ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 28/10/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


قراءة في كتابات الأستاذ حسن البنا

مؤسس الحركة الإسلامية الحديثة

المستشار طارق البشري*

خامسا

25- إن عقدة المشاكل في أوضاعنا الاقتصادية تكمن في روابط التبعية التي توثق وثاقنا بالقوى العالمية الكبرى، ونحن لسنا ضد أن تقوم علاقات وثيقة وحميمة بيننا وبين سائر شعوب العالم ودوله، سواء في مجالات السياسة أو الاقتصاد أو التبادل العلمي والحضاري، ولكننا ضد أن تتصف هذه العلاقات بوصف التبعية، وهو للأسف الوصف الذي يصدق على روابط الشعوب العربية والإسلامية بالقوى الكبرى فب عالم اليوم وعالم الأمس القريب.

وروابط التبعية هي ما يتعين علينا أن ننهض متآزرين ومتكاتفين لفصمه تحقيقا لاستقلالنا الاقتصادي، الذي لن يتم لنا استقلال فكري ولا سياسي إلا به، فواجب المسلمين أن يزيحوا عنهم الولاية الاقتصادية الأجنبية، وذلك فيما يزيحون من ولاية الأجنبي على مقدراتهم في سائر شئونهم الفكرية والسياسية.

ولا يتحقق عمل بأحكام الإسلام، وتطبيق لنظمه الاجتماعية، وسيادة لشريعته الغراء، إلا أن تتحرر ديار المسلمين من الهيمنة الأجنبية عليها في سائر المجالات، ومنها مجال النشاط الاقتصادي.

26- لقد تأكدت روابط التبعية على مدى قرن ونصف من الزمان، غزتنا أوروبا بجيوشها العسكرية ونفوذها السياسي وقواها المالية، كما غزتنا بقوانينها ونظمها ومدارسها ولغاتها وفنونها، وكما غزتنا بخمرها ونسائها ومتعها وترفها وبعاداتها وتقاليدها.

لقد خضع المجتمع الإسلامي في هذه الحقبة لعملية تغريب لم يسبق لها مثيل في التاريخ كله، وجرى ذلك مع فرض سياسة الباب المفتوح أمام البضائع الأجنبية والمصالح الاقتصادية الأجنبية، واقترن ذلك بهجمة ثقافية غربية إلحادية، قصد بها تحويل وجهات الناس وأذواقهم وأطرهم الفكرية إلى ما يحببهم في وسائل عيش الغربيين، ويرغبهم في استخدام أدواتهم، واستهلاك منتجاتهم، وما يبعد المسلمين عن أنماط عيشهم، ومألوف أحوالهم، ونماذج إنتاجهم.

بهذا الإحلال والإبدال الثقافي الذي شاع فينا، تأكدت روابط التبعية الاقتصادية للغرب، فاتجهنا إلى استهلاك ما تتتج مصانع الغرب، وإلى إنتاج ما تحتاجه تلك المصانع من خامات بلادنا، فكان النشاطان الثقافي والاقتصادي الغرييان وجهين لعملية غزو واحدة، وكنا عند حسن ظن الغاصبين فأسلمنا لهم قيادنا، وأهملنا من أجلهم ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وقد قدموا لنا الضار من بضاعتهم فأقبلنا عليه، وحجبوا عنا النافع من هذه البضاعة، وغفلنا عنه، وتركنا ما يفيدنا من صنائعهم وعلومهم مما يمكن أن نقوى به، ونمتنع ونعزّ، وأقبلنا على الضار من هذه البضاعة، مما تهن به العزائم، وتتشتت القوى، ويتفرق الناس شعاعا، فسار اقتصاد المسلمين غنيمة لغيرهم، بل سلاحا في يد غالبيتهم عليهم.

27- إن عمدة النظام الاقتصادي المستمد من الإسلام أن يكون اقتصادا مستقلا، تبنيه جماعة المسلمين لتقيم به فروض الله سبحانه، وتنأى به عن محرماته، وليكون درعا للإسلام حاميا له، كافلا للمسلمين ما يلزم جماعتهم من عز ومنعة وسؤدد في حراسة الدين، وسياسة الدنيا.

إن أول ما يتأتى به هذا الأمر أن تقوم سياسات الاقتصاد بما يفضي إلى تقليل الاعتماد على العالم الخارجي فيما تنتج أوطان الإسلام وفيما تستهلك، وتأكيد الاعتماد على النفس بما يعنيه ذلك من تعبئة الفائض الاقتصادي، وإطلاقه في مجال التنمية لإشباع الحاجات الأساسية للناس.

إن ذلك يقتضي الاعتماد في التنمية على المدخرات المحلية، والعمل على جذب ما للمواطنين من مدخرات بالخارج، والوقوف ضد أي تبديد للفائض الاقتصادي في مشروعات ترفيه، كما أنه يقتضي ضبط معدلات الاستهلاك، والسير في طريق التنمية حسب الأولوية الشرعية، وهي إشباع الضرورات أولا، ثم إشباع الحاجات، ثم بعد ذلك يأتي دور التحسينات، وأن تحديد الضرورات والحاجات والتحسينات إنما يجري بالنظر إلى المجتمع في عمومه، وإلى جماعة المسلمين والمواطنين بعامة.

وبقدر ما ينسجم نمط الاستهلاك مع مقدرات الإنتاج، وبقدر ما يعتمد الإنتاج على الموارد المحلية، بقدر ما يتحقق الأساس المتين للاستقلال الاقتصادي المرجو، وأن خطط الاكتفاء الذاتي لا بد أن تبدأ بالأوليات المتوافرة في البيئة المحلية، ثم تمتد إلى المجال الإقليمي في إطار الجماعة العربية والجماعة الإسلامية بعامة، ثم إلى خارج هذا المجال من دول وشعوب تبدي المودة والصداقة والتآزر.

28- ولتتحقق أهداف النهضة الاقتصادية المستقلة لا يكفي رفع معدلات الادخار والاستثمار، ولا يكفي تطوير فنون الإنتاج وتنمية الخبرات الفنية، رغم ضرورة كل ذلك وأهميته الكبرى، ولكن يلزم أيضا توفير عنصرين معنويين أساسيين:

أولهما: تنمية القوة الروحية الدافعة، والتي لا بد أن تشيع في كل وجوه النشاط الاجتماعي، بالحماس للمبدأ، والإيمان بالمثل الأعلى، واستثارة مشاعر البذل والفداء، ذلك أننا مجتمع ينبني وفق معتقده الديني، ويؤمن بتلك العروة الوثقى التب تربط الأرض بالسماء، والمؤمن المجاهد موعود بالجنة، أدرك صلاح الدنيا بجهاده أو لم يدركه.

إن مسألة النهضة الاقتصادية ليست مسألة إمكانية مالية فقط، ولكنها مسألة تعبئة الطاقات الاجتماعية جميعها، من أرض وإنسان وزمان، في مشروع واحد تحركه إرادة حضارية تصدر عن عقيدة وإيمان بنّاء، والنهضة لا تُشترى، ولكنها تصنع، وهي لا تصنعها السواعد والأدوات فقط، ولكن يبنيها ما وضح في العقل، واستقر في القلب.

وإن ميزان الحقوق والواجبات تتعادل كفتيه وفق حاجات الجماعة في كل زمان ومكان، ووفق ما يسفر عنه التوازن بين حجم الاستهلاك الممكن، وحجم الإنتاج المقدور، في كل حالة زمانية من حالات الجماعة المعنية.

ثانيهما: علينا أن نستفتي عقيدتتا، وأن نستلهم تراثنا وتقاليدنا وأعرافنا في تحديد ما يحسن لنا استهلاكه، فاستهلاك البضائع والسلع يعتمد أكثر ما يعتمد على عوائد الناس وطرائقهم في العيش بما يترسم موازينهم وأبنيتهم العقلية والنفسية، لذلك ينبغي أن يكون إشباع الحاجات الأساسية للناس على وفق ما تشيعه بيئتهم، وأوضاعهم الثقافية، وتقاليدهم وإرثهم التاريخي.

إن نهضتنا الاقتصادية المستقلة تحتاج أول ما تحتاج إلى تأكيد هويتتا الذاتية، وموازين القيم المرتكزة على عقائدنا، وما انبنى على ذلك من أنماط للحضارة والعادات والأذواق.

29- إن الأسس الإسلامية للنظام الاقتصادي ليست مما يمكن أن يقارن بأي من الرأسمالية أو الاشتراكية، أو ما جرى على شاكلتهما من نظم الغرب الحديثة، لأن الفارق الأساسي الذي يفرق أى نظام اقتصادي إسلامي عن أي من تلك النظم الغربية لا يتعلق بمفردات أي من هذه النظم، أو أى من أنماط العلاقات الاجتماعية التى تنشئها، إنما يقوم الفارق بين أى نظام إسلامي وبين أى نظام غربي، في البنية الأساسية التي يشيد عليها النظام.

فأي نظام إسلامي ينبغي أن يقوم على أساس من عقيدة الإيمان بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن كتابا منزلا، وأن يبدأ بالإيمان بالغيب، ثم يمتد ليجعل عمدته في شئون الدنيا القرآن والسنة.

وأي من تلك النظم الغربية الوافدة إلينا، إنما تقوم أولا وأخيرا على أساس دنيوي خالص، وعلى قاعدة وضعية علمانية، تبتعد بالأرض وما عليها ومن عليها عن حكم السماء، وتنكر هيمنة الغيب على مقدرات البشر ونظمهم الدنيوية.

ويتفرع على ذلك عدد من المقومات العامة، فالنظر الإسلامي لا يرد المشكلة الإنسانية بعامة إلى العوامل الاقتصادية وحدها، ولا يعتبر هذه العوامل الركيزة الأساسية للوجود البشري ونمائه، إن النظر الإسلامي يعتبر أن النظام الاقتصادي لا يخلق المجتمع ، إنما هو على العكس مخلوق ومحكوم بما تتوجه إليه القوى الأخلاقية التي تخلع على المجتمع وعلى النظام الاقتصادي التفسير الإنساني والغاية التاريخية.

وإن الاقتصاد وحده لا يقيم المجتمع، وإن كان يعتبر واحدا من مقومات الجماعة، وهو يرتبط بالقيم الحضارية، والتكوين العقدي للبشر، وإن الإنسان وبناءه العقدي والتربوي هو القيمة الأساسية والعنصر الرئيس في أي نظام اقتصادي يقوم على الرشد، وتسلس به عمليات النهوض والنماء.

والنظر الإسلامي في الاقتصاد لا يرى في الملكية الفردية ما تراه الرأسمالية فيها من سلطات مطلقة ترد عليها بعض القيود، ولا يرى فيها ما تراه فيها الماركسية من استغلال لصيق، إنما يرى النظر الإسلامس فى الملكية وظيفة استُخلف فيها الناس ليؤدوا فروضها الاجتماعية لنفع الجماعة، وينتفعوا بطيباتها علىشروط الاستخلاف.

والنظر الإسلامي يضع أي نظام اقتصادي مستمد منه بعيدا عن إباحية الرأسمالية ومادية الاشتراكية جميعا، وهو لا يرى في الإنسان محض مستهلك للحاجيات المادية مشغوف بالمنافع الحسية، إنما يراه معقولا، تعقله عقيدته عن الشرَّه ، وتصون سلوكه قيمه الأخلاقية، ويعتبر ذلك من صميم بناء الإنسان الاقتصادي، ما يعتبر الجانب الإيماني والتربوي من صميم بناء هذا الإنسان الاقتصادي، والإسلام ذو شمول.

30- إن أي نظام اقتصادي يستمد من الإسلام، يعتمد على جملة من المبادئ والأسس، منها:

اعتبار المال الصالح هو قوام الحياة، بما يتعين معه الحرص على هذا المال، وحسن تدبيره .وتثميره، وقد أشاد الإسلام بغنى الجماعة واستخدام المال فيما ينفع الناس ويرضي الله، فليس الزهد في الإسلام بما يعني تحبيب الناس في الفاقة والفقر، وذم الدنيا، وذم الغنى والثروة، إنما يراد به ذم ما يدعو إلى الطغيان والفتنة والإسراف، وما يدعم الاستعلاء والاستكبار، وما يعين على الإثم والمعصية والفجور والكفران بنعمة الله، والإسلام يلفت النظر إلى ما في الوجود من منابع الثروة ووجوه الخير، ويحث على العناية بها ووجوه استثمارها، لأن كل ما في الكون مسخَّر للإنسان يستفيد منه، وينتفع به.

ومن هذه المبادئ والأسس: إيجاب العمل والكسب على كل قادر عليه، فالعمل من أفضل العبادات، وهو من سنن الأنبياء، كانوا يأكلون من عمل أيديهم، وأفضل الكسب ما كان من عمل اليد، والإسلام يزرى بالبطالة وبمن  هم عالة على المجتمع لا يعملون، ولوكانوا ينقطعون انقطاعا لعبادة الله. والتوكل على الله لا يكون بالتبطل، إنما يكون بالأخذ بالأسباب والنتائج، فمن فقد أحدهما فليس بمتوكل، لأن الرزق والمقدور مقرون بالسعي الدائب.

ومن هذه المبادئ والأسس: تحريم موارد الكسب الخبيثة، وتحديد الخبيث من الكسب بأنه ما كان بغير مقابل من عمل كالربا، وما كان بغير حق كالسرقة واختلاس مال الغير، فردا كان هذا الغير أو جماعة أو مالا عاما هو من حقوق الجماعة، أو كان هذا الكسب عوضا عن مال يضر، سواء كان عوضا عن محرمات كخمر وخنزير ومخدر، أو كان عوضا عن صفقات مالية أو تجارية من شأنها الإضرار بحقوق الجماعة وأوضاعها الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية.

ومن هذه المبادئ والأسس: تقريب الفوارق بين الطبقات، والحث على رفع مستوى المعيشة بين الفقراء، وتقرير حقهم في مال الدولة ومال الأغنياء، ووصف الطريق العملي لذلك.

ومن ذلك تقرير الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين راحته ومعيشته كائنا من كان، ما دام مؤديا لواجبه، أو أن يكون عاجزا عن أداء هذا الواجب بسبب قهري لا يستطيع التغلب عليه.

ومن ذلك ما يحض عليه الإسلام من تحريم الكنز ومظاهر الترف على الأغنياء، وما يحث عليه من الإنفاق في وجوه البر، وذم البخل والرياء والمن والأذى، وتقرير التعاون والقرض الحسن ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، والدولة في ذلك مسئولة عن إنشاء نظام يقوم بهذه الأسس وحمايتها، وهي مسئولة عن حسن التصرف في المال العام، تأخذه بحقه وتصرفه بحقه، وتعدل في جبايته.

والدولة مسئولة في ذلك عن حسن استخدام السلطة، وسلامة ممارسة النفوذ وفقا لأسس السلوك الإسلامي، واستغلال النفوذ محظور في الإسلام، والرشوة ملعون أطرافها جميعا، والهدية من أصحاب الحاجات محرَّمة على الحكام والأمراء.

31- إن أي نظام للاقتصاد في الإسلام يقوم بين حدين من الفرض والتحريم، هما فرض الزكاة، وتحريم الربا، والزكاة من خاصة أسس الإسلام، هي ثالثة دعائم الإسلام، وواحدة من أركانه وشعائره الكبرى وعباداته الأربع، وهي بعد التوحيد وإقامة الصلاة عنوان دخول دين الإسلام، واستحقاق الأخوة بين المسلمين، وهي مما ورد بالقرآن والسنة، واجتمع عليها المسلمون، ومما يعرف عن الإسلام بالضرورة.

والزكاة ليست إحسانا فرديا، إنما هي فريضة من الله مقصود بها تتظيم اجتماعي تشرف عليه الدولة ويتولاه جهاز إداري منظم يقوم على جبايتها ممن سنت عليهم، وصرفها فى مصارفها الشرعية لمن يستحقها، فالزكاة جباية ومصرفا هي من شئون الحكومة في الإسلام وليست شأنا فرديا، ويتعين أن يكون لها موازنة خاصة تتسع لها موارد ومصارف حسب أحكامها الشرعية.

إن تطبيق نظام الزكاة وغيره من النظم المالية التي عرفها الإسلام، يوجب إصلاح النظام الضريبي بما يتفق مع أحكام الإسلام وروح نصوصه، وبما يحسن معه التركيز على الضرائب المباشرة وتعديل شرائحها بما يحمي صغار أصحاب الدخول ومتوسطيهم، وبما لا يقتل الحوافز الفردية.

32- والربا محرم بنص القرآن الكريم وسنة المصطفى، ولا مهرب من الامتثال لأمر الله، وأن نصدع به، ولا يملك فرد ولا حاكم أو جماعة أو نظام أن يحل هذا الحرام.

وفى الربا استغلال لحاجة المحتاج وإثراء بغير جهد، وتنمية للمال بلا مخاطر، وكسب لا يقابله عمل، وكل ذلك منهىٌّ عنه، وأن فشوّه - إن فشا - يطبع المجتمع بالجشع، ويطبع الإنسان بالأثرة والعبودية للمال، وفيه محاباة للمال وتمييز له على حساب العمل والجهد الإنساني، وإعلاء لشأن المادة على حساب الروح، أو على حساب جهد الكائن ذي الروح، مما يضع القيم الإنسانية وضعا هابطا تعلو به القيم المادية.

إن إلغاء نظام الربا يقتضي تعميم المصارف غير الربوية، وإنهاء تعامل المصارف بهذا الربا المحرم، وإقامة النظام الاقتصادي والمالي على أساس من التنظيم غير الربوي.

على أنه ينبغي إيضاح أن تحريم الربا ليس مجرد نهي ينحصر أثره في علاقة المقرض بالمقترض، ولكنه نهي له امتداداته وآثاره في النظام الاقتصادي والأوضاع المالية للجماعة، وإقامة المؤسسات غير الربوية يقتضس النظر فيما توظف فيه الأموال لصالح الجماعة ونهضتها وليس للكسب الفردي وحده، وذلك بموجب أن ملكية المال هي وضع استخلاف، وأن الإسلام نظام حياة للجماعة المسلمة، وأن المسلمين مأمورون بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف.

لذلك يتعين على المؤسسات غير الربوية أن تبتعد في نشاطها مع غيرها من المؤسسات في الخارج أو الداخل عن كل ما يفيد توظيفا ربويا للمال، وأن تقوم بوظيفتها في خدمة جماعة المسلمين والنهوض بها نهضة مستقلة، وأكثر ما يتأتى به ذلك التركيز على المشروعات الإنتاجية التي تولد الرزق، وتتيح فرص العمالة لأكبر عدد من الناس، وأن تبدأ بما يستجيب لضرورات الناس ثم حاجاتهم، وأن تنشط فيما يقيم التوازن بين مصلحة الأجيال الحاضرة والأجيال المقبلة، مع تجنب الإسراف والتبذير، وبهذا يصدق عليها وصف المؤسسات الإسلامية كاملا.

إن من مقاصد الدعوة الإسلامية أن يستشعر الناس العزة والكرامة، ويتذوقون طعم الحياة الكريمة، ولا يكون ذلك إلا بالشبع والاستغناء عن الغير، وتوفير ضرورات الحياة، وإلى ذلك نظر الإسلام فلم يهمل المعاني الاقتصادية ولم يتغافل عن الإصلاح المالي، بل وضع لذلك أفضل القواعد التي تنمي وحدة الأمة أفرادا وجماعات، وترفع مستوى المعيشة وتقرب بين الطبقات، وتؤمن الجميع على أنفسهم وذراريهم وأولادهم، وتضمن لهم العدالة الاجتماعية الصحيحة.

 

سادسا:

33- لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والتعليم من أهم الوسائل التى يغير بها المسلمون ما بأنفسهم، فلا نهضة تنتظرهم ولا صحوة تشملهم إلا ويكون من مكوناتها وفي صميمها إصلاح شئون التعليم، فهو صناعة للبشر، وصياغة للعقول والوجدان، وهو وصل للمعرفة عبر الأجيال، وغرز للقيم والمعتقدات، وتمكن من علوم العصر وفنونه، وإدراك للذات، وإطلال على شئون الغير.

ويعاني التعليم عندنا مما يعاني منه المجتمع كله، حتى يصعب معرفة من الفاعل ومن المنفعل فيهما، وأساس المعاناة يرد من ظاهرة الازدواج، وقد مضى علينا أكثر من قرن ونصف منذ بدأت تفشو ظاهرة الازدواج في نظم التعليم، ومؤسساته ومناهجه.

وأيا كان النقص في كفاءة التعليم قبل ذلك الوقت، فقد كان نظاما واحدا، ومناهج واحدة تقوم عليها هيئات واحدة أو متماثلة، والإصلاح مطلوب في كل حال، ولكنه ليس من الحتم أن يقوم الإصلاح على أساس من ازدواج النظم وثنائية المؤسسات، والأكثر مدعاة لطبائع الأمور أن ينشأ الجديد متخللا للقديم مجددا لأنحائه، لا أن يقوم درجان تعليميان منفصل كل منهما عن الآخر منقطع الصلة به - بله أن يقوما على تعارض وصراع وتناف كما حدث فعلا.

كان يقوم نظام التعليم التقليدي من الكتاتيب ومدارس الجوامع حتى الأزهر، وقام بجواره وبموازاته نظام جديد من المدارس الابتدائية والثانوية حتى الجامعة، وقام الآخير على غير انبثاق من الأول ولم يُفد تجديدا له، بل أفاد القطيعة معه، ثم انضافت ثالثة الأثافي لهذا النظام المزدوج، ألا وهي التعليم الأجنبي والتبشيري الذي انتشرت مدارسه منذ نهايات القرن الماضي، ولا تزال بعض هيئاته الأجنبية قائمة في المجتمع حتى الآن، لتزيد من عوامل التفكك والانشطار في المجتمع، وفي أبنيته الفكرية والثقافية، وذلك بمثل ما حدث في نظم المحاكم من جعلها محاكم مختلطة، ومحاكم أهلية، ومحاكم شرعية.

لقد كانت دواعى الحياة تستدعي إصلاح نظام التعليم القديم، ولكن التغيير الحادث مع أواخر القرن الماضي لم يجر تلبية لهذه الحاجة أو علاجا لأمراضها، إنما جرى اقتحاما من المجتمعات والحضارات الغازية، وأتى غير مستجيب لحاجات الناس، إنما أنشئ إنشاء، وأعمل إعمالا ليجعل حاجات الناس مستجيبة له، وذلك ما يعرف في تاريخ التعليم المصري بسياسة دانلوب البريطاني، والقصد منه إقامة الاحتلال البريطاني والأوروبي في عقول البشر وصدورهم.

34- هذا النظام التعليمي المزدوج، قام به شعبان من شعب واحد، وأمتان من أمة واحدة، بل قام به قلبان في جوف كل جوف من الناس، ويتزاحم في الرؤوس نظامان، نظام موروث مبني على الإسلام، ونظام وافد مبني على العلمانية وإقصاء الإسلام.

وقد كان النظام الموروث نظاما إسلاميا بالمعنى الصحيح للإسلام، من حيث أنه يربط في علوم الحياة بين الدين والدنيا، كما ترابطا أبدا منذ وجد الإسلام في الأرض، ولكن النظام العلماني الوافد فسخ العلم إلى ما أسماه علوم الدين التى بقيت لمؤسسات التعليم الموروث، وعلوم الدنيا التى هيمن عليها، وطفق يوسع من هيئاتها ومؤسساتها، وبناها على انفصال مع العقيدة، وأنشأها على قاعدة غير دينية، وامتد هذا الأمر إلىكل العلوم الإنسانية من أدب واجتماع واقتصاد وفلسفة وقانون، بل لعله قصد به هذه العلوم أكثر مما قصد به علوم الصنائع وفنونها.

ومن هنا قام هذا الصدع الخطير، وأفرخ صدعا هائلا بين البشر من أبناء كل من هذين النظامين التعليميين، كل نظام يتناول أبناءه من قبل سن التمييز، ويتعهدهم حتى تمام الرشد وما يليه.

وقامت المدارس الحديثة تؤكد القيم العلمانية، وتشكك في جدوى شرائع الإسلام ونظمه، وتؤكد أن ثمة تنافيا بين العلم والدين، وإن لم تفعل ذلك صراحة، فقد أعدت برامجها على أساس إبعاد الإسلام عن أن يكون أساسا لنظم الحياة أو مصدرا للشرائع، وتفشت الفلسفات الغربية بين الشباب والدارسين، وتأكدت لدى هذا القسم من الأمة تبعية العقل للفكر الغربي، كما تأكدت القطيعة عن أصول الأمة وعقائدها وتاريخها، بل وحاضرها ومستقبلط أيضا.

هذا مجمل النظر الإسلامي لأوضاع التعليم الحاضرة، ومجمل توصيفه لما يعاني منه نظام التعليم، ولما يعانيه المجتمع منه، والواجب المناداة بتوحيد النظام التعليمي مؤسسات ومناهج ونظما، واستعادة نظرة الإسلام الصحيحة في عدم الفصل بين ما يسمى علوم الدين وعلوم الدنيا، ورؤية التعليم نظاما واحدا يضم في مراحله الأخيرة تخصصات متعددة، ولكنها كلها يشملها أصل واحد، وتوجهها فلسفة واحدة، وتصوغ مواطنين متجانسين متماثلين في المشارب وفي التوجه، وفيما يتغلغل فيهم من روح الانتماء للعقائد والجماعة، وإن تعددت تخصصاتهم العلمية، وتنوعت مهنهم ووظائفهم في المجتمع.

35- إن هذا النظام التعليمي الواحد يتعين أن يصدر عن الأصول الثابتة لعقائد الناس، وأسس حضارتهم المتميزة، وتاريخهم العريض، ثم هو يمتد إلى كل ما يفيد من علوم العصر الحديث وفنونه ومناهجه، سواء في علوم الطبيعة أو علوم الإنسان، مع الدعم الفعال للغة العربية والنشر الواسع للغات الأخرى، لينشأ الإنسان المواطن عميق الانتماء لربه، عميق الانتماء لجماعته ووطنه، عميق الانتماء لعصره الذي يعيش فيه.

 

سابعا:

36- وإن الموقف حول موضوع المرأة واضح لا لبس فيه، لأن موقف الإسلام من المرأة ساطع البيان، وما من شريعة كرّمت المرأة بمثل ما كرمتها شريعة الإسلام، فهي مساوية للرجل في أصل الخلق وفي التكاليف، وفي الجزاء، خوطبت بمثل ما خوطب بأحكام القرآن، وتتمتع بكل ما يتمتع به الرجل من الحقوق والصلاحيات الشرعية، وهي ذات ذمة قانونية مستقلة، وشخصية قانونية كاملة، وهي موضع للتكليف بالدين قائمة بذاتها، لا تتبع الرجل في دخول الدين ولا يتبعها، وتخضع مثله للفروض الشرعية، ولها من حقوق الشخصية القانونية ما لم تتمتع به المرأة الأوروبية التي يعتبرها البعض مقياس التحضر والمدنية، فللزوجة في الإسلام ملكها الخاص، وذمتها المالية المنفصلة عن ذمة زوجها، وهي تحتفظ باسمها ونسبتها إلى أبيها بعد الزواج فلا تلحق بالزوج ، وكل ذلك يبرئها به الإسلام الحنيف من شبهة التبعية للزوج.

37- وحق المرأة في التعليم مقرر، وصلاحيتها للعمل مرتبطة بتحديد مجالات العمل المناسب من حيث نوع العمل وطبيعته ومجاله وزمانه ومكانه وطريقة أدائه، وكل ذلك بما ينسجم مع طبيعتها الأنثوية وما تتحمله من تبعات الأمومة، وبما يكفل لها الأمان والطمأنينة، ولأسرتها السكن والرعاية، ويجري ذلك حسب أوضاع الشريعة الغراء، ووفقا لما تتخذه من أسس تتعلق بتقسيم العمل الاجتماعي وفقا لنوعياته وصلاحيات أفراد المجتمع لكل نوع، وتتعلق بما يفرضه اختلاف التكوين الجسمي، والتوظيف الأسري من مهام ملقاة على كل من أعضاء الأسرة، وفي إطار ما قرره الشرع الحنيف من تماثل الممكنات العقلية لكل من الرجل والمرأة بدليل تساويهما في التكليف الشرعي والجزاء.

والحجاب المقرر في الإسلام لا يعني حبسا، ولا حجرا على المرأة، ولكنه يعني الالتزام بالأوضاع الشرعية في الملبس والاختلاط، وهذا لا يخل بما يتاح شرعا للمرأة من كفالة التعليم لها، وجواز عملها في المجالات المناسبة، وهذا الالتزام لا يشكل نقصا في مجال المساواة، إنما هو تصنيف للأحكام لتتناسب مع أوضاع كل جنس، ولا يقول أحد: إن منع الحرير والذهب على الرجال مما يخل بكمال حقوقهم.

38- وبالنسبة لوضع الزوجة، فإن التوازن الشرعي الذي يحكم علاقة الرجل والمرأة في الزواج، لا يظهر بالنظر إلى العلاقة الثنائية التي تربطهما، بقدر ما يظهر عند النظر إلى تلك المؤسسة الاجتماعية التي تنشأ بهذا العقد وهي الأسرة، وهي أكثر المؤسسات حظا من اهتمام القرآن الكريم بتنظيمها، وهي أدوم المؤسسات في تاريخ العمران البشري، وأعمقها حظا في التأثير، وأوسعها انتشارا.

والزواج في الإسلام ليس مجرد عقد يحكم علاقة رجل بامرأة، ولا ينبغي أن ينظر إلى حقوق الزوجين في تقابلهما وتوازيهما فقط، كما ينظر إلى حقوق البائع والمشتري، ولكن الزواج عقد ينشأ به كيان اجتماعي هو اللبنة الأولى في نظام المجتمع الإنساني، واستمراره بالتكاثر والتوالد والتربية.

وفي إطار هذه المؤسسة الاجتماعية ينبغي النظر في أوضاع الأسرة بحسبان ما يتوزع على كل عضو فيها من وظائف تتفق مع ما يتوافر له من صلاحيات، فلا تتوزع الواجبات بالتقابل مع الحقوق بقدر ما تتوزع بالنظر للصلاحيات، وتقسيم الوظائف والأعمال وتكاملها، ومن هنا تبدو المرأة أما قبل كل شيء، وحاضنة للأجيال، ويبدو ما كرّمها به الشرع الحنيف.

والنظام الإسلامي للأسرة يصل إلى حد الإعجاز في تنظيم هذه المؤسسة ذات الشيوع الزماني عبر التاريخ كله، وذات الانتشار المكاني عبر المجتعات كلها، فأتت الأحكام والرخص بما يساعد على مواجهة أي متغير من المتغيرات التاريخية المكانية بهذا الانتشار والتنوع العريض، سواء بالنسبة لأحكام إنهاء الزواج، أو تعدد الزوجات أو غيرهما.

39- وإن أهم ما يتعين الحذر منه عند النظر إلى أي مشكل يتعلق بوضع المرأة في المجتمع، هو هذه الدعوات العالية الصوت التي تدعو إلى استيراد حلول للمشاكل من حضارات أخرى، ومن أطر قيم وأعراف وتقاليد مخالفة، ومن سياق أوضاع تاريخية بعيدة تماما عن سياق التاريخ الإسلامي، وما يعرفه المسلمون من أعراف، واعتادوه من قيم، وآمنوا به من معتقدات.

إن مثل هذه الدعوات خليقة بأن تعود بأفدح الضرر على موازين القيم والعقائد في المجتمع، وأن تهد من أركان مؤسسة تمثل اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وتمثل البوتقة الأولى لتربية الأجيال المتتابعة.

 

خاتمة

وأخيرا وليس آخرا، فإن الأمة إذا توافرت لها كل هذه الدعائم من الأمل والوطنية والعلم، والقوة والصحة والاقتصاد، فهي بلا شك أقوى الأمم والمستقبل لها، ولا سيما إذا أضيف إلى ذلك أنها قد طهرت من الأثرة والعدوان، والأنانية والطغيان، وأصبحت تتمنى الخير للعالم كله، وأن الإسلام قد كفل ذلك، فلا حجة لأمة في النكول عنه، والعدول عن طريقه.

والحمد لله رب العالمين.

انتهى

--------------------

*قاضي ومفكر ومؤرخ مصري، ونائب رئيس مجلس الدولة السابق

 

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ