ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 30/11/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

أبحاث

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

أُسسٌ للتفاهم بين التيار الإسلامي والتيارات الوطنية الأخرى

مازن موفق هاشم

تمرُّ بلادنا العزيزة في مرحلة فاصلة من مراحل تاريخها، يشعُّ من خلال آلام المخاض بصيصُ أملٍ في مستقبل مُشرق يحدوه شوقٌ إلى عيش العزّة والكرامة. وما كان لهذا الحراك أن يتجسَّد فيخرج على هذا النحو من غير نازعٍ وطنيٍّ فطريٍّ يبغي الحياة المطمئنة والعيش الرغيد. وإنّه يتوجّب علينا في هذه اللحظة الحرجة أن نحرِّر خصائص هذا النازع الوطني ونحدّدها تحديداً دقيقاً لكي لا تبقى الرؤية خفقةَ قلبٍ صادقٍ لا يوازيها على أرض الواقع فهمٌ لترتيبات عمليّة تحقِّق الأماني المنشودة.

 

وإذا كان اختلاف وجهات النظر سنّة الحياة، فإن من مكامن قوة الثورة العربية لهذا القرن أنْ كانت ثورةً عامةً لا تستطيع أي جهة أو إيديولوجية ادعاء احتكارها.

 

غير أنّ مرحلة ما بعد الثورة وانتصارها وإنجازها تستدعي وضع أطر تنظيميّة لمسيرة المستقبل، وهذا ما يجلب إلى الساحة لزوماً الفرق الإيديولوجية والتنظيمات المجتمعية لتدبّر الأمر وإرساء أسس الواقع الجديد. وتُحشر هذه القوى المتنوعة في مساحة صغيرة من الحيّز الزمانيّ والحقل الإداريّ السياسيّ، وكلٌّ يرى أولويّة رؤاه وصوابها، وكلٌّ يدّعي أنّ الثورة استلهمتْ خياره وأنَّ نموذجه المقترح هو الذي يلبّي أهداف الثورة ومطالبها.

 

وأخذاً لما سبق بعين الاعتبار، يهمُّ هذه الورقة تحديد الأوجه التي يلتقي عليها –أو يمكن أن تلتقي عليها وتجتمع حولها- مختلف التوجهات السياسية/الفكرية. وبرغم أنَّ مناقشة هذا الأمر بعمق تستدعي الغوص في مباحث نظرية، سوف تتجنّب هذه الورقة الطرح النظريّ قدر الإمكان، مركّزة على الساحة العملية السياسية وعلى ارتباطاتها الاجتماعية والاقتصادية.

 

ومن أجل معالجة الأبعاد المتشابكة للمستقبل، سوف يُفترض أنَّ هناك توجهين عريضين سياسيين في جسم المجتمعات العربية، واحدٌ إسلاميّ يؤكد على مرجعيته الدينية، وآخرٌ يضمّ أطياف التيار القومي والليبرالي واليساري. وسوف أشير للتوجه الأول باسمه الشائع مع الإدراك أنّ فيه تنوع داخلي شديد. أما التوجه الثاني الذي يضمّ التيارات الثلاثة الرئيسة المذكورة فسوف أشير إليها بأسمائها في مواضع، وفي مواضع أخرى أشير إليها على نحو جامع مستخدماً عبارة غير الديني أو غير الإسلامي. وأدرك أنه قد لا يخلو الاستعمال لهذه اللافتات من بعض الإشكال، غير أنّ ثمة مبررات كافية لاستعمالها نسبةً إلى المسائل السياسية التي تعالجها الورقة وليس نسبة إلى التعامل الشخصي مع الدين.

 

وعند محاولة بيان المساحات المشتركة بين هذين التوجهين، لا بدّ من النقد الصريح. ونرجو أن تكون صياغة هذه الورقة، وإن كان خيارها الخاصّ إسلامياً، صياغة موفّقة لا تخدش في احترام الآخر ولا تشّوه دعواه أو تسيء فهمها. فالهدف أصلاً هو بيان وتأكيد وجود مساحات مشتركة برغم اختلاف الرؤية والمنطلقات، وليس الهدف هو الإقناع أو الإفحام.

 

الطوباوية الفكرية

لعل أهمَّ ما يجب أن يتجنّبه المخلِصون هو الرؤى الحالمة لإيديولوجياتهم. والنّخبة هي المخاطبة بهذا.

 

وقد تلقى هذه الملاحظة موافقة سريعة من السامعين المثقّفين، إلا أنَّ ذلك لا يعني ضرورةً غياب الأحلام من الأدمغة الذكية. ومرجع ذلك طبيعة الإنسان، فبرغم كل الهدوء المنطقي للمفكّر، يغلب أن يكون مدفوعاً دفعاً روحياً قوياً نحو مآلات نهائية تحفز على التضحية بالوقت والجهد من أجل أهدافٍ ساميةٍ يراها ويؤمن بها. فإذا استحضرنا أننا معشر المثقفين –مثل العامّة- عاطفيون ومثاليون، وإنْ كنّا نحجز عاطفيّتنا ومثاليّتنا عن أن تُفسد وتُخرب، أدركنا مداخل خفيّة لتحيّزنا، وأدركنا أننا عرضةً للشطط بحكم بشريّتنا وبحكم شعورنا العميق بالالتزام بمُثلٍ عليا.

 

أوجه الطوباوية الدّينية معروفة، ونشير منها فقط إلى النظر الحالم للماضي الزاهر، وإهمال الأسباب والشروط الموضوعية بسبب غلبة التركيز على طيب القلوب وصفاء النيّات. طوباوية التيارات غير الدينية تزلُّ بالاتجاه المعاكس، فتنظر إلى نسق مجتمع الحداثة نظرة حالمة، وتحسب أن الترتيبات البنيويّة الهيكلية يمكن أن تُغني عن صلاح الدوافع.

 

وإذا كان التيار غير الدّيني ينظر إلى المقولات الدّينية فيرى فيها مبالغات وخيالات غير منطقية وغير واقعية، فإنَّ أصحاب التوجه الدّيني ينظرون إلى طروحات نظرائهم فيرون فيها مبالغات شاذّة تخالف ما غلب على البشرية في تاريخها السحيق، ويرون بعضها الآخر المتسربل بعبارات عصر التنوير ليس إلا مقولاتٌ دينية وفلسفية مقتبسة أو محرَّفة أُعيد طرحها في أثواب جديدة لزمن جديد.

 

احتكار العقلانيّة و احتكار العمل الصالح

يقودنا ما سبق إلى أكثر النقاط إحراجاً وتعكيراً لصفو التعاون بين التيار الإسلامي والتيارات الوطنية الأخرى ، ألا وهي النظرة الدونيّة نحو الآخر التي تتمثل في احتكارين: احتكار العقلانيّة و احتكار العمل الصالح.

 

من خلال تبنّي الأنسقة الفكرية للحضارة الغربية في مرحلة تمكنّها وعلّوها، يميل التوجه غير الإسلامي إلى احتكار العقلانية دافعة بالآخر إلى هوامش الخرافة، ويحسب فعلاً أنه حياديّ ولا يشعر أنه يمارس الإقصاء على نحو غير مباشر. غير إنَّ الإشكال هنا يكمن في طبيعة تموضع الآخر في المنظومة الفكرية غير الدينية، وليس بمجرد إعلان الحيادية تجاه الدين. فاحترام الآخر الدينيّ (الخرافي الماضوي) يسري على نحو احترام إجرائي غير فينومينولوجي، يوهِم بالقيام بواجب الاحترام على نحو كامل. والنتيجة العملية هي أن التيارات غير الإسلامية -اليسارية والليبرالية خصوصاً- تترك لأصحاب التوجّهات الإسلامية حيزاً ضيقاً لممارسة (خرافاتهم) على نحو لا (يلوّث) المجتمع (المتقدّم)، غير شاعرة أنَّ سلوكها هذا لا يعدو أن يكون عجزاً عن فهم الرؤية الدينية وتحيزاً إيديولوجياً لفهمها الخاص للحياة وللمجتمع.

 

أما التوجّه الدّيني فإنه يميل إلى افتراض أن التوجّه غير الدّيني خالٍ من القيم الرفيعة والأخلاق، وهو ما يبرِّر مقاطعته والنظر إليه نظرة المفسد المطلق. ويغيب عن التوجّه الديني أحياناً أن التركيز الطافح على جزئيات السلوك الإنساني –من منزع تربويٍّ فرديٍّ- يترافق أحياناً مع تقصيرٍ في العناية بالأوجه البنيويّة التي يترتّب على إهمالها فسادٌ على المستويات الكليّة، مستوياتِ تنظيم المجتمع والسياسة والاقتصاد والشؤون العامة.

 

بعد إثبات أن كلاً من الطرفين عنده (زاوية عمياء) أو مساحة مظلمة يصعب أن يرى قصوره في نواحٍ من حياة البشر، نقول إنه ينبغي استحضار غرور فلسفة الحداثة بطروحاتها وتوجهاتها العملية، تعييناً لأننا نعيش في عصرٍ رُسم بنيانُه وفق المنظور الحداثي لا الدينيّ. إنَّ الإشكالات الجذرية في فلسفة التنوير والحداثة أمر مشهور، وتراكمت الانتقادات والاحترازات تجاهها على يد توجّه ما بعد الحداثة إلى قريب من نقضها؛ أي أنّ إدراك (لاعقلانية العقلانية) الحداثية ليس محض افتراءٍ خارجي، بل هو إدانةٌ من الداخل.

 

ونذكّر هنا بأن الفكر الإسلامي يرفض كلا الطرحين الحداثي وما بعد الحداثي، ويرى فيهما شططاً وسوء فهمٍ للحياة، ويرى في طرحه الخاص توازناً تفتقده طروحات الحضارة الغربية بتوجهاتها المختلفة. كما يرى في الفلسفات الشرقية توجهاً أقوم للإنسانية وأقل اختزالاً في فهم الحياة والإنسان. ولا بدّ من الاعتراف هنا بأنَّ التوجّه الإسلاميّ الذي يرتاح ضميره لتبرئه عن الحداثة، فِرقُه المختلفة ليست معصومة عن التسربل بها؛ ففي سياق المنظومة المعاصرة نجد أنَّ التطبيقات العملية لبعض التوجهات الإسلامية تستصحب أحياناً في سلوكها العملي ما ترفضه نظرياً.

 

إنَّ في احتكار التيارات اليسارية والليبرالية والقومية للعقلانية خفّة ظاهرة، فكم من سلوكها ما لا تعدو عقلانيّته عن قشرة رقيقة. كما أن في احتكار التوجه الإسلامي للعمل الصالح غُبناً ظاهراً، فكم من الطهورية الدّينية ما لا تعدو ممارساتها عن طقوس فارغة. غير أننا نعتقد أنّ تجذير الأخلاقية في رؤية دينية منفتحة هو من أحسن ضمانات ثبات هذه الأخلاقية، مع إدراكنا أنّه عند غياب الانفتاح تتيبّس الأخلاقية وتنكمش.

 

ولا بدّ هنا من المصارحة، فالتيار الإسلامي في بلاد الأكثرية المسلمة يشعر أنّه عانى من استبداد غير ديني بامتياز، سواء حين تمرّ السياسات الاستئصالية عبر قنوات ليبرالية أميل للرأسمالية أو قنوات يسارية أميل للإشتراكية والشيوعية أو قنوات قومية بين ذاك وذاك. ويتساءل التيار الإسلامي: أين العقلانية في كلّ هذا؟ ويرى أصحاب الفكر الإسلامي أحياناً أنّ مِن علماء الغرب مَن يُبدون تفهّماً لنسق الإسلام والمسلمين أكثر من أنظارهم العرب في بلاد الأكثرية المسلمة. أما وسطيّ المسلم فإن غالبهم يشعر أنه عاش تحت وطأة استبداد فاسدِ الضمير يبتعد عن الأعراف الراسخة في الخلفية الثقافية للمجتمع. ونحن لا نذكر ذلك في معرض الإدانة وإنما نذكِّر به لأنه هو الذي يطبع المشاعر ويساهم في خفض مستوى الثقة بالآخر. ونقول هنا متفائلين، إنّ التطورات الفكرية والسياسية للعقود الماضية ساهمت في تحسين صورة كلٍّ من الفرقاء عند الآخر، وذلك يمدنا بالأمل بجدوى طرح هذه الورقة.

 

ننتقل فيما يلي إلى مناقشة مفاهيم أساسية تُعتبر مفارق طرق، أو مساحات خلافٍ ظاهري، بين التوجهات الفكرية المختلفة. وتحرير سوء الفهم فيها من شأنه أن يوضح المساحات المشتركة بين التيارات الإسلامية والتيارات الأخرى سواء أكانت قومية أو ليبرالية أو يسارية.

 

مفهوم الشريعة

يثار لغط كبير حول مفهوم الشريعة، فتوجه يعتبر الشريعة خلاصة الخير والرشاد، وتوجه يراها خلاصة الجمود والماضوية. وفي غمرة اللغط يذهل الناس عما يختلفون عليه. وتحديداً هناك خلط بين الشريعة كمبادئ عامة وقيم متعالية، والشريعة كتوصيات محددة لها ارتباطات سياقية تنزيلية. ونعترف بأن هذا الخلط موجود داخل التيار الإسلامي نفسه. ويزداد الأمر غبشاً عند طرح شعار تطبيق الشريعة.

نعتبر أن دعوى تطبيق الشريعة على النحو الساذج المبتذل فيه انتقاصٌ من الشريعة. وذلك لأنَّ الشريعة مبادئ مرشِّدة وليست (شيئاً) يُعمد إلى تطبيقه بشكل آلي. الشريعة ليست مُفسَّرة (أو مسبقة التفسير) وإنما يتمّ تفسيرها عند التطبيق. والتراث الفقهي هو تجربة تاريخية يُستأنس بها ولا تشكّل نصوصه مرجعاً مطلقاً مُلزماً. والشريعة من ناحية التجريد أعلى وأشمل من القانون، ووضعها على قدم المساواة مع القوانين أو الدساتير فيه اختزال للشريعة وانتقاص من قيمتها الغرّاء. الشريعة تشير إلى مقاصد عامة من صيانة معتقدات البشر وعدم التلاعب بها أو الإكراه عليها، وصيانة الأنفس من الاعتداء عليها والتحكّم بضميرها، وصيانة العقل من الإهدار ومن أن تستبدَّ به الخرافة، وصيانة النظام الأسري وكرامة الرجال والنساء فيه، وصيانة المال في أنْ يوظّف في الخيرات وفيما ينفع الناس.

 

نقول إنّ هذا الفهم للشريعة قد لا يحلّ الإشكال بين التوجهين الإسلامي وغير الإسلامي، ولكنه على الأقل يقرّب المسافة بينهما، بخاصة على المستوى العملي. ونعترف هنا أنَّ مفهوم دور الدولة متضخم في أذهان كثير من قطاعات التيارات الإسلامية، وهو ما نعتبره إصابات حداثية غريبة عن أصل توجه الإسلام. ولذلك نجدّد مفهوم (الحكم الإسلامي) ونطرحه على النحو التالي. الحكم المستنير إسلامياً هو الذي يحقِّق خمسة شروط: (1) يسعى إلى تحقيق العدالة في المجتمع؛ (2) ويحرص على صيانة كرامة الأفراد (ذكرهم وأنثاهم) وحريات المجموعات بغض النظر عن الانتماء الدّيني أو القومي؛ (3) ويتوجّه نحو تأمين أساسيات المعاش قبل كماليتاتها؛ (4) ويشجع على الفضيلة ويضيّق على الرذيلة ويرفض الإكراه في مسائل الدّين؛ (5) ويحقق أهدافه من خلال آليات التشاور والمشاركة والتمثيل والمحاسبة وضوابط القانون والعرف في جميع التشكيلات المجتمعية أدناها وأعلاها.

 

ونذكّر هنا بالمعروف المشهور من محاولة الأنظمة السياسية في بلدان الأكثرية المسلمة دغدغة المشاعر من خلال رفع شعار تطبيق الشريعة في ناحية من نواحي الحياة. ولا يعدو هذا من وجهة نظرنا أكثر من تلاعبٍ بالدين وإساءة له، وهو مما نتبرأ منه. وشبيه بهذا تشجيع الأنظمة السياسية للتديّن الدروشي، ذلك التشجيع الذي يترافق عادة مع تمرير ما لا يصبّ في صالح الشعب ومما ليس من روح الدين.

 

النموذج المفضّل للديمقراطية

ليس هناك خلاف في وجوب اعتماد الوسائل الديمقراطية في الحكم والإدارة. غير إنَّ للديمقراطية أنواعاً متعددة، وتطبيقها على الواقع يختلف اختلافاً كبيراً بين مجتمع وآخر. ولذلك فإن التسليم بوجوب اتباع السبل الديمقراطية لا ينفي إمكان تقليبِ النظر في أنوعها، بل يتسدعي التفصيل في خصوصية ملائمة الشكل المتبنى للواقع العربي كي يكون هناك انسجامٌ بين الوسيلة والواقع وبين النبات والتربة. ولذلك من المحتَّم أن يُفهم أي استدراكٍ موجّهٍ لنموذج ديمقراطيٍّ ما، أو التساؤلُ عن مناسبة وسيلةٍ ديمقراطيةٍ محددة، أو تفضيلُ نموذجٍ معدَّل والانحياز إلى وسيلةٍ أخرى... أن يفهم هذا أنه ليس إلا استدراك ملتزم بالخيار الديمقراطي.

 

الديمقراطية تُستنبتْ ولا تستورد. نعم، لا نريد أن نُعيد اختراع العجلة –كما يقال- ولكن لا نريد أيضاً أن نركِّب لعربَتنا دولاباً لا يقوى محرِّكها على جرّه أو لا يصلح مُعامل احتكاكه زفتَ طرقات بلادنا. عقليّة الاستيراد تهيمن على فكرة الإصلاح عموماً، وأولى من يجب أن يبتعد عن هذا هم المثقّفون. بعض الناس يحلم بأن يصبح هذا البلد العربي سوسيرا أو فرنسا. ولكن هذا خيال حالم لأسباب وجيهة: لأن البلد المعني ليس سويسرا تاريخاً وثقافة، ولأن هذا البلد ليس سويسرا بُنيةً ومؤسسات وهياكل، ولأنه ليس سويسرا أرضاً ومقدرات وموارد وموقعاً دولياً.

 

ولذلك نذكِّر بأن الممارسة الديمقراطية هي أولاً اعتيادٌ وتوقعاتٌ وعقدٌ اجتماعي، وثانياً هي مهاراتٌ تطبيقية وأساليب عملية، وثالثاً هي بنى مؤسساتية. وإذا أردنا (تفصيل) ما يناسب القدَّ العربي، فعلينا الاختيار بين نماذج موجودة والتفكير في مواصفاتها، والانتقاء الجزئي والمزج بين خصائصها.

 

هناك ثلاثة أنساق للمنظومة الديمقراطية: الديمقراطية التمثيليّة و الديمقراطية التوكيليّة و الديمقراطية التشاركيّة:

1. الديمقراطية التمثيليّة تنبني على فكرة مؤسِسة وهي تمثيل المصالح. أي أن العهد الملقى على عاتق النواب هو تحقيق رغبات من أوصلهم إلى مركزهم ومجلسهم. ويُفترض أن المعقولية في الناتج وفي السياسات تنبثق آلياً من خلال تنافس وتضارب الرغبات، فتحاصر مصالحُ كل مجموعةٍ المصالحَ المنحازة للمجموعة الأخرى، وهكذا تأتي المحصّلة النهائية غلَبةً جزئية لطرف بعد تنازلات، إذ ليس فيها كل ما يتمنَّاه المنتخِبون.

2-. الديمقراطية التوكيليّة تنبني على فكرة مؤسِسة هي التعهيد لكفء. ويُفترض أنّ النواب الأكفاء المتحلِّين بالعلم والخبرة هم الذين يقومون بتصميم أنجع الحلول من خلال حوارهم مع ممثلي التوجهات الأخرى. وهكذا تأتي المحصّلة النهائية حلاً وسطاً حاول أقصى ما يمكن تحقيقه من مواقف المنتخِبين.

3. الديمقراطية التشاركية تقوم على فكرة مؤسِسة هي التناصح المجتمعي المفتوح. ويُفترض أن تكثر منصَّات النيابة بحيث يشارك عددٌ كبيرٌ من الناس في اتخاذ شتى القرارات، فلا ينحصر القرار السياسي بمجلس أو اثنان وإنما بشبكة من المؤسسات التي تساهم في القرار الأخير على نحو أو آخر. كما يُفترض أن تمكِّن المشاركة الواسعة من سماعِ وتفهّمِ مطالب الآخر. وهكذا تأتي المحصلة النهائية من مجموع المشاركات، وعلى المصوِّتين الرضى بها على أنها تمثّل ما استطاعت جهودهم أن تجنيه.

 

نحن الإسلاميون، كمثاليين ترمق أعينُهم للأعالي، نميل إلى النسق الثالث ونجد أنَّ الديمقراطية التشاركية تحقّق معنى الشورى على نحوٍ أعمق. وهذا الموقف مبنيٌ جزئياً على إدراكنا النظري لإشكالية الدولة الحديثة وتغوّلها، ومبنيّ أيضاً على إدراكنا للمزالق التي وقعتْ فيها الممارسات الديمقراطيات الحديثة، فأوقعتها في العجز عن الوصول لما وضِعت من أجله.

 

غير أنّنا كواقعيين نريد للمثال أن يكون قادراً على المسير، ندرك أن النسق التشاركي يحتاج إلى مستوى عالٍ من الثقافة وإلى مراسٍ طويل على السجال الديمقراطي، مما هو غير متحقق في بلادنا في هذه المرحلة الانتقالية. كما ندرك أن بطء الوصول إلى القرارات ضمن هذا النسق لا يناسب مرحلتنا التغييرية الحاسمة، ولا سيما أنَّ المشروع العربي محاطٌ بقوى تسعى إلى أن تُربك مساره. ولذلك نرى أن الحكمة تقتضي المزج بين الديمقراطية التشاركية والتوكيلية. أما الديمقراطية التمثيليّة المصلحيّة المتمحورة حول تحقيق الاستئثار لطبقات متمكّنة في المجتمع –الطبقات الغنية عادة- فهي مرفوضة عندنا رفضاً باتاً.

 

وباستطاعتنا تحديد بعض الخصائص المعينة للنموذج المختار مستعينين بأبعاد التصنيف الذي قام به (Pinkney)، والذي يطرح خمسة أنواع للديمقراطية: الراديكالية و الليبرالية و الاشتراكية و الدستورية و الموجَّهة. والفروقات بين هذه الأنواع تتحدّد في ستة أبعاد: الهدف العام من النظام، ورؤية المجتمع، ودور الدولة، والعملية السياسية، ومشاركة المواطن، وحقوق المواطن. وفيما يلي المواصفات المقترحة (حسب مفاهيم بنكي) للنموذج الخليط الذي نراه يناسب التربة العربية/المسلمة:

• الهدف العام هو السعي نحو تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وليس مجرد الاستجابة لما يراه الأفراد حقوقاً شخصية وليس مجرد الوصول إلى إجماع بين القوى المتنافسة. وسبب هذا الخيار هو أن مفهوم المساواة والعدالة الاجتماعية جزء بارز في شخصيتنا الحضارية ونعتقد أن عليه إجماع مسبق.

• أما رؤية المجتمع فلا تقتصر على اعتباره مجموعة أفراد، بل المجتمع نسيج عضوي يتشكل من تكتلات متعددة لها قيام معتبر بعينه، قياماً ووجوداً منفصلاً عن الدولة ولا يختزل فيها. وخيارنا هذا مبني على أن المجتمع سابق على الدولة، ومبني أيضاً على الحقيقة الواقعية في عدم تشكّل الدولة/الأمة في التجربة العربية الحديثة.

• أما دور الدولة في المسيرة الديمقراطية فلا يكون مجرد التحكيم بين أطراف متنافسة، ولا حتى تحقيق أمل الأغلبية على نحو انتصار الغلبة، وإنما تحقيق الأمل العام للمجتمع. وخيارنا هذا مبني على جديّتنا في التعامل مع الأقليات بحيث لا تغفل عنهم الأكثرية في غمرة زخم المسيرة.

• أما العملية السياسة فتراعي التنوع في المصالح والهويات وتسعى إلى خدمتها من خلال استقطاب نخبٍ من كل الفرق بقصد المساهمة في تحقيق أهداف عامة للمجتمع. وخيارنا هذا مبني أيضاً على مراعاة التنوّع.

• مشاركة المواطن تشجعها النخبة الحاكمة، ولكن لا تُدخل مبدأ الانتخاب في إدارة المؤسسات، فالإدارة فيها توكل مطلقاً إلى القدرة التكنوقراطية. وخيارنا هذا مبني على أنه لا يمكن التفريط بقطرة من خِبرة، والمحاصصة الفئوية في إدارة المؤسسات تفسدها وتبدِّد قوتها.

• حقوق المواطن تتحدّد في أن تكون مصالح الأفراد خاضعة لمصالح الغالبية. وإنَّ كون عامة المصالح محميةٍ دستورياً ضمن مبدأ المساواة القانونية وأمام القضاء لجميع المواطنين، ينبغي أنْ لا يمنع من وجود حقوقٍ جماعيةٍ معتبرةٍ لفرقٍ معيّنة، حقوق اجتماعية توافقية غير مندرجة ضمن صلاحيات الدولة أو تتجافى عنها الدولة. وخيارنا هذا مبنيٌ على الجديّة في رعاية الخصوصيات، كما هو مدفوع بنظرةٍ واقعيةٍ تتجنّب إثقال أجهزة الدولة بما يمكن للمجتمع أن يقوم به على نحو تلقائي.

 

وما دمنا نتكلم عن مآلاتِ تجربةٍ جديدة، من المناسب أن نختم هذه الفقرة بلمحة عن متعلّقات تؤثر في التحقّق العملي للإصلاح الديمقراطي. هناك ثلاثة أوجه واجبة يُشكِّل غيابها موانع لتحقّق ما يرجى من الديمقراطية، وثلاثة أوجه راجحة يشكِّل إهمالها عوائق للمارسة الديمقراطية. الأوجه الواجبة هي محو الأميّة، والمقاربة بين المستويات المعيشية، والتخطيط السليم للمدن والقرى والأحياء؛ وأما الأوجه الراجحة فهي ترقية الذوق الثقافي، وتشجيع الأعمال الحرفية الصغيرة، وفاعلية نظم الاتصال والمواصلات.

 

إنَّ التوافق العام في وجهات نظر المثقفين على نوع خططِ التنميةِ وعلى ضرورة عدم الإضرار بالبيئة، وعلى وجوب توجيه اهتمام خطط الدولة بالمناطق المهملة، وعلى وجوب حماية العمال والفلاحين وصغار الكسبة من الاستغلال... إنّ كل ذلك يشكّل قاعدة عملٍ مشتركة هي من أولويات المستقبل. ولقد أشرنا إلى هذا سريعاً للتذكير بأن الإصلاح السياسي ليس منبتاً عن إصلاح الأوجه الأخرى في الحياة، فذكّرنا بما يقرب أن يكون شروطاً ضرورية تسدّ مسالك التسلّط وشروطاً عملية لأي حلٍّ ناجع أن يسري مفعوله.

 

حقوق الإنسان وفكرة الواجبات

تنقسم حقوق الإنسان التي ينادى بها إلى قسمين، قسم تجريديٌّ وآخر وتطبيقيٌّ. الحقوق الإنسانية بالمعنى المجرَّد حقوق قريبة من طبيعة الإنسان أشارتْ إليها كثيرٌ من الفلسفات والأديان. الحقوق بالمعنى الإجرائي القانوني هي في حقيقتها تطبيق عمليّ للحقوق المجرّدة ضمن سياق خاص. والذي ينبغي الالتفات إليه هو أن الحقوق المجرّدة ليس حولها كثير من الاختلاف، بينما الحقوق التطبيقية يمكن أن يرد فيها خلاف واسع. ولذلك فإن الإكثار من الحديث في الحقوق التطبيقية يترافق عادة مع مغلطات كبيرة، وهذا - من وجهة نظرنا- ما يُعاب خصوصاً على الخطاب الليبرالي الحالم. ونذكر هنا إشكالات خمسة:

• هناك من (الحقوق) التي يتمتع بها الأفراد في الغرب ما لا تقدر عليها ميزانيات الدول النامية. مثال ذلك فرض إخراج طبعة خاصة للكتب لتُقرأ في نظام (بريل Braille)؛ وهل أجمل من تمكين من ابتُلي في بصره؟ غير أن الفرض القانوني لهذا الحق قد يرفع كلفة الكتاب العربي الذي يعاني أزمة مالية تسويقية كما هو معروف.

• يتصل أمر الحقوق أحياناً بتوافر الإمكانات والمهارات في حقل ما، وفرضه قبل توافر الإمكانات يُحوِّله شعاراً فارغاً، والدفع نحوه بقوة قد يتعارض مع سلَّم الأولويات. ولْنورد مثال وجوب توفير الخدمات الصحية للأمراض النادرة و(الجراحة الاخيتارية) وتقنيات (إطالة العمر). وإذ لا خلاف في أنّ صحة الإنسان وعافيته تترأس الأولويات في شعوره، إلا أن تحقيق الخدمات المذكورة في بلد نامٍ مكلف جداً ويعتدي على تمويل الصحة الأساسية لعامة الشعب.

• كثيراً ما تُطرح فكرة حقوق الإنسان على نحو تقليدٍ للحال الذي عليه بلد غربي ما. والسؤال العملي هنا هو تحديد النموذج الذي يجب أن نهرع إليه، ومبرِّر تبنّي نموذجٍ دون الآخر.

• إن النطق بالحقوق وصكّها على نحو قانوني لا يعني ضمان تحققها العملي ولا حتى الاقتراب منها، فالحقوق أولاً وآخراً هي أمر ثقافةٍ وعقدٍ اجتماعي.

• الصدح بالحقوق فقط والإفراط في ذلك مشكلٌ، إذ أنه قد يعكس نزعة أنانية؛ ومن أكثر ما يحتاج إليه المجتمع الناهض هو تجاوز الأنانية الفردية والفُرَقية والتركيز على العام السابغ. ولذا نرى رجحانَ فكرة اقتران مطلبِ الحقوق بمطلب الواجبات.

 

ونفصِّل في الإشكالات الثلاثة الأخيرة لأهميتها، ولأنها تمثّل نقاط تفارقٍ واختلافٍ في النظر بين التوجهات الدينيّة والمحافظة و التوجهات الليبرالية.

 

أولاً، مشكلة احتذاء نموذج هذا البلد أو ذاك مشكلة عملية حقيقية. فهل نختار النموذج الفرنسي لمجرَّد أنّ نخبة من مفكرينا قذفتْ بهم رياح القدر إلى ذاك البلد، أم نختار النموذج الآنكلوساكسوني لمجرّد أن رياح القدر ساقتْ آخرين إلى شواطئ مغايرة؟ ثم إنَّ هناك فروقاً مهمة بين النماذج الأروبية، وضمن النموذج الآنكلوساكسوني نجد تفارقاتٍ عملية بين التطبيق البريطاني والأمريكي، برغم الاشتراك في الجذر الفلسفي. وعلاوة على هذا، التقليد الذي يقع في غرام ما أحبّه يغفل عن مساوئ ما يقلّده ولو كانت ظاهرة. وكثيراً ما تُسمع عبارات (التقدُّم) و (التأخّر) برغم أنها تعكس غرور فلسفة الحداثة التي طواها الدهر ورفضها البحث العلمي (في الغرب) وإن بقيت في مخيّلة كثير من الناس. الحقوق التطبيقية كما هي موجودة في البلدان الغربية لا يمكن (منطقياً وتاريخياً) إلا أن تعكس تحيزات وخيارات ثقافية، ولا يمكن للتحرّر العربي أنْ يوصف بذلك إذا لم يكن هناك أيضاً تحررٌ ذهنيٌ من عقدة التقليد والاستنساخ. إنَّ الاستفادة من تجارب البشر أمر، والتقليد السادر أمر آخر. وهل جرَّ على بلادنا المصائب إلا أحلامٌ نخبويةٌ حاولتْ فرض ما لا يناسب مجتمعاتنا المشرقيّة؟

 

ولذلك، من الأنفع أن نركِّز على إشاعة فهم العناصر الأولية للديمقراطية: (1) التشاور والتدبّر الجماعي في اتخاذ القرارات؛ (2) واختيار الريادة من بين أظهر الشعب وجميع مكوّناته؛ (3) واعتماد الاختيار على الكفاءة؛ (4) وسيادة القانون بالتساوي بين جميع المواطنين؛ (5) واللامركزية في بنية الدولة وفي طريقة الإدارة. إن التركيز على هذه الخصائص، ولا سيما في مرحلة التغيير هذه، تساهم في تعميق الوعي العملي لما ينبغي القيام به، وتُبعد عن جدلاتٍ لا فائدة منها.

 

ثانياً، الضمانة الحقيقية للحقوق هي العقد الاجتماعي، لا الصياغة القانونية. وما دور القانون إلا تنظيم الحياة فيما يعجز عنه العقد الاجتماعي أو عند تعثره وعند احتدام الخلاف. وتكمن المفارقة في أنَّ الآلية الديمقراطية –كما آلت إليه- تمكِّن المتنفِّذ في المجتمع من تحقيق نفوذه الاستئثاري قانونياً وبنعومة، وبآن معاً تحوي على آليةٍ لوقف التدهور والفساد عندما يتفاقم الأمر. وهنا يبرز الدور الحيويّ للمجتمع المدنيّ. ونقول هنا إنّ المثقفين الإسلاميين يشاركون غيرهم من المفكّرين الذين يهيبهم تسلّط الدولة الحديثة الذي يبدو أنه يسير على خط صاعد لا منحدر، ولا سيما بعد التوسّع البيروقراطي والتمكّن التقنيّ، كما يشاركونهم نقدهم للانفلات الرأسمالي.

 

وأخذاً بعين الاعتبار للدور الحيوي للمجتمع المدني، فإنه من الخطير استيراد نموذجٍ لجهاز الدولة الحديثة إذا كان تطبيق هذا النموذج يقتضي تدمير الآليات الإدارية الصغرى والطبيعية في المجتمع التقليدي (النسخة القديمة للمجتمع المدنيّ) التي تُشكِّل الأساسَ العرفيَّ والعقدَ الاجتماعيَّ وملاط التعارف والتعايش؛ إذ أن النتيجة عندها هي اجتماع فشلين أو عجزين: عجز هذه الآلية المستوردة أو قصورها البالغ في تحقيق ما يرجى منها؛ وعجز المؤسسات التقليدية التي ازداد تآكلها وازداد عدم انسجامها مع الواقع الحديث عن رعاية مصالح المجتمع وحاجاته.

 

ثالثاً: هناك إشكال في إشاعة القول بالحقوق على نحو أناني، وبخاصة في لحظات التغيير. ولا نريد –بداهة- ما يبغيه المستبدّون من صرف الناس عن التفكير بحقوقهم، وإنما نعني أن خطاب الحقوق ينبغي أن يكون خطاباً متعالياً عن المطالبة بحقوق مصلحيّة صغيرة وأن يركِّز على الشامل والجماعي منها.

 

ومن المناسب هنا أن نذكِّر بأن الأولى هو شفع المطالبة بالحقوق مع التأكيد على واجب العمل. ونحن من الذين يودّون التوقيع والمصادقة على الإعلان العالمي للمسؤولية الإنسانية (International Declaration of Human Responsibility) الذي وقّعت عليه شخصيات عالمية مرموقة. وإن توجيه الخطاب الديمقراطي بشكل لا يهيِّج قضية الحقوق من خلال التأكيد على فكرة العمل وأداء الواجبات أمر لا بدّ منه لأسباب كثيرة، منها تفويت فرصة التلاعب الخارجي بمسألة الأقليات وتحويل حقوقها المشروعة إلى ما يصبّ في غير الصالح العام.

 

ونقترح هنا خمسة شروط تؤهل مفهوم حقوق الإنسان لأن يقترب من العالمية: (1) أن يرتبط بمفهوم أخلاقي عالمي له مصداقية تاريخيّة؛ (2) وأن يكون كل حق وجهاً آخراً لواجب؛ (3) وأن لا يختزل في تمظهرة القانوني؛ (4) وأن لا يقتصر على الارتباط بمكاسب معيشية؛ (5) وأن لا يكون متورطاً في استغلال خفيٍّ للآخر، ولو كان هذا الآخر خارج الحدود السياسية.

 

وختاماً، نذكِّر بأنه تنطلق الحقوق الدستورية في الوجهة الآنجلوساكسونية من مفهوم (الحق الطبيعي) في فكر الفيلسوف لوك، بينما تتمحور في كندا وأوروبة حول مفهوم (العقد الاجتماعي) كما طرحه الفيلسوفان كانْت و روسّـــو. وتبعات هذين المنزعين الفلسفيين تبعات حاسمة على المستوى العمليّ. ونذكِّر بأنَّ العقد الاجتماعي في بلاد الأكثرية المسلمة لا بدّ وأنْ ينسجم مع سمتهم الحضاريّ ومع مسلَّماتهم الثقافية.

 

الحريات الشخصية

مفهوم حقوق الإنسان يتّصل بمسألة الحريّات الشخصية. وتشيع عبارة إنَّ حقوق الفرد تقف عند ابتداء حقوق الآخر. ولكن في هذا تبيسط مخلّ، لأنّ الآخر ليس فرداً فقط، بل هو جماعة ومجتمع. ومعروف أنّ هذه نقطة افتراقٍ بين المفاهيم الليبرالية والمفاهيم المحافظة. ويظهر الإشكال بخاصة في حالة تعارض (حرية) شخصيّة مع حقٍّ جماعيٍّ. والمعروف في كلِّ المجتمعات أنَّ الحقَّ الجماعي مقدَّم، وإنْ تختلف في تقدير دائرة الحقوق الجماعية. الضوضاء في ساعة متأخرة في الليل ممنوعة قانوناً أو عرفاً، وأكثر الناس تلتزم بهذا من باب الأدب أكثر من باب إطاعة القانون. ورمي النفايات عند شاطئ البحر ممنوع قانوناً، والتزلج بالدراجة المائية ممنوع في بعض البحيرات، والناس يُمنعون من شرب الخمر في الحدائق العامة في عدد من البلاد الغربية؛ وفي كل ذلك حصر للحرية المطلقة للسلوك الفردي. أي أن مبدأ تقديم الحقّ الجماعي معقول. غير أنه تختلف التوجهات الليبرالية والمحافظة في نوع الحقوق الجماعية التي يجب أن تأخذ أولويّة. ولقد تفتّقت الحضارة المعاصرة على أوجه من المتاع تكاد لا تنحصر، وبغلبة نزعة الفلسفة المادية صارت الحرية الفردية كثيراً ما تُترجم في الواقع إلى الحرية الكاملة في استهلاك الأشياء وفي استهلاك الجنس. فما نفعل إذاً بالذين تغلب عليهم فلسفةٌ مغايرةٌ لا تُعلي من قيمة هذين النوعين من الاستهلاك؟ والأمر الأكثر إشكالاً أنّ كل فريق من هؤلاء يرى في السلوك المطلق للآخر تعدّياً وإهانة لا تُحتمل.

 

ونحسب أن المفاهيم الليبرالية المحضة ذاهلة عن إشكالية الفردي/الخاص وعلاقته بالجماعي/العام، أو أنها غير موفّقة في الموازنة بينهما، وتدّعي لنفسها التفوّق الخلقي بناء على أنّها لا تحوْل بين الناس وتحقيق رغباتهم الشخصية. وإذ نخالف الرؤية الليبرالية ونحسب أنها مضطربة في رسم ضوابط السلوك بين الفردي والجماعي، الحلُّ بالنسبة لنا ليس ولوج الدولة في دائرة الخاصّ. إننا مؤمنون بوجوب إبعاد الدولة والقانون عن القطع في أمور السلوك الفردي قدر الإمكان، مؤكِّدين أننا لا نريد أن يُفهم من استدراكنا على إطلاق الحرية الفردية أيَّ ظلٍّ من التدخّل التعسفي للدولة في الحريات الشخصية، فهذا ما ثرنا عليه ونثور عليه، فالحرية بمعناها العام من انتفاء الظلم مطلبٌ إنسانيٌ فطريٌ عزيز.

 

وإذ نقول بإبعاد الدولة والقانون، فإننا نفهمه إبعاداً على وجهيّ السلب والإيجاب؛ فلا حاجة للقانون أنْ يوجب سلوكاً معيناً، ولا أن يحجزَ عن سلوكٍ معين، إلا إذا تجاوز هذا السلوك الحيّز الفردي. والعهدة في كل ذلك (يعني الإيجاب أو الحجز) هو المجتمع ذاته. فما ارتضاه الناس ورأوه طبيعياً ينبغي أن يكون طبيعياً ومسموحاً به على الصعيد الرسمي والقانوني، ولكن لا تُكرِه السلطةُ عليه. وما رآه مجمل الناس غير طبيعي وغير مقبول، فممكن أن يتحفّظ عليه القانون، ولكن ينبغي أن لا تتدخّل فيه السلطة إلا إذا تفاقم. وسبب إصرارنا على إبعاد الدولة عن التدخّل في الخيارات الشخصية هو أن أجهزة الدولة ليست مهيئة طبعاً للتعامل مع النواحي الدقيقة في حياة الناس، وسينتج عن التدخّل في النهاية تحكّم بغيض بالسلوك العادي للناس وملاحقة لضمائرهم، ولو كان القصد المبدئي غير ذلك. كما أنَّ تدخّل الدولة لا يمكن أن يحلَّ الإشكال، ولا بدّ من تفيعل حركيات مجتمعيّة لمعالجة السلوك البشري.

 

ولحساسية هذه النقطة، ولأنّ الخوف من حجز الحريات الشخصية باسم الدين أمر يقلق التوجهات غير الدينية بخاصة، تحسن الإشارة إلى بعض الأمثلة لإعطاء صورة واقعية لما نقصده. فمثلاً نعتقد أنه ليس للدولة والقانون أي دور في أمر إجهاض الحمل، وبذلك نرفض (نسبةً لما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً) تدخّل القانون لمنعه كما يطمح بعض المحافظين المتديّنين، كما نرفض تطبيعه كما تدعو إليه الليبرالية. وإنّ منطلقنا الفلسفيّ في هذه المسألة ليس منطلقاً ليبرالياً يعتبر المرأة (حرَّة بجسدها) تفعل به ما تشاء، ونعتبر المسألة في أحد أوجهها مسألة صحيّة يعالجها الأطباء، وعلى نحو أشمل وأعمق هي مسألة اجتماعية تتعلَّق بأخلاق المجتمع وتحديد سلوكه المقبول؛ ومجال ذلك هو الثقافة والتثقيف، لا إكراه الدولة والقانون. ومثل ذلك يقال في شرب المسكرات أو تعاطي المخدرات أو السلوك الجنسي الناشز؛ ودواء كل ذلك هو التعليم -بما في ذلك التوجيه الدّيني- لا التدخّل القسريّ للدولة ما دام أمراً متعلقاً على نحو مطلق بخاصة الفرد، وليس صناعة وتجارة تكرهان الأفراد على سلوك لا يرتضونه لأنفسهم إكراهاً على نحو غير مباشر.

 

ووفق المنطق نفسه، لا يجوز تدخّل الدولة على نحو السالب في تطبيع الناشز من السلوك إذا كان المجتمع يراه نشازاً، كما لا يجوز تقديم الدولة الحمايات القانونية للنشاز. وهذه النقطة الأخيرة هي التي نحسب أنَّ الطرح الليبرالي يعجز عادةً عن إدراكها، إذ يستنفر مزاجُه الدولةَ ومؤسساتها وقانونها لحماية ما يراه قطاع كبير من الشعب نشازاً وسيوبة، مقدِّماً الفرديَّ على الجماعيِّ، ومستنجداً بإكراه الدولة وضارباً بعرض الحائط -باسم الدفاع عن الحرية الشخصيّة- حريةَ وحقوقَ من يُعتبرون محافظين عتيقين.

 

ونودّ هنا أن نذكِّر بأنَّ الغياب الكامل للدين في حياة البشر هو استثناء في تاريخ البشرية واستثناء في عالم اليوم. ونشير إلى استبيان 25 أبريل 2011 الذي قامت به مؤسسة IPSOS الذي يظهر أن فقط 18% من سكان العالم لا يؤمنون برب أو أرباب أو كائن أو كائنات متعالية، ويُذكر أن الصين -غير المتديّنة- كانت متضمّنة في هذا الاستبيان. المراد من هذا الإشارة إلى أن الحلم بعالمٍ ليس فيه دين حلم غير واقعي وغير مفيد في تخطيط المجتمعات.

 

وزيادة على كل ما سبق، نذكِّر بأن السلوك الفردي لا يمكن أن يكون محض فرديّ. فالإعراض عن الحمل والتناسل أمرٌ شخصي بحت، ومن المستهجن أن تتدخّل الدولة فيه؛ ولكنه أمرٌ يهدّد التوازن الديمغرافي للبلد. فلا عجب إذاً أن نجد دولاً ذات طابعٍ ليبراليٍ تتدخّل للتشجيع على التناسل. وتعاطي المخدرات يحرم البلد من قوَّته العاملة ويقترن مع شرور اجتماعية كثيرة، ولذا ليس هناك من دولة لا تحاول التعامل مع هذه الظاهرة على نحوٍ أو آخر. أما الدعارة فأقلّ ما يقال فيها أنها تخرب البيوت وتُفقد المعيل برغم أنها خيار شخصي. هذا من وجهة نظر وضعية بحتة، فكيف إذا أضفنا إلى الحياة الإنسانية الأبعادَ الروحية والأخلاقية التي تغطي الأديان مساحاتها الكبرى؟

 

ينبغي أن يكون واضحاً كل الوضوح أنّه ليس فيما سبق نقض لما ذكرناه من وجوب عدم تدخّل الدولة في السلوك الفرديّ البحت أو في الخيار الأخلاقيّ للأشخاص، ووجوب عدم تسلطها على ضمائر الناس. كل المراد التأكيد عليه هو أنه إذا كان لتصرّفات الأفراد تبعاتٌ اجتماعية، فلا مناص للدولة أو للمجتمع التعامل معها من أجل تخفيف ومطامنة نتائجها الضارّة؛ وهذا مطّرد في التجارب البشرية. وكإسلاميين نرى أنّ المجتمع هو الأقدر على القيام بهذا وعلى نحو أقل خشونة واعتداء على الأشخاص مقارنة بالدولة والحكومة والقانون. وكلّ المطلوب من السلطة السياسية هو تمكين المجتمع من القيام بالأدوار التي تحمي المجتمع، بحسب القناعات والمسلمات الاجتماعية التي عليها قريب من الإجماع؛ أو على الأقل المطلوب أن لا تحول السلطة السياسية بين المجتمع ومعالجته للمشاكل الاجتماعية، لا القيام بها نيابة عنه. وعودة إلى الأمثلة، عندما يصبح أمر المخدرات تجارة مؤسّسة لا تقف عند حدّ الاستهلاك الفردي، وعندما تتحول السيوبة الجنسية دعارة مؤسسة تصطاد الفتيات ذوات الظروف الصعبة... عندما يتشكَّل الفساد الخلقي على نحو مؤسسيٍّ يتحرَّك على نحو منظوماتي بعكس اتجاه قيم المجتمع، فعندها يحقّ للمجتمع كبْته ومقاومته، ويستعين بالدولة لتحقيق هذا.

 

قضية المرأة

تتصل بقضية الحريّات والمساواة مسألة وضع المرأة في المجتمع. والمناقشة الوافية لهذا الموضوع تستأهل بحثاً منفصلاً، لكن لا بدّ من الإلماح هنا إلى نقاط أساسية.

 

ندرك إدراكاً كاملاً أنه يجري أحياناً تبرير ممارساتٍ بائدةٍ تجاه المرأة باسم الدين. وإننا لنعتقد أنّ التحجير على المرأة وظلمها لا يمتّ إلى روح الإسلام وتوجيهاته بصلة، فالممارسات الشائنة لا تعدو عن كونها جاهلية وافتئات ثقافةٍ بشرية.

 

كما نؤكد على قناعتنا الكاملة بوجوب المساواة بين الرجال والنساء أمام القانون واستوائهما في حقوق المواطنة وواجباتها، ويتضمن ذلك حق شغل المناصب العامة بما فيها رئاسة الدولة. وفي واقعنا مواضع عديدة تهمَّش فيها المرأة ينبغي أن يُلتفت إليها، وعلى رأسها تمكين الإناث من التثقّف والتحصيل العلمي.

 

أما الذي يفترق فيه التوجه الإسلامي عن التوجهات الأخرى –وبخاصة الليبرالي واليساري- فهو اعتبار أنَّ هناك فوارق جوهرية بين الذكورة والأنوثة، وأنَّ هذه الفروق مغروزة في أصل التكوين، مقصودة بتشكيلتها وضرورية لاستمرار الحياة، وأنها تلوّن في الوجود البشري يزيده نضرة ويساهم في توازنه. ونحسب أنَّ على ذلك شواهد مطردة في تاريخ البشرية وبين كلِّ مجتمعاتها، بما فيه مجتمعات ثقافة الحداثة.

 

وتبعاً لذلك نرى أن الموقف العاقل الراشد ينبغي أن يراعي هذه الفروق في التصميمات الاجتماعية، لا أنْ ينكرها أو يضيق بها. ومن ناحية نظرية بحتة نرى أن محاولة محو الفروق بين الجنسين هو جزء من الفلسفة الوضعية والتنميط الحداثي الذي يختزل التنوّع في الحياة البشرية. كما أنَّ سمْت المساواة في ثقافة الحداثة مهووس بنزعة الانتاج المادي ويصطدم في مآلاته مع رحابة الكينونة البشرية. غير إنّه برغم تأكيدنا على وجوب اعتبار الفروق بين الجنسين لحضورها الشاخص في الحياة، لا نشكّ في أنَّ التأقلمات الثقافية مع هذه الفروق وتوزيع الأدوار يختلف بين مجتمع وآخر، وبين ظرف وآخر وبين عصر وآخر.

 

ولما كانت أكثر مسائل علاقات الرجال بالنساء أمور شخصية بحتة، نرى أن القانون غير مناسبٍ للتدخل فيها، وذلك لعجزٍ ذاتيٍ للقانون في معالجة الخاص ومعالجة المعتمد على السياق والظرف اعتماداً كبيراً. دور القانون يبرز عند تفاقم الأمور وعند وجود تعدٍّ ظاهر أو ظلم طاغٍ مؤسس. وتجربة المجتمعات الغربية تشير على نحو واضح إلى أنّ مسائل علاقات المرأة والرجل في معظمها مسائل ثقافية اجتماعية، وأنَّ الفرض القانوني فيها قليل النفع، أو أنَّ نفعه يأتي من ناحية رسالته الثقافية لا إنفاذه القسريّ. وكل هذا لا ينافي وجوب توجه التخطيط الاجتماعي إلى حماية الأمومة والأطفال، والحماية من الاستغلال الجنسي.

 

نرجو من هذه العجالة في مسألة متراكبة أن تكون قد أوضحتْ موقفنا من غير لبس.

 

المجتمع المدني ورأس المال الاجتماعي

دور أجهزة الدولة في الحياة المعاصرة حاسم لا يُتصور الاستغناء عنه بسبب تطورين اثنين في حياة البشرية: الازدياد الكبير في حجم التجمعات البشرية، والتراكيبية المعقدة للحياة المعاصرة. ولذلك لا يمكن تحقيق مصالح عامة راجحة بلا أجهزة تعمل على المستوى العام الكبير. غير إن لدينا في نفس الوقت إدراك كامل لتغوّل الدولة الحديثة، لا من جهة كمونها للظلم فحسب، وإنما من جهة قدرتها المخيفة على التحكّم أيضاً. ندرك إذاً أنَّ تحديد دور الدولة والسلطة السياسية هو قدر الإنسان المعاصر، فهو يحتاج إلى الدولة لتسيير مصالحَ عامةٍ لا غنى عنها، ويحتاج إلى كبح هيمنتها الشاملة أيضاً. ويتبع ذلك منطقياً إيماننا بالدور الفاعل للمجتمع المدني، فهو الذي يمثِّل النسق الطبيعي للوجود الاجتماعي للبشر. ونشفع ذلك بمفهوم (رأس المال الاجتماعي) الذي زانتْ به الدراساتُ الاجتماعية، والذي يُبيّن الآثار الحميدة للعلاقات الاجتماعية الأفقية.

 

وبذلك نشارك التوجّه غير الديني في تأكيده على قيمة المجتمع المدني ودوره في المجتمع، إذ نعتقد أنّه يشكل صمّاماً ضرورياً ينبغي أن يرافق تشكيلة الدولة الحديثة. غير أنَّ النقطة التي نختلف فيها هو التحيّز في وصف المجتمع المدني وقصره على المؤسسات المبنيّة على أساس المواطنة، ذلك الأساس الموازي لأساس الدولة. مفهومنا للمجتمع المدني مفهوم شامل مبنيٌ على فكرة تعدّد الترابطات المجتمعية، ونحبّ أن تتسع المساحة التي تتحرّك فيها مؤسسات المجتمع المدني (الذي يضمّ الديني)، بحيث أنه لو غابت الدولة أو قصرت إمكانياتها بقي بناء المجتمع قائماً بفعل الروابط الاجتماعية الكثيرة بكافة الاتجاهات، تشبكه هذه المؤسسات طولاً وعرضاً.

 

إنَّ منظومات القربى والأحياء والمساجد والكنائس لسيت إلا جزءاً من المجتمع المدني، ولا يستقيم سلخها بناءً على أن العضوية فيها ليست مفتوحة لكل أفراد الشعب على نحو متساوٍ. وإنَّ فكرة انفتاح مؤسسات المجتمع المدني -بمفهومها الحديث- انفتاحاً متساوياً لكل المواطنين وهمٌ لأسباب ثلاثة: (1) العضوية في المؤسسات الوظيفية البحتة هي مفتوحة بالتساوي من ناحية نظرية فقط، وعملياً يجمع أفرادَها رباطٌ إيديولوجيٌ واضحٌ وطافحٌ يشكِّل حاجزاً غير مرئي؛ (2) ويتميّز أعضاء المؤسسات المدنيّة الوظيفيّة عادة بانتماءٍ طبقيٍّ متقارب؛ (3) وأصلاً، سمة الغلق (closure) هي سمة لازبة بأي منظمة. وكلُّ هذا تدلّ عليه التجربة الغربية والدراسات الميدانية.

 

وزيادة على ما سبق، لا يمكن تناسي أنَّ الأوجه الطبيعية للمجتمع المدني (أواصر القربى وروابط الأحياء وشبكات الممارسة الدينية) هي سابقة في وجودها للمجتمع المدني الاصطناعي الوظيفي البحت. فهذه الشبكات هي روابط عضوية طبيعية تكاد لا تخلو منها حياة البشر، والتجربة الإنسانية تُظهر عمق دور المؤسسات الدّينية في حياة البشر، وفي هدر كمونها تفويتٌ لمصالح مجتمعية راجحة.

 

إنّ التأكيد على ما سبق لا ينفي إدراكنا الكامل على أنّ دور المجتمع المدني الطبيعي (القرابة والأحياء...) يمكن أن يتأزم ويصبح تأثيره سالباً، غير أنّ هذا ينتج عن إساءة تموضع هذه الشبكات لا عن مجرّد وجودها. فمثلاً، تظهر الأبحاث أنّ دور روابط الحيّ -في الأحياء الفقيرة بخاصة- حيوي جداً في ضبط الأمن ومحاربة العصابات، إلى درجة أنه أكثر فاعلية من دور الشرطة. كما تُظهر التجربة الحديثة أيضاً أن الكنائس هي أكثر فاعلية في توزيع المساعدات والخدمات الاجتماعية من البيروقراطيات الكبيرة. وهذه أمثلة من مجتمعات غربية ليبرالية. ولذلك نقول، إنَّ المعوَّل عليه هو أن لا تتضخّم الروابط الطبيعية وتطغى، وأن لا يتجاوز نطاق تحركها مجالاتها الخاصة بها. وبالنسبة للمؤسسات الدّينية، يقع الإشكال عندما تدخل كما هي في السياسة لا من خلال الأقنية المعدّة للسياسة.

 

كما تُظهر التجارب الحديثة الدورَ الحاسم للروابط العائلية في النهضة الاقتصادية، ولا سيما في الدول التي لم (تنعم) باستعمارِ غيرها، مثل سينغافورة وكوريا والصين والهند وماليزيا وتركيا. ولعلّه من المناسب هنا الإشارة إلى أنَّ الثورات العربية لم تكن ممكنة بلا المؤسسات العضويّة الطبيعيّة للمجتمع. وهذه النقطة تقودنا إلى مناقشة مفهموم فصل الدّين عن الدولة.

 

فصل المؤسسة الدّينية عن الدولة

فكرة فصل الدّين عن الدولة يكتنفها اختلاطٌ وسوء فهمٍ بسبب عدم استحضار الخلفيّة التاريخية للمصطلح. وأصل الفكرة ليس هو فصل الكنيسة عن الدولة لا فصل الدّين عن الدولة. أي أنّ فكرة فصل الدّين عن الدولة يمكن أن تُفهم على وجهين: الوجه الأول هو عدم إخضاع الفاعليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لاحتكار سلطة دينية لها مؤسساتها البيروقراطية المستقلة عن المجتمع (إدارياً ومالياً) ولها أسس سيادة متمايزة ومختصة بذاتها؛ أما الوجه الثاني فهو فصل الدّين عن المجتمع، بمعنى فصل المبادئ الدّينية عن الحياة، أو حجب الأسس الأخلاقية أن يكون لها قولة في إدارة شؤون الناس.

 

الفصل ضمن المفهوم الأول مطلوب أكيد، أما الفصل ضمن المفهوم الثاني لا يعدو أن يكون وهماً. وإذ نرفض حكم المؤسسة الدّينية رفضاً تاماً، فإننا لا نتعبر أنّ هذا موقف عصراني مبتدع، بل مثَّل النسق التاريخي للدول المسلمة، فلم يحكمها العلماء، بل حكمها الأقدر الذي نجح في تحقيق الاستقرار أو الوعد به. والعلماء أنفسهم يرون أن التحقيق العلمي وحماية الأخلاق هو دورهم الرئيس، وكذا المشايخ الوعاظ. ولذا فإنّنا نؤكد على رفضنا لنسق الحكم الثيوقراطي أو نصف الثيوقراطي (مثلاً نموذج إيران وازدواجية السلطة)، كما نرى أن الجماعات الإسلامية الكبرى –مثل الإخوان المسلمين في البلاد العربية - غير صالحة للحكم بذاتها كإطارات تنظيمية. وضمن الفهم الوظيفي لمهمة الحكم وأجهزته، يستوي كلّ المواطنين في حقّ شغل المناصب الحكومية، بغضِّ النظر عن انتمائهم الديني أو القومي. ونذكر هنا استطراداً أنَّ اشتراط كون الرئيس مسلماً ليس له أي معنى عمليّ.

 

أما افتراض فصل قيم المجتمع عن إدارته السياسية وعن الترتيبات العامة للحياة فهو من المحال. فمن وجه، الأفراد الذين يشاركون في الحكم –سواء في المجلس النيابي أو السلطة القضائية أو الجهاز التنفيذي- هم بشرٌ أولاً وآخراً ، ولا بدّ وأن يكون لهم مواقف فكريّة/نفسيّة تجاه مسائل الحياة، وتتلوّن دينياً –سلباً أو أيجاباً- على نحو ما. وهذا ما ينطق به واقع بلاد الحضارة الغربية اليوم.

 

وبالطبع حديثنا عن الدّين هنا ليس مقصوداً به ممارسات العبادة أو الاعتقاد، فهذه أمور لا خلاف في أنها شخصية لا إكراه فيها. المقصود هنا أنَّ الحياة العملية مفعمةٌ بالخلفيات التصورية والمعايير الأخلاقية غير المستقلة عن الدّين والفلسفة، وتتخلّل الخاصّ والعامّ ولا تنحصر في واحدٍ منهما، والانفكاك عن هذا غير متصوّر. كما أنَّ أي نظامٍ مجتمعيٍ فيه أوجهٌ متماهيةٌ بين العام والخاص، كما يستبطن رؤية أخلاقية عامة يتبناها المجتمع طواعية، بغض النظر عن العقلانية المباشرة لهذه الرؤية.

 

والخلاصة، إننا نرفض مبدأ القاعدة الثيوقراطية للدولة، وأنه لم يمثل نسق الحكم في تاريخنا، وقد فعلتْ أروبة خيراً في رفضها لمبدأ الحكم المقدَّس الذي يتسلِّط على ضمائر الناس. وإنّه إن صحَّ القول إنَّ هذا الفصل في المجتمعات الغربية حرّر السياسة من الدّين بقدر ما حررّ الدّين من السياسة، فإنّه في الوقت نفسه أزَّم مشكلة مصدريّةِ القيم العامة. وهذه المجتمعات إلى اليوم تصطرع في هذا الأمر ولم تستطع إنهاء هذا الإشكال.

 

إن القول بديمقراطية الحكم ينبغي أن لا يعني إقصاء الدّين من الحياة الاجتماعية، كما ينبغي عدم الخلط بين الديمقراطية والعَلْمانية أو الديمقراطية والليبرالية واعتبارهما شيئاً واحداً، فهذا خلط غير علميّ ولا يستقيم عند التحليل الدقيق وإنْ بدا أنَّ بين كلٍّ منهما ترافق. فالخيار الديمقراطي هو خيار وسيلة لا يفرض بذاته الرابط القيميِّ المودع في آليات التسيير. المستند القيمي لأي نظام سياسيٍّ لا بدّ وأن ينسجم مع الخلفية الثقافية للمجتمع، ولا بدّ أن نتذكر بألمٍ أنَّ بلاءنا الحاضر إنما نتج عن تنافر أو سوء تفاعل المستورد (بشقّيه الرأسمالي والاشتراكي) مع التربة المحليّة، بغض النظر عن تقييم السلامة الذاتية للمستورَد.

 

وفي سياق رحلة المصالحة مع الذات، نرى أنَّ أقوى رابطٍ جامعٍ تركن إليه الجماهير العربية وممكن أن تُسلِّم به الغالبية العظمى من الشعب هو المضمون الحضاري لتاريخ المنطقة المتمثّل بقيم الحضارة العربية الإسلامية. ويمكن أن نشير بخاصة إلى القيم العليا التالية: العدل، والتراحم المجتمعي، والتعارف بين المجموعات الإثنية والعرقية، والشورى، ومكانة الأسرة، ودور الترتيبات المجتمعية الطبيعية كالرحم والجيرة، وتقديم مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد. أما مسائل الإيمان والعقيدة والممارسة العبادية فليستْ من شأن الدولة بحال من الأحوال. وبالتالي نكرّر اعتقادنا بأن أحقيّة الحكم هي للأصلح الأقدر وليس لفئة المشايخ العلماء أو لحركة دينية، وأنَّ مهمّة النظام السياسي هي تسيير مصالح الناس وفق قيمهم الجامعة، لا فرض إيديولوجيات خارجية وإن بدتْ مثالية لحامليها.

 

خاتمة

استعملت هذه الورقة في وصف التيارات الوطنية في بلادنا العربية مصطلحات ثنائية، ديني/غير ديني و إسلامي/غير إسلامي، ولم نقصد بها التنميط الجائر، ولا إجراء مفهوم المخالفة بحيث يُحرم من لا يرفع شعاراً دينياً من أي اتصاف بالتديّن على نحو ما. كما ندرك تماماً التنوع الكبير ضمن كلٍّ من هذين التوجهين. وكان استعمالنا هو من باب القبول بما هو شائع، مع وثوقنا التامّ أنّ في كلٍّ من الاتجاهين عقلاء يحاولون فهم الآخر بجدّية.

 

ولا بأس هنا من إيراد وصف على المستوى الشخصي لأنه يقرِّب بين القلوب. فنحن إسلامييون بمعنى أن أُطرنا الفلسفية إسلامية، وليس بمعنى أننا ننتمي إلى جماعة أو إلى حزب إسلامي معين. ونحن مثقفون لأننا ارتحلنا وانتشرنا في بقاع الأرض فتوسّعت مداركنا، وحصّل بعضنا الدرجات العلمية العالية ودرس العلوم الحديثة وهضمها ونقدها، وبعضنا اتخذ البلدان الغربية مقاماً له ونجح فيها وتأقلم معها؛ وكل ذلك أثّر في الحقل الإسلامي العام. ونحن معاصرون لأننا جادّون في التعامل مع المجتمع الحديث ولا نبغي استنساخ الماضي.

 

بقي أن نذكر على عجل أننا عروبيون بامتياز، وعروبتنا عروبة ثقافيةٌ لغويةٌ وليست قومية عرقية، وبذلك تفسح المجال رحباً لغير العربي الذي عشنا معه في هذه البلاد دهوراً. وهذا المجال المعاشي الرحب لا يقتصر على الموقف النفسيّ، ولا بدّ أن يكون مدعّماً بالترتيبات الفدرالية ومستنداً إلى الخيارات الديمقراطية التي تعطي الدوائر الصغيرة في المجتمع صلاحيات واسعة في تنظيم شؤونها المحلية وممارسة خصوصياتها الثقافية.

 

لقد حاولنا ما استطعنا أن نرصد مساحات العمل المشترك بين التيارات الوطنية الإسلامية والقومية والليبرالية واليسارية. وكان لا بدّ من الطرح الجادّ أن يكون نقدياً. وإنَّ نقدنا لبعض مفاهيم الآخر أو لمواقفه العملية لم يُقصد منه إفحام المخالف أو البتّ في الخلاف، فهذه مسائل يمكن أن يجري فيها سجال علمي طويل، ونعرف أن عند مخالفينا حججهم. وإنما أردنا أنْ نجعل مواقفنا واضحةً كلَّ الوضوح، وأنْ نجزم بأنَّ مبادرتنا ليست مجرد مجاملة كلاميّة، وأنْ نؤكّد صدق عزمنا على البحث عن المساحات العملية المشتركة برغم وعينا بالافتراقات النظرية. ولا شك عندنا أنَّ ما قدمناه هو نظرة لها خياراتها الخاصة، فليس هناك في حياة البشر حيادٌ ليس له خيار أو لون. كلّ المطلوب أنْ يحاول الخيار الخاص أن يفهم الآخر، وأن يتّسم بانفتاحٍ يُبقي مساحة كريمة للآخر. لا ندري كم نجحنا في قصدنا، ونترك للآخر تقييم هذا. وإننا نرجو أن نكون قد وفّقنا إلى تقديم وثيقة عملية تجاه مسيرة المستقبل، تلك المسيرة الصعبة التي لا بدّ أن يتعاون فيها كل الفرقاء.

_________

موقع الجماعة العربية للديمقراطية، 22/11/2011

--------------------

هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها

 

   

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ