،
والحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها
فهو أحق الناس بها. إن درس الشورى يأبى الغياب بين فصل وآخر
من فصول سيرة الرسول .. إن الشورى ثمرة نضيجة من ثمرات الدعوة
الإسلامية، نراها – أي الشورى
– ماثلة حية في أحداث السيرة في
ظلال النبوة وتحت قبة الوحي
وبين يدي الرسول الصادق
المصدوق، لتتوكد فريضة الشورى-
تلك الفريضة الغائبة المجهولة
– في نفوس المسلمين
والمتمسلمين، حكاماً ومحكومين،
ولنعرف أن جو الاستبداد ضَيّقٌ
لا يتسع، وهَمٌ لا ينفرج،
والجور والعسف لا يصنع عقولاً
إنما يصنع أقفية. تكريم العقول المبُتكِرة: وطفق الناس يهتفون بسلمان، افتخارًا به،
وسرورًا بفكرته،
فقال المهاجرون: سَلْمَانُ
مِنّا ؛ وَقَالَتْ الأنْصَارُ:
سَلْمَانُ مِنّا؛ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ- سَلْمَانُ
مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ [ابن
هشام2/224]. وهو الرد المعهود من القيادة الإسلامية
التي شرعت في تكريم أصحاب
الابتكارات وأصحاب الاختراعات. لقد نال سلمان هذه المرتبة الشرفية،
واستحق هذا الوسام النبوي
الرفيع؛ لأنه أعمل عقله في خدمة
الإسلام، واخترع وابتكر، وأبدع
ما ينفع المسلمين، وفكر، وفكر،
وفكر، ولم ينخذل ولم يتضعضع،
فكان من زمرة آل البيت الأماجد. وانظر. كيف تهيج العقول وتستوي على سوقها،
فتَنتج وتبدع في جو الشورى،
وبيئةِ الحوار بين الراعي
والرعية، وتُربةِ التفاهم بين
القائد وجنده! هذه هي سمة البيئة الشورية في المجتمعات؛
بيئة جاذبة للعقول، تحتضن أصحاب
المواهب والأفكار, وليست بيئة
طاردة للعقول قاتلة للفهوم. أيها المسؤول. ابدأ بنفسك! فلما أصدر النبي – صلى الله عليه وسلم -
قراره بضرب الْخَنْدَقَ
عَلَى الْمَدِينَةِ, عَمِلَ
فِيهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بنفسه – مشاركةً، و
تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ
فِي الأجر، وتحميسًا لهم,
وتواضعاً منه – صلى الله عليه
وسلم – فلا يليق بالقائد المسلم
أن يجلس في رغد ولهو على الفراش
اللين الدافىء من خلف جنوده
الذين يتضورون جوعاً ويرتعدون
من البرد شمال المدينة حيث
أعمال الحفر .. وفي ذلك، الدرس الأوفى؛ لأصحاب
المسؤوليات في العمل الجماعي
الدعوي؛ أن يتقوا الله في
أنفسهم وإخوانهم والدعوة، فتجد
أحدهم يلقي على إخوانه التكاليف
الثقال؛ وليس له من الأمر إلا
القعود وقيل وقال. أو تراه يتكلف
ويتعمَّل، ويتصنع المشاركة ثم
ينسل من بينهم، تاركًا الجَمل
بما حمل، ولا حياء ولا خفر، وبعد
العمل تراه قد خرج من جحره؛
ليلقي نظرياته في العمل الجماعي
وينظِّر تنظير العلماء، ويعقب
تعقيب الحكماء، عما كان وعما
ينبغي، وهو الخطيب المِثْقع
والمتحدث المِفْلق، لكن. دون
مشاركة جادة ومعاونة فاعلة.
فقه الاستئذان: وَعَمِلَ الأبطال في أعمال حفر الخندق؛
فَدَأَبَ فِيهِ القائد
وَدَأَبُوا. وَأَبْطَأَ عن
المجاهدين فِي عَمَلِهِمْ
ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا
يُوَرّونَ بِالضّعِيفِ مِنْ
الْعَمَلِ، وَيَتَسَلّلُونَ
إلَى أَهْلِيهِمْ – هربًا من
أعمال الحفر - بِغَيْرِ عِلْمٍ
مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
ولا إذْنٍ. وَجَعَلَ
الرّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
إذَا نَابَتْهُ النّائِبَةُ
مِنْ الْحَاجَةِ الّتِي لا بُدّ
لَهُ مِنْهَا, يَذْكُرُ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي
اللّحُوقِ بِحَاجَتِهِ
فَيَأْذَنُ لَهُ – في رحمة وعفو
- فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ
رَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ
مِنْ عَمَلِهِ رَغْبَةً فِي
الْخَيْرِ وَاحْتِسَابًا لَهُ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى
فِي أُولَئِكَ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ: [ إِنّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ
آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى
أَمْرٍ جَامِعٍ، لَمْ
يَذْهَبُوا حَتّى
يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنّ
الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ
أُولَئِكَ الّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ
وَرَسُولِهِ، فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ
شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ،
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ
إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [انظر:
ابن هشام 2
/ 215،
216]. وفي هذا دلالة على أهمية الاستئذان إذا ما
أراد الجندي الانصراف عن العمل
الجماعي لضرورة أو لحاجة. فلا
يجوز له – شرعًا ولاخُلقًا ولا
عُرفًا– أن يتحول عن العمل
الجماعي إلى العمل الفردي – أي
من المصلحة العامة إلى المصلحة
الخاصة – إلا بموافقة صريحة من
القائد . وفي ذلك المشهد درسٌ لهؤلاء الهذليين
والكُسالى الذين يتخلفون عن
المصلحة العامة لحساب مصلحتهم
الشخصية، ويقدمون مستحب الفرد
على واجب الأُمة، ويُبطئون عن
إخوانهم بغير عذر ولا إذن،
ويُوَرّون بالعمل المتصنع
الضعيف الشكلي، ويتسللون إلى
بيوتهم ومصالحهم الشخصية تسلل
الثعالب، هربًا من الأعمال،
وتهربًا من الأعباء، وفرارًا من
المصلحة العامة – تالله إن
هؤلاء متبرٌ ما هم فيه، وفاسدٌ
ما هم عليه، وهم أحوج إلى التوبة
والأوبة من العبد الآبق. ولهؤلاء نقول: إن الله تعالى لم يذرأكم في
هذه الأرض عَبَثاً، ولم يترككم
فيها سُدًى، ولا يريد منكم من
رزق فتَقْسمون، ولا قصور
فتفخرون، ولا مراكب فتمرحون،
وما بَينْ أحدكم وبيني الجَنَة
والنار إلا الموتُ يأتيه
اللحظة، أو بعد لحظة؛ وإنَّ
طموحات تَنْقُصها اللحظةُ،
ومشاريعًا دنيوية تَهْدِمها
اللحظة، لجديرة بقِصَر العمر،
وهوان الدنيا.. فيا لها حَسْرَةً
على كلّ ذي غَفلة ! ويا لها عَبرة
على كل ذي غَمرة ! أهمية الأدب الحماسي: عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الْخَنْدَقِ
وَهُمْ يَحْفِرُونَ، وَنَحْنُ
نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى
أَكْتَادِنَا، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللَّهُمَّ
لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة
فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ
والأنصار" [البخاري، برقم:(3789)].
وعن أنس قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ،
فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ
وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي
غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ
يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ،
فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ
النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ:
"اللَّهُمَّ إِنَّ
الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ..
فَاغْفِرْ للأنصار
وَالْمُهَاجِرَهْ". فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ
الَّذِينَ بَايَعُوا
مُحَمَّدَا.. عَلَى الْجِهَادِ
مَا بَقِينَا أَبَدَا. فكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُلُ
التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ
حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ
اغْبَرَّ بَطْنُهُ [البخاري:
برقم (3795)].
وكان من بين المجاهدين رجل من
الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ
جُعَيْلٌ. فسَمّاهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَمْرًا.. فطفق الصحابة يرددون مرارًا: سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرَا ...
وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا
ظَهْرَا فَإِذَا مَرّوا "بِعَمْرٍو " قَالَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "عَمْرًا
!" وَإِذَا مَرّوا "بِظَهْرٍ" قَالَ
رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ظَهْرًا"
[ابن هشام 2 / 217]. وعن الْبَرَاءَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ
الأحْزَابِ يَنْقُلُ مَعَنَا
التُّرَابَ وَلَقَدْ وَارَى
التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ
وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْلا أَنْتَ مَا
اهْتَدَيْنَا .. وَلَا
تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ..
[إِنَّ الْأُلَى قَدْ
بَغَوْا عَلَيْنَا] إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا ..
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ
أَبَيْنَا أَبَيْنَا. [البخاري:
(3795)، ومسلم: (3365)]. إذا أردتَ أن تهدم شَعبًا فسلط عليه الأدب
الرقيع، والشعر الرخيص، وقصص
الجنس، وروايات العهر، وقصائد
الخمر، فالأدب الخليع لا يقل
ضراوة في الهدم من الصواريخ! وإذا أردنا أن نؤسس جيشًا، ونبني أُمةً, -
وقد قال الله تعالى: "وأعدوا"
– فإن من تمام الإعدادِ تربيةَ
الجنود على الأدب الإسلامي
الجهادي، والشعر العربي
الحماسي، وأناشيد الشجاعة،
ومقالات الإباء، وقصص البطولة.
و"حرض المؤمنين". وفي هذه الغزوة، وقد بدأ الحصار، وزاغت
الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وتطايرت الظنون والشكوك, وساحت
الأضاليل والأباطيل – نرى
القائد العظيم والرئيس الحكيم
يثَّبت جنده ويربط على قلوبهم
ويشد على أيديهم مستخدمًا في
ذلك القصيدة الحماسية والطرفة
الظريفة، والترنيمة اللطيفة. ومثل هذا أيضًا، يدلل على قدرة القائد في
الجمع بين الجد والترويح عن
النفس، لاسيما في كربة الحرب
وشدة الضنك.. هذا، وإنشاد الأناشيد والأشعار الجهادية
في ثنايا المحن دائمًا يحقق عدة
فوائد, أهمها: (1) الترويح عن
الجنود. (2)
إلهاب مشاعر المسلمين بشكل
إيجابي نحو العقيدة والوطن. (3) تقوية الصلة
بين الجنود وقاداتهم، فضلاً عن
الجنود وبعضهم. الالتفاف حول شعار جهادي: فلقد كَانَ شِعَارُ الجيش الإسلامي
يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حم, لا
يُنْصَرُون"[ابن هشام
2 / 226
] إن الشعار الإسلامي أو الهتاف الحماسي
رغم رمزيته إلا أن له أهمية في
تنظيم الجيش وحشد الجنود وبثّهم.
ولعمري إن صيحة الشعار تهز القلوب وتنشط
بها الجوارح، وتدمع بها العيون،
وبها يتحرك الجنود نحوها أو
انطلاقًا منها. وينبغي أن يتسم الشعار بالقوة ووضوح
الهدف. إن شعارات العمل الإسلامي مهمة، تحتاج
دومًا إلى تجديد وتفعيل وهمة،
وشرح مغذاها للناس، وتبيين
علاقتها بأهداف العمل، وتأكيد
أخلاقيتها فلا سَبَ فيها ولا
شتم. الصبر على الشظف : الصبر على قلة الزاد، من الآداب المهمة
التي ينبغي أن يتربى عليها جند
الله، ليكون الصبر وقودًا لهم
في ساح القتال، تلك الساعات
التي يكابد فيها الجند الحر
العطش، والجوع والشظف. ولقد ضرب الصحابة أروع المثل في الصبر على
قلة الزاد، "فكانوا
يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي
مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ
لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ
تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ
الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ
جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي
الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ
مُنْتِنٌ !!" [البخاري: (3791)]. قال جابر- مشيرًا إلى أيام الخندق: "وَلَبِثْنَا
ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ
ذَوَاقًا"[البخاري: (3792)]. وقال واصفًا حال قائدهم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لَمَّا
حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ
بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمَصًا
شَدِيدًا"[البخاري: (3793)]. ولقد بلغ منه – صلى الله عليه وسلم –
الجوع مبلغًا عظيمًا، يوم
الخندق، حتى ربط على بطنه
ليقاوم الجوع، قال أبو طلحة: "شكونا
إلى رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – الجوع فرفعنا عن بطوننا
عن حجر حجر، فرفع رسول الله –
صلى الله عليه وسلم –
عن حجرين" [الترمذي: (2371)]! البطن مَهلكة المسرفين، ومدرسة
المُقلِّين. فلا تكن – حبيبي – أسيرُ الجُوع، صرَيع
الشِّبع. فربما صوم يوم أعانك على جوع يوم، فالجوع
رغبة منك، دربةً على الجوع
رغمًا عنك. ورب دولة صائمة وقاها الله لباس الجوع،
فأحرى بشعب قضيته الكبرى الأكل
والشرب أن يتوب وأن يصوم . وليس تاريخ محمد – صلى الله عليه وسلم –
إلا تاريخ شدائد ومِحَن،
ومجاهدة في هداية البشر،
ومراغَمَة لكيان الفساد. فهو
يجاهد رغم جوعه، ويعمل رغم
جوعة، ويدعو رغم جوعه. هكذا كانت الحلقة الأولى في غزوة الأحزاب.
1-أبانت تلك الحلقة كيف يخطط اليهود
للإيقاع بالأمة الإسلامية،
وحقيق أنهم أشد الناس عداوة
للمسلمين، وشعارهم دومًا "
ليس علينا في الأميين سبيل "،
فهم يسعون دومًا أن يجعلوا من
الكرة الأرضية رقعة شطرنج هم
محركو أحجارها، ولو بالتحالف مع
عبَّاد الأوثان. فأوصيك – أخي –
ببغض اليهود. 2- وأنت قد رأيت – أخي القارئ – كيف كانت
البيئة الإبداعية التي كان
الصحابة يحبرون فيها في ظلال
دولة الشورى، وكيف كان الإبداع
متساوقًا مع الحرية، وكيف كان
النظام الإسلامي يدعم أصحاب
المواهب ويشجع المبتكرين.
فأوصيك – أخي – بصناعة البيئة
الشورية الإبداعية في بنيان
العمل الجماعي، لتقر الأعين
بعباقرة ونوابغ في خدمة الإسلام.
3- وعلمتَ، كيف أن القائم على ثغر من ثغور
الإسلام؛ لا ينام عن إخوانه،
ولا يتهرب من مهامه، ولا
يَكتنُّ في كِسر بيته وإخوانه
يكابدون قيظ الحَرِ. وما أقبح
التخلف والإهمال في أبناء
الصحوة الإسلامية ! أحَسِبَ
هؤلاء أنهم كعامة الناس؟ فلطخة
في الثوب الأبيض ليست كلطخة في
الثوب الأسود! فعليك – أخي –
بغرس قيمة المشاركة وقيمة
الاستئذان. 4- وعلمتَ أهمية فنون الأدب في معركتنا مع
العدو، فكم من قصيدة أحيت
الجهاد في قلوب موات، وكم من
أنشودة ناح بها المجاهدون حتى
بلغوا بها المعالي، فعليك
بأشعار الشجاعة عند المتنبي،
وديوان الحماسة لأبي تمام،
وقصائد الزهد لأبي العتاهية
وغيرها من الأدب القديم، إضافة
إلى الكتابات الأدبية الجهادية
ما مضى منها وما استجد. 5- وعلمتَ كيف كان حال الصحابة من شظف
وجوع، فالاخشوشان سمة من سمات
المجاهدين، والمترفون لا
يقيمون حضارة، ولا تقوى أياديهم
الناعمة على حمل السلاح، فهيا،
هيا. نغرس التربية الجهادية في
نفوسنا وفي نفوس ذوينا. * *
* غزوة الأحزاب .. دروس في ذكراها .. الحلقة الثانية .. رسالة
الإسلام بقلم الأستاذ محمد مسعد
ياقوت بسم الله .. هذه هي الحلقة الثانية في
مُدَارسة غزوة الأحزاب. وفي هذه الحلقة درس في علاقة الراعي
برعيته والقائد في كتيبته، ودرس
ثانٍ في أهمية التبشير بالنصر،
وبث روح التفاؤل في نفوس الجند،
ودرس ثالث في بركات الجهاد
وكرامات المجاهدين، ودرس رابع
في فضل المكائد الحربية، ودرس
خامس في حرب الرسائل، ودرس أخير
– في هذه الحلقة – حول تدارك
الثغرات والثلمات فقد يُأتى
المجتمع الحريز من ثغرة هينة
ومعظم النار من مستصغر الشرر. القائد بين جنوده: قال جابر ـ رضي الله عنه: إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ
فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ [أي صخرة]
شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا
النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا
هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي
الْخَنْدَقِ فَقَالَ: " أَنَا
نَازِلٌ".. ثُمَّ قَامَ
وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ-
وَلَبِثْنَا ثلاثة
أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا-
فَأَخَذَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ
كَثِيبًا أَهْيَلَ ـ أَوْ
أَهْيَمَ-، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ ائذنْ لِي
إِلَى الْبَيْتِ. فَقُلْتُ
لامْرَأَتِي: رَأَيْتُ
بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَيْئًا
مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ !فَعِنْدَكِ
شَيْءٌ ؟ قَالَتْ:
عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ [أي
أنثى المعز]. فَذَبَحَتْ
الْعَنَاقَ، وَطَحَنَتْ
الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا
اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ،
ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ ـ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَالْعَجِينُ قَدْ
انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ
بَيْنَ الأثَافِيِّ [أي الـحَجر
الذي تُوضَعُ عليه القِدْرُ]
قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ،
فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي،
فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ
رَجُلانِ. قَالَ: "كَمْ هُوَ ؟"..
فَذَكَرْتُ لَهُ. . قَالَ: "كَثِيرٌ
طَيِّبٌ ". . قَالَ: " قُلْ
لَهَا لا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ
ولا الْخُبْزَ مِنْ
التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ". .
فَقَالَ: " قُومُوا"..
فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ
وَالأنْصَارُ !! فَلَمَّا
دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ
قَالَ: وَيْحَكِ ! جَاءَ
النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِالْمُهَاجِرِينَ
وَالأنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ..
قَالَتْ: هَلْ
سَأَلَكَ؟ قال: نَعَمْ. فلما أقبل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل
الخندق قَالَ: "ادْخُلُوا
وَلا تَضَاغَطُوا".. [قَالَ جابر: فَجَلَسَ وَأَخْرَجْنَاهَا (يعني
الشويهة) إلَيْهِ. قَالَ
فَبَرّك وَسَمّى
اللّهَ] [ابن هشام
2 / 218].. فَجَعَلَ يَكْسِرُ
الْخُبْزَ, وَيَجْعَلُ
عَلَيْهِ اللَّحْمَ
وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ
وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ
مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى
أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ،
فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ
الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى
شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ
قَالَ: "كُلِي هَذَا،
وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ
أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ"..[البخاري:
(3792)]. في هذا المشهد، نرى نبينا – صلى الله عليه
وسلم – بين جنوده، وفي خدمة
جنوده في أول المشهد وآخره.. فكان في خدمتهم لما عَرَضَتْ عليهم صخرة
شَدِيدَةٌ، فقال في تواضع جم:
"أنا نازل"، وتحرك بمعوله
الكريم صوب الصخرة؛ لينسفها
نسفًا، وهو أشجع الشجعان، وأقوى
الرجال – صلوات ربي وسلامه عليه.
وكان في خدمتهم في آخر المشهد، لما جاء
جابر وقد أعد " طعيم" – على
حد قوله – لرسول الله – صلى
الله عليه وسلم ـ, فما كان من
القائد أن أطعم جنوده بنفسه،
ووقف يوزع لهم الطعام بشخصه،
حتى إذا ما أكلوا وشبعوا أكل هو..
! إنها القيادة الرشيدة التي تهوى إليها
الأفئدة بمثل هذه السلوكيات
الكريمة، والأخلاق الحميدة،
فما كان النبي- صلى الله عليه
وسلم - ليرضى أن يَطعم طعامًا
قبل رجاله، وهو الذي يصبِّرهم
على العوز، وليس من أخلاقه أن
يجلس إلى الموائد الشهية
الفاخرة خلسة من وراء جنوده، أو
أن يتميز عنهم في طعام أو شراب. . وهذا درس لقادة الدعوات الذين أفلحوا في
التنظير، ولم يفلحوا في كسب
احترام جماهير المدعوين،
ونجحوا كواجهة دعائية ولم
ينجحوا كقدوة تربوية، وأجادوا
وأبانوا العلم والفكر والدعوة،
وفشلوا فشلاً ذريعاً في نصب
راية الدعوة في ميدان الحياة،
فضلاً عن مجتمع الدعاة الأقران.
وخليق بجميع الدعاة كباراً
وصغاراً؛ أن ينزلوا إلى ساحة
المدعوين وإلى ميدان العمل
ومشاركة الناس همومهم وتحطيم
صخور أحزانهم بمعاول الإيمان
والقرآن، وليَقُلْ ذلك الداعي
الساكن في البرج العاجي: " أنا
نازل ", أي إلى الشارع والحي
والمجتمع، ومن لم يهتم بأمر
المسلمين فليس منهم. إن الفطنة والألمعية والجهبذة لن تفلح ما
دامت نائمة في رؤوس العلماء
والدعاة ولم تخرج إلى واقع
الحياة ! كزير الماء الذي أُحكم
غلقة ولم يستفد منه أحد. أهمية التبشير بالنصر والفتوحات وقت
المحن: إن من أخلاقيات القيادة الإسلامية في
ميادين القتال، التبشير بالنصر
والتفاؤل بالظفر، والعمل
الإعلامي الجاد المتواصل في بث
روح الثقة في نصر الله ومدده. . ففي مشهد الكدية التي عَرَضَتْ على
الرجال، وَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَخَذَ
الْمِعْوَلَ، ليحطم الصخرة
التي أرهقت الجنود،
َقَالَ: "تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". . فَنَدَرَ ثُلُثُ
الْحَجَرِ !
وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ
قَائِمٌ يَنْظُرُ! فَبَرَقَ
مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ
ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ بَرْقَةٌ. . ثُمَّ
ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ: "تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ".. فَنَدَرَ
الثُّلُثُ الآخَرُ، فَبَرَقَتْ
بَرْقَةٌ!! فَرَآهَا سَلْمَانُ،
ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ،
وَقَالَ: "تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". . فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ. . قَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا
تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلا
كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ !! قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا سَلْمَانُ. . رَأَيْتَ ذَلِكَ ؟؟"
فَقَالَ: إِي، وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ
اللَّهِ! فقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم: "
فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ
الضَّرْبَةَ الأولَى رُفِعَتْ
لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا
حَوْلَهَا، وَمَدَائِنُ
كَثِيرَةٌ، حَتَّى رَأَيْتُهَا
بِعَيْنَيَّ !!!" !!! قَالَ لَهُ مَنْ
حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ
أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا
وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ...
!! فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِذَلِكَ. قال: " ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ
الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي
مَدَائِنُ قَيْصَرَ، وَمَا
حَوْلَهَا، حَتَّى رَأَيْتُهَا
بِعَيْنَيَّ!!!" !!! قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ
اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا
عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا
دِيَارَهُمْ. .. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
بِذَلِكَ " ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ
فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ
الْحَبَشَةِ، وَمَا حَوْلَهَا
مِنْ الْقُرَى، حَتَّى
رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ!!!"
!!! فقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ
ذَلِكَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ
مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا
التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ"[النسائي:
(3125)، وصححه الألباني]. أرأيتَ هذا النبي العظيم وهو في كُربة
الحرب وقد تكالب القاصي والداني
عليه وأوشكت المدينة أن تكون
كَلًئا مباحاً للأعراب واليهود
– تراه كالطود الشامخ والعَلَم
الراسخ يثَّبت الأرض من حوله،
ويرِّسخ الإيمان في جنده، وينشر
أحاديث البشائر، وأخبار
الفتوحات، وأناجيل النصر، وفتح
أوروبا وآسيا وأفريقيا. .
فيثَّبتَ الجند، ويخفف عنهم. .
وهو بهذه الأحاديث التي تُحيي
النفوس؛ يسلِّيهم، ويُخَّفض
عنهم، ويخفض جناحه لهم، ويَرأفُ
بهم، ويرحمهم. فما أحوجنا إلى الداعية المُبشر لا
المنفر، المُيِسِّر لا
المُعسِّر، المعتدل لا
المتنطع، المتوسط لا المتكلف.
الداعية الذي يغرس في نفوس
الناس والنشء بذار الإيمان
والثقة بنصر الله، والذي يؤكد
للناس مراراً أن الدائرة
للإسلام وأن الله متم نوره وأن
الغلبة لدينه والعاقبة
لأوليائه والتمكين لجنوده،
والله غالب على أمره ولكن أكثر
الناس لا يؤمنون.
بركات ومعجزات: وعندما ينهمك الرجال في العمل الجهادي
الخالص، سرعان ما يُعايشون
كرامات المجاهدين وبركات
الجهاد، تلك البركات التي تجعل
من القليل كثيراً، وتجعل من
طعام الواحد ما يكفي لمئات. . قَالَتْ بْنِت بَشِيرٍ بن سعد: دَعَتْنِي أُمّي
عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ,
فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ
تَمْرٍ فِي ثَوْبِي, ثُمّ
قَالَتْ: أَيْ
بُنَيّةُ، اذْهَبِي إلَى
أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللّهِ
بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا,
قَالَتْ فَأَخَذْتهَا,
فَانْطَلَقْت بِهَا,
فَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ-
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- وَأَنَا أَلْتَمِسُ
أَبِي وَخَالِي, فَقَالَ: "تَعَالَيْ
يَا بُنَيّةُ مَا هَذَا مَعَك؟
" قالت: يَا رَسُولَ اللّهِ
هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ
أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ
سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللّهِ
بْنِ رَوَاحَةَ
يَتَغَدّيَانِهِ.
قَالَ: " هَاتِيهِ"، قَالَتْ: فَصَبَبْته
فِي كَفّيْ رَسُولِ اللّهِ-
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ـ فَمَا مَلأتْهُمَا!
ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ
لَهُ، ثُمّ دَحَا بِالتّمْرِ
عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ
الثّوْبِ، ثُمّ قَالَ
لإنْسَانِ عِنْدَهُ: "اُصْرُخْ
فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ: أَنْ
هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ!"..
فَاجْتَمَعَ أَهْلُ
الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ
فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ!
وَجَعَلَ يَزِيدُ!حَتّى صَدَرَ
أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ
وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ
أَطْرَافِ الثّوْبِ!![ابن هشام
2 / 218].
وفي هذا المشهد على ما فيه من المعجزة
الحسية المُبيِنة، أنْ أنمى
اللهُ الطعام في يدي رسول الله
– صلى الله عليه وسلم – بهذا
الشكل العجيب، فطعمَ طعامُ الكف
الجيشَ عن بكرة أبيه – وفي ذلك
تثبيت للقلوب في هذه الظروف
التي قال فيها المنافقون: " ما
وعدنا الله ورسوله إلا غروراً
". .. ـ إلى جانب هذا المشهد
الإعجازي نرى مشهد البركات التي
يصبها الله صباً للمجاهدين، تلك
الكرامات التي تتجلى في مشاهد
الجهاد، وهي كرامات لن تعدمها
ساحات الوغى ما دام المجاهد
أقبل إلى الله بقلب صادق منيب. وكلاهما – مشاهد المعجزات للنبيين
ومشاهد الكرامات للمجاهدين –
تتنزل ليربط الله على قلوب
المؤمنين، ويمددهم بين الفينة
والأخرى بمدد من عنده، حتى
يمنحهم أكتاف العدو. فاصْدقْ
جهادك، يصدقكَ الله في التثبيت. الحصار: لَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ
مِنْ الْخَنْدَقِ, أَقْبَلَتْ
قُرَيْشٌ حَتّى نَزَلَتْ
بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ
رُومَةَ, بَيْنَ الْجُرُفِ
وَزُغَابَةَ فِي عَشْرَةِ
آلافٍ، منهم بَنِي كِنَانَةَ
وَأَهْلِ تِهَامَةَ،
وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ
تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ,
حَتّى نَزَلُوا بِذَنَبِ
نَقْمَى, إلَى جَانِبِ أُحُدٍ [ابن
هشام 2 /
219]. فلما تقدموا، وكانت
مفاجأة الخندق، قَالُوا – في
ذهول: إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا
كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا
[ابن القيم: زاد المعاد
3 / 240]. وَخَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى
جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إلَى
سَلْعٍ, فِي ثَلاثَةِ آلافٍ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ
هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ
وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْقَوْمِ. وقد
َاسْتَعْمَلَ عَلَى
الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ
مَكْتُومٍ.. وَأَمَرَ
بِالذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ
فَجُعِلُوا فِي الآطَامِ [أي
الحصون][ابن هشام
2 / 219، 220]. لقد ظهرت أهمية الحيل الحربية في هذا
المشهد، وتبيَّن رجحان فكرة
سلمان، وظهر لنا كيف أن عقل رجل
واحد قد يُنجّي أُمة من الهلاك
كما في مثال حيلة الخندق التي
كانت ثمرة تفكير رجل من
المسلمين. فكم من عقل سعدت به
البشرية دهوراً وكم من عقل تعست
به الأرض قروناً! ولقد ظهر للمتبصر كيف أن تعب ساعة قد
يريحَ دهراً، وكسل لحظة قد
يُتعبَ زمناً، فهؤلاء الصحاب
تعبوا أشد التعب في حفر الخندق
فكان في ذلك مفازتهم، ولو
تأخروا عن هذا العمل الشاق
المهم لكان في ذلك هلاكهم. فلا
تكسل أبداً، وتحيل كل حيلة –
شرعية ـ في نصرة الإسلام. حرب الرسائل: وأراد المشركون أن يشنوا حرباً نفسية
برسالة توبيخية استفزازية..
فأرسل أبو سفيان رسالة مكتوبة
إلى رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم – جاء فيها: "باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى..
وأساف ونائلة وهبل، لقد سرتُ
إليك في جمع وأنا أريد ألا أعود
إليك أبداً حتى أستأصلكم،
فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت
بمكيدة ما كانت العرب تعرفها،
وإنما تعرف ظل رماحها وشبا
سيوفها، وما فعلت هذا إلا
فراراً من سيوفنا ولقائنا، ولك
مني يوم كيوم أحد". فأرسل له رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
جوابه فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول
الله إلى صخر بن حرب، فقد أتاني
كتابك، وقديماً غرك بالله
الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت
إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى
تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله
بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة،
وليأتين عليك يوم أكسر فيه
اللات والعزى وأسافاً ونائلة
وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني
غالب "[الحلبي: السيرة
الحلبية 2/ 628]. لا يخفى عليك خطر حرب الرسائل بين
الجحفلين، ولا تغيب عن ناظريك
تلك الحروب الكلامية التي
يتلاحاها الخصوم في كل عصر
ومَصر، وإن شئت انظر في قناة
الجزيرة الفضائية وفي غيرها من
القنوات الإخبارية؛ لترى أثر
الكلمة، ووقع اللفظة في
الاقتصاد والعلاقات وتحريك دفة
الصراعات. ومن ثم أراك تدرك حكمة النبي – صلى الله
عليه وسلم – في الرد على رسالة
أبي سفيان هذه، على ما عُرف عن
الأخير بالغوار البعيد في
الدهاء والخِبِّ وجلائل
الخُطط، وكيف قام النبي الهبرزي
– صلوات الله وسلامه عليه –
بتفنيد خطاب أبي سفيان، فقرة
فقرة، وجملة جملة، فدمغه، فإذا
هو زاهق قد زوى أثره، وصاحبه
أسيف حسير، كمن ألقى قنبلة
مسيَّلة للدموع في جهةٍ فتلقفها
القوم سراعاً قبل انفجارها؛
فردتْ عليه فانفجرت فيه. بل تراه - ليردعه ـ ينكأ له جرحه القديم في
بدر، قائلاً: "وقديماً غرك
بالله الغرور". وتراه يلوذ
بحول الله ولا يتكبر فيقول: "أما
ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا
تريد أن تعود حتى تستأصلنا،
فذلك أمر يحول الله بينك وبينه",
وتراه يستبشر لجيشه ويثبط عدوه
فيقول: " ويجعل لنا العاقبة".
. وينفث الرعب في قلب أبي سفيان
ومَن خلفه، فيقول: "وليأتين
عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى
وأسافاً ونائلة وهبل"..
ويوبخه قائلاً: "حتى أذكرك
ذلك يا سفيه بني غالب". .......
هكذا يَلْقم القائد هذه
المحاولات التي تهدف إلى زعزعة
النفوس وخلخلة القلوب، فيردها
على العدو وبالاً
كالحريق المتسعر.
الحراسة وتدارك الثغرات ومتابعتها: وكان الرسول -
صلى الله عليه وسلم - يختلف إلى
ثلمة في الخندق. تقول عائشة رضي
الله عنها: وكان يذهب إلى تلك
الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء
فأدفأته في حضني، فإذا دفيء خرج
إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى
أن يؤتى المسلمون إلا منها،
فبينما رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم- في حضني صار يقول: "ليت
رجلاً صالحاً يحرس هذه
الثُّلْمَةَ الليلة"، فسمع
صوت السلاح، فقال رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم-:"من هذا؟"
فقال سعد بن أبي وقاص: "سعد،
يا رسول الله أتيتك أحرسك!". فقال:"عليك
هذه الثلمة فاحرسها". . ونام رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم- حتى غط،
وقام في قبته يصلي لأنه كان إذا
حزبه أمر فزع إلى الصلاة"[الحلبي
2/ 628]. ثم خرج من قبته، فقال: "هذه خيل
المشركين تطيف بالخندق". .
ثم نادى: "يا عباد بن بشر".
. قال: لبيك.. قال: "هل معك
أحد؟" قال: نعم، أنا في
نفر حول قبتك يا رسول الله. وكان ألزم الناس
لقبة رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم يحرسها- فبعثه يطيف
بالخندق، وأعلمه بأن خيل
المشركين تطيف بهم [الحلبي 2/ 628]..
ولما استأخر المشركون الفتح، تَيَمّمُوا
مَكَانًا ضَيّقاً مِنْ
الْخَنْدَقِ, فَضَرَبُوا
خَيْلَهُمْ فَاقْتَحَمَتْ
مِنْهُ فَجَالَتْ بِهِمْ فِي
السّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ
وَسَلْعٍ, وَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ ـ عَلَيْهِ
السّلامُ ـ فِي نَفَرٍ مَعَهُ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى
أَخَذُوا عَلَيْهِمْ
الثّغْرَةَ الّتِي أَقْحَمُوا
مِنْهَا خَيْلَهُمْ, فسدوا هذه
الثغرة [ابن هشام
2 / 224]. إن في ذلك لعبرة لمن احتاط تمام الاحتياط
ثم ترك في جُنته ثُّلمة ولو
بمقدار قيد أنملة. وهو درس يشي
باهتمام رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم –
بثغور الوطن، ويحث المسلمين على
الرباط والحراسة في سبيل الله
فيقول: "ليت رجلاً صالحاً
يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"..
وهو القائل: "عَيْنَانِ لا
تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ
بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ،
وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ" [الترمذي:
1563، عن ابن عباس، وصححه
الألباني]. والحراسة في سبيل الله كالجهاد سواء
بسواء، فقال – صلى الله عليه
وسلم: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا
عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ
أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ
خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا
عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ
يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ
الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ
الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا"
[البخاري: 2678, عن سهل بن سعد]. وتراه يقطع نومته إلى الصلاة تارة وإلى
جنوده تارة أخرى محذراً إياهم
قرصنة من العدو, قائلاً: "هذه
خيل المشركين تطيف بالخندق"..
ثم نادى: "يا عباد بن بشر"
– ليكلفه بمهمة المتابعة، فكان
جواب الجندي لقائده – في رباط
وجأش: "لبيك"!! ويْ ! هكذا لبَّاه .. فالجندي المسلم يرى
طاعته لقائده عبادة يُثاب
عليها، فتراه يجيب قائده بأطايب
الإجابات مثل: "لبيك"، و"
سمعاً وطاعة". . وهكذا كانت الحراسة في سبيل الله عبادة
عظيمة، وسد الثغرات الحربية
عبادة عظيمة, وسرعة استجابة
الجندي لقائده عبادة عظيمة. إن هذا الجيل الفريد عاش العبادة بكل
معانيها وفي كل مناحيها. .. حتى
النخاع. فلقد تعلموا الحراسة في سبيل الله كما
يتعلم أحدهم الصلاة، وتريضوا
على سد الثغرات الأمنية كما
يتريض الطفل للصيام، ولم يكن
يُثْني أحدُهم عِطْفه – في قِحة
– عند تلقي التعليمات
والتكليفات، بل كانت كلمة
الطاعة تنطق بها كل ذرة في
أنفسهم. لبيك, لبيك.
*** فيا شباب.. قد كثرت ثُّلمات الأُمة فمن
الحارس؟ وقد كثرت ثغرات
المسلمين فمن الفارس؟ فامضوا
إلى كتيبة التوحيد منيبين، في
مجتمع الإيمان والإخاء
منضبطين، ولا تُفزعنكم رسائل
العدو ونفثه ونفخه، أنتم أقوياء
بالله ولو حاصركم أهل الأرض * *
* غزوة الأحزاب .. دروس في ذكراها .. الحلقة الثالثة بقلم : محمد مسعد ياقوت رسالة الإسلام هذه هي الحلقة الثالثة.
فيها وقفةٌ حول حَلَبَةِ
البِراز بين علي بين أبي طالب
وعمرو بن ود، وبيان حرمة أكل ثمن
الموتى، وبيان القتل الخطأ الذي
لا دية فيه، والعروج على فضل
الصلاة والدعاء والابتهال إلى
الله وقت المحن والنكبات،
والوقوف على مشهد الخونة من
أبناء الوطن الواحد الذين
تحالفوا مع العدو الغازي
وتخابروا ضد الأحلاف وأذْعروا
قومهم... مبارزة عليُ بن أبي طالب عمروَ بن ود: "كَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ قَدْ
قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتّى
أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ
فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ
أُحُدٍ؛ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ
الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلِمًا
لِيُرِيَ مَكَانَهُ فَلَمّا
وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ قَالَ:
مَنْ يُبَارِزُ؟ . . فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا
عَمْرُو: إنّك
قَدْ كُنْت عَاهَدْت اللّهَ
أَلا يَدْعُوك رَجُلٌ مِنْ
قُرَيْشٍ إلَى إحْدَى
خَلّتَيْنِ إلا أَخَذْتَهَا
مِنْهُ. قَالَ لَهُ: أَجَلْ.. قَالَ لَهُ عَلِيّ: فَإِنّي أَدْعُوك
إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ
وَإِلَى الإِسْلامِ. قَالَ: لا
حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ. قَالَ: فَإِنّي
أَدْعُوك إلَى النّزَالِ. فَقَالَ لَهُ:
لِمَ يَا ابْنَ أَخِي؟
فَوَاَللّهِ مَا أُحِبّ
أَنْ أَقْتُلَك. قَالَ لَهُ
عَلِيّ: لَكِنّي وَاَللّهِ
أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك !! فَحَمَى عَمْرٌو
عِنْدَ ذَلِكَ فَاقْتَحَمَ
عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ،
وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمّ
أَقْبَلَ عَلَى عَلِيّ
فَتَنَازَلا وَتَجَاوَلا,
فَقَتَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ.
وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ
مُنْهَزِمَةً حَتّى
اقْتَحَمَتْ مِنْ الْخَنْدَقِ
هَارِبَة " [ابن هشام
2 / 224]. ذاك الإمام السيد الضرغام في إحدى صولاته..
إنه مشهد يُحيي البطولة الحقة
في النفوس، بعدما زاغ الناس
بمفهوم البطولة إلى ساحات
الملاعب والمراقص، فصار "البطل
" هو اللاعب الذي يركل الكُرة
في الشِباك, وصار " رأس الحربة
" و " المُهاجم " الذي سقط
مخ رأسه إلى مخ ساقه؛ فالكل ينظر
إلى موضع قدمه إلى لا إلى موضع
عقله؛ فذلك هو البطل المزعوم،
ومثله بطل الفيلم وبطل
التمثيلية وبطل المسرحية... وكثر
هؤلاء الأبطال في ميادين
الخلاعة والخلابة ممن تُرسم له
التصاوير على الملابس وأكياس
البطاطس المقلي وعُلب الحلوى. .وهؤلاء
الأبطال الباطلون إذا تدبرتَ
أمرهم تجدهم في أخلاقهم من
السَّفلة والحشوة، وطغام
الفَسَقة، ورعاع الناس،
يحاربون كل فضيلة ويمحقون في
نفوس الناس كل قيمة كريمة.
نحن في مسيس الحاجة لإحياء معاني البطولة
الإسلامية، والشجاعة الحربية،
والأعمال الخيرية في شتى ميادين
الحياة،، فهذه هي البطولة التي
تَبني ولا تهدم، وليست كتلك
البطولة المزيفة التي تحرك
الغرائز. وفي مشهد البطولة الذي نراه هذا، نرى ذلك
البطل البُهمة علي بن أبي طالب
يقف - وهو الشاب الصغير – أمام
شيخ فرسان العرب وأجلدهم وأشدهم
بأسًا، حيث قام عليٌّ له لـمّا
قال مرارًا: " مَنْ
يُبَارِزُ؟ . ." ولم يقم له أحد.
فانبرى له الأسد، ودعاه إلى الإسلام
فأبى، فدعاه إلى النزال فعجب،
وقال: "لِمَ يَا ابْنَ أَخِي؟
فَوَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنْ
أَقْتُلَك !", قال ذلك
استصغارًا لعلي، ولصداقة قديمة
كانت بين عمرو بن ودّ وأبي طالب. فقال الهَيْصَرُ المقدام–
في شجاعة وحماسة: "
لَكِنّي وَاَللّهِ أُحِبّ
أَنْ أَقْتُلَك !!
". . فاغتاظ عمرو بن ود، وظن الناسُ أن الفتى
هالك أم شيخ الفوارس, ولكن سرعان
ما بدى عليٌّ كأنه الغضنفرُ
الهَصُوُر، وخصمه هو الضيغم
الصغير. ... اقرأوا سيرة هذا الذي
سمته أمه " حيدرة "، ذلك
الرِّئْبالُ القسورة ! *** وذكر ابن إسحاق أن المشركين بعثوا إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف،
فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم-: "هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى" [السيرة
الحلبية 2/ 628] ولما أقبل علي – رضي الله عنه -
بعد قتله لعمرو بن عبد ود
على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو متهلل، قال له عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: هلا سلبته
درعه، فإنه ليس في العرب درع خير
منها؟ قال: إني حين ضربته
استقبلني بسوءته فاستحييت يا
ابن عمي أن أسلبه [ابن كثير:
السيرة النبوية 3/ 205] وثمة عدة دروس نستخلصها من موقف مقتل عمرو
بن ود أحد طغاة العرب في
الجاهلية، ومن هذه الدروس: - أن المقاتل المسلم هو داعية إلى الحق قبل
أي اعتبار حربي، فقد بدأ
بالحوار الدعوي مع خصمه الذي
تحدى المسلمين بالمبارزة، وعرض
عليه المقاتلُ المسلم أن يدخل
في الإسلام قائلاً: " فَإِنّي
أَدْعُوك إلَى اللّهِ وَإِلَى
رَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلامِ".
. وهو أمر يؤكد على أن القتال في
الإسلام ليس عبارة عن قتال من
أجل السلب أو النهب إنما القتال
في الإسلام يتسم برسالته
الدعوية التي تعلي من قدر
العقيدة والأخلاق على أي مصلحة
عسكرية. . - وفي قول المقاتل المسلم لطاغية العرب:
" فَإِنّي أَدْعُوك إلَى
النّزَالِ"، دلالة على ما
ينبغي أن يتصف به المسلم من
الشجاعة والرغبة والاستعداد في
منزالة الطغاة في ساح الحروب
وغيرها لتخليص البشرية منهم ! -أن حُسن الأخلاق الحربية واحترام آدمية
الأعداء لهي من أبرز صفات
المقاتل المسلم الناجح، فنرى أن
عليًا لما قتل عمرو بن ود
وانكشفت عورته، قال علي بن أبي
طالب - معللاً سبب عدم أخذ سلب
عمرو – "إني حين ضربته
استقبلني بسوءته فاستحييت يا
ابن عمي أن أسلبه". . صور رائعة
في احترام حقوق الإنسان
المحارب، وفي سمو أخلاق الجنود
الإسلاميين في ميادين القتال. لا نأكل ثمن الموتى ! ولما حاول عدو الله نوفل بن عبد الله
اقتحامَ الخندق الذي صنعه
المسلمون لتحصين المدينة من
حصار التحالف الوثني – في غزو
الأحزاب - ومات مقتولاً
في الخندق، عندما أصر على
اقتحامه في فرقة من المشركين -
سأل المشركون المسلمين جثته
بمال يعطونه المسلمين، فأرسل
المشركون إلى النبي – صلى الله
عليه وسلم: أن ارسل إلينا بجسده
ونعطيك اثني عشر ألفاً [الحلبية
2/628].. فتعفف
رسول الله عن هذا المال الخبيث،
ونهاهم عن ذلك وكرهه !! وقال: "
ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
جِيفَتَهُمْ فَإِنَّهُ خَبِيثُ
الْجِيفَةِ خَبِيثُ الدِّيَةِ"[
أحمد: (2230)] وفي رواية قال: "ولا
نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب لنا
في ديته" [ الحلبية 2/628]. فلم
يقبل منهم شيئًا، وخلى بينهم
وبينه.. وفي رواية: عن عن عكرمة أن نوفلاً تردى به
فرسه يوم الخندق فقُتل فبعث أبو
سفيان إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم- بديته مائة من الإبل فأبى
النبي -صلى الله عليه وسلم -وقال:
"خذوه فإنه خبيث الدية خبيث
الجثة" [ابن أبي شيبة (36824) ] وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "هو
لكم, لا نأكل ثمن الموتى" [البيهقي:
دلائل النبوة (1320)] قال السرخسي: " وإنما كره هذا لئلا
يُنسب إلى المسلمين ما لا يليق
بمكارم الأخلاق، فقد كان عليه
السلام يقول: بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق " [ شرح السير الكبير
1/484]. وبهذا الموقف يكون لرسول الله – صلى الله
عليه وسلم – السبق في تحريم أكل
ثمن الجثث، وهو بذلك يظهر
لأعدائه الجانب الأخلاقي
الإسلامي في الحروب.. شأن القتل الخطأ بين المسلمين في أرض
المعركة: عن جابر – رضي الله عنه – قال: خَرَجَتْ
طَلِيعَتَانِ لِرَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
الْخَنْدَقِ لَيْلاً
فَالْتَقَتَا تَحْتَ اللَّيْلِ
وَلا يَشْعُرُ بَعْضُهُمْ
بِبَعْضٍ, وَيَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ الْعَدُوُّ.
فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
جِرَاحَاتٌ وَقَتْلَى. ثُمَّ
تَنَادَوْا بِشِعَارِ الإسلام
فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ
بَعْضٍ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَقَالَ: "جِرَاحَاتُكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
. وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ
فَهُوَ شَهِيدٌ "[شرح السير
الكبير 1 / 114] ولذلك يقول بعض العلماء: " إِذَا
الْتَقَتْ السَّرِيَّتَانِ
لَيْلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَكُل وَاحِدَةٍ تَرَى أَنَّ
صَاحِبَتَهَا مِنْ
الْمُشْرِكِينَ فَاقْتَتَلُوا
فَأَجْلَوْا عَنْ قَتْلَى
ثُمَّ عَلِمُوا, فَلا شَيْءَ
عَلَيْهِمْ مِنْ دِيَةٍ وَلا
كَفَّارَةٍ. لأنَّ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِنْ
السَّرِيَّتَيْنِ بَاشَرَتْ
دَفْعًا مُبَاحًا, فَقَدْ
قَصَدَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ إلَى
الأخْرَى, وَإِنَّمَا
قَتَلَتْهَا الأُخْرَى دَفْعًا
عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَذَلِكَ
دَفْعٌ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا
فَلا يَكُونُ مُوجِبًا دِيَةً
ولا كَفَّارَةً "[شرح السير
الكبير 1 / 114].
وهؤلاء المؤمنون الذي كانت بَيْنَهُمْ
جِرَاحَاتٌ وَقَتْلَى، قد كتب
الله لهم جمعيًا الثواب الجزيل،
وإنما الأعمال بالنيات،
فجراحاتهم التي تمخضت عن سيوف
بعضهم هي في سبيل الله وهم
إخوانٌ، وقد رفع الله عن هذه
الأمة الخطأ والنسيان وما
استُكْرِهوا عليه، فلا يجدنَّ
مسلمٌ في نفسه من أخيه موجدة ولا
إحن جراء هذه الجراحات التي هي
في سبيل الله كتلك الجراحات
التي تسبب فيها العدو، فهذه في
سبيل الله وتلك في سبيل الله.
والمؤمنون أخوة، ويتسامحون
فيما بينهم في الكبير والصغير
ما دام عن غير قصد أو عمد.
وفي الأثر: " للمسلم على أخيه المسلم
ثلاثون حقاً لا براءة له منها
إلا بالأداء أو العفو [أولها ]:
يغفر زلته، ويرحم عبرته،
ويستر عورته، ويقيل عثرته,
ويقبل معذرته. ..." وقوله عليه السلام: " وَمَنْ قُتِلَ
مِنْكُمْ فَهُوَ شَهِيدٌ". .
فجعل من قُتل بسلاح أخيه عن خطأ
وغير عمد شهيدًا بإذن الله؛ كمن
قُتل بسيف العدو، سواء بسواء،
لا فرق بين هذا وذاك قيد أُنملة.
إنَّ في ذلك لدرسٌ في وحدة الصف، وجمع
الشمل، ورأب الصدع، وتقوية
بنيان المسلمين: بك يابن عبد الله جمع الله الشمل...
الشتيت، وأصلحَ, وداوى الصدع
حتى تجبرا أهمية اللجوء إلى الله لفك الحصار: فقد دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَلَى الأحْزَابِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ
سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ
الأحْزَابَ! اللَّهُمَّ
اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ"[
البخاري: (3806)] وكان يدعوا قائلاً: "اللهم استر
عوراتنا وآمن روعاتنا"[ أحمد
(10573)، وهو في السلسلة الصحيحة
برقم 2018] وكان يقول: "اللهم ادفع عنا شرهم،
وانصرنا عليهم، واغلبهم لا
يغلبهم غيرك" [ الحلبية 2/628].
لقد تعودنا من رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – مشهد التضرع والخضوع
والتذلل إلى الله، في مثل هذه
المواقف، إنه – وهو الرسول
المُؤيّد – يرفع يديه إلى
السماء، يمرِّغُ وجهه لجبار
السماوات ليّمكنه من رقاب
جبابرة الأرض، يتذلل لمالك
الملكوت ليُذل له ملوك الدنيا.. إنَّه من يتق ويصبر ولله يخضع، يرفع عنه
البلاء، " أَمَّن يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء
الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ
اللَّهِ قَلِيلاً مَّا
تَذَكَّرُونَ " [ النمل:62 ].
إن هذا هو شأن القادة الإسلاميين مع الله،
في العسر واليسر، كانوا قادة
وقدوة، وسادة وأسوة، وذادة
وقوة، وساسة وعروة، ليس من
شيمتهم العربدة واللهو والغفلة
إنما من شيمتهم قيام الليل
وصيام النهار والدعاء الحار.
أهمية الصلاة وقت الحرب: فعَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ
قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ:"
مَلأ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ
نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ
صَلاة الْوُسْطَى حَتَّى
غَابَتْ الشَّمْسُ" [البخاري:
(3802)]. وقد جعل عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمَ
الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا
غَرَبَتْ الشَّمْسُ جَعَلَ
يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ
وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ
حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ
تَغْرُبَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا
!!". . قال جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: فَنَزَلْنَا مَعَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ
لِلصَّلاة، وَتَوَضَّأْنَا
لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ
بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ
ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا
الْمَغْرِبَ [ البخاري: الأحزاب
(3803)]. فلا يخفى عليك في هذا الدرس أهمية الصلاة
في جميع أوقات المسلم وأنفَسها
وأشدها، بل تزداد أهمية الصلاة
أكثر وأكثر في ساعات القتال،
فالمسلم أحوج ما يكون فيها إلى
الله، وهي رَوح له وريحان في وقت
تتطاير فيه الرقاب، ويفر فيه
الشجعان إلا من ثبته الله،
وأحرى بالصلاة وسيلة لذلك، فمن
أراد الثبات فعليه بعماد الدين. انظر كيف حزن الصحابة حزنًا شديدًا على
صلاة العصر التي فاتتهم في يوم
من أيام الخندق حيث الحصار
والبرد، والكر والفر، والنَّفح
واللَّفْح، فلم تفوتهم صلاةٌ
واحدة أيامَ الأحزاب سوى هذه
الصلاة، فما بال أقوام ضيَّعوا
ركن الإسلام في المنشط فضلاً عن
المكره، وفي اليسر فضلاً عن
العسر. . إن هؤلاء قد حادوا عن
سبيل المؤمنين.
فأولى لهم...! قريظة تخون الدولة الإسلامية وفي أثناء الحصار المضروب على المدينة
المنورة، انشق فصيلٌ من فصائل
المدينة على القيادة والشعب
والوطن. . وكان الأصل – حسب بنود
الوثيقة المكتوبة بين فصائل
المدينة – أن جميع أبناء الوطن
على شتى نِحَلهم ومللهم يتحدون
لصد أي عدوان خارجي، ولكنَّ
قريظة خانت؛ فخيبها الله ! فقد خرج عدو الله حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ
النّضْرِيّ, حَتّى أَتَى كَعْبَ
بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيّ، زعيم
بني قريظة، وصَاحِبَ عَقْدِ
بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَهْدِهِمْ
مع الدولة الإسلامية، فقال
حُيَي لكعب: "...وَيْحَك
يَا كَعْبُ جِئْتُك بِعِزّ
الدّهْرِ، وَبِبَحْرٍ طَامّ،
جِئْتُك بِقُرَيْشٍ عَلَى
قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا،
حَتّى أَنْزَلْتهمْ
بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ
رُومَةَ، وَبِغَطَفَانَ عَلَى
قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتّى
أَنْزَلَتْهُمْ بِذَنَبِ
نَقْمَى إلَى جَانِبِ أُحُدٍ,
قَدْ عَاهَدُونِي،
وَعَاقَدُونِي عَلَى أَنْ لا
يَبْرَحُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَ
مُحَمّدًا وَمَنْ مَعَهُ ". فَقَالَ لَهُ
كَعْبٌ: جِئْتنِي وَاَللّهِ
بِذُلّ الدّهْرِ وَبِجَهَامٍ
قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ فَهُوَ
يَرْعَدُ وَيَبْرُقُ لَيْسَ
فِيهِ شَيْءٌ ! وَيْحَك يَا
حُيَيّ ! فَدَعْنِي وَمَا أَنَا
عَلَيْهِ، فَإِنّي لَمْ أَرَ
مِنْ مُحَمّدٍ إلّا صِدْقًا
وَوَفَاءً. فَلَمْ يَزَلْ
حُيَيّ بِكَعْبِ يَفْتِلُهُ
فِي الذّرْوَةِ وَالْغَارِبِ
حَتّى سَمَحَ لَهُ عَلَى أَنْ
أَعْطَاهُ عَهْدًا وَمِيثَاقًا:
لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ
وَغَطَفَانُ, وَلَمْ يُصِيبُوا
مُحَمّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَك
فِي حِصْنِك حَتّى يُصِيبَنِي
مَا أَصَابَك.
فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ
أَسَدٍ عَهْدَهُ وَبَرِئَ
مِمّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ- [ ابن هشام 2 /
220] هنا نرى مشهد الذين أُشربوا حُب الخيانة
– كما أُشربوا عبادة العِجل
الذهبي – وكيف أثبتوا للتاريخ
أنهم لا عهد لهم ولا ذِّمَّة,
وأن الله صدق فيهم قوله: " "أَوَكُلَّمَا
عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ
فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
" [البقرة:100]، " "الَّذِينَ
عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ
يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي
كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ
يَتَّقُونَ " [الأنفال: 56]،
فالخيانة تجري في عروق اليهود
كالماء في النهر، فلا بقاء لهم
– بزعمهم - إلا بالخيانة؛ فليس
عليهم – بزعمهم – في الأميين
سبيل! وأنتَ – حفظك الله – ترى كيف يفتخرُ هذا
الرِعْدِيدةُ الخائن " حُيي
" بخيانته وكيف جمع جيوش
الوثنية لحرب الدولة الإسلامية
التي يعيش اليهود في وافر
ظلالها آمنين لهم ذمة الله
ورسوله. ثم
تأمل شهادة الأعداء، والحق ما
شهد به الأعداء، إذ قال كعب: "وَيْحَك
يَا حُيَيّ ! فَدَعْنِي وَمَا
أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنّي لَمْ
أَرَ مِنْ مُحَمّدٍ إلّا
صِدْقًا وَوَفَاءً " !!!
ثم لازال الأول يزين للثاني
الغدر ونقض العهد، حتى اتفق لهم
الرأي على ذلك، فهم لا يتفقون
إلا على خراب الأرض وفساد الشجر
والثمر, فخاب وخسر من وثَّقهم أو
وثَقَ فيهم. الدبلوماسية الإسلامية وقت الأزمات: ولَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ-
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ – خبر نقض العهد من
قريظة، بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ –وفدًا دبلوماسيًا
إلى ديار بني قريظة لتحري
الخبر، ولتجديد العهد،
ولتحذيرهم من مغبة نقض العقد,
أوالتعاون مع العدو المحتل،
وكان على رأس هذا الوفد المبارك
القيادات الإسلامية الآتية: 1- سَعْدَ بْنَ مُعَاذِ، سَيّدُ الأوْسِ. 2- َسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، سَيّدُ
الْخَزْرَجِ 3- عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، الشاعر
الإسلامي المعروف 4- َخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ ،من بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
فَقَالَ لهم نبي الحكمة – صلى الله عليه
وسلم: "انْطَلِقُوا حَتّى
تَنْظُرُوا, أَحَقّ مَا
بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلاءِ
الْقَوْمِ أَمْ لا؟ فَإِنْ
كَانَ حَقّا فَالْحَنُوا لِي
لَحْنًا أَعْرِفُهُ، وَلا
تَفُتّوا فِي أَعْضَادِ
النّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى
الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ فَاجْهَرُوا بِهِ
لِلنّاسِ " [ابن هشام 2 /
221]. فَخَرَجُوا
حَتّى أَتَوْهُمْ؛
فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ
مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ، ورفع
الوفد الإسلامي إلى القائد
العام- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- التقرير التالي: 1- نَالُوا مِنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، فسبوه
علنًا أمام عناصر الوفد
الإسلامي.. 2- نقضوا العهد،
بل وأنكروه، وَقَالُوا: مَنْ
رَسُولُ اللّهِ؟
لا عَهْدَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ مُحَمّدٍ ولا عَقْدَ. 3- فَشَاتَمَهُمْ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
وَشَاتَمُوهُ- وَكَانَ رَجُلاً
فِيهِ حِدّةٌ - فَقَالَ لَهُ
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: دَعْ
عَنْك مُشَاتَمَتَهُمْ فَمَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
أَرْبَى مِنْ الْمُشَاتَمَةِ. ثُمّ أَقْبَلَ
سَعْدٌ وَسَعْدٌ وَمَنْ
مَعَهُمَا, إلَى رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- فَسَلّمُوا عَلَيْهِ
ثُمّ قَالُوا: "عَضَلٌ
وَالْقَارّةُ"؛ أَيْ
كَغَدْرِ عَضَلٍ وَالْقَارّةِ
بِأَصْحَابِ الرّجِيعِ,
خُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: "اللّهُ أَكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ"!!! [انظر:
ابن هشام 2 /
221] وهكذا تأكدت الخيانة، فلم يُجد مع اليهود
رفق ولا لطف، لاسيما بعدما أرسل
النبي إليهم
وفده الكريم ليردهم إلى الرشد،
ويجدد معهم العهد، فنحن أهل وطن
واحد، والشرائع والأعراف
تأمرنا بالتضامن لصد هجوم
المعتدين، ولكن أبى غيهم أن
يستجيبوا لنداء العقل
والأخلاق، بل ران على قلوبهم
زَبدُ الخيانة.
وكانت نصيحة القائد الحكيم ألا يفتَ
الوفدُ في أعضاد المسلمين؛ فلا
يجهروا بنبأ الخيانة اليهودية،
وأن يلحنوا له لحنًا أو
يُعَرِّضوا بكلمة يعرف منها
رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– نقض اليهود للعهد.
إن القائد الإسلامي يخشى الفتنةَ على
شعبه، ويخشى عليهم أن يَدُبَ
الخوفُ والفزعُ في قلوبهم، إنه
يريد شعبه دائمًا راسخ الإيمان،
ساكن الواجدان، فكم من شعب أكله
الفزع, وكم من جيش هزمه الرعب
قبل اللقاء. إن الهزيمة النفسية
قد تكون أشد وطأة من الهزيمة
العسكرية أو ممهدة لها وميسرة
لها، كالقُبلة قبل الجماع ! ولكن خبر الخيانة اليهودية انتشر بين
الناس انتشار النار في الهشيم،
ليمحص الله المؤمنين ويكشف
ضغائن المنافقين، فظهر على إثر
ذلك المثبطون والمتشائمون
والجبناء الذين يزيدون في تسعير
الفتنة وتأجيج الأزمة،
والمائِقون والمرجفون الذين
يصيدون في الماء العكر، وهؤلاء
جميعًا قال الله فيهم: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلا
غُرُوراً{12}" [ الأحزاب ]. " قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ
وَالْقَائِلِينَ
لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ
إِلَيْنَا، وَلا يَأْتُونَ
الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً{18}
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذَا
جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي
يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ، فَإِذَا ذَهَبَ
الْخَوْفُ سَلَقُوكُم
بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ
أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَأَحْبَطَ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيراً{19}" [
الأحزاب]. قال الحارث المخزومي: إن الوشاة قليلٌ إن أطعتهم. .. لا يرقبون
بنا إلاً ولا ذمما إن على المسلم في مثل هذه النوازل أن يدفع
هذه الأراجيف ولا يدعها تفت في
النفوس، وعليه أن ينف الوشاية
والشائعات وأن يذب عن أعراض
المجاهدين خاصة قيادة المسلمين
وإمامهم، ولا يَلجّ في شيء
مُلتَبس حتى يتبين له الصواب
فيه، وتَسْتَوضحَ له الحقيقة..
وعليه أن يسهم في كل ما هو من
شأنه تثبيت الناس وتشجيع
المقاتلين، واستنفار الهمم،
والتشمير للمجد، والذود عن حياض
سيد المرسلين: فمِن يَحْمي حِمَى الإسْلام أمْ مَن...
يَذُبّ عن المَكارم أو يذُود؟ *** دارات هذه الصفحة التي بين يديك – أخي –
بين شجاعة علي بن أبي طالب،
ونكسة المُعوقين الفاشلين.
وبين أخلاقيات الحرب عند
المسلمين – حتى أنهم ليتعففون
عن أكل ثمن الموتى – وبين
خيانات اليهود الثابتة
المتكررة عبر حقب الزمن.
وكان حال القيادة الإسلامية
– على مدار هذه الصفحة التي
تقرأها – هو حال الحكيم المتضرع
العابد. فقد رأيتَ النبي
يُصَرّفُ الأمور في المعركة
الداخلية، وفي المُحاصرة
الخارجية, بحكمة فائقة وعبقرية
فذة، وهو في أثناء ذلك النبي
الخاشع المبتهل لربه، مع
الإِهْراع إلى
الصلاة بين ساعة وأخرى.
* *
* غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ (
الأحزاب ) .. دروس في ذكراها " الحلقة الرابعة " محمد مسعد ياقوت الله أكبر ! لقد كان وقع الخيانة اليهودية
شديد على المسلمين، إذ بخاينة
قريظة صار المسلمون بين عدوين،
عدو وَثَنِي من خارج المدينة
يتحين الفرصة لاقتحام الخندق،
وعدو داخلي خائن، نَقضَ العهد،
يتربص بالمسلمين الدوائر ..
وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ
الْبَلاءُ، وَاشْتَدّت المحنة،
وظنت العرب أن الإسلام قد حان
قطافه، وظَنّ الْمسلمون كُلّ
ظَنّ، وَنَجَمَ النّفَاقُ،
واعتاص الإيمان، وكثر الشقاق،
والخوف والفزع ومساوىء الأخلاق.
وقال المنافقون : "كَانَ مُحَمّدٌ
يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ
كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ،
وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لا
يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ
يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ " [ابن
هشام - 2 / 222]
. وقَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ المنافق :
" يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنْ
الْعَدُوّ [ وَذَلِكَ عَنْ مَلأ
مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ]
فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ
فَنَرْجِعَ إلَى دَارِنَا ،
فَإِنّهَا خَارِجٌ مِنْ
الْمَدِينَةِ " .. وما هي
بعورة إن يريدون إلا فرارًا [ابن
هشام - 2 / 222
]. ويتكفل القرآن الكريم بتصوير هذه الحال
السيئة، بكل دقة، فيقول الله
تعالى في سورة الأحزاب: " إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ،
وَإِذْ زَاغَتْ الأبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10}
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زِلْزَالاً شَدِيداً{11} ......." وفي وبئة هذه الحمئة، وفي شدة هذه
المعمعة؛ يُقْعقعُ صوت ُالنبي
– صلى الله عليه وسلم - كالهيثم
الهصور : "اللّهُ أَكْبَرُ !
أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ "!!! [ ابن هشام
2 / 221]. الله أكبر من اليهود وأسيادهم الوثنيين
عبّاد الحجارة ! الله أكبر كل من
حِلفٍ تحالف على الخير، والله
أكبر من كل حزب تَحَزَبَ على
الإسلام . الله أكبر! وأبشروا يا معشر المسلمين، فقد كتب الله
الغلبة لرسوله وللمؤمنين،
فلَيَبْلُغنَّ هذا الدينُ ما
بلغ الليل والنار، وإن مُلك هذه
الأمة سيعود ويقود ! وهكذا يهتف المسلمُ الصادق في الناس في
أيامنا هذه التي ساد فيها العدو
وغلب : "الله أكبر " ،
فالمسلم لا يخشى إلا الله ولا
يخشى في الله لومة لائم ... "
أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ " .. فالمؤمن
بعثه الله مبشرًا بالنصر
والتمكين، لا منفرًا ولا معسرًا
؟ خلصاء الأنبياء في مثل هذا الميدان : وشرَعَ الرسول – صلى الله عليه وسلم -
يتابع أخبار بني قريظة من حين
إلى آخر بعدما نقضوا العهد، فلا
يأمن أن ينقضّوا على ضعفاء
المسلمين أو أن يُعملوا النهب
والسلب في المدينة، وقد عهدهم
أهل غدر وخيانة . فأرسلَ الزبيرَ
يخبره بخبرهم . وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَوْمَ الأحْزَابِ : "مَنْ
يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ
؟ "، يقصد قريظة ، فَقَالَ
الزُّبَيْرُ:
أَنَا.. ثُمَّ قَالَ : "مَنْ
يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ
؟ ".. فَقَالَ الزُّبَيْرُ:
أَنَا.. ثُمَّ
قَالَ : " مَنْ يَأْتِينَا
بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ " ..
فَقَالَ الزُّبَيْرُ:
أَنَا .. فقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم -:"
إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ
حَوَارِيَّ، وَإِنَّ
حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ" [
البخاري : (3804)]. والحواريون هم خلصاء الأنبياء وأنصارهم،
قيل لناصر نبيه حَوارِيُّ، إِذا
بالغ في نُصْرَتِه تشبيهاً
بأنصار عيسى عليه السلام . وعن عبد الله بن الزبير، قال : كُنْتُ يَوْمَ الأحْزَابِ جُعِلْتُ
أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي
سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ،
فَنَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا
بِالزُّبَيْرِ عَلَى فَرَسِهِ
يَخْتَلِفُ إِلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ
ثلاثًا، فَلَمَّا رَجَعْتُ
قُلْتُ: يَا أَبَتِ رَأَيْتُكَ
تَخْتَلِفُ.. قَالَ : أَوَهَلْ
رَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ ؟
قُلْتُ: نَعَمْ . قَالَ :كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ : "مَنْ يَأْتِ بَنِي
قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي
بِخَبَرِهِمْ ؟ "،
فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا
رَجَعْتُ، جَمَعَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَبَوَيْهِ فَقَالَ: "فِدَاكَ
أَبِي وَأُمِّي " [ البخاري :
(3442) ] ! في مثل هذه الميادين يظهر الحواريون
وخلصاء النبي – صلى الله عليه
وسلم -، ليس في ميدان الكلام
والجدل، إنما في ميدان الجهاد
والعمل . ومن أجل هذه الخدمة
الجسيمة التي أداها الزبير
وقيامه على هذا الثغر العظيم
ومتابعة هذه الثُّلمة الخطيرة؛
نال الزبير هذا الوسام العظيم :
" إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ
حَوَارِيَّ، وَإِنَّ
حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ"،
"فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي "
!!! فأحرى بكل مسلم
أن يدرك ما أقامه الله عليه من
ثغور المسلمين. ولا يستقل دوره،
ولا يَقُلْ: إني فردٌ، بل ليقلْ :
إني على ثغر. وهكذا كان الأبناء يرون مكان الآباء ..
الإبن " عبد الله " في الحصن
يلحظ أباه " الزبير " يتردد
بين الشمال حيث الخندق والجنوب
حيث قريظة، يتابع خبر القوم،
ويترصد للمسلمين من أخبار
اليهود، هكذا كان الآباء يملئون
إعجاب الأبناء، وهكذا نشأ
الأبناء في بيئة الجهاد والعمل
لهذا الدين، فكان هذا الشبل من
ذاك الأسد. هذه هي أعمال الآباء واهتماماتهم في صدر
الإسلام، فما هي اهتمامات
الآباء في زماننا، وكيف ينظر
الأبناء إلى آبائهم ؟ لا جرم أن
فساد الشباب في زماننا يرجع –
في أغلب الأحيان - إلى فساد
الآباء أو إلى تخلي الآباء عن
دورهم في التربية الحسنة، أو
نشوء الأبناء في بيئة فاسدة،
والأرض الفاسدة لا تنبت إلا
ذرعًا فاسدًا . وَاَللّهِ لا نُعْطِيهِمْ إلا السّيْفَ ! ولَمّا اشْتَدّ عَلَى المسلمين الحصار
والبلاء؛ بَعَثَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ
حِصْنِ ، وَإِلَى الْحَارِثِ
بْنِ عَوْفِ، وَهُمَا قَائِدَا
غَطَفَانَ ، فتفاوض معهما على
على عودة غطفان إلى ديارها،
وترك حصار المدينة، والتخذيل
بين جيوش التحالف، مقابل أن
يمنحه رسول الله ثُلُثَ ثِمَارِ
الْمَدِينَةِ، فَجَرَى
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا
الصّلْحُ، وأُحضرت الصحيفة
والدواة؛ ليكتب عثمان بن عفان-
رضي الله عنه- الصلح، وَلَمْ
تَقَعْ الشّهَادَةُ وَلا
عَزِيمَةُ الصّلْحِ، إلا
الْمُرَاوَضَةُ فِي ذَلِكَ .
فَلَمّا أَرَادَ رَسُولُ
اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- أَنْ يَفْعَلَ بَعَثَ
إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ،
فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا ،
وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ.. [انظر
: ابن هشام 2
/ 223،
والحلبي 2/ 628] . فقالا له: يَا
رَسُولَ اللّهِ .. أَمْرًا
تحِبّهُ فَنَصْنَعُهُ ؟ أَمْ
شَيْئًا أَمَرَك اللّهُ بِهِ لا
بُدّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ
بِهِ؟ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ
لَنَا ؟ قَالَ : "بَلْ
شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ ،
وَاَللّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ
إلا لأنّنِي رَأَيْت الْعَرَبَ
قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ
وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ
مِنْ كُلّ جَانِبٍ، فَأَرَدْت
أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ
شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا"..
فَقَالَ لَهُ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : يَا
رَسُولَ اللّهِ ، قَدْ كُنّا
نَحْنُ وَهَؤُلاءِ الْقَوْمُ
عَلَى الشّرْكِ بِاَللّهِ
وَعِبَادَةِ الأوْثَانِ، لا
نَعْبُدُ اللّهَ وَلا
نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لا
يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا
مِنْهَا تَمْرَةً إلا قِرًى [ أي
ضيافة ]، أَوْ بَيْعًا،
أَفَحِينَ أَكْرَمْنَا اللّهُ
بِالإسْلامِ وَهَدَانَا لَهُ
وَأَعَزّنَا بِك وَبِهِ،
نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا ؟ !
وَاَللّهِ، مَا لَنَا بِهَذَا
مِنْ حَاجَةٍ، وَاَللّهِ لا
نُعْطِيهِمْ إلا السّيْفَ،
حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ !! فقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:"
فَأَنْتَ وَذَاكَ " . فَتَنَاوَلَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الوثيقة
فَمَحَا مَا فِيهَا مِنْ
الْكِتَابِ، ثُمّ قَالَ:
لِيَجْهَدُوا عَلَيْنَا [ابن
هشام 2 /
223]. وفي هذا المشهد العجيب الذي نزل فيه رسول
الله – صلى الله عليه وسلم –
على رأي جنده رغم تباين رأيه مع
رأيهم؛ نرى أنموذج القائد
الحكيم الذي عرف دوافع كل جيش من
جيوش الأحزاب، فمنهم من جاء
طلبًا للثأر، ومنهم من يحارب
الإسلام عن عقيدة، ومنهم من
يُحارب ليأكل ويسلب، وهؤلاء
كغطفان، فأراد رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – أن يدفع شر
هؤلاء بلعاعة من الدنيا، وأن
يستخدمهم كأدة للتخذيل وبث
الفرقة بين جيوش الأحزاب، فهو
لا زال يفكر في وسيلة ناجعة
للتخذيل والتفريق بين العدو،
ولكن الله اختار وسيلة أخرى
ليست جيشًا بل فردًا هو نعيم بن
مسعود، وسنعرفه في فقرة تالية. وفي هذا المشهد نرى الأريحية والسهولة في
اتخاذ القرار بين القائد وأهل
الحل والعقد، إذ رأيتَ أن
القائد اتخذ قرارًا صحيحًا لدفع
الأحزاب، بينما رأى أهل الحل
والعقد رأيًا هو الأنسب لطبيعة
الأنصار القتالية، فنزل القائد
على رأيهم دون تعسف أو استئثار
بالرأي، وهو من هو، هو النبي
المصطفى، الذي لا ينطق عن
الهوى؛ ليقرر أن الشورى فوق
الجميع، مفازةً ونجاةً للكبير
والصغير والشيخ والرضيع.
وانظر إلى إباء هؤلاء الأنصار رضي الله
عنهم، ورفضهم الضيم والذل
والدون.. هؤلاء البواسل يضربون
المثل للأمة ألا ترضى بالمذلة،
ويضربون المثل الرادع القارص
لهؤلاء الذين رضوا أن يكونوا في
ركاب العدو، وقد باعوا أوطانهم
وأعراضهم بثمن بخس، أو بغير
ثمن، كهؤلاء الذين يُفاوضون على
مقدسات المسلمين من أجل حفنة من
الدولارات يأكلونها من العدو
ويخرجون للأمة برداء الحكماء
الحصفاء، وهم والله الجهلاء
السخفاء الخلعاء وهيهات! لا
يدفع الضَّيمَ الذَّليلُ، ولا
يُدْرَك المجدَ الخائنُ
العميلُ ! حركة ( نُعَيْمٍ ) فِي تفريق جيش التحالف: وفي ظل هذه الظروف الشديدة القاسية، يأتي
الرزق والنصر من حيث لا يحتسب
المتقون. فقد أسلم نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ أحد
زعماء غَطَفَانَ !! كانوا بالأمس يفاوضهم رسول الله على
الرجوع إلى ديارهم فيرفضون إلا
الرجوع بنصف ثمار المدنية ..
والآن ساقهم الله إلى الإسلام
من غير عناء ولا تفاوض ولا كلفة !
إنها قدرة الله ! فأَتَى نُعَيْم
رَسُولَ اللّهِ- صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ – فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّي قَدْ أَسْلَمْت
، وَإِنّ قَوْمِي لَمْ
يَعْلَمُوا بِإِسْلامِي ،
فَمُرْنِي بِمَا شِئْتّ! فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - : "إنّمَا أَنْت فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ ،
فَخَذّلْ عَنّا إنْ اسْتَطَعْت
، فَإِنّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ
" . فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى
أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ ،
وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي
الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ: يَا
بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ
عَرَفْتُمْ وُدّي إيّاكُمْ،
وَخَاصّةً مَا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ . قَالُوا : صَدَقْت ، لَسْت عِنْدَنَا
بِمُتّهَمٍ . فَقَالَ لَهُمْ: إنّ قُرَيْشًا
وَغَطَفَانَ لَيْسُوا
كَأَنْتُمْ، الْبَلَدُ
بَلَدُكُمْ فِيهِ
أَمْوَالُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَنِسَاؤُكُمْ لا تَقْدِرُونَ
عَلَى أَنْ تَحَوّلُوا مِنْهُ
إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنّ
قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ
جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمّدٍ
وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ
ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ
وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ
وَنِسَاؤُهُمْ بِغَيْرِهِ،
فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ فَإِنْ
رَأَوْا نُهْزَةً أَصَابُوهَا
، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ
لَحِقُوا بِبِلادِهِمْ
وَخَلّوْا بَيْنَكُمْ وبين
محمد.. فَلا
تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ
حَتّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ
رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ
يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ
ثِقَةً لَكُمْ،
عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا
مَعَهُمْ مُحَمّدًا حَتّى
تُنَاجِزُوهُ. فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ
أَشَرْت بِالرّأْيِ . . [ابن هشام
2 / 228] ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا ،
فَقَالَ لأبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ
رِجَالِ قُرَيْشٍ : قَدْ
عَرَفْتُمْ وُدّي لَكُمْ
وَفِرَاقِي مُحَمّدًا ،
وَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنِي
أَمْرٌ قَدْ رَأَيْت عَلَيّ
حَقّا أَنْ أُبْلِغَكُمُوهُ
نُصْحًا لَكُمْ فَاكْتُمُوا
عَنّي .. فَقَالُوا :
نَفْعَلُ . قَالَ: تَعْلَمُوا أَنّ مَعْشَرَ يَهُودَ
قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا
صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ مُحَمّدٍ، وَقَدْ
أَرْسَلُوا إلَيْهِ إنّا قَدْ
نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا
، ، فَهَلْ يُرْضِيك أَنْ
نَأْخُذَ لَك مِنْ
الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ
قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رجالاً
مِنْ أَشْرَافِهِمْ
فَنُعْطِيكَهُمْ فَتَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ ثُمّ نَكُونُ
مَعَك عَلَى مَنْ بَقِيَ
مِنْهُمْ حَتّى
نَسْتَأْصِلَهُمْ ؟ فَأَرْسَلَ
إلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ . فَإِنْ
بَعَثَتْ إلَيْكُمْ يَهُودُ
يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ
رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فلا
تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ مِنْكُمْ
رَجُلاً وَاحِدًا. [ابن هشام 2 /
228] ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى غَطَفَانَ ،
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
غَطَفَانَ ، إنّكُمْ أَصْلِي
وَعَشِيرَتِي ، وَأَحَبّ
النّاسِ إلَيّ ولا أَرَاكُمْ
تَتّهِمُونِي .. قَالُوا :
صَدَقْت ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا
بِمُتّهَمٍ . قَالَ : فَاكْتُمُوا عَنّي ؛ قَالُوا :
نَفْعَلُ فَمَا أَمْرُك ؟ ثُمّ قَالَ
لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ
لِقُرَيْشِ وَحَذّرَهُمْ مَا
حَذّرَهُمْ [ابن هشام 2 /
228] وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
:"الحرب خدعة"[ البخاري :
(2805)]، أي قد تنقلب دفة القتال
بحيلة أو خدعة، والحيلة تُجزىء
ما لا تُجزىء القوة، وهو يشير
أيضًا إلى جواز الكذب على العدو
وإيقاعه في الفخ والاحتيال عليه
بحيلة . وعلى أثر حيلة "نُعَيْمَ بْنَ
مَسْعُودِ " هذه؛
انخذلت جيوش التحالف، ودبت
الفرقة والشكوك بينهم، ودب
بينهم الشر، الذي هو الخير
للمسلمين، فإذا انتفت الثقة من
جماعة انتفت على أثر ذلك قوتهم
وذهبت ريحهم. هذا، وقد بعث
الله الريح والملائكة على جيوش
التحالف فزاد ضعفهم، واشتدت
رغبتهم في الرحيل، وعزموا على
ترك المدينة، وفي ذلك يقول الله
تعالى – ممتنًا على عباده -
: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ
جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً
لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيراً" [ الأحزاب : 9]. وهنا نرى العناية الإلهية، ويد الله تحرك
رحى الحروب، ويُرسل سبحانه
الريح والشواظ على من يشاء فلا
ينتصر أحد إلا بإذنه، ويُؤتي
الملك من يشاء وينزع الملك ممن
يشاء .. إن هذه المعية الربانية
لا تُستنزل إلا بالتقوى والتضرع
إلى الله، كما في بدر، "إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم" .
وفي ذلك أيضًا درسٌ للأمة كلها؛
إذا عرفت ربها في الرخاء عرفها
الله في الشدة . ثم أنتَ ترى في هذا المشهد أهميةَ " دور
الفرد المسلم " في خدمة
الإسلام، فهذا نُعيم وهو رجل
واحد جنَّب الأمة الإسلامية
شرًا مستطيرًا .. إن لنعيم – رضي
الله عنه – فضلاً ويدًا على كل
مسلم منذ هذا يوم الأجزاب وحتى
قيام الساعة ! هذه هي حركة نعيم
فما هي حركتك أنت ؟! انصراف الأحزاب : ولَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- مَا اخْتَلَفَ مِنْ
أَمْرِهِمْ ،وَمَا فَرّقَ
اللّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ،
دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ
الْيَمَانِ ، فَبَعَثَهُ
إلَيْهِمْ لِيَنْظُرَ مَا
فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلاً . قَالَ حُذَيْفَةُ : وَاَللّهِ لَقَدْ
رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ
اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ -بِالْخَنْدَقِ
وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ -صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -هُوِيّا
مِنْ اللّيْلِ ثُمّ الْتَفَتَ
إلَيْنَا، فَقَالَ : "مَنْ
رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ
لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ،
ثُمّ يَرْجِعُ، أَسْأَلُ
اللّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ
رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ ؟" ..
فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ
الْقَوْمِ ، مِنْ شِدّةِ
الْخَوْفِ، وَشِدّةِ الْجُوعِ،
وَشِدّةِ الْبَرْدِ ..! فَلَمّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ، دَعَانِي
رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ -فَلَمْ
يَكُنْ لِي بُدّ مِنْ
الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي ؛
فَقَالَ : "يَا
حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ
فِي الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ
مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَلا
تُحْدِثَنّ شَيْئًا حَتّى
تَأْتِيَنَا ." قَالَ :
فَذَهَبْت فَدَخَلْتُ فِي
الْقَوْمِ، وَالرّيحُ
وَجُنُودُ اللّهِ تَفْعَلُ
بِهِمْ مَا تَفْعَلُ؛ لا تُقِرّ
لَهُمْ قِدْرًا وَلا نَارًا
وَلا بِنَاءً . فَقَامَ أَبُو
سُفْيَانَ فَقَالَ : يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : لِيَنْظُرْ
امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ ؟ قَالَ
حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْت بِيَدِ
الرّجُلِ الّذِي كَانَ إلَى
جَنْبِي ، فَقُلْت : مَنْ أَنْتَ
؟ قَالَ : فُلانُ بْنُ فُلانٍ! ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّكُمْ
وَاَللّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ
بِدَارِ مُقَامٍ ! لَقَدْ
هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ،
وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو
قُرَيْظَةَ ، وَبَلَغَنَا
عَنْهُمْ الّذِي نَكْرَهُ،
وَلَقِينَا مِنْ شِدّةِ
الرّيحِ مَا تَرَوْنَ، مَا
تَطْمَئِنّ لَنَا قِدْرٌ، وَلا
تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلا
يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ،
فَارْتَحِلُوا فَإِنّي
مُرْتَحِلٌ، ثُمّ قَامَ إلَى
جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ
فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمّ
ضَرَبَهُ فَوَثَبَ بِهِ عَلَى
ثَلَاثٍ، فَوَاَللّهِ مَا
أَطْلَقَ عِقَالَهُ إلا وَهُوَ
قَائِمٌ، وَلَوْلا عَهْدُ
رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ -إلَيّ "
أَنْ لا تُحْدِثَ شَيْئًا حَتّى
تَأْتِيَنِي " لَقَتَلْته
بِسَهْمِ . ورَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ -صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي
مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ
مَرَاجِلُ [ والمراجل هو الثياب
اليمني ] . فَلَمّا رَآنِي
أَدْخَلَنِي إلَى رِجْلَيْهِ،
وَطَرَحَ عَلَيّ طَرَفَ
الْمِرْطِ، ثُمّ رَكَعَ
وَسَجَدَ وَإِنّي لِفِيهِ،
فَلَمّا سَلّمَ؛ أَخْبَرْته
الْخَبَرَ . وَسَمِعَتْ
غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ
قُرَيْشٌ ، فَانْشَمَرُوا
رَاجِعِينَ إلَى بِلادِهِمْ [
ابن هشام 2 / 232]. ويُعبر هذا المشهد عن مدى المعاناة التي
كان الصحابه يعانونها، إذ لما
دعاهم رسول الله إلى ترصد
الأحزاب، على أن يكون الراصد
رفيق رسول الله في الجنة - فَمَا
قَامَ رَجُلٌ مِنْ الصحابة ،
"مِنْ شِدّةِ الْخَوْفِ،
وَشِدّةِ الْجُوعِ، وَشِدّةِ
الْبَرْدِ" ..! فلقد كان الواحد منهم يُكلَفُ بحفر ثلاثة
أمتار مكعبة يوميًا من الخندق،
أيام الحفر، ثم هو يكابد شدة
البرد، وشدة الجوع، وشدة الحرب،
وشدة الحصار .. لقد بلغ التعب
منهم مبلغًا عظيمًا، فجزاهم
الله خيرًا عن الإسلام . وفي هذا
الجو نرى رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – قائمًا يصلى قانتًا
يتضرع لربه، فلما لم يقم لأمره
هذا رجلٌ، وجّهَ التكليف صوب
حذيفة، قال حذيفة:" فَلَمْ
يَكُنْ لِي بُدّ مِنْ
الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي "
.. وكذلك الجندي المسلم لا ينفك
عن إجابة القائد إذا كلفه، ولا
بد له من القيام للأمر إذا دعاه
القائد، فطاعته واجبة، ومن أطاع
الأمير المسلم في معروف فقد
أطاع الله . وكان نص التكليف
الذي حفظه حذيفة عن قائده عن ظهر
قلب :"يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ
فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ ،
فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ،
وَلا تُحْدِثَنّ شَيْئًا حَتّى
تَأْتِيَنَا ." فاستجاب
الجندي لأمر قائده استجابة
حَرفية، فذهب، ودخل في جيش
المشركين، ونظر ما يصنعون، وكان
في استطاعته أن يقتل أبا سفيان؛
ولكنه وعى التكليف جيدًا ولا
زال صوت رسول الله يتردد في
أذنيه :"َلا تُحْدِثَنّ
شَيْئًا " .. قال حذيفة : "
وَلَوْلا عَهْدُ رَسُولِ
اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ -إلَيّ أَنْ لا
تُحْدِثَ شَيْئًا حَتّى
تَأْتِيَنِي
لَقَتَلْته بِسَهْمِ" . وانظر – أخي – لقد سمَّى التكليف عهدًا،
فقال : " وَلَوْلا عَهْدُ رسول
الله – صلى الله عليه وسلم -
إليّ"، إنه يُعلي من شأن
تعليمات الأمير، فليست تكليفات
الأمام كتكليفات بعضنا لبعض في
النصح والبر ونحو ذلك، إنها
عهدًا وعقدًا وميثاقًا، فعلاقة
القائد بجنده والأمير بجيشه،
علاقة الرأس من الجسد، وما
بينهما من وشيجة الإيمان أقوى
من العروة الوثقى.
ولقد كان اختيار رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – اختيارًا موفقًا ..
إن القائد يعرف جنوده
وإمكاناتهم ومستويات نبوغهم
وذكاءهم .. فتأمل مثلاً، لما
َقَامَ أَبُو سُفْيَانَ
فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ : لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ
مَنْ جَلِيسُهُ ؟ قَالَ
حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْت بِيَدِ
الرّجُلِ الّذِي كَانَ إلَى
جَنْبِي ، فَقُلْت : مَنْ أَنْتَ
؟ قَالَ : فُلانُ بْنُ فُلانٍ! لقد تصرف حذيفة بحكمة في السرعة، وسرعة في
الحكمة، وبادر هو بالسؤال عن
جليسه، فانشغل الجليس بتعريف
نفسه؛ فلم يفتضح أمر حذيفة؛ لقد
كان المسلم دومًا أريبًا لبيبًا
. شُكر الله على النصر : فلما فَصَلَ حذيفة إلَى رَسُولِ اللّهِ -صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إذا
هو قَائِمٌ يُصَلّي فِي مِرْطٍ
لِبَعْضِ نِسَائِهِ، فلما رآه
النبي، أدخله إلَى رِجْلَيْهِ،
وهو الرحمة المهداة، وَطَرَحَ
عَلَيه طَرَفَ الْمِرْطِ،
ليُدفء حذيفة، وهو بالمؤمنين
رؤوف رحيم، يخفض لهم الجناح،
فلا يرون منه إلى مكارم الأخلاق
، ثُمّ رَكَعَ وَسَجَدَ – صلوات
ربي وسلامه عليه - وحذيفة متلفع
بطرف المرط، بين رجلي النبي - من
خلفه -، فلما أتم الصلاة، أخبره
حذيفة الخبر، وأن الأحزاب في
ارتحال، وقد أتى جبريلُ النبيَ
– قبيل ذلك - فبشره أن الله يرسل
عليهم ريحاً وجنوداً، وأعلم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أصحابه
بذلك وصار يرفع يديه قائلاً : " شكراً ! شكراً !!" [الحلبي 2/ 628]. وهنا
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مبشرًا : " الآنَ نَغْزُوهُمْ
وَلا يَغْزُونَنَا، نَحْنُ
نَسِيرُ إِلَيْهِم ْ" [البخاري:
(3801)، عن سليمان بن صُرَد]. وأخذ يردد
مرارًا : " لا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ
عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الأحْزَابَ
وَحْدَهُ، فَلا شَيْءَ
بَعْدَهُ"[البخاري : (3805)]. فهي ساعة يمتحن الله فيها الدولة
المنتصرة؛ أتشكر أم تكفر، فمن
الناس من يرزقهم اللهُ النصرَ
وقد كانوا من قبل إلى الله
يتضرعون، فلما جاءهم نصر الله
إذا هم ينسون ويبغون، وينسبون
الفضل إلى أنفسهم، ويقولون في
أبواق الأعلام : نجحت قواتنا ..
وانتصرنا بفضل شجاعتنا .. بفضل
سلاحنا.. وينسون صاحب الفضل
وواهب الرزق، سبحانه، يُعز من
يشاء وبذل من يشاء ، وهو القائل :
" لأن شكرتم لأزيدنكم " .
*** لقد كانت غزوة الأحزاب موعظة ورحمة لقوم
يؤمنون بناموس الله : " إن مع
العسر يسرًا".. وليعلم
المسلمُ أن المصائب والرزايا
إذا توالت أعقبها الخير، وعند
تناهي الكرب يكون الفرج، وعند
تضايق الحال يكون الرخاء؛ شريطة
أن يَصْدُق المسلمُ ربه، ويثبت
ويصبر ويطيع، و"سيجعل الله
بعد عسر يسرًا"، وينشر الله
رحمته وهو الولي الحميد . فاصبرْ
– أخي - وبَشِّرْ . قال محمد بن بشر الخارجي: إن الأمور إذا اشتدت مسالكها ... فالصبر
يفتح منها كل ما رتجا وكانت هذه الغزوة درسًا عظيمًا في قوة هذا
الدين أمام جحافل الباطل، وأن
أهل الأرض لو اجتمعوا وتحزَّبوا
وتحالفوا على هدم هذا الدين،
فلن يَتَأتى لهم ذلك، إلا ما
يصيب الرجلُ الفسلُ من البحر،
إذا ألقى فيه قبس من نار يريد
بذلك أن يجففه ! فحَدِثْ – أخي -
عن نصر الإسلام ولا حرج ! وكانت درسًا بليغًا في أهمية " الفرد
المسلم " فقد رأيت ما فعل نعيم... ومن ثم أوصيك أن تبحث وتسعى إلى عمل يتمخض
عن خدمة جليلة للإسلام . فابحث
وابحث وابحث . وتَعَلَّمْ
وتَعَلَّمْ وتَعَلَّمْ . واعمل
واعمل واعمل . فدينك دينك، لحمك
دمك ! ___________________ *الأستاذ محمد مسعد ياقوت،
عضو الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين، والمشرف العام على
موقع نبي الرحمة، ومستشار لموقع
إسلام أون لاين في النطاق
الشرعي . -------------------- هذه
الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |